تقديم
الجزء الأول: مختارات من الكتاب الفلسفيين
1 - أرنولد توينبي
2 - ألبرت أينشتين
3 - أجنازيو سيلون
4 - إ. م. فورستر
5 - جون موريس كلارك
6 - إريك فروم
الجزء الثاني: مختارات من الفلاسفة الدينيين
7 - جاك ماريتان
8 - رينولد نيبور
9 - سارفيبالي رادا كرشنان
الجزء الثالث: مختارات من الفلاسفة الإنسانيين
10 - جان بول سارتر
11 - كارل ر. بوبر
12 - برتراند رسل
13 - سدني هوك
14 - كارل ياسبرز
تقديم
الجزء الأول: مختارات من الكتاب الفلسفيين
1 - أرنولد توينبي
2 - ألبرت أينشتين
3 - أجنازيو سيلون
4 - إ. م. فورستر
5 - جون موريس كلارك
6 - إريك فروم
الجزء الثاني: مختارات من الفلاسفة الدينيين
7 - جاك ماريتان
8 - رينولد نيبور
9 - سارفيبالي رادا كرشنان
الجزء الثالث: مختارات من الفلاسفة الإنسانيين
10 - جان بول سارتر
11 - كارل ر. بوبر
12 - برتراند رسل
13 - سدني هوك
14 - كارل ياسبرز
آراء فلسفية في أزمة العصر
آراء فلسفية في أزمة العصر
تأليف
أدريين كوخ
ترجمة
محمود محمود
تقديم
لم يعرف تاريخ الحضارة أزمة بشرية مثل تلك التي يواجهها الإنسان في منتصف القرن العشرين؛ فهي أزمة تمتد إلى بذور الوجود البشري ذاته أو تكاد تأتي على كل معالم الحضارة. وفي مثل هذا الوقت العصيب يجد الإنسان نفسه مسوقا إلى أن يزن نفسه ويقوم العالم الذي أنشأه لعله يتعرف طبيعة الأزمة التي تواجهه، وهو يبحث عن الوسائل التي تمكنه من الاحتفاظ بالحياة، بل ومن إخصابها برغم ما يحيق بها من محن. وفي هذا الكتاب عرض للمباحث التي قام بها أربعة عشر كاتبا من أعمق المفكرين في العصر الحديث، محاولين بها تقويم العالم الذي نعيش فيه، وهداية الناس إلى الصراط المستقيم.
وقد قامت باختيار المقتطفات التي وقع عليها الاختيار لهؤلاء الكتاب، مؤلفة هذا الكتاب أدريين كوخ أستاذة التاريخ بجامعة كاليفورنيا، ووفقت في اختيارها توفيقا كبيرا، وقامت بتنسيق المختارات حتى جاءت صورة قوية لما ارتآه هؤلاء الكتاب بشأن الأزمة التي يعانيها الإنسان، وقدمت لكل مجموعة من المختارات بنبذة عن تاريخ حياة الكاتب أو الفيلسوف. وقد يجد القارئ فيما وقع عليه اختيار الكاتبة من مقتطفات ميلا إلى التعصب نحو مذهب ديني معين أو عقيدة فلسفية خاصة، ولكنه التعصب الذي يشحذ الفكر والتأمل ، وينطوي على الغرض النبيل؛ فالتحمس للمسيحية أو للإنسانية أو العالمية لا يقصد إلا الدعوة إلى السلام وتهدئة النفوس وسعادة البشر.
وقد قدمت لهذه الآراء كلها مؤلفة الكتاب بفصل بالغ الطول، وذيلتها بخاتمة مختصرة حاولت فيها أن تلم بأطراف الموضوع وأن تجمع شتاته، كما حاولت أن تشخص طبيعة الأزمة التي يعانيها الإنسان، ومهمة الفلسفة إزاء هذه الأزمة، واتجاهات الفلسفة الحديثة عند وصف العلاج. وقد رأيت أن أسوق خلاصة ما جاء في المقدمة وفي الخاتمة في هذا التقديم الذي أعرضه على القارئ، معقبا من عندي على هذا الرأي أو ذاك كلما اقتضتني ذلك ضرورة التوضيح.
والكتاب - بهذا - في جملته، بحث نافذ في قلب الحضارة التي نعيشها، يحث كل مفكر على النقد والتحليل.
وترى أدريين كوخ - مؤلفة هذا الكتاب - أننا إذا تدبرنا مدى الأزمة التي يواجهها الإنسان الحديث في منتصف القرن العشرين، ومقدار ما تنطوي عليه هذه الأزمة من عقد يتعسر حلها، وجدنا أن الإنسان لم يعان في تاريخ حضارته منذ نشأتها ما يداني هذه الأزمة عمقا وشدة؛ فهي أزمة الوجود البشري ذاته، أزمة قد تهلك فيها الحضارة، ويبلغ فيها تاريخ الإنسان نهايته. بيد أن الإنسان لو تعقل لغير هذا المصير المشئوم، فمستقبله يتوقف - إلى حد كبير - على آماله وأعماله.
وقد انتقل الإنسان من طور الأزمة التي يعاني فيها الفرد وحده إلى طور الأزمة العالمية، وهو انتقال واسع عميق، يحتم علينا أن نتوقف لحظة نزن فيها أنفسنا والعالم الاجتماعي الذي نعيش فيه. وليس بوسعنا أن نواجه هذه الأزمة على مستوى اقتصادي بحت، فنحاول أن نجد لها حلا ماديا، أو على مستوى سياسي بحت باعتبارها مشكلة التنظيم الدولي، أو حتى على مستوى السيكولوجيا باعتبارها مشكلة تتعلق بتحليل مشكلات الفرد في حياته؛ فكل هذه النواحي متشابكة ولا يمكن أن نفكر في ناحية منها دون أن نتعرض لغيرها من النواحي. ولا بد لنا عندما نواجه هذه الأزمة من توسيع معرفتنا بالعلاقات الإنسانية كلها ومن تعميق معرفتنا بأنفسنا، وهذه المعرفة ضرب من ضروب النشاط الذهني الذي يشغل الفرد في كل ناحية من نواحي حياته، ويزيد من وعيه بالروابط التي تصل ما بينه وبين غيره من الناس.
هذه هي الوظيفة التاريخية للفلسفة؛ أن تنسق - في خلال بحثها عن الحقيقة - بين نتائج المعرفة التي يكتسبها المرء من أية زاوية من الزوايا، وأن تنسق - في خلال بحثها عن طريقة للحياة - بين القيم التي تكسب الحياة أي معنى من المعاني. والفلسفة بهذا المعنى تبحث في كل المعارف المتشابكة بروح حرة، بغية رسم طريقة من طرق الحياة تتفق مع العقل ومع تقدم الإنسان؛ فهي ليست مقيدة برأي معين، وليست وقفا على الفلاسفة المحترفين. وهذا النشاط الفلسفي - فوق ذلك - في تطور مستمر، بسبب التغير الدائم في محيط معارفنا وفي ظروف وجودنا في هذه الحياة. ومن أوجه الأزمة الحاضرة ازدياد سرعة التغير في معارفنا وفي ظروف وجودنا، ويبدو أن الأسس ذاتها قد أخذت تهتز وتتزعزع. ولو صح هذا لكنا أحوج ما نكون إلى النظرة الفلسفية في زماننا هذا، وأحوج ما نكون إلى المعتقدات التي تنير الطريق أمام الإنسان الزائل الفاني، وتوجه وجوده توجيها سديدا. ومن ثم فإن مجرد وجود الأزمة يتطلب من العقول البشرية الممتازة أن تقوم بالتحليل الدقيق.
وإذا ما عرفنا ذلك حكمنا بأن رجال الفكر لا ينفقون أوقاتهم عبثا؛ فالظروف المحيطة بهم تحثهم على البحث في طبيعة الأزمة، وعن الوسائل التي تعزز الحياة وتغنيها بالرغم مما يحيق بنا من محن. والمختارات التي نقلناها في هذا الكتاب من أمثال هؤلاء الرجال المفكرين، ذوي العقول الفلسفية العميقة. وهم لا يرسلون الحكمة على ألسنتهم بغير هدف، ولا يكتفون بمجرد تبيان ما في الحياة من فوضى، وإنما هم بناءون منشئون إلى حد كبير، يبتغون مصلحة الناس أجمعين، ولكل منهم عقيدته التي يرى أنها تؤدي إلى العالم الأمثل، لديهم شجاعة تميزهم عن تلك النفوس الخائرة التي لا ترى أملا في المستقبل. إنهم يبذلون قصاراهم لهدايتنا إلى الطريق المستقيم؛ فنتحاشى ما يعترض سبيلنا من عقبات، وندرك حاجاتنا التي تستند إلى ماضينا فنعمل على استيفائها بنظرة عامة شاملة لا يحدها إقليم ولا تحيط بها مصلحة شخصية. وقد انتقيناهم جميعا من المعاصرين الذين اصطدموا بالمشكلة في حياتهم، وأحسوا الأزمة التي نعانيها في نفوسهم. وقد حاول كل منهم أن يجابه الموقف بفلسفة كاملة وإيمان فعال.
وقد استرشدت مؤلفة الكتاب بعدة مبادئ عند اختيارها لهؤلاء الرجال؛ فكلهم رجال ذوو سمعة ضخمة كل في ميدانه الخاص، وقد اكتسبوا هذه السمعة بالجهد الشاق والتفكير العميق. وقد لبثوا حقبة من الزمان ينعمون النظر ويرسلون الخيال في المدنية الغربية القائمة، وهم في لقاء مع المشكلات الأساسية في العالم الحديث الذي يمر بمرحلة انتقال خطيرة. ولم يكفهم أن يفكروا ويتدبروا في أبراج عاجية، بل لقد أحس كل منهم إحساسا قويا بضرورة نقل آرائهم إلى غيرهم من الناس، وضرورة العمل باعتبارهم أفرادا مسئولين في مجتمع له شكله السياسي. وقد رأوا جميعا - كل بطريقته الخاصة - أن يتجاوزوا حدود اختصاصهم، وأن يتغلبوا على مشاعرهم القومية الوطنية المحلية، محاولين بالتفكير المنطقي أن يخدموا قضية الحرية. ويمثل كل منهم رأيا فلسفيا خاصا، كما يمثل وجهة نظر سياسية معينة. وتستهدف مؤلفة الكتاب من عرض هذه الآراء المتنوعة بلوغ نظرة أشد نفاذا، وتحليلا أوفى نقدا لوجهات النظر الفلسفية الماثلة أمام عيوننا، كما تستهدف أن يدرك الناس كلهم أنهم جميعا بسبيل الكشف عن الحقيقة والبحث النزيه. وكل من اخترنا لهم من الثقات؛ لأنهم جميعا يدركون عمق الأزمة وشدتها واستحالة مواجهتها برأي قاطع دون سواه، وهم يعلمون أن العقدة لا تحل في لحظة، وأن العلاج السريع لا يمكن - غالبا - أن يكون ناجحا.
ومن ثم فقد عنيت المؤلفة عند اختيارها للمقتطفات التي أوردناها بالنظرة الخاصة للمفكر أو الفيلسوف، والزاوية الخاصة التي وجه منها الكاتب نظره إلى العلاقات الاجتماعية والخلقية بين الناس. وليس من شك في أن مجموع ما تركه لنا هؤلاء الكتاب أوفى من ذلك وأدق، ولكن هناك سببين رئيسيين دفعا المؤلفة إلى أن تحصر مختاراتها تحت العنوان الذي اختارتها لكتابها، وهو «آراء فلسفية في أزمة العصر»؛ الأول: هو تلك الرغبة القائمة في نفوس الكثيرين منا الذين يشغلون أنفسهم بالأزمة الحاضرة، والذين لا يعبئون بالتفصيلات الفنية الدقيقة لكي يكون بين أيديهم مجلد واحد. والسبب الثاني: هو تلك الحاجة العامة إلى بعد النظر ومقابلة هذا الاستهتار الذي أخذ يسود بالقيم، والحاجة إلى فلسفة بناءة نعزز بها نفوسنا ضد الميل إلى الهدم والتدمير الذي لا يستهدف شيئا. ومن أجل ذلك كانت الأوجه الفلسفية البحت فيما أخرج هؤلاء الكتاب عرضا قيما اخترناه لأنها قد تحول دون الاهتداء إلى الصراط المستقيم وسط هذه المتاهة التي يسير فيها الإنسان. وقد اقتصرنا في الإشارة إلى هذه الأوجه الفلسفية على الحد الذي ينير الرأي الذي قصدنا إلى إبرازه للقراء. وبهذا الهدف نصب أعينها غاصت مؤلفة الكتاب فيما أخرج هؤلاء الكتاب بعد الحرب العالمية الثانية، للبحث عن مقتطفات تمثل لب آرائهم وفلسفاتهم، وأخذت على نفسها أن تنتقي وترتب ما اقتبسته لكي تؤكد أنها لا تعرض إلى الآراء التي لها مساس بمشكلاتنا في نسق منطقي وفي تعبير الكتاب أنفسهم وبإيجاز لا يخل.
وتنقسم هذه المقتبسات إلى ثلاث مجموعات؛ تمثل المجموعة الأولى الكتاب ممن ليسوا فلاسفة محترفين، ولكنهم فكروا تفكيرا جديا في ميادينهم، وعند مواجهتهم للأزمة أحسوا ضرورة التجاوز عن ميادينهم الخاصة، وحملوا أنفسهم تبعة الوصول إلى حل سليم؛ فتوينبي مثلا مؤرخ، ولكنه يتخذ جميع الحضارات وجميع مخلفات الإنسان مجالا له، فنراه يقدم لنا نظرة تاريخية شاملة. وأينشتين هو أعظم علماء الطبيعة في عصرنا، وهو يقدم إلينا عرضا قويا لدور العلم في الحياة الحديثة، وهو زعيم بين العلماء للدعوة إلى بيان الخطورة السياسية التي تترتب على سوء استخدام الطبيعة النووية. وسيلون روائي متفلسف، وموضوعه أثر المجتمع الذي يخضع للآلة خضوعا تاما كما يخضع للحكم الدكتاتوري في مصير الفرد وسعادته، وقد كان إلى جانب ذلك زعيم الحركة السرية الشيوعية الإيطالية في عهد موسوليني، ثم انشق على الشيوعية الدولية، وهو يدرك جاذبية الشيوعية ومظالمها وأسباب خداعها. ثم يأتي بعد ذلك فورستر، وهو روائي متفلسف آخر، وقد صور التقاء الشرق بالغرب، وما أدى إليه هذا الالتقاء من سخرية من ناحية وروح إنسانية من ناحية أخرى، وحلل ذلك كله في مؤلفه العظيم «رحلة إلى الهند»، وهو - على خلاف في ذلك مع سيلون - ثابت على إيمانه الشديد بالفرد، ويؤمن بأن الفن فيه ما يكفي لسد حاجة الإنسان. أما ج. م. كلارك فهو أحد زعماء الاقتصاد في أمريكا، وهو يدعو في نظرياته إلى تغلغل الاقتصاد في جميع مناحي الحياة، ويدرك أن رجل الاقتصاد لا بد له من أن يتجاوز عن حدود آرائه الفنية لكي يعالج سعادة الإنسان. أما أريك فروم فهو عالم في التحليل النفساني، كانت دراسته الأولى في علم الاجتماع، وربما كان أول عالم من علماء التحليل النفساني حاول أن يجمع بين اتجاهات ثلاثة، هي: العلاج النفساني، وفلسفة القيم، والتحليل السياسي الاجتماعي.
والمجموعة الثانية من المقتطفات تتحد في طريقتها التي تستهدف بيان الدور الحيوي الذي تلعبه العقيدة الدينية في أية حضارة من الحضارات. وقد كان رائد المؤلفة عند اختيارها المقتطفات التي أوردتها في هذه المجموعة أن تعرض آراء بعض القادة في الميدان ممن يمثلون العقائد الدينية الكبرى التي تسود هذا العصر الذي نعيش فيه. وكان طبيعيا أن تركز المؤلفة اهتمامها في المذاهب المسيحية التي ترى فيها احتمال المخرج من الأزمة التي تحيق بالإنسان. ولو أنها كانت على علم بالإسلام لأدركت أن دعوته مشتقة من اسمه، فهي دعوة إلى إقرار السلام وفعل الخير، وإلى إغاثة العاجز والمسكين ...
وذكرت المؤلفة في هذا الصدد ماريتان، وربما كان أقوى الفلاسفة الكاثوليك أثرا، وهو يتجاوب مع كل الحركات التي يتميز بها عصرنا الحاضر في الفن والسياسة والفلسفة، ويرى في كل ناحية من نواحي النشاط الذهني رأيا يهدي الإنسان إلى سعادة النفس واطمئنان الضمير. ثم تعرض المؤلفة بعد ذلك لنيبور، وهو أحد زعماء الدعوة إلى البروتستنتية، وهو يتجه برأيه نحو المظالم الاجتماعية في عهدنا ونحو مهاجمة الكنيسة ذاتها. وتختتم المؤلفة هذه المجموعة برادا كرشنان الذي كان أستاذا للديانات المقارنة بجامعة أكسفورد، وهو أحد زعماء المفكرين في ميدان فلسفات الشرق، وكان سفيرا للهند لدى الاتحاد السوفيتي، وهو الآن نائب رئيس الجمهورية بالهند.
والمجموعة الثالثة هي كذلك لفلاسفة محترفين، ولكنهم يبعدون بالفلسفة عن الدين، ويرون أن الفلسفة هي ذلك النشاط الذي يحكم فيه الإنسان قوة العقل لكي يكسب الحياة معنى. وفي هذه المجموعة جان بول سارتر - وهو زعيم الوجودية في فرنسا - وقد ساق بأعماله الأدبية الوجودية إلى المسرح المعاصر وإلى صفحات الكتب الرخيصة التي تتناولها أيدي العامة من الناس. وهو رجل يجاهر بإلحاده الذي لا نقره عليه بطبيعة الحال، ولكنه يرى في هذا الإلحاد دعوة إلى التحرر. ولعل موقفه من قضية الجزائر واحتجاجه الشديد على وحشية الفرنسيين في معاملة الجزائريين يبرران حشره بين زمرة المفكرين الداعين إلى السلام بين دفتي هذا الكتاب. ولا بد لنا - برغم ذلك - من الاطلاع على آرائه بشيء كثير من التسامح، ومن تفسير إلحاده بالتحرر المطلق وبعدم الإيمان بالقدر، وله دينه ولنا ديننا.
