وما عتم الإسبانيون والبرتقاليون أن شاهدوا الفرق المحسوس بين ثقافة العرب الغالبين وثقافة المغلوبين، وادعى بعضهم أن حضارة الأندلس كانت لا بأس بها بدخول العرب وفاته أن القوم نسوا لغتهم بمجرد استيلاء الغريب على إسبانيا؛ فما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكتب اللاتينية بحروف عربية، كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العربية، وما مضى نصف قرن حتى دعت الحال إلى ترجمة التوراة والقوانين الكنسية إلى اللغة العربية؛ ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها، وما أتت على الفتح خمسون سنة حتى أصبح الناس كلهم يتكلمون بالعربية والعقود والمواثيق تكتب بالعربية حتى بين الإسبان أنفسهم، واتخذ النصارى من اللغة العربية ترجمانا لعواطفهم وقلوبهم، وأخذوا يحبون تلاوة قصائد العرب وقصصهم ويدرسون كتب علماء الإسلام وفلاسفتهم، لا ليردوا عليها، بل ليحلوا بها منطقهم، يقرءون العربية بلذة ويقتنون كتبها بالأثمان الغالية، يؤلفون منها خزائن نفيسة، ويذكرون في كل مكان أن آداب العرب مما يعجب به، وإذا حدثتهم عن كتبهم الدينية أجابوك بازدراء: إن هذه الكتب غير حرية بالتفاتهم، وما كنت تجد في ألف رجل من يكتب رقعة مناسبة باللغة اللاتينية، وأنت إذا كلفت أحدهم أن يكتب بالعربية تجد جمهورا يعبرون عن أفكارهم بهذه اللغة على صورة بديعة، وقد ينظمون من الشعر العربي ما يفوق بما فيه من الصناعة شعر العرب أنفسهم.
لم يمض قرن على فتح الأندلس حتى أخصبت القرى وكثرت المزارع واتصل العمران وتزاحم الناس بالمناكب في المدن، وغدت قرطبة عاصمة البلاد كعواصم أوروبا اليوم، تنار ليلا بالمصابيح يستضيء الساري بسرجها ثلاثة فراسخ، وكان من رجال الحسبة وهي أشبه بالمجالس البلدية ودواوين الشرطة اليوم، أن بلطوا الشوارع وأخذوا كل يوم يرفعون القمامات والقاذورات ويزال ضرر المجاري والقني لئلا يتأذى بها السكان، ولا يبني من يحب البناء إلا على طريقة هندسية يعينها له ديوان الحسبة؛ ليترك فراغا يتمتع به الجيران وأبناء السبيل، لا يمنع عنهم الشمس والهواء ولا تتضايق المارة مهما كثر سوادهم، فقرطبة إذن أول مدينة في العالم كان لها مثل هذا النظام، وما لبثت أن غدت عاصمة علم وصناعة وفن وتجارة، وكعبة يحج إليها بعض النابهين من أهل الغرب ينظرون إلى تراتيب العرب وعدلهم وأحكامهم نظر الدهشة والاستغراب، ومثلها كانت طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس في الشمال والجنوب.
ونقل بنو أمية إلى الأندلس منذ كانت إحدى ولاياتهم، وبعد أن فتحها سليلهم عبد الرحمن الداخل الأموي فتحا ثانيا واستقل بملكها بعد تغلب العباسيين على دولة أهله في الشرق، أصولهم في الإدارة والأحكام والأوضاع وطرازهم في هندسة القلاع والجسور والدور والقصور والجوامع. وجعل العرب البيوت والمساكن في أرض الأندلس على الطراز الذي عرفوه في عاصمتهم القديمة دمشق؛ كأن تدخل البيت من دهليز طويل ينتهي بفناء واسع وسطه حوض ماء، وعلى جوانب صحن الدار غرف وأبهاء ومقاصير يأوي إليها أهل البيت في الصيف، وفي الشتاء ينزلون في الطبقة الثانية من الدار وفيها جميع المرافق، وفناء الدار غاص بالأزهار وبعض الأشجار المثمرة أو الملطفة للهواء، والدار طبقتان فقط، وتكون غرف الرجال ومثاوي الضيوف منعزلة عن غرف النساء، ولا يزال هذا الترتيب في البيوت محببا إلى الناس في الولايات المعروفة بالولايات الأندلسية إلى يوم الناس هذا يجددون أدرهم على هذا الطراز.