أما برتراند رسل فهو ذلك الشيخ الوقور الذي يقف شامخا في ميدان الفلسفة الحديثة، وقد أسهم بأوفر نصيب في المنطق الحديث، وبقي بالإضافة إلى ذلك مخلصا للآراء التحررية التي نادى بها جده لورد رسل وظهرت في قوانين الإصلاح التي صدرت في عام 1832م، وكتب بإسهاب في معنى الحرية والبلشفية، وفي الآراء التقدمية في التربية، وفي الزواج والأخلاق، وفي السلطة والسعادة، كتابة قوية ذات أثر فعال، وبأسلوب ساحر شائق. أما هوك فهو فيلسوف محترف ومعلم، يستند في الآراء التي نادى بها إلى جون ديوي، وقد عمل على دفع المذهب الطبيعي والديمقراطية إلى الأمام بالتحليل المنطقي ومعالجة المشكلات الخاصة التي تتعلق بالتربية المعاصرة والمجتمع المعاصر. وربما كان ياسبرز زعيم الفلاسفة في ألمانيا في الوقت الحاضر، وقد بدأ حياته العملية طبيبا نفسانيا، وتعمق دراسة التاريخ والفلسفة والعلم الفلسفي كي يدعو إلى إنسانية جديدة ويدافع عنها.
ومن ثم يرى القارئ أن رجال الفلسفة - في هذا الكتاب الذي يضم مقتطفات مختارة لهم - الذين رسموا صورة كاملة للعالم المعاصر، قد أتيحت لهم الفرصة لكي يعرضوا مدى فهمهم للأزمة التي تلم بنا في العصر الحاضر، كل من الزاوية التي يرى أنها تلقي عليها الضوء الذي يوضحها ويبرزها للعيون. وإذا كان الفيلسوف المعاصر ألفرد نورث هوايتهد قد صدق حينما قال إن الإنسانية تمر بمرحلة فذة من مراحل تاريخها تتحول فيها نظرتها من مجال إلى مجال، وتتخلص فيها من قيود التقاليد الفكرية القديمة؛ فإن هذا الكتاب يمدنا بغذاء للفكر، وبمادة يستطيع رجال الفكر بتناولها أن يعيدوا تشكيل فلسفاتهم التي تمس الإنسان كفرد، وتمس قيم الحضارة التي نعيشها.
وكثيرا ما تتفق الآراء التي نقلناها في هذا الكتاب لبعض الفلاسفة والمفكرين فيما يتعلق بأزمة العصر الحديث، ولكنها كثيرا أيضا ما تختلف اختلافا جوهريا. بيد أن مؤلفة الكتاب تحاول في خاتمته التي أدمجناها في هذا الفصل أن تبرز من غضون ما بين الفلاسفة من أوجه الخلاف صورة الأزمة التي نعانيها، والإيمان الذي يجب علينا أن نتسلح به للتغلب عليها.
وترى المؤلفة ضرورة توضيح طبيعة الأزمة التي لم ير الإنسان مثلها من قبل في تاريخه، ودور الفلسفة في تحليل الحضارة التي نعيشها وفي بيان أوجه النقص في هذه الحضارة. (1) فظاعة هذا القرن العشرين
وأول ما تعرض له مؤلفة الكتاب في سبيل إدراك مغزى الأزمة الحاضرة هو هذا الإحساس بالفزع الذي يسود النفوس في القرن العشرين. ولا جدال في أن كل كائن بشري يعرف تمام المعرفة ما تعنيه أوقات الحرج؛ فعندما هجر بوذا أرجاء القصر المنيف الذي كان يعيش في كنفه، والتقى لأول مرة في حياته بالمرض والشيخوخة والفقر والموت، واجه أسباب الأزمات الشخصية التي عرفها الإنسان منذ الأزل. وإن وعي الإنسان بحتمية الموت وحده يكفي لتبصير الإنسان بالدور الأليم الذي يؤديه كضيف في هذه الدنيا نزل «في رحاب الدنيا التي تضيفه». وليس من شك في أن شعور الإنسان بقصر عمره وضرورة زواله يسوغ تعريفنا له بالكائن الذي يعي معنى الموت، وهو تعريف لا يقل صوابا عن التعريف التقليدي للإنسان بأنه حيوان عاقل. وهذه المأساة البشرية تفسر لنا تلهف الإنسان إلى الخلود؛ ذلك التلهف الذي يظهر في كل ثقافة من الثقافات، ويساعد على تفسير قوة تأثير الديانات .
وإذا تحدثنا عن «أزمة العصر» فنحن نعني شيئا مختلفا عن الأزمات الفردية التي يلاقيها المرء في حياته؛ لأنا في هذه الحالة نعالج تطورات متراكمة أساسية بعيدة المدى، تحدث لجمهور بأسره، وتخلق فترة جديدة من فترات التاريخ لها خطرها وخطورتها. وعندما يعود المؤرخون بأبصارهم إلى سير الحضارة الغربية يرون فترات من الحرج في تاريخ الإنسان، تتميز بانقلاب شديد في النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، انقلاب يهدد القيم الثابتة ويتحدى وسائل الحكم المعروفة. ومن المؤكد أن كل عصر من عصور التطور الاجتماعي والسياسي يخلق بسبب حداثته نوعا من الفوضى والاضطراب، وبعض هذه الأزمات التي حدثت في الماضي، مثل الإصلاح الديني وما صاحبه من حروب دينية، أو الثورة الفرنسية وما تخللها من عصر الإرهاب وما أعقبها من حكم نابليون، كانت أوقاتا وحشية عصيبة، تميزت بالعنف الشديد وإراقة الدماء. ولكنا - إلى جانب ذلك - يجب أن نذكر أنها كانت كذلك أوقاتا لم تكن فيها معاناة التطور وثمن الآلام هي العناصر الوحيدة في النضال الاجتماعي؛ فلقد كانت مجموعات كبيرة من البشر تثق وسط هذا الاضطراب بمستقبل أفضل للإنسان، كما كانت هناك خطط عملية لإنهاء الأزمة وتمهيد السبيل إلى نظام جديد.
غير أنه كانت هناك - لسوء الحظ - إلى جانب هذه الفترات من التاريخ البشري، فترات أخرى سارت فيها الحضارات نحو الانحلال، دون أمل في المستقبل يخفف من وقع المأساة. وفي أمثال هذه الفترات التي يسود فيها التدهور كان الهلع يستولي على النفوس، وكان الخوف والعزلة من المشاعر التي تسيطر على الإنسان. وفي مثل هذا الجو الذي تتدهور فيه الحضارة يحل اليأس حتى في قلوب أشد الفنانين حساسية وأكثر المفكرين علما. ولما كانوا لا يجدون ما ينصحون به، فهم يعتزلون العالم في قدس الفن الخاص أو العقيدة الصوفية، أو يقنعون بالتعبير عن عبث كل علاج. وقد لخص جلبرت مري عند دراسته لفترات التدهور في الحضارة الهلينية هذه النظرة إلى الأمور في عبارة موجزة أصبحت شائعة على لسان كل مثقف في بلاد الغرب، وهي «فتور الحماسة». ولم يعن مري بهذه العبارة انحلال المدن الحكومية الإغريقية، وإنما قصد بها كذلك تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها. وقد اتضح انحطاط التفكير - في هذا الجو من الموت البطيء - في انتشار التصوف والتزهد وضعف العقيدة في العلوم.
ومما له دلالته أيضا أن روما قد باتت - في آخر عهد الإمبراطورية - حكومة مستبدة سافرة؛ لأن الناس فقدوا ثقتهم بأنفسهم، وأصبحوا مستعدين للتضحية بكل حق لهم في الحرية في سبيل أمن وهمي تعدهم به الحكومة المستبدة.
ويا ليت هذه النظرة المميتة المتشائمة التي تقضي على الإيمان بشخصية الإنسان والإيمان بإيجاد حل إيجابي للمشكلات العامة، يا ليت هذه النظرة قد اقتصرت على هذين المثالين من أمثلة الإخفاق في الحضارة الغربية! إلا أن أعراض «فتور الحماسة» يمكن أن تشاهد في العالم المعاصر، وجو اليأس يشجع بالفعل على التأهب لحفر قبر الحضارة الغربية التي سوف تنتهي حياتها عما قريب، إذا لم تنتشلها من وهدتها؛ فكيف سيطر هذا اليأس على نفوس الناس في الغرب؟
لقد قضت الحضارة الغربية الحديثة طفولتها القوية إبان النهضة وعصر الإصلاح الديني، وهي على ثقة تامة بكرامة الإنسان وقدرته على الخلق والإبداع، وعلى أهبة لأن تؤمن بالمعرفة البشرية وخبرة الإنسان. وكان من أهم العوامل التي دعمت هذا الإيمان ظهور العلم الحديث والحكومات القومية. وهذه العوامل، مستقلة أحيانا، متعارضة أحيانا، متضامنة في أكثر الأحيان، عملت على إضعاف الثقة بسلطة عليا سابقة، سواء كانت هذه السلطة هي نفوذ أرسطو أم نفوذ الكنيسة، وأخذت حيوية هذه الحركة الإنسانية تشتد بتقدم العلوم وتعزيز الروح القومية، وكلما تقدمت الحركة خلقت ظروفا اجتماعية تحررية تجمعت في العصر الذي يعرف في التاريخ الفكر الإنساني ب «عصر العقل» في القرن الثامن عشر، و«عصر التقدم والتصنيع» في القرن التاسع عشر. ولكن كل هذه التطورات المبشرة التي ترتبت على نمو القوميات الكبرى وتقدم التطبيقات العلمية انقلبت على شخصية الإنسان في القرن العشرين؛ فكلما اتسعت رقعة التمدن في الحياة اليومية وفي انتشار المصانع في ميدان العمل، ازداد الإحساس بضعف روح الجماعة، واشتد الشعور بالعزلة، وذاب الفرد في المجموع في مجتمع بيروقراطي.
وقد ارتفعت الأصوات في القرن التاسع عشر منذرة بهذه الظروف الجديدة في حياة الإنسان الحديث، ومن بين هذه الأصوات أصوات ثلاثة لا يمكن أن تنسى: صوت ماركس، وكركجارد، ونيتشه. وقد تنبأ هؤلاء المفكرون الثلاثة في جلاء بصيرة، وصفاء ذهن، بكل التطورات المقبلة، ولهم تأثير ساحر في معتقداتنا في العصر الحاضر. رأى ماركس المفارقة المتزايدة بين الوسائل التكنولوجية التي يمكن أن تضاعف الإنتاج فتضاعف بذلك من حرية الإنسان من ناحية، وبين حالة العزلة عند الإنسان التي تنشأ عن العلاقات الاجتماعية التي تترتب على الإنتاج، والتي تحول الإنسان بغير رأفة إلى سلعة من السلع، وإلى شيء من الأشياء. وكلما تقدم ماركس في بحوثه اشتد اهتمامه بالظروف الاجتماعية وكأنه نسي الإنسان كفرد. ولم يكن الأمر على هذه الصورة مع كركجارد الذي جعل خبرة الفرد الفذة محور اهتمامه، وهنا اكتشف أن التفكير المجرد لا يستطيع أن يجابه القوى البشرية الخفية العارمة، وأدرك أن حياة الإنسان في المجتمع الصناعي تعادي بطبيعتها الحياة الدينية المسيحية. ولما اشتد فزعه لتدهور العقيدة الدينية الصحيحة، حاول أن يتلمس الإيمان الديني الأصيل في غضون خبرته الخاصة. وشهد نيتشه كذلك تدهور المسيحية، ولكنه اتجه بفلسفته وجهة أخرى تخالف ما ذهب إليه كركجارد كل المخالفة؛ فبينما كان كركجارد يحاول أن يسترد العقيدة في الله نرى نيتشه ينكر هذه العقيدة، وحاول أن يستبدل بالعقيدة الدينية الإيمان بالقومية، وبعبادة يؤديها الناس كالأغنام في الماضي، تمجيد إنسان المستقبل وقوته.
ثم ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية جماعة من المفكرين عبرت بصورة أقوى عن ضعف روح الإنسانية عند الإنسان، عبر عنه شفيترز في كتابه «المدنية والأخلاق»، الذي نشره في عام 1923م، وفيه يقول: «إن موضوعي هو مأساة النظرة الغربية إلى العالم ... إن مدنيتنا تمر بأزمة حادة ... وأكثر الناس يرد هذه الأزمة إلى الحرب، ولكنهم مخطئون؛ فليست الحرب وكل ما يترتب عليها سوى ظاهرة من ظواهر انعدام المدنية الذي نجد أنفسنا فيه.» وقد عزا شفيترز انعدام المدنية هذا إلى عدم التوازن بين تقدمنا المادي وتقدمنا الروحي . وذكر شفيترز فوق كل ذلك أن أكبر خطر يكمن وراء تقدير العناصر المادية فوق العناصر الروحية في الحياة هو «أن أكثر الناس عن طريق الانقلاب الثوري في ظروف حياتهم يتحولون إلى قوم غير أحرار، بدلا من أن يصبحوا أحرارا.» وفي ظروف الحياة الحاضرة يكافح الناس في سبيل البقاء، وهم يرهقون أنفسهم بالعمل دون أن يوفروا لأنفسهم الوقت لكي يجمعوا آراءهم وينظموها. كما أن الاعتماد على المنظمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى يزداد يوما بعد يوم، «إن وجودنا الفردي ينحط شأنه من كل وجه من الوجوه، واحتفاظ المرء بشخصيته يزداد صعوبة جيلا بعد جيل.»
وقد وضح لنا في جلاء أن العالم المعاصر يعاني من اختلال التوازن بين التقدم التكنولوجي ونظرة العالم إلى شخصية الفرد، وذلك عندما تعرضت قيم المجتمع الحر من جراء ظهور الحكم الجماعي والتدهور الذي امتد حتى شمل العالم بأسره. وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى كاد الناس جميعا يتفقون على أن الإنسانية أشرفت على عصر جديد من عصور الحضارة، وهو عصر أزمة طاحنة شاملة قربت بين شعوب العالم أجمعين، لا بروح المحبة التي حلم بها الفلاسفة ذوو النيات الطيبة في كل قرن من قرون الزمان، ولكن بانتشار الفزع في قلوب الناس جميعا، واشتراك الشعوب في الشعور بالخوف والهلع. وقد أخذ هذا الشعور يتزايد، والمشكلات تتضاعف، حتى آمن الناس بقرب انتهاء المدنية الغربية.
وتدل على ذلك عناوين كثيرة من الكتب التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وأشفق رجال العلم على مصير العالم وقالوا: «إن العالم بين إحدى اثنتين؛ فإما أن يتحد، وإما أن يتلاشى.» إن مدنيتنا - كما قال أحد كبار المؤرخين المعاصرين - تمر بمحنة كبرى. وقد عالج الفلاسفة والمربون وعلماء الاجتماع في كتاباتهم انهيار الغرب وانقسام العالم، ويرى بعضهم أن العصر الحاضر سيكون عصر الحرب الشاملة التي لا تبقي ولا تذر. وفي هذا الصدد يقول سير ونستون تشرشل: «لم يدر بخلدنا قط أن القرن العشرين الذي كنا ننعته بقرن الرجل العادي يكون من بين معالمه الكبرى أن يقتتل هؤلاء الرجال العاديون في يسر لم تشهده القرون الخمسة الماضية في تاريخ العالم، ولكنا أقبلنا على هذا القرن الفظيع - القرن العشرين - بروح الثقة والاطمئنان.»
هذا القرن الفظيع! من ذا الذي يتدبر مسيره وتاريخه ولا يحكم عليه بالفظاعة؟! ومن ذا الذي ينكر أن الثقة التي كانت تملأ نفوسنا عند مطلعه قد زالت من النفوس؟! ليس من شك في أن الأزمة التي نعانيها في العصر الحاضر فريدة في تاريخ الإنسان؛ فهي أعمق وأوسع انتشارا من أية أزمة أخرى عرفه تاريخ الإنسان؛ لأنها أزمة الوجود البشري ذاته. وهذه هي البارقة الأولى من بوارق الخوف الناشئ عن الصور المتعددة لاحتمال الدمار الشامل لشخصية الإنسان؛ الخوف الناشئ عن القنبلة الهيدروجينية، والتعذيب الشديد في معسكرات الأعداء، وتجارب الفتك الشامل للبشرية، وهجرة الكتل البشرية إلى غير مواطنها بسبب الحروب والعداوات. إن هذه المخاوف التي تهدد الفرد، تهدد أيضا المجموعة البشرية كما تهدد الإيمان بالإنسان. إنها أزمة الفرد، وأزمة العلاقة بين الفرد والطبيعة، وبين الفرد وما يعمل، وبينه وبين غيره من الناس، وبين النظام الاجتماعي.
إن القنابل التي ألقيت على هيروشيما ونجازاكي وما تطورت إليه من أسلحة نووية ليست إلا رمزا للكارثة التي تحيق بالبشر، فهي تصور كيف يمكن أن تتجمع أسباب الحرج في تاريخنا على هيئة سلاح واحد مدمر. إن هذه الأسلحة الفتاكة التي يشغل الإنسان نفسه باختراعها تبعث على الخوف من حرب مدمرة تقضي على المدائن في لمحة، وتحطم الحياة البشرية في لحظة، وتلطخ وجه الأرض كله بالدماء. إن هذه الأسلحة الفتاكة قد جمعت مخاوف الناس في نقطة واحدة. وحتى لو استطعنا أن نتحاشى الحرب الشاملة، فهناك ما تثيره الحرب الباردة من قلق في النفوس لا ينفك عنها، هذه الحرب التي أطلقتها من عقالها المنافسة بين قوتين كبيرتين تستطيعان وحدهما أن تتحكما في أكبر عدد ممكن من الأسلحة الفتاكة التي لا يمكن أن تقاوم، حتى يخترع الإنسان أسلحة أخرى أشد منها فتكا. وقد أمكن لهذه الأسلحة الفتاكة أن تعمق هوة الخلاف بين شقي العالم الذي نعيش فيه . كما أن مشكلات انقسام العالم قد أدت بدورها إلى اشتداد الأزمات السياسية والاقتصادية التي يشكو منها عصرنا الحاضر، مثل مشكلة وحدة غرب أوروبا، والصيحة العالمية التي تنبعث من شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مطالبة بنصيبها في القوة الصناعية والكرامة الوطنية. ثم إن المفارقة - التي أخذت هوتها تتسع - بين قدرة الإنسان الفنية العملية وسيطرته على الطبيعة وبين سيطرة الإنسان على نفسه وكلمته، قد بلغت قمة عالية مع اختراع هذه الأسلحة المميتة.
وللأزمة - أخيرا - وجه خلقي: هل يمكننا أن نسوغ قيمة المعرفة لمجموعة البشر، أو هل يبقى كل فرد حرا فيما يؤمن به؟ إذا كنا لا نستطيع أن نجد مسوغات معقولة لإيماننا بالإنسان، فلا بد أن تبقى القيمة الكبرى للعقيدة التي تسندها القوة الجنونية.
متى بدأت أزمة العصر الحاضر؟ من النقاد من يرى أنها بدأت مع ظهور الحكم الدكتاتوري في أوروبا، ومنهم من يرى جذورها في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي جاءت في أعقاب صلح فرساي، ومنهم من يرد أسبابها إلى القومية المعتدية والصراع الاستعماري بين الدول الحديثة، ومنهم من يرى أن هذه الأسباب جميعا إنما تنم عن ضيق الأفق، وأن السبب الرئيسي مؤامرة شيوعية دولية، كانت فترة انقلاب أساسي عنيف في أكثر من مجال حيوي. ولكن الواقع أن الدرس الذي تلقيناه عن الحرب العالمية الثانية المشئومة هو الذي أفسح المجال للأزمة التي نعانيها.
إن نهاية الحرب العالمية الثانية تحدد بداية عصر من عصور التاريخ، وهي نقطة بداية لمرحلة من مراحل تاريخ الإنسان التي تتجمع فيها مشكلات كبرى تواجه الحضارة الغربية، بل تواجه العالم بأسره، وتبرز من بين هذه المشكلات - غير الأسلحة النووية - ثلاثة أمور كبرى: الأول خطة الشيوعية السوفيتية والصينية، والثاني حل مشكلة الدول النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والثالث مصير الحرية في الغرب. وكل واحد من هذه الأمور كفيل وحده بأن يخلق أزمة للحضارة الغربية الحديثة؛ فما بالك إذا تجمعت ثلاثتها، واشتد أزرها بتقدم فنون الحرب؟ إنها حينئذ تهدد حياة الإنسان كلها، وتجعل أزمة العصر الحاضر من أحد الأزمات؛ ومن ثم فإني أرى أنه لكي نحسن إدراك طبيعة الأزمة الحاضرة ومداها، لا بد من أن ننظر في كل أمر من هذه الأمور على حدة. (2) خطر الشيوعية «إن طيفا جديدا يلمح في أوروبا - هو طيف الشيوعية.» بهذه العبارة الافتتاحية الشهيرة أعلن «البيان الشيوعي» الذي صدر في عام 1848م قرب انتهاء النظام الرأسمالي عن طريق ثورة فريدة تحرر المعذبين في الأرض وتقيم مجتمعا عالميا لا طبقيا. أما اليوم - وقد انقضى بعد صدور هذا البيان ما ينيف على مائة عام - فإن الشيوعية لم تعد طيفا من الأطياف، إنما هي إحدى قوتين عظيمتين في العالم، إنها تتحكم في القوى البشرية والموارد الطبيعية في جزء كبير من العالم، وهي تؤلف قوى حربية لم يعرف التاريخ لها نظيرا من قبل، قوى لا تهدد أوروبا وحدها، بل تهدد أيضا العالم غير الشيوعي برمته. وفي التاريخ وثبات ثلاث يرجع إليها السبب في هذا التحول؛ فالحرب العالمية الأولى عملت على تصفية الإمبراطورية النمساوية المجرية القديمة، وأضعفت ألمانيا، ومكنت للحزب البلشفي أن يستولي على السلطة في روسيا، فأنشأ في فترة وجيزة من الزمان مجتمعا جديدا يخضع للحكم الدكتاتوري. والحرب العالمية الثانية عملت على تصفية النعرة العسكرية في ألمانيا واليابان، والمستعمرات البريطانية والفرنسية والهولندية، ومكنت للأحزاب الشيوعية في روسيا والصين من الاستيلاء على النفوذ في شرقي أوروبا وفي بلاد الصين. والظاهرة القائمة في الوقت الحاضر، ظاهرة صعود الشيوعية إلى قمة القوى العالمية، إنما نشأت عن اندماج النظرية الماركسية بحزب لينين والخطط الخمسية الاستالينية للتصنيع الإجباري الذي يسير اليوم في ظروف التكنولوجيا النووية الآلية الصاروخية. ولما كان الشعور السائد في الغرب هو أن الخطر الشيوعي يمكن أن يزول إذا طبقت روسيا فعلا سياسة التعايش السلمي التي تنادي بها، ولكي ندرك إمكان تحقيق ذلك، أرى أن نحلل الشيوعية إلى عناصرها الأساسية.
ويقودنا ذلك إلى مجموعة المعتقدات والآراء التي يوجه الشيوعيون بها أعمالهم. وما أكثر المؤلفات التي صدرت في موضوع النظرية الشيوعية، وما يترتب على تطبيقها من شرور عن طريق العمل السياسي. ولا نستطيع في هذه المقدمة أن نشير إلا إلى الظواهر الأساسية في هذه المعتقدات. إن جزءا من النظرية من التراث الماركسي، وجزءا آخر هو التطور الذي نشأ عن الحكم القيصري؛ وما اقتضاه من ضرورة القيام بعمل ثوري للاستيلاء على السلطة باسم البروليتاريا، والجانب الأكبر من هذا العمل من صنع لينين. وبعد الثورة البلشفية، أخذ المذهب الشيوعي يتخذ صورة محددة، تصلح للإبقاء على الحكومة السوفيتية وانتشار نفوذها. وكان الجانب الأكبر من هذا العمل من فعل استالين. ثم أخذ المذهب يتطور ويتشكل على صور جديدة متأثرا بالتجربة الشيوعية الصينية. وبالرغم من التعديل الشديد الذي طرأ على التعبير الماركسي الأصلي، فإن لب النظرية لا يزال قائما يؤثر في الوسائل الشيوعية ويمد حكام المجتمع الشيوعي بالرأي الذي يسترشدون به. ولا تزال النظرية الماركسية عاملا قويا لدفع التاريخ نحو انتصار العقيدة الشيوعية؛ ومن ثم كان للنظرية أهميتها في التربية الشيوعية، وهي تؤخذ مأخذ الجد عند مناقشة أي برنامج جديد أو اتجاه في السياسة.
ومن أساسيات النظرية الماركسية نظرية المادية التاريخية، وهي محاولة ماركس أن يوفق بين النظرية من ناحية وبين التاريخ والعمل من ناحية أخرى. إن المادية التاريخية تزعم أنها تفسير مجرى التاريخ كله ببضعة قوانين من قوانين الحركة. التاريخ كله - طبقا لهذه النظرية - ليس إلا تاريخ الصراع بين الطبقات، والطبقة تحدد بالدور الذي تلعبه فيما يتعلق بوسائل الإنتاج السائدة؛ ومن ثم فلكي يفهم المرء التغير الاجتماعي لا ينبغي له أن يتأثر بالعاطفة وينظر إلى الإطار الخارجي - إن المثل الخلقية، أو القوانين، أو المعتقدات مثلا - وإنما ينبغي له أن ينظر إلى العلاقات الأساسية في الاقتصاد والملكية، وهي العلاقات التي تحدد الدور الجديد من تطور الحوادث. وحتى الواقع السياسي السائد - كالدولة مثلا - يجب أن يفهم على أنه ليس إلا السلاح التنفيذي (القانون والجيش) الذي يدفع عن حقوق الملكية للطبقة المالكة. وإن أبسط علاقات الملكية التي تتميز بها هي العلاقة بين أولئك الذين يملكون وأولئك الذين لا يملكون وسائل الإنتاج - بين من عندهم ومن ليس عندهم. وكلما تغيرت الوسائل التكنولوجية نشأت الصعوبات الاقتصادية في حدود تقسيم العمل. وهذه هي الحوافز التي تبعث على النضال بين الطبقات. غير أن علاقات الملكية المشروعة القائمة تصبح إلى جانب ذلك قيودا على التقدم التكنولوجي، ثم تحطم هذه القيود ثورة الطبقة المظلومة فيما سبق، وهي الطبقة التي تلقى تأييدا تاريخيا من جانب التقدم الملموس في التكنولوجيا. وحيث إن الطبقة لا يمكن أن تقتل نفسها، فإن الوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها الطبقة المظلومة أن تجتذب وسائل الإنتاج من بين براثن الطبقة المالكة هي الوسيلة السياسية العنيفة؛ وسيلة الثورة. وترى الماركسية أن آخر ما بلغته الرأسمالية من تطور هو السبب في الحروب العالمية وثورة المستعمرات. إن الرأسمالية المتقدمة تحاول أن تتحاشى تناقضها الداخلي بالبحث عن المستعمرات واستغلالها كمصادر للمواد الخام، والعمل الرخيص، وكأسواق للسلع المصنوعة، وذلك مما يحول صراع الطبقات الوطني إلى صراع طبقي عالمي. ولما كانت مساحة الأرض محدودة، وجشع الرأسمالية غير محدود، فلا مناص من أن تنتهي المنافسة الرأسمالية إلى حرب عالمية استعمارية. والاستغلال الرأسمالي للبلدان المتخلفة لا بد - في نفس الوقت - أن يحرك نفس النزاع الطبقي الذي يتولد في داخل الدول الرأسمالية؛ مما ينجم عنه أن تنضم المقاومة الوطنية إلى الوعي الطبقي في الجماهير المستعمرة وتثور في وجه رأس المال الأجنبي المستغل. وهذا الموقف يعجل بثورة البروليتاريا، ويقوي التناقض الموجود في الرأسمالية؛ لأن وجود الدولة الشيوعية يمحو الأسواق ومصادر الاستيراد، ويكون رمزا لإمكان حدوث الانقلاب الثوري؛ ومن ثم فإن النظرية الماركسية تزعم أن الدول الرأسمالية تسعى إلى تدمير الدول الشيوعية وإلا دمرتها الشيوعية. ويحمل لينين هذا الرأي في عبارته الشهيرة التي قال فيها: «ما دامت الرأسمالية والشيوعية موجودتين، فنحن لا نستطيع أن نعيش في سلام.»
ومهما كانت قوة المذهب المادي بالنسبة إلى الماضي وبالنسبة إلى بعض النبوءات التي ثبتت في الحاضر، فإن القوة المعنوية والتبشيرية الكامنة في هذا المذهب تبلغ ذروتها عند تطبيقها على المستقبل، فإن الوعود البراقة التي تقدمها الشيوعية للبشرية تبرر كل تضحية وكل تعذيب في سبيل تحقيق الغاية المنشودة التي تبشر بالسعادة للجميع ؛ لأن الماركسي يرى في تضخم رأس المال سببا في اختراع أدوات تكنولوجية يمكن أن تدر اليوم ما «يكفي» لكل فرد، بشرط تحطيم الأغلال الرأسمالية. والمفتاح السحري لتحقيق ذلك هو بتحويل وسائل الإنتاج الكبرى إلى النظام الشيوعي، وتحويل نظام الإنتاج من أجل الكسب إلى نظام الإنتاج من أجل المنفعة. هذا هو حلم النظرية الشيوعية، وهو حلم ما برحت النظرية الشيوعية السوفيتية تستوحيه، غير أن لهذا الحلم ثمنه الغالي - وهو الثورة - فبهذه الوسيلة وحدها تستطيع الطبقة العاملة أن تستولي على القوة من أصحاب رأس المال، وبها تنشأ دكتاتورية البروليتاريا. ولهذا الحلم أيضا قيمة عند أولئك الذين استولوا على الحكم باسم السوفيت؛ لأن الاتحاد السوفيتي يزعم أنه أرض السعادة الموعودة، والثمرة الحقيقية للشيوعية العلمية. وهناك أخيرا ذلك الأمل المنشود في قيام مجتمع لا طبقي في نهاية الأمر، مجتمع تتوافر فيه الحرية للجميع، وتحل فيه السيطرة على الأشياء وحسن إدارتها محل السيطرة المستغلة للأفراد. وحتى ينزل العدو عن مكانته - من الداخل أو من الخارج - فلا مناص من اتخاذ وسائل الإرهاب التي لا ترحم مع كل من تحدثه نفسه بالتآمر ضد موطن الشيوعية الأول.
إذا تدبرنا نظرية المادية التاريخية في ضوء نفوذ الشيوعيين وأعمالهم، تحققنا من أن الخطر الشيوعي عامل أساسي في الأزمة التي نعانيها في العصر الحاضر. إنها عنصر فعال في الأزمة؛ لأنها نظرية تدعو إلى إثارة الأزمة وتعميمها ومد أجلها، ويؤمن بها حزب عسكري ويثق بصحتها صحة مطلقة، ويرى أنها نظرية النظريات التي يجب أن نسترشد بها في كل ما نعمل. إنها نظرية عامة تشمل الزمان كله، والمكان كله، وجميع أوجه نشاط الإنسان. وهي نظرية ثابتة ثبوت غيرها من النظريات العلمية. وكثير ممن يدرسون التاريخ تجذبهم فيها بساطتها وتعميمها عند تطبيقها في الماضي، وكثيرون آخرون يجذبهم فيها صدق نبوءاتها في تطور العمل ونمو الاحتكار الرأسمالي، والحروب العالمية وثورات المستعمرات. وأخيرا هناك من الناس من يجذبهم فيها أنها نظرية تفسر الماضي وتتنبأ بالحاضر؛ ومن ثم يمكن استخدامها في توجيه مسير المستقبل .
إن هذه النظرية - بما تزعم لنفسها من كيان علمي - مصدر خطر حقيقي؛ لأنها تستخدم كأداة، لا من جانب الأحزاب السياسية بالمعنى الغربي، ولكن من جانب الأحزاب الشيوعية المركزية المنظمة التي تخضع لحكم الفرد، والتي تتألف منها الحكومات التي تحتكر النفوذ السياسي والاقتصادي والروحي على مئات الملايين من البشر. وهذه الأحزاب ذات النفوذ المريض هي تطبيق لفكرة لينين على الحزب التي ظهرت نتيجة لفترة طويلة من النشاط السياسي. والواقع أن الحزب على الصورة التي يراه عليها لينين يكون، مع نظرية ماركس عن استمرار النزاع، لب النظرية الشيوعية وتطبيقها. ومن ثم وجب علينا أن نملك أيضا الدور الذي يلعبه الحزب اللينيني وحقيقته، ما دام الحزب هو الحقيقة الاجتماعية الأساسية التي تتميز بها الدولة الشيوعية، وما دام حقيقة من الحقائق الكبرى التي تدعو إلى انقسام العالم هذا الانقسام الشديد. إن تأليف الحزب على هذه الصورة يفسر لنا كيف أن 240000 روسي ينتمون إلى الحزب هم الذين يمتلكون النفوذ ويتحكمون في دولة من الدولتين الكبيرتين في العالم، وهي دولة تستطيع أن تهدد الدول الأخرى بصواريخها وسيطرتها على الفضاء، كما تفسر لنا كيف أن 20000 صيني ينتمون إلى الحزب الشيوعي يتحكمون في 650 مليونا من البشر تتألف منهم أقوى دولة في آسيا.
وتأليف الحزب الثوري على هذه الصورة هو من عمل لينين. وقد عبر لينين بهذا الحزب عن الحاجة إلى مجموعة متآمرة تستطيع أن تقوم بعمل الجيش السياسي. وأحس بأن العمال يميلون إلى الاقتناع بالنضال اليسير في سبيل رفع مستوى معيشتهم عن طريق اتحاداتهم، وأنهم لا يستطيعون تنمية وعيهم الثائر إلا إذا بصرهم الثائرون من أرباب الفكر برسالتهم التاريخية. وقد أصر - فوق ذلك - على ضرورة وجود ثوريين محترفين يستطيعون أن يكرسوا حياتهم كلها للنضال ضد القيصرية، ويؤلفون لجنة مركزية للحزب، تكون بمثابة أركان الحرب للجيش السياسي العام، وزاد إحساسه بهذه الضرورة صعوبة العمل السياسي في ظل النظام القيصري حينما كان بالإمكان إبعاد الأحزاب الثائرة. وكانت الحرب العالمية الأولى وانهيار القيصرية في عام 1917م هي المرحلة الثانية، عندئذ عاد لينين إلى روسيا لكي يملك حزبه زمام النفوذ؛ أولا باستغلال السخط المتزايد بين أوساط العمال والجند والفلاحين، ثم بالدسائس، فاستطاع أن يسقط بالقوة الحكومة المؤقتة التي وصلت إلى كرسي الحكم بالطريق الديمقراطي. وقد بدأت ثورة أكتوبر بحل المجلس النيابي، وهو أول مجلس روسي تم انتخابه قبل ثورة أكتوبر بقليل بالاقتراع العام الحر. ويرجع السبب في هذه الحركة القاضية إلى أن زعماء الحزب الشيوعي لم يكن بوسعهم أن يسيطروا على المجلس وهو يتألف من أغلبية غير شيوعية. ومن السذاجة كما قال لينين «أن ننتظر أن تكون للبلاشفة الأغلبية بالطريق الرسمي. إن ذلك يتنافى ومنطق الثورة.»