وأصبحت الأندلس على عهد عبد الرحمن الثالث الأموي عالم الملوك وحامي الآداب والعلوم والصنائع والتجارة، وعلى عهد أخلافه ولا سيما ابنه الحكيم الثاني، أحسن الممالك حضارة وعلما وحسن إدارة في القرون الوسطى، وما وسع المرابطين والموحدين، وإن كانوا من البربر، إلا أن يخدموا الحضارة العربية، بل إن الملوك من بني الأحمر لم يسعهم فيما بعد إلا أن ينسجوا في الأندلس على منوال الأمويين، كما لم يجد ملوك الطوائف والمتغلبون على الأطراف مندوحة من الجري على هذا المثال في خدمة العلوم والآداب، يغالون في اختيار خيرة العلماء والأدباء لتقليدهم الأعمال، ولقد وهت في الأندلس بعد بني أمية أمور كثيرة ولا سيما سياستها، ولم يضعف فيها العلم والصنائع والتجارة والزراعة، وكان ولاة الأمر إلى الخير في عامة أحوالهم؛ تقل الرشوة فيهم، ويبتعدون عن كل ما لا يعبث بأصل من أصول الدين في الجملة.
كان معظم ملوك الغرب على اتصال دائم بملوك الأندلس وأمرائها يوم كانوا لأول سلطانهم في عاصمة قرطبة، وكذلك لما ضغط عليهم ملوك قشتالة وقبعوا في عاصمتهم غرناطة، وما بقي من آثار العرب الكثيرة في جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة إلى اليوم دليل ناطق بما بلغته حضارتهم من مراقي الفلاح الباهر.
وأدخل العرب الذين جلوا إلى الأندلس وسكنوا المدن والأرياف سكنى دائمة، طرائق معيشتهم وأصول زراعتهم وصناعاتهم على النحو الذي ألفوه في المشرق؛ أدخلوا إليها كثيرا من أصناف الحبوب والبقول والأشجار وزرعوا الفلوات وأحيوا الموات وعمروا القرى والمدن، وأدخلوا إلى الأندلس معظم الصنائع وأخذوا يجرون المياه في بسائط الجزيرة بما أقاموه من الخزانات والنواعير، وبما عرفوه من أساليب الهندسة في تقسيم المياه، وأسداد بلنسية الباقية إلى اليوم شاهدة بتفننهم في أعمال الري والسقيا، وهي أثر من آثار نبوغهم في الهندسة. وغلب هذا العلم على أهل هذه الولاية حتى لنقرأ في تراجم الرجال أن فلانا إمام الجامع الأعظم كان مهندسا، وفلانا قاضي الجماعة أو قاضي القضاة كان مهندسا رياضيا.
وأمتع العرب أبناء البلاد من النصارى - وكانوا يسمونهم المستعربين كما يسمون المسلمين الخاضعين لإسبانيا المدجنين - بعامة حرياتهم يبنون ما شاءوا من بيع وكنائس ويعقدون مجامع أساقفتهم، وقد عقدوا سنة 782م مجمعا في إشبيلية وفي سنة 852م مجمعا في قرطبة، وكان رجال الدين من النصارى يدعون إلى دينهم في صميم بلاد الخليفة الأندلسي، وربما وقفوا على أبواب المساجد يتسقطون المسلمين ليبثوا دينهم بينهم، يتعرضون للقتل والإهانة حتى تكتب لهم الشهادة والسعادة بزعمهم، وإذا مر بهم المسلمون مروا كراما، وبلغ من سياسة العرب في الأندلس أنه إذا شجر خلاف بين مسلم ونصراني من الجند يعطى الحق غالبا للنصراني؛ فنشأت بذلك وحدة وطنية بين الغالب والمغلوب، وكان الغالب يومئذ في أقصى قمم عظمته وقوته.