ثم جاءت بعد ذلك المرحلة الأخيرة من مراحل تأليف الحزب الواحد التي أعقبت فترة الحرب الأهلية، وخرست أصوات جميع الأحزاب السياسية الأخرى وكل وسائل النقد السياسي الحر، وصحب ذلك تأليف التشيكا، أو إدارة البوليس السري التي قذفت الرعب في النفوس، وقضت على كل معارضة من جانب الجماهير، وقمعت ثورة الفلاحين في روسيا الوسطى ضد ما قامت به الحكومة من الاستيلاء على موارد التموين. ونتيجة للاضطراب الذي حدث بين صفوف العمال في بتروغراد تألفت جماعة من العمال المعارضين ذوي النفوذ الشيوعي لكي تطالب بإنهاء تجنيد العمال وتكوين إدارة محلية بكل مصنع، ولكن هذه الحركة أيضا أمكن قمعها. وكذلك أمكن قمع الحركة التي قام بها الملاحون بقاعدة كرونشتات البحرية الذين رفعوا من قبل لينين إلى ذروة الحكم في عام 1917م؛ لأنهم بدءوا يطالبون بالحريات الديمقراطية. ولما فشل قيام الثورة الألمانية المرتقبة رأى لينين أنه لم يعد بد من تعزيز نفوذه داخل البلاد، فتقدم ببرنامج جديد للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الذي عقد في عام 1921م. وفي هذا البرنامج أعلن السياسة الاقتصادية الجديدة التي سمحت بحرية التجارة في القرى ووضعت القيود على حرية العمل في المدن، وأصدر قوانين جديدة تحرم تكوين جماعات حربية كما تحرم الثورة ضد برنامج اللجنة المركزية.
وبهذه الحركة التي قام بها لينين تخلت الشيوعية عن كثير من الآراء النظرية الماركسية الأولى التي تتعلق بنشأة الثورة الاشتراكية وتطورها؛ ذلك لأن ماركس نادى بأن قوى العلاقات الاجتماعية في الإنتاج تخلق وعيا اشتراكيا صحيحا بين العمال وتقودهم إلى تنظيم الثورة ضد الرأسمالية، وأن الرأسمالية لن تتدهور إلا بعد أن تبلغ ذروة تطورها، وأن العمال، وهم الأغلبية الساحقة من السكان، سوف يقيمون ديمقراطية العمال لكي يحكموا العلاقات القائمة بينهم وبين أنفسهم، كما يقيمون دكتاتورية البروليتاريا لكي يحموا الثورة ضد الرأسماليين الذين انتزعت منهم أملاكهم. بيد أن هذه الآراء الماركسية الأولى قد نبذها لينين عندما اصطدمت بالواقع المر. ولم يكن دور الحزب الشيوعي الروسي هندسة الثورة التي نشبت ضد القيصرية، وإنما كان دوره دور المكتسح الذي لا يبقي ولا يذر. وقد ننسى أحيانا أن العمال الروس كانوا يؤلفون أقل من عشرة في المائة من السكان، وأنهم لم ينجذبوا عموما نحو الحزب الشيوعي الروسي. وكذلك لم تنشب الثورة في بلد توافرت فيه الشروط الاقتصادية للنضج الرأسمالي الذي أشار إليه ماركس، وإنما نشبت في بلد تسوده الزراعة. ولم تكن الدكتاتورية بعد أكتوبر في الواقع دكتاتورية العمال، أو حتى دكتاتورية جزء يسير من العمال، وإنما كانت دكتاتورية الحزب وتحكمه في الناس، بل دكتاتورية اللجنة المركزية وتحكمها في الأعضاء. وهذا الحق الذي اكتسبه الحزب - حق الوصاية على العمال - حق الحزب في الاستعاضة برأيه القاطع وإرادته القوية عن أوهام العمال وأسباب ترددهم، هذا الحق هو أساس اللينينية.
والمرحلة الحاسمة التالية في تطور الحزب تشمل ثلاثين عاما من حكم استالين، وهي تثبت أركان ما أقامه لينين من دعائم. عندما أصبح استالين سكرتيرا عاما للحزب في عام 1922م، استغل منصبه في تعيين أتباعه في المراكز الهامة لكي يضمن الأغلبية لنفسه في مؤتمرات الحزب، وبذلك يسيطر على الحزب وعلى اللجنة المركزية ويبسط نفوذه هنا وهناك. وقد تآمر في البداية مع بعض زملائه لكي يبعد تروتسكي عن خلافة لينين، وعمل على الحد من نفوذه، ثم تآمر مع آخرين وقضى على حلفائه الأولين، وحد من نفوذهم، ثم فصلهم من الحزب في عام 1927م. وفي عام 1928م انقلب على أنصاره الجدد، وأعلن في عام 1929م أن جميع قرارات المكتب السياسي يجب أن تكون بالإجماع، ثم أعلن بعد ذلك خطة السنوات الخمس، التي تكفلت بفرض الزراعة الجماعية، واطراد تصنيع الاقتصاد. وقد نفذت الخطة بكل وسيلة من وسائل الإرغام، ومات في سبيل ذلك الملايين من الناس، وزج بغيرهم من الملايين في المعسكرات التي أقيمت في المناطق المهجورة بشمال روسيا في قارتي آسيا وأوروبا، وهي معسكرات كان يديرها البوليس السري، ويرغم فيها الأفراد على العمل الإجباري. واضطر الفلاحون إلى ذبح الماشية يسدون بها رمق الجوع، وأصيبت الزراعة بنكسة جعلتها أضعف قطاع اقتصادي في البلاد. ومن النتائج الأخرى لسياسة استالين تقدم الصناعات الثقيلة والصناعات الحربية مع إهمال إنتاج السلع المستهلكة وأدوات البناء، حتى أصبحت جمهرة الناس على حافة الموت. وقد نفر عدد كبير من أعضاء الحزب الشيوعي من هذا البرنامج حتى وجد استالين نفسه مضطرا إلى التطهير الدموي والمحاكمات العامة لزعماء الحزب القدامى، وغيرهم من الأعضاء، وقواد الجيش وكبار الموظفين. وبفضل هذا الإرهاب أصبحت لاستالين السيطرة المطلقة على الحزب، وأصبحت للحزب السيطرة الكاملة على الدولة، والشعب، وكل ناحية من نواحي المجتمع الروسي. وتسوغ إقامة هذا الحكم الاستبدادي ضرورة إنجاز التصنيع في بلد متخلف من الناحية الاقتصادية لفرض الظروف الاقتصادية الأساسية التي تميز بها البناء الشيوعي.
وتتمثل المرحلة الحاسمة التالية لتثبيت الحزب في سياسة استالين الخارجية. ولما كانت النظرية الماركسية لا تفتأ تؤكد أن منطق الرأسمالية يسوق القوى الرأسمالية إلى القتال مع الاشتراكية، فلا بد من تعزيز نفوذ الدولة الجماعية وبسط سلطانها لحماية موطن الاشتراكية، ولتحقيق النصر الشيوعي في جميع أرجاء العالم. وتؤكد السياسة الخارجية التي انتهجها استالين جوانب الدفاع السلبي من خطته في أثناء الفترة التي تقع بين تاريخ استيلائه على النفوذ في عام 1922م حتى ظفر هتلر بالحكم في عام 1933م. ولما وجد استالين نفسه مواجها لقوى ألمانيا النازية المتزايدة، حول سياسته الخارجية نحو الأمن العالمي لكي يكتسب التأييد ضد الخطر الهتلري من جانب دول الغرب في عصبة الأمم. وظهور هذا العدو الحقيقي إلى جانب عداوة اليابان كان مسوغا جديدا له لكي يستزيد من الحرمان والضغط وصنوف القساوة والشدة في البرنامج الذي رسم للتصنيع وللعمل الجماعي. ولكن عندما بدا للناس كأن لقاء ميونيخ قد نهنه من طغيان هتلر، وجه استالين سياسته الخارجية مرة أخرى وجهة ثانية، وتفاوض مع ألمانيا في إبرام ميثاق لعدم الاعتداء حتى يستغل عدوان هتلر في الدفاع عن الدولة الروسية الجماعية وبسط نفوذها. وكان للميثاق فيما يبدو ميزتان: الدفاع، بما تضمن من وعد بحياد السوفيت، مما أجاز اعتداء النازي على بولندا دون نشوب حرب في جبهتين؛ ثم التوسع، بما تضمن الميثاق من تقسيم بولندا، وتقسيم شرقي أوروبا إلى مجالات نفوذ معينة. ويبدو أن استالين كان يعتقد أن اتفاقه مع هتلر سوف يدوم؛ ومن ثم فقد ذهل عندما وقع الهجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي ولم يكن مستعدا لمقابلته. وما إن حل عام 1941 حتى كان الجيش الأحمر قد تحمل من النكبات ما يفوق تلك الكوارث التي أدت إلى سحق الجيش القيصري. وما إن أشرف عام 1941 على نهايته حتى تمكن الضباط الألمان من رؤية ضواحي موسكو من خلال المناظير، ولكن روسيا بفضل معونة الغرب الرأسمالية استطاعت أن تنجو من محنة الحرب وتصد الجيش الألماني الذي قرع أبواب ستالنجراد، وظهرت كأنها «مخلصة الحضارة من الوحشية الهتلرية».
ولم يتردد استالين في أن يستغل السمعة العريضة التي اكتسبها إبان الحرب في دفع أهدافه الشيوعية إلى الأمام. ولما كان يؤمن بالنظرية التي تؤكد ضرورة نشوب نزاع آخر، وضرورة التوسع في قوى الإنتاج حتى تنتصر الشيوعية، فقد استغل جبهة الغرب بالسياسة، والإنهاك والتعب الذي خلفته الحرب في العالم، والمكانة الممتازة التي بلغها الجيش الأحمر في نهاية الحرب، استغل ذلك كله في تعزيز نفوذ الشيوعية في شرقي أوروبا وفي وسطها وفي البلقان، وفي مطالبته بأن يكون لروسيا صوت في تسوية الأمور في ألمانيا وفي منشوريا وغيرهما من بقاع الأرض. وتبينت الخصومة القديمة ضد الحلفاء السابقين في الخلافات التي نشبت عقب الحرب بشأن تقسيم أوروبا؛ لأن استالين لا يرى حكومة صديقة له سوى تلك التي يديرها الحزب الشيوعي، ولا يرى مجالا للنفوذ إلا للسيطرة الشيوعية المطلقة. ومنذ عام 1945 أخذ الشيوعيون يجمعون مكاسبهم في بلدان شرقي أوروبا، ويزحفون بقواهم إلى الأمام حتى توقفت عند اليونان وبرلين وكوريا ويوغوسلافيا. وقد دفع منطق النظام الروسي الولايات المتحدة إلى أن تتزعم خصوم المعسكر الاشتراكي، واستطاعت أن توقف زحف النفوذ الشيوعي الكامل على آسيا وأوروبا، وهو ما كان يحلم به استالين بعد الحرب.
وبعد هذا الاستعراض للنظرية الشيوعية ووضعها موضع التنفيذ، يجدر بنا أن نفسر السياسة الراهنة التي ينتهجها الزعماء الشيوعيون، وأن نقدر أهميتها كعامل أساسي من عوامل الأزمة العالمية الحاضرة. لقد حدثت منذ وفاة استالين تغيرات متعددة لا تدل على ازدياد المرونة في التنفيذ تحت الظروف الجديدة، دون إحداث أي تغير أساسي في أهداف الشيوعية. ومثال ذلك أن تصرف السوفيت لم يعد ينم - كما كان من قبل - على الرغبة في إحداث أزمة اقتصادية عنيفة في الدول الرأسمالية الكبرى بعد الحرب. كما أن التوتر الداخلي قد خفت حدته بسبب ارتفاع مستوى التنمية الاقتصادية داخل الاتحاد السوفيتي، وبسبب وجود قوة عاملة ماهرة نشأت وترعرعت في ظل نظام بات يمثل إحدى الدولتين العظيمتين في العالم.
ومن التطورات التي حدثت أيضا التحول من نظام التحكم الفردي إلى نظام الزعامة الجماعية.
وهذه المرونة الجديدة في التنفيذ تبدو كذلك في سياسة روسيا الخارجية. ومن العوامل الهامة في ذلك وجود حزب شيوعي متحالف في الصين؛ فبعدما كان استالين لا يسمح بارتباط أخوي بين الأحزاب الشيوعية، وإنما يريد السلطان المطلق للحزب الشيوعي الروسي، يرى الزعماء الجدد ميزة كبرى - بل ضرورة ملحة - في التحالف مع زعماء الحزب الشيوعي الصيني، بسبب قوة نفوذه وبعد تأثيره في آسيا.
وهذه العقيدة وما أحرزته الصين الشيوعية من مركز مرموق ووقوفها رمزا شامخا يشير إلى الثورة ضد الاستعمار، تستخدم في استغلال القلق الذي أخذ يسري في البلدان المتخلفة في العالم طرا. والعامل الآخر الذي دعا إلى المرونة في السياسة الخارجية هو تلك القوة العظيمة التي أصبحت بين يدي روسيا بعد التقدم الذي أحرزته في تطوير الأسلحة الصاروخية والنووية، فأضعفت بذلك قوة التحالف الدفاعي بين الولايات المتحدة وحلفائها؛ لأنها تستطيع أن تقابل القوة بالقوة، والإرهاب بالإرهاب.
ويتضح مما سبق أن البرنامج الرئيسي الذي رسمه الشيوعيون في روسيا لم يطرأ عليه سوى تعديل طفيف برغم كل ما أدخله الزعماء هناك من وسائل جديدة في طريقة التنفيذ. ونسوق في هذا المجال ما ذكره خروشوف في إحدى حفلات الكرملين التي أقيمت تكريما لزعماء ألمانيا الشرقية الشيوعيين حيث قال: «إذا دخل في روع أي إنسان أن بسماتنا تدل على التحول عن تعاليم ماركس وإنجلز ولينين، فلقد خدع نفسه أيما خداع. إن أولئك الذين ينتظرون هذا التحول عليهم أن ينتظروا حتى يتعلم برغوث البحر الصغير.»
ويمكننا أن ندرك المغزى الكامل لهذه العبارة، إذا نحن قرأنا بإمعان ذلك التقرير الرسمي الطويل الذي ألقاه خروشوف باعتباره سكرتير الحزب الشيوعي في المؤتمر العشرين للحزب الذي انعقد في فبراير من عام 1956. ويجدر بنا أن نركن إلى نص الخطاب؛ لأنه غير شائع أو معروف في بلاد الغرب، ولأنه يرتبط في الأذهان ب «التعايش السلمي». بدأ خروشوف خطابه بتحليل العوامل الرئيسية التي يتصف بها الموقف الدولي في العصر الحاضر. وقد أشار إلى الخطوات الواسعة التي خطاها الاقتصاد السوفيتي، وقارن بين هذه الخطوات و«تعزيز الاحتكارات، وزيادة الاستغلال ... وخفض مستويات المعيشة ... وحدة المنافسة بين الدول الرأسمالية، وبلوغ الأزمات الاقتصادية الجديدة والانقلابات الحديثة ذروتها.» ولكي تتغلب الدول الرأسمالية على الأزمات المطردة، لجأت إلى الوسيلة القديمة، وسيلة عقد المحالفات العسكرية العدائية؛ لكي تسترد نفوذها بالقوة الحربية. وقد علمنا التاريخ أن الدول الاستعمارية - حينما تفكر في إعادة تقسيم العالم - كانت دائما تؤلف التكتلات العسكرية. وهي اليوم تضع الشعارات «المناهضة للشيوعية» ... «لكي تتستر على رغبتها في السيطرة على العالم عن طريق القوة». ولكن يقف في طريقها وجود روسيا الشيوعية والصين الشيوعية وما لديهما من قوة عامل جديد فعال في التاريخ يعمل على توقف الدول الرأسمالية عند حد. إن سير العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة يدل على قيام قوى شعبية أكبر لكي تقاتل في سبيل الاحتفاظ بالسلام. والدوائر الاستعمارية الحاكمة لا تستطيع نكران هذه الظاهرة. وقد بدأ ممثلوهم من ذوي البصائر النافذة يعترفون بأن «سياسة القوة ... قد فشلت ... غير أن هؤلاء الممثلين المعروفين لدى الجمهور لا يجرءون حتى اليوم على القول بأن الرأسمالية سوف تلاقي حتفها في عالم آخر ... في حين أنهم يعترفون صراحة بأن المعسكر الاشتراكي لا يقهر.» هذا هو الموقف الذي يهيئ الظروف للتعايش السلمي. «إن أعداءنا يصوروننا نحن أتباع لينين قوما يحبذون العنف دائما وفي كل مكان. حقا إننا نعترف بالحاجة إلى التحول الثوري للمجتمع الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي، وهو ما يميز الماركسيين الثوريين عن المصلحين. وليس من شك في أن قلب دكتاتورية البرجوازية بالعنف في عدد من البلدان الرأسمالية ضرورة لا مناص منها. ولكن أشكال الثورة الاجتماعية متنوعة ... فإن شدة النضال واستخدام العنف أو عدم استخدامه في التحول إلى الاشتراكية يتوقف على مقاومة المستغلين ... والمقاومة الجدية - بطبيعة الحال - من جانب القوى الرجعية أمر لا مفر منه في تلك البلدان التي ما زالت الرأسمالية فيها قوية، حيث تملك أداة حربية وشرطية ضخمة؛ فهناك يتم التحول الاشتراكي تحت ظل نضال طبقي ثوري حاد.»
ويؤيد هذه السياسة الشيوعية الأساسية زعماء الحزب الصيني الشيوعي. وربما كان أحسن تعبير عنها ما ورد في كتاب ماوتسي تنج عن «الحرب الطويلة». وأهمية ما ورد هنا لا تصدر عن مكانة ماوتسي المرموقة كزعيم الثورة الشيوعية في آسيا فحسب، بل تصدر أيضا عن الدور الذي يقوم به كرمز سياسي للثورة الأعم ضد ثلاثة قرون من سيادة الغرب، وهي ثورة تستمد حافزا جديدا من نجاح الثورة الصينية (وليست هذه الحرب رائدا لتحرير الصين فحسب، ولكنها تدل دلالة قوية على الثورة العالمية. وسوف نقود الحرب الصينية حتى نهايتها، وسوف نترك أثرا بعيدا كذلك في ثورة الشرق، وفي العالم كله). ولبث ماوتسي نحو عشرين عاما في ريف الصين وفي جبال ينان دون أن يحيد عن هدفه الذي يرمي إلى تجميع السلطة في الصين. والاحتمال والصبر والجلد ، على سند من سياسة ثورية بوسعها أن تستغل تقلبات الحظوظ والظروف، من الشروط اللازمة للنصر. وتتلخص هذه السياسة في ثلاث قواعد صاغها ماوتسي؛ أولها أن المذهب الماركسي يقوم بالنسبة إلى التأثر الشيوعي بعمل المنظار المقرب أو المكبر الذي يميز به بين الضروري وغير الضروري في تقدير العوامل. وثانيها أن من واجبنا أن نبذل قصارى الجهد في صم آذان العدو وإغماض عينيه، فنجعله كفيفا أصم؛ وذلك لكي نحقق النصر لأنفسنا. وثالثها «أن نتقهقر إذا تقدم العدو، وأن ننقض إذا توقف، ونهجم إذا تريث، وأن نتابع السير إذا تقهقر.» إن ما نبه إليه سقراط عندما قال «اعرف نفسك» يتحول عند الشيوعيين إلى هذا التحذير: «اعرف عدوك واعرف نفسك؛ فإن فعلت كسبت مائة معركة دون أن تنهزم في واحدة.»
ويترتب على مواصلة النضال أن يكون السلام ضربا من ضروب النضال، واستمرارا للنزاع، ولكن بوسيلة أخرى، وأنه لا يمكن تحقيق السلام الدائم إلا بالقضاء على النزاع الطبقي الذي يأتي نتيجة لإقرار النظام الشيوعي في العالم، وأن أية حركة شيوعية، مهما تكن عسكرية، هي حركة عادلة تخدم قضية السلام، في حين أن كل حركة رأسمالية، مهما تكن مسالمة، هي حركة سخيفة ظالمة لأنها تؤدي إلى اشتعال الحرب. «إننا نهدف إلى السلام، لا في بلد واحد فحسب، ولكن في أنحاء العالم طرا. ونحن لا نهدف إلى السلام المؤقت، وإنما نهدف إلى السلام الدائم. ولكي نحقق هذا الهدف يجب أن نشن حربا لا هوادة فيها، وأن نكون مستعدين للتضحية بأي شيء؛ لأن الحرب ذاتها، ذلك الخطر الذي يفتك بالطرفين على السواء، سوف تختفي بذلك نهائيا من المجتمع البشري. ولكن هناك وسيلة واحدة نستبعد بها شبح الحرب، وهي أن ننفي الحرب بالحرب، وأن نقضي بالحرب النووية على الحرب الرجعية.»
وتمشيا مع هذا المذهب السياسي، ومع الدروس التي تعلمها من حزب لينين ومن الخطط الخمسية الاستالينية، شرع ماوتسي وغيره من زعماء الصين في إخضاع القطاعات شبه الإقطاعية وشبه الاستعمارية تحت الرقابة المطلقة لسلطات التحقيق. وقد نفذ هذا البرنامج على مستوى من التقدم ينخفض عن المستوى الروسي في عام 1900م، وبسرعة تفوق ما رسم استالين في عام 1928م؛ ومن ثم بات من المحتمل أن يزيد عدد الضحايا البشرية عما حدث في روسيا ذاتها، وهي المثال المحتذى. وقد اتخذت كل وسائل الضغط السياسي لإنشاء الصناعات الثقيلة على حساب الزراعة الجماعية، فنجم عن ذلك، وعن بطء التنمية الزراعية، أن بات ما ينيف عن ستمائة وخمسين مليونا من البشر يعيشون على الكفاف. وقد أعلن ماوتسي في عام 1953 بداية التحول إلى الشيوعية و«التحول السلمي» لطبقة البرجوازي. وهذا المذهب، الذي لم يظهر حتى الآن في العقيدة الشيوعية، إنما نشأ من تخلف الاقتصاد في آسيا، وكثرة الفلاحين وقلة العمال، وتحديد عناصر الطبقة البرجوازية وضعفها، بل ومعارضتها للرأسماليين الأجانب الذين يسيطرون على خاماتهم؛ فكان من الميسور أن تلقن الطبقة البرجوازية مبدأ التعاون مع الحزب في بناء الاشتراكية.
وهذه السياسة الداخلية تؤيد وتعزز السياسة الخارجية للنظام الشيوعي. والهدف الأول للزعيم الشيوعي الصيني في هذه الآونة هو قيام الصين الموحدة القوية، ولا يرمي إلى تثبيت أركان السيطرة الشيوعية على بلاده الشاسعة فحسب، وإنما يرمي أيضا إلى بسط النفوذ الشيوعي في جنوب شرقي آسيا؛ ومن ثم فإن الولايات المتحدة تصبح هدفا لهجوم بكين؛ لأنها تبدو للشيوعيين الدولة الإمبريالية العظمى، وأكبر عقبة في سبيل تحقيق أهداف الدولية العالمية. ولا يمكن للصين الشيوعية أن تنسى أن الولايات المتحدة قد أيدت اليابان الحديثة وجنوبي كوريا، وعاونت تلك البلاد التي تقع في جنوب شرقي آسيا من بورما إلى الفلين، حيث ترى الصين الشيوعية نفوذها هناك معرضا للخطر. ولكن زعماء الصين الشيوعية - طبقا لنظرية ماوتسي التي تقول بمواصلة الحرب والنضال - ليسوا على عجل، وبوسعهم أن يتريثوا حتى تتاح لهم الفرصة التي تمكنهم من بسط نفوذهم على تلك المساحة الشاسعة من الأرض التي تهمهم، وهي مساحة تموج بأسباب القلق، غنية في مواردها، مأهولة بقوم فقراء ساخطين، يمكن توجيه ما في نفوسهم من مرارة في يسر نحو القرون الثلاثة التي خضعوا فيها لنفوذ الغرب، ذلك النفوذ الذي تعد الولايات المتحدة رمزا له في الوقت الحاضر. وزعماء الصين الشيعية باعتبارهم آسيويين خالصين وبوصفهم شيوعيين، يتحكمون في قوة آسيوية لها مكانتها في المجال الدولي، وفي منتصف القرن العشرين يكونون بوضعهم هذا أساسا مكينا لتحالف صيني سوفيتي في الأزمة العالمية الراهنة.
وإذا بقي الموقف الدولي على هذه الحال دون تحول في سياسة الدول الكبرى، فلا بد أن يدخل العالم في حرب ضروس قد لا يبقى فيها شرق ولا غرب. (3) تحدي البلدان المتخلفة
إن الثورة الشيوعية تتخلل ثورة أخرى يشب اليوم أوارها في البلدان المتخلفة في العالم وتقويها وتؤازرها، وتشمل هذه البلدان أكثر شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهم يبلغون على وجه التقريب ثلثي سكان العالم أجمع، وهم يتحدون الغرب بسبب ما يعانون من فقر مدقع، وما يتأجج في صدورهم من وطنية عارمة، وبسبب اطراد الزيادة في السكان، ورغبتهم في اللحاق بالتقدم الصناعي الذي يتميز به القرن التاسع عشر. والطريقة التي تعالج بها هذه الشعوب مثل هذه المشكلات فتنجح في حلها أو تفشل سوف تؤثر في مستقبل الحرية في العالم تأثيرا كبيرا.
وأول وجه من وجوه هذا التحول في المجتمعات غير الغربية هو قيام ثورة تتسم بالطموح والأمل. إنها مجتمعات فقيرة جدا، ولم تعد شعوبها تحس بضرورة الخضوع للفقر الشديد الذي كان يكابده أسلافهم. ويدل على هذا الفقر انخفاض مستوى دخل الفرد، وبخاصة في قطرين عظيمين كالهند والصين. وليس هذا الفقر على هذه البلدان بجديد، وهو فقر تسوده نظم الاقتصاد الزراعي، ويشكو فيه السكان الجوع وسوء التغذية، وتنتشر فيه الأمراض، ويقل مجهود الفرد. وقد أدرك سكان هذه البلاد مقدار انحطاط المستوى في طريقة عيشهم باحتكاكهم بأهل الغرب، كما أدركوا الإمكانيات الفنية التي يمكن أن تستخدم في رفع مستوى العيش عندهم.
وكذلك أدى احتكاك أبناء هذه البلاد بأبناء الغرب إلى إشعال نار الثورة الوطنية، واقتبسوا فكرة الحكومة الوطنية وحق تقرير المصير من الغرب، وحقدت المستعمرات على الإمبريالية الغربية واستغلالها لثروات بلادهم. وقد أثار هذا الشعور في نفوسهم زوال القيم القديمة وطرائق العيش العتيقة نتيجة لتأثير الغرب، والذل الذي فرضه عليهم المستعمر. ولم يعد الفلاح على سذاجته مقتصرا على فلاحة الأرض، يرضى بالقليل من الرزق وبوجود الملكيات الشاسعة. كما انحلت روابط الأسرة وتماسك أهل القرية. وكذلك العمال في المدن كانوا من القرويين المهاجرين الذين فقدوا حماية القرية ولم يجدوا الطمأنينة في المجتمع الجديد. أضف إلى ذلك تلك الطبقة الوسطى التي تعلم بعض أفرادها في الغرب وأشبعوا بروحه، فقد ثاروا على وضعهم الذليل تحت سلطان المستعمر، وعلى النظام شبه الإقطاعي الذي يسود بلادهم. وقد أدى ذلك كله إلى اضطراب الطبقة الحاكمة القديمة. وهذا التحول من نظام المستعمرات إلى الدول المستقلة أخذ يطرد بسرعة فائقة بعد الحرب العالمية الثانية.
كما أن السكان في هذه البلاد يتزايدون بنسبة مرتفعة جدا لا تمكنها مهما جدت أن تزيل معها أسباب الفقر ومظاهره. ويمكن تقسيم هذه البلاد إلى مجموعتين بالنسبة إلى نمو السكان فيها؛ مجموعة تطرد فهيا الزيادة في الوقت الحاضر، ومجموعة أخرى يمكن أن ينمو فيها السكان بسرعة فائقة. ويرجع السبب في هذا النمو إلى زيادة نسبة المواليد مع تحسن الظروف الصحية والطبية وانخفاض تكاليف العلاج.
وسوف يكون لهذه الزيادة في السكان في البلدان المتخلفة حتما آثار سياسية واجتماعية واقتصادية بعيدة المدى؛ فإما أن يرتفع مستوى المعيشة في هذه البلدان، وإما أن يبدو الفرق واضحا بينه وبين المستوى في بلاد الغرب، فتشتد العداوة بين الشرق والغرب.
وهذه الحالة من الفقر التي بيناها، واشتعال روح الوطنية، واطراد الزيادة في السكان هي التي تدفع هذه البلاد إلى السير في طريق التصنيع؛ فإن الحكومات في هذه البلاد تعتقد أن التصنيع هو الوسيلة الوحيدة لرفع مستوى المعيشة إلى الاستقلال القومي والكرامة الوطنية. إنهم يريدون أن يطبقوا الوسائل الفنية الغربية على عجل دون الشعور بضرورة الارتباط بها. ونظرا لقلة الدوافع الفردية، وضعف المهارات الفنية والقدرة على الابتكار بين الأفراد، ونظرا لضغط الظروف السياسية، فإنهم يميلون إلى تسليم الحكومة المركزية الدور الرئيسي في توجيه التنمية الاقتصادية. ونظرا إلى الحاجة إلى التوسع في الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والمرافق العامة والنقل ووسائل المواصلات، فإن مساهمة الحكومة لا بد أن تكون على نطاق فسيح.
ولكن نسبة نمو السكان سوف تخلق مشكلات عويصة حادة، وقد تقف عقبة كئودا في سبيل تحقيق الأهداف الاقتصادية. وهذه هي الظروف التي تهيئ الفرص إلى انتشار فكرة الشيوعية وتحدي الغرب.
وتتمثل هذه المشكلات الكبرى في الهند والصين على نطاق واسع. وقد بدأت الثورة ضد الغرب في هذين البلدين تحت حكومتيهما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي كل منهما عدد كبير جدا من السكان، يبلغ في الصين نحو 650 مليونا، وفي الهند نحو 400 مليون. وهذا العدد آخذ في التزايد المستمر. وكانت الزراعة وانحطاط المستوى الاقتصادي هما الحالة السائدة هنا وهناك، ودخل الفرد في هذه البلاد يهبط إلى مستوى غاية في الانخفاض. فأخذت الحماسة زعماء البلاد لوضع الخطط الاقتصادية التي ترفع من شأنها، ووضعت الخطة في الصين على أساس تنمية الصناعات الثقيلة إلى الحد الأقصى، وعلى أساس جماعية الزراعة، وذلك دون زيادة الموارد الزراعية على وجه الإجمال أو رفع مستويات المعيشة بين السكان. أما في الهند فإن الخطة ترمي إلى تحسين مركز الزراعة وإصلاح الريف ورفع مستوى المعيشة بين الناس، مع تنمية القطاع الصناعي في الصلب ومصادر القوة وغير ذلك من الصناعات، وكذلك السلع المستهلكة. ويرسم الخطة ويراقب تنفيذها في الصين مراقبة تامة زعماء الحزب، دون مناقشة الجمهور، ومع سيطرة الحكومة المباشرة في كل مجال. أما في الهند فإن الخطط ومشروعاتها تذاع بين الجمهور، وتشترك في المسئولية مع الحكومة المركزية الصناعات الخاصة والحكومات المحلية. وتحتذي الصين في رسم خططها الاتحاد السوفيتي. وقد قال نهرو بعد زيارته الصين ذات مرة إن الهدف من الخطة الهندية «ليس هو تضحية النظم الديمقراطية على مذبح التقدم الاقتصادي ... فإن الرفاهية الاقتصادية التي تقوم على أساس إنكار الحرية البشرية وكرامة الإنسان لا يمكن أن تبلغ بأي قطر من الأقطار غاية بعيدة في نهاية الأمر.» وهذا التباين في الأهداف والبرامج بين الأمتين الكبيرتين في آسيا له أهمية قصوى في الأزمة التي تعانيها في الوقت الحاضر. (4) مصير الحرية في الغرب
في هذه الظروف التي تنشأ عن تحدي الدول المتخلفة وتحدي الشيوعية يجب أن نحاول فهم الأزمة في الغرب ذاته. إن التكنولوجيا الحديثة تدعو إلى تقسيم العالم وعدم الاستقرار فيه. وليس هناك من سبيل إلى الرجوع في تقدم المعرفة والتكنولوجيا. وحتى لو توقف الغرب عن التطور التكنولوجي، فإن الاتحاد السوفيتي وبلدان الشرق لا يمكن أن تتراجع فيه؛ فلا مناص إذن للغرب من الخضوع لتطورات التكنولوجيا أو التطبيق العلمي.
ومن ثم قام من بين المفكرين في الغرب من يدعو إلى تطور العلم إلى أبعد غاياته بغض النظر عن آثاره الإنسانية. وبناء على ما يرى هؤلاء المفكرون تصبح السياسة تابعة للقوة، وتمسي القدرة والموارد العظيمة ذات أثر في رجحان كفة الحق. وهذه النظرية - نظرية القوة المبنية على المعرفة العلمية - لا تعبأ بالمبادئ الديمقراطية، كما أنها لا تعبأ بالقيم الإنسانية. وقد ترتب على ذلك الخلط بين تقدم العلم والتدمير، وبين اليقين والشك، وبين الحرية والأمن.
وهذه الأزمة في القيم تتمثل في محاولة التوفيق بين التطور التكنولوجي القائم على البحث العلمي الحر، وبين التطور الإنساني والروحي القائم على أساس كمال شخصية الإنسان وضرورات المجتمعات البشرية والتزاماتها. والمجهود يسير نحو توجيه التقدم التكنولوجي نحو رفاهية الإنسان.
ولهذه المشكلة أوجه كثيرة تظهر في مختلف الميادين؛ فهناك أزمة الديمقراطية، هل يستطيع المجتمع الصناعي أن يعاون على التقدم البشري والتطور الاجتماعي مع المحافظة على كيانه؟ إن ذلك يعني إلى حد ما أن يئول استخدام القوى إلى أيدي أولئك الذين استطاعوا أن يظفروا بها، وعندئذ تدعى الدولة إلى زيادة التدخل لكي تحفظ للإنسانية رفاهيتها. ويزداد بذلك سلطان الدولة تدريجا حتى تضيق في النهاية بأي نقد يوجه إليها. وهناك أيضا مشكلة الموازنة بين إيجاد عمل لكل فرد دون تضخم في المجتمع الرأسمالي الصناعي، هل يمكن أن نوجد عملا لكل فرد وأن تحتفظ في الوقت ذاته بالاستقرار الاقتصادي؟ أو هل لا مندوحة لنا عن أن نضحي بأحدهما في سبيل الآخر؟ وهناك أيضا مشكلة تنظيم الغرب على أساس تعاوني غير وثيق لكي يوحد جهوده دفاعا عن نفسه ضد الشيوعية وتأييدا للتقدم الاقتصادي الديمقراطي في البلدان المتخلفة. هذه كلها مشكلات عسيرة الحل، تحطم الأمل في المستقبل، وتبعث القلق في النفوس.
وليست هذه التطورات سوى حلقة أخيرة من السلسلة التي بدأت بتقدم العلم الحديث ونشوء القوميات الذي بدأ منذ عصر النهضة. والمشكلة الكبرى التي يواجهها الإنسان المعاصر هي هذه: هل يمكن لتقدم العلوم وقيام الحكومات الوطنية أن يكونا سبيلا إلى الحرية أو إلى زوالها؟ وقد بلغت هذه الأزمة مداها بتجمع القوى في دولتين كبيرتين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. أولاهما تدعو إلى الحرية، والأخرى تدعو إلى الخضوع. ومن هنا كان الدور القيادي الذي يتحتم على الولايات المتحدة أن تقوم به في سبيل إنقاذ مستقبل الحضارة الغربية.