ولقد علم العرب الشعوب النصرانية - كما قال العلامة جوستاف لبون - أثمن الصفات الإنسانية، وأعني بها التسامح، وما تناول التبدل الذي أدخلوه إلى الغرب الماديات والعقليات فقط، بل تعداها إلى تحسين الأخلاق، وكان العرب ينطوون على صفات فيها الكرم والإحسان، وفيها الشمم وعزة النفس، مما لم يكن له أثر عند غيرهم، وانتحل الإسلام كثير من الأندلسيين، وما كان لهم غير مصلحة ضئيلة في ذلك؛ لأن النصارى في الحكم العربي كانوا يعاملون كاليهود أيضا بقواعد المساواة، ولهم أن يتولوا جميع أعمال المملكة، وكانت تجري على سادات الإسبان أحكام الإسلام؛ فيختلطون بأشراف العرب، ومن ظل محتفظا منهم بدينه نسي عاداته، فصار يحجب نساءه كالمسلمين، ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم ولذائذهم، ويزهد في اللغة اللاتينية ويجتهد في تعلم اللغة العربية. وتناسى الإسبان أصولهم واستعربوا بحضارتهم وأخلاقهم وأنشئوا يفصحون بالعربية، وصار الخلفاء يختارونهم عمالا لإدارتهم وأمناء لمشورتهم، يفضون إليهم بأسرارهم. وكان كثير من أذكياء الجلالقة والقشتاليين والليونيين والنافاريين، دع من كانوا في البلاد الواقعة في حكم المسلمين من أرض الأندلس، يتعلمون العربية ويقصدون الخليفة الأندلسي أو أحد رجاله يستخدمون في أرضه.
وتزوج العرب من البنات الإسبانيات والبرتقاليات، وشاع هذا الزواج بين العرب، وأمسى ملوك النصارى على عهد انقسام الأندلس بين ملوك الطوائف يتزوجون من بنات أمراء المسلمين؛ فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إشبيلية، وعقد مثل هذا الزواج غير مرة وكان عدد المتزوجات من الإسبانيات والبرتقاليات من المسلمين وعدد المسلمات المتزوجات من الإسبانيين والبرتقاليين آخر أيام الأندلس كثيرا جدا، حتى جرى لذلك كلام في الشروط التي تمت بين الغالب والمغلوب.
ومن العرب من آثر زي الإسبانيين من الملابس والسلاح واللجم والسروج، وكلف بلسانهم، وكثير من أهل الطبقة العالية من المسلمين كانوا يعرفون لسان جيرانهم ويتشبهون بهم في الأكل والحديث وكثير من الأحوال والهيئات، وكان بعض ملوك بني الأحمر يتزيا بزي الإسبان وكذلك أجنادهم، وذكر العلامة ابن خلدون أن الأندلسيين لعهده أخذوا يتشبهون بأمم الجلالقة في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، وعد ذلك من علامات الاستيلاء، ولقد قالوا إن عزيز بن خطاب، وكان من أكابر العلماء، لما ملك على مرسية، استمع خطبة الخطيب حاسر الرأس على مثال ملوك الإفرنج، وكذلك كان ابن هود يسير في بلاده حاسرا، وعلى هذا درج بنو الأحمر، وكان يسمح لعلماء المسلمين هناك أن يرخوا ذوائبهم على مثال رجال الفنون والأدب من الإسبان، وأخذ النساء والبنات المسلمات يقلدن الإسبانيات في العهد الأخير بملابسهن وبالسفور أو الحجاب الخفيف. وبلغ من تسامح أمراء المسلمين في الأندلس أن منذر بن يحيى صاحب سرقسطة وذواتها أجرى إصهار ريمند الجليقي وشانجة القسطلي من ملوك الإسبان على يديه، وكتب عقد النكاح بينهما بحضرة سرقسطة في حفل من أهل الملتين، وذكروا أن بعض ملوك الأندلس كانوا يعرضون في قصورهم التماثيل الجميلة وفيها صور الآدميين وغيرهم.
Bilinmeyen sayfa