ولكي تؤدي هذا الواجب الذي ألقي على عاقتها نراها تحاول أن تزيل كل عقبة تقف في سبيل إعادة البناء الاقتصادي لدول الغرب التي أقفرت وأفلست بعد الحرب العالمية الثانية، ورسمت لذلك عدة مشروعات؛ منها مشروع مارشال، وبرنامج النقطة الرابعة، والمعونة العسكرية للبلدان التي يهددها العدوان السوفيتي؛ كما فعلت في جنوب كوريا لكي توقف شمالها الشيوعي عن ابتلاع شبه الجزيرة كلها، وأيدتها في ذلك الأمم المتحدة. وكذلك فعلت الولايات المتحدة في كل بلد يهدده العدوان الشيوعي.
ولكن الولايات المتحدة - برغم هذا - ليست على ثقة من نجاح وسائلها، كما أن المثقفين وأصحاب الرأي خارج أمريكا يشكون في إمكان تغلب الديمقراطية على الحكومات الدكتاتورية؛ ومن ثم فإن فلسفة الديمقراطية - حتى حينما تتنزه عن الرأسمالية - ليست فعالة، بل وليست إنسانية، في نظر كثير من الناس، كما تزعم الشيوعية.
ولا تسلك الولايات المتحدة في سياستها الداخلية مسلكا يؤيدها في هذا الصراع الناشب بينها وبين الاتحاد السوفيتي؛ فهي تتناقض في سياستها الخارجية وتتدخل في شئون غيرها، ولا تقدر الملابسات حق قدرها، وهي تضطهد المعارضين للديمقراطية والمؤيدين للشيوعية بغير هوادة، ثم هي تفرق بين البيض والسود تفرقة عنصرية لا تجوز في القرن العشرين. كل ذلك يثير العداوة للولايات المتحدة أحيانا في بعض بلدان أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويثير عليها الاتهام بالمادية وضيق الأفق. ومهما يكن من أمر فإن تضخم القوى في أمريكا يثير ضدها الشكوك. وكذلك كثيرا ما تضر طرق الدعاية الأمريكية بسمعتها.
وقد يعتقد الأمريكيون أن أسلوبهم في الحياة يخدم قضية الحرية، وأن الأسلوب السوفيتي يقضي عليها؛ ومن ثم فهم يؤمنون بأن الدول المؤيدة للحرية ينبغي أن تنضم كلها إلى المعسكر الأمريكي ضد الاعتداء الشيوعي. ولكي تحقق ذلك نراها تتبرع بالمنح والمعونات، مما قد يخدش أحيانا سيادة الدول التي تقبل هذه المنح وتلك المعونات. ولكن ذلك يهون في نظر الأمريكان إذا قيس إلى الذل والخضوع اللذين يفرضهما النظام السوفيتي. ووسط هذا الصراع بين الشرق والغرب يجد مبدأ الحياد ما يسوغه، خاصة وأن الدول المحايدة لا تعتقد أن روسيا أو أمريكا سوف تستخدمان ما لديهما من أسلحة؛ لأن ذلك معناه تدمير الدولتين، بل وتدمير العالم بأسره.
وكان لا بد لمقابلة هذه الحالة من نشوب الحرب الباردة، التي مهما كانت مساوئها فإن ضررها أخف على الناس من ضرر الحرب الشاملة. ولكن امتداد هذه الحرب الباردة يؤدي إلى تصوير القضية في نظر أهل الشرق بأنها قضية الاستعمار والتحرر من سيادة الرجل الأبيض، مما يضطر دول الغرب إلى التكتل ضد مزاعم الشرق. ولما كانت أمريكا في نظر الشرقيين تنحاز إلى الغرب، فإن المشكلة تتعقد تدريجا، ولا تجد سبيلها إلى الحل النهائي.
ولا ترى أمريكا التعايش السلمي حلا للمشكلة؛ لأنها ترى في انتهاج هذه السياسة ما يمكن للشيوعية من تعزيز نفوذها في مختلف الأقطار. ولا بد لمواجهة هذا الموقف من ازدياد قوة الغرب وتوحيد صفوفه، وفي ذلك إذن خطر على الدول التي تريد أن تحقق استقلالها كاملا.
وإذن فلا بد من معالجة الموقف الدولي في كثير من الحذر والحكمة. وإذا كان لا بد للولايات المتحدة من أن تتزعم قضية الحرية، فعليها أن تراعي ثلاثة أمور؛ الأول أنها يجب أن تدرك أن القضية ليست قضية النزاع بين الاشتراكية والرأسمالية، وإنما هي قضية الحرية والدفاع عنها. وفي هذا تتشكك في نيات أمريكا كثير من الدول، وبخاصة ما كان منها خاضعا للنفوذ البريطاني من قبل.
والأمر الثاني الذي يجب أن نذكره هو أن دور الدولة في جميع المجتمعات لا بد أن يأخذ في الازدياد؛ ذلك لأن الالتزامات التكنولوجية تقتضي زيادة نفوذ الدولة، وذلك مما يدعو إلى الحد من حرية الأفراد؛ ومن ثم كانت مهمة الولايات المتحدة شاقة عسيرة؛ لأنها تدعو إلى التحرر في وقت يتطلب فيه التطبيق العلمي زيادة الرقابة. ولم تعد خير الحكومات أقلها تحكما في العصر الحاضر، وإنما خيرها ما يكفل رفع مستوى المعيشة مع الاحتفاظ بالحرية السياسية. وقد يرى المؤيدون لازدياد نفوذ الدولة مقدمة لقيام الحكومة العالمية. ولكن ذلك لن يكون بطبيعة الحال إلا على حساب حريات الأفراد، الذين ربما أغراهم قيام الحكومة العالمية لمنع نشوب الحرب العالمية بالتضحية بحرياتهم الفردية، بل حريات الدول التي ينتمون إليها.
والأمر الثالث الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا هو أن زعامة الولايات المتحدة تتطلب التزام الآراء والمثل الداعية إلى الحرية. ولكن الدول الأخرى ترى في الولايات المتحدة دولة مادية تكتفي بإنتاج السيارات وأجهزة التليفزيون لإشباع رغبات الأفراد، والأسلحة الفتاكة والصواريخ لتعزيز النفوذ السياسي. ونحن لا ندعو إلى الحد من إنتاج هذه السلع لأنها أيضا تسد رغبات غيرنا من الأمم، ولكن ما يجب أن نذكره هو أنه إن كان المضي في هذا الاتجاه يحقق الآمال الأمريكية، فإنه يجب أيضا أن تتاح لغيرنا الفرصة للمضي فيما يرى أنه يحقق حريته في التعبير عن نفسه بطريقته. ولا يكفي أن نتحيز بطريقة العيش الأمريكية، بل ينبغي أن نلقي على الموضوع نظرة أشمل، فندرك ضرورة تكافؤ الفرص بين الأمم، والاحتفاظ بكرامة الإنسان. وبذلك تقوم أمريكا بدورها القيادي الجديد الذي يحقق في الحرية آراء ونظريات لم توضع من قبل موضع التنفيذ.
يجب أن تكون الولايات المتحدة «مصنعا للحريات» تصدرها إلى الخارج - كما قال من قبل فيلسوفها السياسي ماديسون - يجب أن تكون التكنولوجيا هنا عاملا من عوامل تحقيق الحريات. إن ما حققته الولايات المتحدة لنفسها من استقلال وحرية يجب أن يكون مثالا لغيرها من الشعوب كما قال جيفرسون. إننا ندعو إلى تعضيد الإنسانية في نضالها لتحقيق كرامتها، وهي الفلسفة التي نرجو أن يسترشد بها القادة فيما يواجهون من أزمات. فهل يستجيب لهذه الفلسفة رجال الحكم والسياسة في العصر الحاضر؟ هل نستطيع أن نعيد الثقة بقيمة الإنسان وبقدراته العقلية؟ وهل الحرية وحياة التعقل من القيم التي ينبغي أن نعمل على تحقيقها؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن يتم ذلك في عصرنا؟ وهل تعلمنا من الأزمة الحاضرة درسا جديدا في الركون إلى العقل والعمل على تحرير الإنسان والاحتفاظ بكرامته؟ (5) دور الفلسفة في الأزمة الحاضرة
إن الأزمة التي نعانيها في الوقت الحاضر أزمة حقيقية محسوسة، ولا يمكن التغلب عليها بالتحذير منها أو بالتحذير من أخطارها. وما دام الأمر كذلك فإنا نتساءل: وما شأن الفلسفة بها؟ وغرضي أن أجيب هنا عن هذا السؤال. وإنما ينبغي لنا قبل الزعم بأن الفلسفة لها أية علاقة بالجو المضطرب الذي يسود العالم أن نفهم المعنى الذي تدل عليه الفلسفة.
ومن أسباب الشك في قيمة الفلسفة في وقت الأزمة هو تلك النظرة العامة التي ترى أن الفلسفة - على أحسن الفروض - شيء خاص ليست له البتة علاقة بمهام العيش. ومن سوء الحظ أن هذا الرأي لا يعتنقه رجل الشارع وحده، وإنما يعتنقه أيضا بعض الفلاسفة المحترفين في بريطانيا والولايات المتحدة، فهذا النفر لا يأبه إلا بطرق التحليل الفلسفي في سبيل توضيح أجزاء من العلم أو ما يجري به اللسان العادي، بل إنهم كثيرا ما يهتمون بصورة التعبير أكثر من اهتمامهم بما يودون أن ينتهوا إليه بتوضيحهم. وبنمو هذه الحركة وبالتساؤل عن طبيعة التحليل الفلسفي ذاته، اتجهت جهود هذه الفئة من الفلاسفة إلى تحليل «التحليل».
وهناك بطبيعة الحال آراء قديمة أخرى عن طبيعة الفلسفة؛ فالفلسفة عند جورج سانتيانا تستحق الدرس؛ لأنها عبارة عن الجهد الذي يبذل في سبيل الكشف عن الحقائق الثابتة التي تلقي الضوء على نشاط الإنسان، فهي لا تصنع من أجل موقف حرج ، وربما لم تكن لازمة في مثل هذه المواقف. ولكن ماركس - من ناحية أخرى - يعتقد أن هذا الرأي خيالي، بعيد كل البعد عن الأمور والناس في هذه الدنيا؛ فقد كان حرج العصر الذي عاش فيه مما يشغله، وحث على الثورة في الفلسفة لكي تهتم بأزمة العصر. ومما قال في ذلك: «إن الفلاسفة قد اكتفوا حتى الآن بتفسير العالم، وإنما المهم تغيير هذا العالم.» وبالرغم من أن رجال التحليل الفلسفي يعتقدون أن كلا الاتجاهين - التفسير والتغيير - خاطئ، فليس من شك في أن الاتجاهين لا يزالان يقتسمان إلى اليوم ذلك الجزء من عالم المعرفة الذي لم يأخذ بنظرية التحليل الفلسفي.
ثم إن هناك - إلى جانب ذلك - من يرى أن الفلسفة تعبير عن العقائد والتزامات الأفراد؛ فهي عزاء وسلوى. وزعيم هذا الاتجاه سقراط، رمز الإنسان المتفلسف في العالم الغربي، الذي رفض أن ينجو من الموت إذا كان ذلك على حساب تخليه عن الفلسفة التي كان يعيش بها ومن أجلها.
وربط «الفلسفة» في هذا الكتاب ب «أوقات الحرج» يرمي إلى الإشارة إلى رأي متكامل يقتضي النظر بعين الفاحص إلى قضايا لها أهميتها القصوى للإنسان الحديث. وهذه النظرة إلى الفلسفة تقترب من معناها اللغوي «حب الحكمة»، ومن أهميتها التاريخية باعتبارها المجال الحر للعقل البشري. وقد ظهر الفيلسوف بهذا المعنى بادئ الأمر في تاريخ الغرب منذ نحو 2500 عام في اليونان حينما ثار الإنسان على التفكير الأسطوري القديم باجترائه على التفكير المتحرر المستقل في أي وجه من وجوه التجربة البشرية؛ ومن ثم فإن كل تواريخ الفلسفة الغربية تبدأ بطاليس وتأملات مدرسة ميليزيا في الكون. هنا نجد الدراسة الكونية تحل محل الأساطير، ونرى الأفراد المفكرين يحتلون مكانة الكهنوت، والبحث العقلي يأخذ مكانة الطقوس المعقدة. وما إن بدأ هذا النوع من أنواع التفكير، حتى سار شوطا بعيدا ولم يقف عند حد.
وإذا كانت الفلسفة قد بدأت بالتعجب في خلق الكون، فقد بلغت شأوا آخر عندما اتجهت نحو البحث عن معرفة الإنسان بنفسه الذي نادى به سقراط. كانت رسالته الاهتمام بالنفس ، حتى لا يرضى الإنسان عن جهله أو يقنع بحاله؛ لأن الحياة التي لا تفحص ، والحياة التي لا تنقد، ليست جديرة بالإنسان. وبحث الشباب الأثيني على هذا اللون من البحث الناقد المستقل شجع سقراط في الواقع على الثورة على الخضوع الاجتماعي لسلطان أصحاب النفوذ وقوة العادات والتقاليد؛ مما هدد حياته بالخطر، وحدا بحكام أثينا أن يطلبوا إليه أن يكف عن نشر هذه التعاليم، وانتهى الأمر بمحاكمته وإعدامه. استمع إليه وهو في محنته يقول: «لن أتخلى عن التفلسف، وعن حثكم عليه، وتوضيح رأيي لكل من أقابل، قائلا له ما ألفت أن أقول دائما: سيدي، إنك أثيني، وإنك مواطن في المدينة العظمى التي اشتهرت بحكمتها وقوتها، ألا تخجل من اهتمامك بمالك وبإنماء ثروتك، وبسمعتك، وبمكانتك، بدلا من اهتمامك بمعرفة الخير والحق وكيف تسمو بروحك؟ وإذا رد علي إنسان بقوله إنه لا يهتم بروحه، فلن أخلي سبيله في الحال وأدعه ينصرف، بل لا بد أن أسأله وأن أحقق معه لكي أعارض رأيه؛ فإن اعتقدت أنه بغير فضيلة - وإنما يدعيها بلسانه - أنبته على الحط من قدر أسمى ما له قيمة، والرفع من شأن ما ليست له قيمة، سأفعل ذلك مع كل من ألاقي من الناس، شيخا كان أو شابا، غريبا كان أو مواطنا، وسأفعل ذلك خاصة معكم أيها المواطنون الأثينيون لما بيني وبينكم من صلة الرحم، وأرجو أن تفهموا أن ذلك هو ما أمرني الله به، وأحسب أنكم لم تنعموا بخير أعظم من هذا الواجب الذي أؤديه لوجه الله؛ لأن كل ما أعمل هو أن أتجول وأقنع الشيوخ والشباب منكم بألا تعطوا أبدانكم وأموالكم من العناية مثلما تعطون لكمال أرواحكم.»
وليس من العسير بعد هذا أن نرى لماذا يعد سقراط أحد أبطال البشرية في مجال الفكر؛ فهو قديس دنيوي عاش ومات من أجل إيمانه بالإنسان وبسيادة العقل البشري.
وفي هذه النشأة وهذا التطور لفلسفة الغرب، نستطيع أن نرى ثلاثة عناصر ثابتة في التقليد الفلسفي من عهد أفلاطون وأرسطو حتى هوايتهد وديوي؛ مما يساعدنا على أن نتبين الدور الذي تلعبه الفلسفة؛ فالفلسفة أولا تقتضي فحص العقائد فحصا واعيا، ولكل منا عقائده، وبفحص هذه العقائد نزداد نضجا، ونمسي أشد قدرة على تقدير قيمة ما نعتقد فيه ومدى تأثيره حتى نبيت أكثر وعيا به وبما يترتب عليه. والعقل - باعتباره راوية لما نعتقد فيه - ضرب من ضروب النشاط الإنساني الذي ليس له عنه غنى. والتفكير - في الفلسفة - ينتظم بالعقل وبالخبرة على السواء؛ العقل للتحكم في علاقة الفكرة بغيرها، والخبرة لتوجيه ما يمكن أن يسلم به، أو يعد من الأمور الثابتة في مجرى البحث. ويحاول العقل أن يخضع لمعاييره في المعرفة والمنطق، دون الخضوع لأية سلطة خارجة عنه؛ لأن مجرد الاعتراف بهذه السلطة يعني الاختيار الشخصي، ولا بد له من علة. هذا العنصر من عناصر البحث الفلسفي - أعني فحص العقائد - يعلل لنا شدة الاهتمام بالطريقة، وبالمنطق، وبنظرية المعرفة.
والعنصر الثاني من عناصر الفلسفة بمعناها القديم هو التوفيق بين العقائد التي ثبتت بالنقد قيمتها. وهنا يشتد الاهتمام بالتعميم دون التخصيص، بالنظرة الشاملة بالمفكر الذي يرى المعرفة كلها والحوادث جميعا لا كمجالات خاصة، أو كمجموعة من الأشياء التي ائتلفت عرضا وبغير نسق، وإنما يراها موضوعا للبحث يستخدم فيه المرء قدراته على التفكير. ولا يقتضي ذلك بناء نظام فلسفي مغلق، فذلك ضرب من المحال. وهناك فرق بين التوفيق - أو التعميم - وبين الجمود في المعرفة الإنسانية والسلوك الإنساني، بين أن يسير المرء على نظام منطقي وأن يتشبث بنظام معين، بين النظرة التي توحد بين الأشتات ومذهب الوحدة. ومن خير من يمثل هذا الاتجاه في الفلسفة أرسطو، وأكويناس، واسبينوزا، وكانت، وهيجل.
والعنصر الثالث من عناصر الفلسفة هو الاهتمام بالقيم الأساسية للإنسان والمجتمع؛ فالتفكير الفلسفي يجمع بين البحث في المعرفة والقيم لكي يرفع من شأن الحياة. وليس من شك في أن كل فرد منا يشغل نفسه بهذا النوع من أنواع التقويم، والفيلسوف في هذا رجل أقوى نقدا وأشد استنارة من أي منا. وربما كان ذلك هو السبب في أننا ما زلنا نقرأ سقراط وأفلاطون وأرسطو بالرغم من أنهم من اليونان القدماء، بل إنا لنستمتع كثيرا عندما نطلع على آثارهم ونعجب بها أيما إعجاب. وإلى إدمان البحث في الإنسان - في الطبيعة وفي المجتمع - يرجع الفضل في اطراد التقدم في نظريات الأخلاق والسياسة.
ومن ثم فإن التزام البحث عن الأفكار المتكاملة المسلسلة في كل قضية من القضايا التي تهم الإنسان، هو ما يكسب الفلسفة التقليدية حيوية وجلالا أكثر من أي شيء آخر. وإن الرفع من شأن العقل وحياة العقل هو ما يوحد بين كبار الفلاسفة في سبيل تحقيق هدف واحد، وما يجعلهم قادة الفكر والأخلاق في حضارتنا. (6) علاقة الفلسفة بالأزمة الحاضرة
والآن نتساءل: وما شأن الفلسفة، بهذا المعنى، والأزمة الحاضرة؟ وقد رأينا أن الأزمة قد تكون نقطة تحول في تاريخ الحضارة الغربية التي يتعرض فيها اليوم الفرد وكرامته وحريته في أن يفكر ويعمل ويكتب كيفما شاء، للقيود الشديدة، كما أن وجوده ذاته تحف به المخاطر. وليس من شك في أن الفلسفة بصورتها القديمة لها علاقة كبرى بهذه المشكلة؛ لأنها تتعرض للآراء الأساسية في قواعد الأخلاق، وتشرح المثل والقيم التي تكمن وراء جانب كبير من حضارة الغرب. وقد أبرز فلاسفة الإغريق قيمة العقل، ومعرفة النفس، والثقافة. وصور لنا فلاسفة النهضة العقل والفرد البشري في صورة جديدة. أما فلاسفة عصر النور فقد أكدوا مجموعة جديدة من المثل الاجتماعية والسياسية، وعبروا عنها بنظرية الحكم بموافقة الشعب، كما عبروا عنها بحقوق الإنسان في «الحياة والحرية وتحقيق السعادة».
ثم إنا قد بينا فيما سبق مدى انتشار الصراع السياسي في عصرنا الحاضر. ولكي نفهم الصراع القائم بين الشيوعيين وغير الشيوعيين، وبين المجتمعات الغربية والمجتمعات غير الغربية، يجب على الأقل أن نقدم البرامج والأهداف السياسية التي تتصل بشكل نظم الحكم ووسائل بسط النفوذ لما لها من أثر في المواطن الفرد، كما يجب أن نقوم أيضا العلاقات القائمة في داخل الدولة، والعلاقات الخارجية بين الدول في العالم بأسره. وهذه الأمور في ملابساتها المباشرة من شأن رجال السياسة، ولكن السياسة في الوقت الحاضر أهم من أن تترك للساسة وحدهم. وإذا توغلنا في التحليل بلغنا حدا تكون فيه الحقائق محلا للبحث السياسي المجرد. والفلسفة السياسية تسد حاجة عاجلة لا يمكن للسياسة البحت والتحليل السلوكي أن تسدها؛ لأن كبار الفلاسفة السياسيين كانوا يهتمون بربط السلوك والتنظيم السياسي بأهداف الإنسان، وكانوا يشغلون أنفسهم بأمور ثلاثة رئيسية: تحليل الآراء الأساسية في السياسة، وشرح نظرية العلاقات الأساسية بين الناس، التي تحتاج إلى أشكال من النظم السياسية، وتقويم العوامل السياسية المختلفة في ضوء المعايير الخلقية. وأهمية العمل الذي قاموا به تنحصر في أن كل الآراء السياسية الكبرى وكل البرامج السياسية في المجتمعات المعاصرة تقريبا - سواء كانت حرة أم مرسومة مخططة - هي من نتائج قرائحهم. ويكفي أن نذكر هوبز، ولوك، وروسو، وماركس، ونيتشه، لكي ندرك الأثر الكبير للفلسفة السياسية الماضية فيما يجري في الفترة المعاصرة.
ويمكن أيضا أن ننظر إلى الأزمة على اعتبار أنها أزمة العلم والتكنولوجيا؛ أولا للهجوم الشديد الذي يتعرض له العلم والعقل من نواح عدة، وثانيا للهجوم الشديد على القيم الذي يشنه بعض رجال الدين على النظرة العلمية، وثالثا لتأثير التكنولوجيا الحربية والصناعية في حياة الإنسان. وهذه المشكلات تظهر في حياة الفرد في صورة الشك في أسس المعرفة والعقيدة، وتظهر في الأمور النظرية على شكل فجوة لا يمكن التغلب عليها بين دنيا العلم ودنيا القيم، وتظهر في الحياة الاجتماعية على صورة انعدام التناسب بين الإنسان والوسائل الفنية في تطبيق العلم. وكل هذه الأمور تؤثر تأثيرا عميقا في حياة الناس ومعتقداتهم في جميع أنحاء العالم الذي توحد لا بفعل الأهداف والمثل العليا المشتركة، ولكن بفعل التكنولوجيا الحديثة التي اكتسحت العالم كله. وقد أخذ الفلاسفة على عواتقهم أن يحللوا أسس المعرفة والدور الذي تلعبه العقيدة، وبظهور العلم الحديث وجهوا جانبا كبيرا من اهتمامهم إلى المشكلات التي أثارتها أزمة العلم والتكنولوجيا. ويكفي أن نشير هنا إلى الطريقة التجريبية الإنجليزية، وإلى الطريقة البراجمية أو العملية الأمريكية، وإلى فلسفة العلم الحالية، لكي ندرك علاقة الفلسفة بهذا الميدان.
والأزمة - أخيرا - شاملة من حيث تأثيرها في الفرد، والمشكلات المتعددة التي تثيرها متشابكة مترابطة، ولا يمكن معالجتها إلا بتجاوز حدود التخصص المهني الضيقة . وتشير إلى ذلك بالفعل أزمة القيم، والسياسة، والعلم، والتكنولوجيا. وإنما نذكر هذه المشكلات على سبيل التمثيل؛ إذ إن هناك كثيرا غيرها. والنظريات السياسية التي تحاول أن تعالج هذه المشكلات هي وحدها التي يمكن أن تلقي ضوءا على الحرية في عصرنا الراهن - حاضرها ومستقبلها. وينبغي لنا أن نجاوز حدود التصرفات السياسية ونبحث في طرق الحياة الديمقراطية، باعتبارها مجموعة من المواقف والأهداف التي تتجه إليها الأنظار.
إن الأزمة في مجموعها تؤكد ضرورة النظرة الشاملة التي هي أخص بالفلسفة منها بأي نشاط مهني مستقل؛ لأن صاحب المهنة المختص لا يسمح لغيره أن يتدخل في اختصاصه، ويتردد في ارتياد اختصاص الآخرين. وإذا سار الإنسان في هذا الشوط حتى غايته اتسعت معارفه وضاق مجاله، حتى يكاد يعرف كل شيء عن لا شيء. ويمكن بطبيعة الحال أن نهاجم رجل التعميم بعكس ذلك؛ فإن معارفه تضيق ومجاله يتسع حتى لا يكاد يعرف شيئا عن كل شيء. ولكنا حينما نعالج مجموعة من المشكلات الكبرى التي تتعلق بالوجود البشري في العصر الحاضر، لا يسعنا إلا أن نعالج أمورا تنتمي إلى مختلف الميادين معالجة المسئول صاحب الفكر المنظم. وجلي أنه ليست هناك جماعة مختصة غير جماعة الفلاسفة بالمعنى القديم تستطيع أن ترنو إلى الأمور جميعا بنظرة شاملة.
وعلى هذا الأساس نجد أن تاريخ الفلسفة ذاته يستطيع أن يلقي ضوءا على أزمتنا الحاضرة، ونستطيع أن نتبين ما كان يدور بخلد العقول العظيمة في الماضي فيما يتعلق بالعالم وبالإنسان؛ لأننا حقا تعلمنا صنع كثير من الأشياء كما تعلمنا التحكم فيها، ولكنا لم نكتسب قدرا كبيرا من الحكمة. وما زالت المشكلات التي تتعلق بطبيعة العالم والمعرفة، وبطبيعة المجتمع الطيب والحياة الطيبة تواجهنا ولا بد من إيجاد حل لها. إن إذاعات التليفزيون وصواريخ الفضاء التي تمس حياتنا في العصر الحديث قد تمدنا بإحساسات جديدة وقوى جديدة، ولكنها في الوقت ذاته تزيدنا رغبة في العثور على جواب لهذا السؤال: «ما الغرض من ذلك؟» ومن ثم فإن ما نتعلمه من تاريخ الفلسفة هو ما كان يراه جبابرة العقل بشأن القضايا الإنسانية الكبرى، وليس من شك في أن هذا الدرس الذي نتلقاه عنهم يزيدنا تمكينا من السيطرة على ما لدينا من معارف وقيم. والمقارنة بين ما نحسب أننا نعرفه ونقدره قدره اليوم وبين الأفكار والقيم التي كان يراها كبار الفلاسفة لا بد أن تمكننا من إعادة النظر في مثلنا وتوضيح ما لدينا من نظريات ومعتقدات.
إن الحضارة والثقافة من الأمور التي تنمو تدريجا وتتطور. والعقل المثقف والإنسان المتحضر لا يوجدان في عزلة، وإنما يتطوران بالاشتراك في الخبرات والتحدث إلى العقول المثقفة الأخرى والكائنات المتحضرة الأخرى. وهناك وحدة بين الناس تتمثل في وحدة جهود الإنسان في تفسير العالم ومعرفة نفسه. وتدل على ذلك الأعمال الفنية الكبرى كما تدل عليه طريقة البحث التي ينتهجها العلماء ورجال الأخلاق. وإذا كان الهدف من التربية هو إلى حد ما تزويد المرء بآراء مختلفة يقيس بها وسائل الحياة الكريمة وقيمها، فمن المؤكد إذن أن تاريخ الفلسفة هو جزء لا غنى عنه لاستمرار التربية.
والفلسفة إذا عولجت علاجا صحيحا تحمينا من التفكير التقليدي العتيق، ولا تجعلنا ننظر إلى الماضي نظرة التقديس، فنميز بين النظر إلى تاريخ الفلسفة باعتباره «أمهات الكتب» التي تحوي كل المعارف الثابتة وبين محاولات الإنسان المستمرة في سبيل معرفة العالم ومعرفة نفسه. ومن الواضح أن الحق لا ينحصر فيما تحويه أمهات الكتب، ولا بد من أن نختار لأنفسنا على أساس المعرفة الصحيحة. ولا يقوم الحق على أساس سلطان الماضي، وإنما يقوم على أساس النقد الصحيح والاختبار والتجربة التي يجب أن تكون ضربا من ضروب النشاط الذهني الدائم، ومن الواجب أن ندرك أن الحق لا يصدق على إطلاقه، ولكن ما نتعلمه من البحث الناقد في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة هو أن بعض الطرق وبعض الوسائل أكثر نجاحا من غيرها من حيث ما توصلنا إليه من نتائج؛ ومن ثم فإن معرفتنا بما كان يفكر فيه أسلافنا، ومعرفتنا بأساس الحكم على صحة معرفتهم أو خطئها، كل ذلك يجعلنا أشد وعيا بحداثة العصر الذي نعيش فيه. (7) علاقة الفلسفة المعاصرة بالأزمة الحاضرة
إن موقف الفلسفة في العصر الحاضر يحدد مصير الحضارة كلها بطريقة لم تسبق للفلاسفة السالفين معرفتها؛ لأننا ندرك كل الإدراك أن العالم الذي نعيش فيه إنما يبقى ويستحق البقاء إذا هو استطاع أن يحل المشكلات التي تتطلب بطبيعتها التعاون البشري من أجل أهداف إنسانية مشتركة. إن ما نريده هو أن يكون لدينا دافعان؛ أحدهما يسوقنا إلى هضم ميراث الماضي، والآخر يسوقنا إلى مواجهة قضايا الوقت الحاضر المريعة. ومن الواضح أننا إذا استطعنا أن نتعلم شيئا من تاريخ الفلسفة، فأحر بنا أن نزداد معرفة من أوثق الفلاسفة المعاصرين الذين يعالجون مشكلاتنا الراهنة، ويعيدون النظر في التقاليد القديمة لمواجهة مطالب الإنسان المعاصر؛ لأن العصر الذي نعيش فيه يتطلب إعادة النظر في تلك الآراء العامة الشاملة التي توجه الإنسان وجهته، والتي تلقي ضوءا على الظلام المحيط بنا، والتي يمكن أن تمدنا بالأمل، وتدفعنا إلى العمل الإيجابي لإعادة تشكيل أنفسنا وتشكيل تاريخنا البشري.
إن الفلاسفة الذين يتحملون المسئولية اليوم لا يتجاوبون مع وجودنا فحسب، وإنما هناك تطورات معينة مستحدثة تجعلنا أشد ارتباطا بهم منا بالفلاسفة القدامى. وهذه التطورات تتعلق بالمواد والوسائل الجديدة التي يمكن أن تستخدم في البناء الفلسفي في عصرنا. إن معرفتنا التاريخية - خلافا لما كانت عليه في أية حضارة أخرى - تشتمل على تاريخ كل ما سلف من حضارات، وعلى حياة المجتمعات البدائية، ونشاط الشعوب في كل صقع من الأصقاع وتحت كل ظرف من ظروف العالم. وهذه المعرفة التاريخية تمدنا بفرصة كبرى - لم توجد من قبل - لكي نعرف ما نحن بحاجة إليه لكمال البشرية في ضوء تاريخها الماضي. ثم إنا قد سرنا في طريق المعرفة المتقدمة عن الإنسان ذاته، في ضوء ما لدينا من علم بالأنثروبولوجيا ونتائج البحوث النفسية، ولأول مرة يتبين لنا إمكان التطلع إلى بناء نظرية تجريبية عن الشخصية الكاملة. وأخيرا، أقول إن معرفتنا بأوجه الطبيعة المختلفة، من الطاقات التي تنبعث عن الشمس إلى المكونات الأولية للمادة الحية، تؤلف عنصرا جديدا في ميراثنا الفلسفي. إن التطور في طرق البحث، بالإضافة إلى معرفتنا بالطبيعة والإنسان، وخبرتنا بالتطور الاجتماعي، كل ذلك قد يعمل على بناء فلسفات شاملة منطقية تجابه بها القضايا الكبرى ذات الأهمية الإنسانية.
ولكنا في الوقت عينه ينبغي أن نركن إلى ما لدينا من فلسفة، مهما تكن محدودة الطموح ضعيفة التفكير، فنستعين بها في بحث وتقديم ما لدينا من إمكانيات يقع الخيار في حدودها. والمقتطفات التي جمعناها في هذا الكتاب اختيرت على أساس تحقيق هذا الهدف، هذه المقتطفات تمثل مختارات لها دلالتها مما قاله قادة الفكر في العالم الغربي الذين حاولوا تقديم مشكلات إنسان العصر الحاضر، ورسم فلسفة تستطيع البقاء، أو على الأصح تستطيع أن تطور الحياة وتجعلها أغزر مادة وأكثر ثراء. يجب أن نستعين بما يعرضونه من فكر على فهم موقفنا وإعادة النظر فيما لدينا من قيم. ولقد اخترنا ما ورد في هذا الكتاب من مقتطفات على أساس أن الفلسفة التي تدعو إلى الحرية الشخصية والحرية السياسية هي أقوى أثرا وأعمق مغزى للإنسان الحديث من أي فلسفة أخرى. إن كل ما اخترنا من الكتاب من أنصار الحرية. وهذا المبدأ الذي راعيناه في الاختيار هو السبب في إقصاء ممثلي حركتين من أهم الحركات في الفلسفة المعاصرة، وأقصد بهما حركة الشيوعية والتحليل المنطقي. والسبب في إقصائهما هو أن موقفهم النظري يزعم أن القيم لا يمكن الدفاع عنها على أي أساس من أسس العقل، وإنما هي تمثل الأهواء المذهبية لطبقة من الطبقات أو الاتجاهات الشخصية العاطفية.
وقد اتخذت لاختيار الأشخاص ومقتطفاتهم بالإضافة إلى ذلك بضعة معايير أخرى. وكان المضمون - فوق كل شيء - هو المرشد الحقيقي لكل ما قمت به. إلى أي حد يمكن اعتبار الآراء طيبة؟ وفي حدود هذا الإطار العريض وجدت أن سهولة تبليغ الفكرة وصحتها من الصفات التي لا يمكن إغفالها. وبهذه القاعدة استبعدت المتطفلين ووسطاء الصحافة الذين يقحمون أنفسهم على الفلسفة إقحاما، وكانت للمضمون الذي يستحق الدراسة في رأيي أهمية تفوق أهمية الوضوح، وكان من الضروري أن أتحاشى التعبيرات والمصطلحات التي يتمكن القارئ الجاد الحصيف - الذي قد لا يكون من المختصين في الفلسفة - من العثور على شيء له قيمته، كما راعيت في المقتطفات أن أنتقيها من مصادر الإيحاء، والآراء المثمرة، والدراسات العميقة، والنظرات الفلسفية الأصيلة ذات الدلالة. وكل مؤلف وقع الاختيار عليه له مكانته، وهو من نوع الكتاب الذي ينبغي للقارئ الذكي الحساس أن يتعرف إليه، وإلا فاته الاتصال ببعض ما في ثقافتنا من خير وفضل.
وكان رائدي النهائي هو التنوع، ولا أقصد به ذلك التنوع المختلط، وإنما قصدت به عرض الأفكار والآراء المختلفة على أوسع نطاق ممكن؛ حتى يستطيع القارئ أن يكون صورة شاملة يراها على بعد منه. ولم أراع في المتنوعات التي عرضتها التحيز لأمة دون أخرى؛ فهناك الإنجليز والألمان والإيطاليون والهنود والأمريكان، وإنما كان دليلي وجهة النظر التي يعرضها الكاتب، وقد تكون في بعض الأحيان مصبوغة بصبغة الثقافة الوطنية التي ينتمي إليها.
في هذا الكتاب يتصل القارئ بمجموعة طيبة من الرجال الذين يبعثون في الفلسفة الحياة؛ لأنهم لا يعرضونها جامدة ميتة، وإنما يعرضونها رأيا حيا يتجاوز ما يمدنا به الفلاسفة المحترفون من معارف بغية الوصول إلى عقيدة إيجابية؛ عقيد تعزز إيماننا بكرامة الإنسان الحديث وقدراته، وبتلك الصفات البشرية التي تضفي على الطبيعة جلالا ونبلا.
وأود أن أختتم مقدمتي هذه بكلمة عن مدى حاجة العصر الذي نعيش فيه إلى الفلسفة، ويتناول الحديث في هذا الموضوع جانبين؛ أولهما العقل والقيم، والثاني العقيدة المشتركة التي نهدف إليها.
أولا: العقل والقيم (1) المجالات الفلسفية
إن المجالات الفلسفية التي تعرضنا لها في هذا الكتاب هي فلسفات الحرية والإيمان بالفرد البشري، وجميع الكتاب يهتمون اليوم بمصير الإنسان في العصر الحاضر، وهم يتفقون على وجود أزمة عميقة فريدة في نوعها؛ فهي عميقة لأنها قد تنتهي بالقضاء على الحضارة، وفريدة لأنها تهدد الوجود البشري ذاته. وإن ما لدى الإنسان من قدرات فنية هائلة، وقوى سياسية جبارة، قد تحول الإنسان إلى آلة تتحرك بإرادة غيره وتسترقه، إن لم تقض على حياته. وقد كانت الفلسفة فيما مضى تبرز ضرورة نشر المبادئ التي تدعو إلى تحكيم العقل وإنسانية الإنسان في صورة أفكار نظرية، ولكن واجب الفلسفة في عصرنا يجب أن يتجه نحو معالجة هذه الأمور بطريقة محسوسة؛ ذلك لأنا رأينا العقل يستخدم في الشر لقهر الإنسان وتجريده من إنسانيته وتحطيمه، كما أننا قد أرغمنا على الاعتراف بالظروف الجديدة والآمال الجدية للإنسان في عالم وحدت أجزاءه التكنولوجيا وإن يكن ما يزال مقسما من وجوه كثيرة أخرى. والمشكلة الكبرى التي تواجهنا اليوم هي هذه: هل يستطيع العقل أن يستخدم القوى السياسية والتكنولوجيا الحديثة لتحقيق أهداف الفرد ووجوده وحريته؟ وهذا الموضوع يسود مختلف الفلسفات التي سوف نقدمها في هذا الكتاب.
وهناك عدة فروق في معالجة هذا الموضوع ترجع إلى اختلاف الاهتمامات وطرق التعبير والأساس الثقافي؛ ففورستر وسيلون وسارتر يجابهون في فلسفاتهم الوجود البشري من ناحيته النوعية المباشرة، كل من وجهة نظره التي تتأثر بموطنه؛ فهناك النغمة الإنجليزية فيما يقوله فورستر، والإيطالية فيما يذكره سيلون، والفرنسية فيما يعبر عنه سارتر. أما أينشتين ورسل وهوك، فيميلون إلى زيادة الاهتمام بالنواحي الاجتماعية فيما يمس تحرير حياة العقل، متأثرين كذلك بالمواطن التي يعيشون فيها. أما ماريتان ونيبور فيختلفون عن أفراد هاتين المجموعتين لاهتمامهم بالدين. وهم يختلفون فيما بينهم في العقائد التي يعتنقونها، كما يختلفون طبقا لجنسياتهم كذلك. وهناك أيضا بين الذين اخترنا لهم في هذا الكتاب أوجه أخرى للتباين أو التشابه؛ فسيلون وأينشتين بعدما يسيران في اتجاهين مختلفين من حيث الحياة والفكر، يبلغان عقيدة متشابهة في الاشتراكية ومناهضة النازية، غير أن سيلون الذي عرف الشيوعية الدولية عن كثب لم يثق البتة في روسيا السوفيتية، في حين أن أينشتين، الذي كان يميل دائما نحو المسالمة والمثالية، أخذ يميل في سنواته الأخيرة نحو الإيمان بدعوة روسيا إلى السلام، ويلقي الاتهام على الولايات المتحدة لتعزيزها قواتها خلال الحرب الباردة التي تسود العالم. وكذلك نرى سارتر وياسبرز يتفقان في مذهب الوجودية، مع كون الأول ملحدا والثاني فيلسوفا يتجاوز بفكره حدود الوجود. (2) الفلسفة والدين
ومهما يكن من أمر فإن هناك فارقا هاما بين هؤلاء الفلاسفة جميعا، هو الفارق بين أولئك الفلاسفة الذين يقبلون الدين في إحدى صوره القائمة باعتباره أمرا أساسيا في حياة الإنسان، وأولئك الذين لا يقبلون الديانات المنظمة على أسس فلسفية. وبالرغم من أن أولئك وهؤلاء يضعون الفرد في الاعتبار الأول باعتباره حاملا للقيم، ويدركون أن العقل هو علامة البشرية المميزة، إلا أنهم يختلفون في الدور الذي يلعبه العقل وفي الأسس التي تقوم عليها القيم. وفي عبارة أبسط نستطيع أن نقول إن المجموعة الأولى تزعم أن «الوحي» يعطينا حقا أسمى مما يعطينا العقل، وأن القيم تستمد في نهاية الأمر ثبوتها من العلاقة بين الله والناس. أما المجموعة الثانية فترى أنه لا ينبغي لنا أن نضع حدا يقف عنده العقل البشري، وأن القيم لا تثبت إلا على أساس من العقل. ومع هذا الفارق ينشأ خلاف أساسي في تعليل مصدر الأزمة وطبيعتها؛ فالطائفة الأولى تعتقد أن الأزمة قد نشأت عن عدم الإيمان عند الإنسان وعن ادعاء العقل الذي يضع نفسه موضع الآلة، في حين أن الطائفة الثانية ترى أن الأزمة إنما ترجع إلى فشل الإنسان في استخدام عقله في علاقاته الشخصية والاجتماعية.
ترى الطائفة الأولى أن القيم لا يمكن أن تستند إلى العقل؛ لأن العقل يتعلق بخبرة الوقائع والأشياء، في حين أن القيم تتعلق بالشخصية البشرية؛ ومن ثم فهي لا تتصل بالأشياء والوسائل، إنما تتصل بالغايات الإنسانية. ويرى أصحاب هذا الرأي أن الغايات الإنسانية ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى الإنسان، كما يرون أن هناك نوعا «أسمى» من المعرفة مجاله العلاقة بين الإنسان والله أو الحقيقة. وهذه العلاقة وحدها هي التي تكسب قيمنا الشخصية ووسائلنا في تحقيق الحرية الصدق والثبات. وإذا أخذنا بهذا الرأي حكمنا بأن ما يدعيه العلم من أنه النوع الوحيد من المعرفة الذي يركن إليه هو الذي أدى إلى دنيوية الحياة الحديثة، وإلى فقدان شخصية الإنسان باستخدامه الوسائل الفنية، وإلى آلية الدولة في العصر الحاضر؛ مما أثقل التاريخ بمعسكرات التعذيب، والشرطة السرية، والتطهير السياسي. فإذا نحن أردنا أن نتخلص من النظر إلى الإنسان كجمهور ومن دولة الجماهير، فلا مناص لنا من العودة إلى الديانات القديمة لنجد السند القوي في سياسة الحرية في الإله المطلق.
ومن الخطأ أن نحسب هذه الآراء عتيقة أو مجرد رد فعل للأزمة الحاضرة ليس له سند من العقل؛ فهي لا تكتسب قوتها من رجال الدين وحدهم، بل كذلك من بعض أولئك الذين ضعف إيمانهم أو لم يكن لهم من قبل إيمان أو عقيدة؛ وذلك نتيجة لذلك الموقف الذي يقفه المؤمنون بالعلم الذي ينبذون القيم على اعتبار أنها لا تستند إلى العقل. ولا أظن ذلك يرضي أولئك الذين يرون في الحرية ميزة على الخضوع. إن أصحاب النظرة الدينية يبدون اهتماما بكثير من القيم البدائية، التي تدفع الناس، بنزاهة الفرد وكرامته، وبأن كل فرد غاية لها قيمتها وليس مجرد رقم من الأرقام في كشوف الإحصاء. وفي عالم يتأثر بالآلة، نراهم يضمدون الجراح ويواسون المصابين في مجتمع بات من غير جذور. إنهم يدركون سيادة الشر في العالم، وينذرون بأن التقدم الإنساني لا يمكن أن يتعامل مع مضاعفة الأشياء المادية. إنهم يرون أن الديانات السماوية تتضمن الاعتراف بالقيم الخلقية التي ترتبط بمبادئ الإنسانية والتحرير في هذا العالم الذي نعيش فيه. إنهم يشفقون على إهمالنا الجانب الروحي في الإنسان؛ ومن ثم فهم يعتقدون أن من واجب الفلسفة في العصر الحديث أن تعيد الاهتمام بهذا الجانب الذي لا غنى عنه للإنسان.
والمغزى الفلسفي لذلك هو أن العلم لا يعالج إلا العلاقات التي تقوم بين الوسائل والغايات، وأن العقل يتعامل مع العلم. وإن صدق ذلك فإن الغايات البشرية لا يمكن أن تقوم بالعقل، ولكن هناك من يرى غير ذلك، ويعتقد أن العقل يمكنه أن يقدر الغايات البشرية حق قدرها، متأثرين في ذلك بالمادية التاريخية والتجربة المنطقية. ولما كان هذان الاتجاهان لا يتمثلان في هذا الكتاب، فإني أود أن أقول كلمة في كل منهما. (3) الفلسفة والعلم - المادية التاريخية
المادية التاريخية كما رأينا هي فلسفة التاريخ الماركسية؛ إذ إن ماركس يزعم أنه عثر على القوانين التاريخية للحركة التي تساوي في قيمتها النظرية قوانين نيوتن عن الحركة. واكتشاف هذه القوانين يجعل التنبؤ ممكنا، والتاريخ علما في ظنه. إنه يرى أن السبب الخفي في جميع حوادث التاريخ ينشأ عن نمو التكنولوجيا وصراع الطبقات في جميع أرجاء العالم. وليس عمل الإنسان في حقيقته اختيارا يسترشد فيه بمثله الشخصية، وإنما هو نتيجة حتمية لأسباب خفية.
وعند تقديرنا لهذا الرأي الماركسي يجب أن نميز بين عنصرين؛ أولهما أن ماركس كان ينظر إلى القيم الخلقية باعتبارها أهواء طبقية مذهبية، فالخير هو ما يساعد على حماية طبقة من الطبقات أو يرفع من مكانتها، ولكن ماركس نفسه قد تأثر أول الأمر بسخطه على قسوة الرأسمالية الإنجليزية، وتصوره قيام مجتمع حر نتيجة لاشتراكية الوسائل التكنولوجية الكبرى. ومعنى هذا الموقف الذي وقفه ماركس الحكم بأن الحرية لها قيمة بشرية من نوع ما، وأن كل ما يعزز حرية الإنسان هو أداة من أدوات الخير، وأن الأداة النهائية هي نمو التكنولوجيا بغير عائق. ويبدو أن ماركس كان يفترض أن زيادة الإنتاج تخفف من العبء الذي يتحمله الإنسان وتصلح من ظروف الناس؛ لأنها تسمح بزيادة المساواة في استهلاك السلع، وبفرص أفضل للحياة والحرية ومتابعة السعادة. وبديهي أن الحكم بأن الحرية لها قيمة إنسانية، وأنه لولا هذه القيمة لفقد مجهود ماركس دافعه الأساسي، بديهي أن هذا الحكم ليس في حد ذاته تحيزا طبقيا، وإنما هو زعم خلقي؛ وإنه لذلك يثبت على أسس تخالف قوانين الحركة المزعومة.
والعنصر الثاني هو أن ماركس يرى أن نمو التكنولوجيا له أهميته القصوى في التطور التاريخي، ولكنه يفشل في تعليل هذا النمو خلال التاريخ. إن نمو التكنولوجيا كان دائما نتيجة لنمو المعرفة، سواء أكانت نظرية أم عملية. كان أكثر ما حدث من تطور في التاريخ - قبل نشوء العلم الحديث - مرتبطا بالاختراعات التكنولوجية التي كانت ترجع إلى أسباب عشوائية؛ ومن ثم لم يكن من المستطاع التنبؤ بها. وكذلك ارتبط تطور التكنولوجيا منذ نشوء العلم الحديث بالنمو في النظريات الأساسية، وليس بوسع أحد أن يتنبأ متى تحدث مثل هذه التطورات في النظريات الأساسية؛ ومن ثم فإن ماركس يستند في دعواه عن إمكان التنبؤ على عوامل لا يمكن التنبؤ بها؛ وبذلك يظهر بطلان الحتمية التاريخية كما يظهر بطلان الدعوى بأن الدور الإنساني في تطور التاريخ لا قيمة له؛ لأن نمو المعرفة - سواء كانت نظرية أم عملية - يترتب دائما على مجهود فردي صمم لسبب من الأسباب ألا يقبل المعتقدات والوسائل القائمة، كما صمم على البحث في إمكان إحداث تغيير فيها. ويجعل ذلك تطور المعرفة التي لا يمكن التنبؤ بها مترتبة على نواحي النشاط عند الأفراد التي يمكن بدورنا أن نتنبأ بها. فهؤلاء الأفراد بمخترعاتهم يستحدثون تطورات هامة في التاريخ، وبذلك يكونون عملاء خارقين مبدعين في خضم الحياة الذي لولاهم لتطور لأسباب لا دخل للإنسان فيها.
ومما يبعث على السخرية في نظرية ماركس أن منطقها قد استخدم ضد الحرية البشرية التي كانت المثل الأعلى أول الأمر عند ماركس؛ فإننا نرى روسيا والصين الشيوعية اليوم قد سارتا طبقا لهذا المنطق حتى غايته، وذلك بالبرامج التي وضعها المسئولون هناك للنهوض بالصناعات الثقيلة على حساب حرية الإنسان وحياة البشر. ثم إن الزعم بأن آراء ماركس يمكن أن يكون لها كل هذا التأثير في التاريخ الحديث يناقض القول بأن الفرد الإنساني ليس له دور خلاق في مجرى التاريخ. إن نبذ هذا الدور الخلاق ونبذ المثل الشخصية التي يمكن أن تدفع البشر إلى العمل ينتهي بالهبوط بالإنسان إلى مستوى المخلوق الذي لا إرادة له.
وأهم من هذا كله أن إخضاع الغايات الإنسانية للوسائل التكنولوجية معناه خلق جو معنوي تكون فيه القوة هي الخير الأسمى.
ثانيا: نحو إيمان مشترك (1) نحو الحضارة
وبعد هذا كله، ماذا نستطيع أن نتعلم من الفلسفات الكبرى المعاصرة لهذا الوقت الحرج الذي يمر به تاريخ البشرية؟ وما الذي نرجوه ونأمل في تحقيقه؟ أعتقد أنه من المهم والمفيد لهذا الغرض أن نميز بين جانبين من جوانب أية فلسفة شافية لوقتنا هذا ؛ الجانب الأول هو الفلسفة الشخصية بمعناها المباشر الذي يتجه نحو علاقة الفلسفة بحياة الإنسان وسعادته، والجانب الثاني هو ذلك الاتجاه الأعم، السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، الذي يرى أننا نعيش أشخاصا في عالم يشغلنا بمشكلات ذات دلالة إنسانية عامة. ولست أقصد حينما أميز بين هذين الجانبين أنهما يعالجان لونين مختلفين من المشكلات، ولكن أود أن أؤكد أننا لا نتقدم كثيرا دون أن ندرك أن هناك فارقا واضحا بين الاتجاهين.
سوف يرى القارئ فيما نعرضه عليه في هذا الكتاب أن الرأي المشترك الذي يراه أولئك الذين اخترنا لهم بعض مأثورهم ينطوي على الدفاع عن قيم الحضارة، كما ينطوي على تحليل الظروف التي تنشأ فيها الحضارة، وتكاليفها وحدودها. الحضارة مغامرة خطرة يتعاون فيها الإنسان بذكائه، وموضع الخطر أنها مسألة إنسانية، بيد أن الإنسان يستطيع بذكائه وتعاونه أن يتغلب على هذا الخطر. والتعاون يحتم علينا النشاط المشترك، يحتم علينا الثقة وحسن النية، والتنظيم العملي الذي يؤدي إلى إنجاز العمل. ويسود هذا التعاون بين الناس في ظل ظروف إنسانية دون غيرها. أما الذكاء فيهتم بتقدير الوسائل والنتائج. وليست للتعاون صورة عضوية ثابتة، إنما هو حصيلة ثقافية لتضافر جميع الجهود البشرية. وليس الذكاء هو العقل المجرد، إنما هو تنظيم للمشاعر والعواطف والعقل جميعا. ولكي يؤتي ثماره لا بد أن يكون ضربا من ضروب النشاط التعاوني. وهو في جميع الحالات صفة من صفات الوعي الفردي.
إن تاريخ الإنسان يجعل التكنولوجيا حقيقة من أهم الحقائق في حياته، والتغير والتطور في التكنولوجيا يعنيان زيادة السيطرة على الطبيعة. وليس بوسع أهل الغرب، أو أولئك الذين لا يزالون يدافعون عن تقاليد الفكر الشرقي العتيقة، الذين يودون أن ينبذوا كل هذه الوسائل، ويطهروا أنفسهم بإنكارهم حتى الأشياء التي لها قيمة عملية، ليس بوسع أولئك أو هؤلاء أن يمدونا بفلسفة عملية مفيدة لمجتمع عالمي يتولد تدريجا عن هذه الجهود التكنولوجية المترابطة التي يبذلها الإنسان. وهذا جانب من جوانب أهمية نهوض البلدان المتخلفة - أعني قبول القوى التكنولوجية والجهود الروحية معا. وقد أدى قبول الوسائل الفنية العملية قبولا كليا إلى الإنتاج والقدرة الاقتصادية باعتبارها القيم التي تحل كل المشكلات الإنسانية ، في حين أن إنكار هذه الوسائل يؤدي إلى الفقر - فقر الجسد والعقل والروح.
ومن ناحية أخرى، ليس من الحق أن العلم الحديث يخلق الحاجة إلى عالم واحد بمعنى سياسي بحت، والحاجة إلى التوزيع الاقتصادي المتساوي. وليس من الحق في شيء أننا قد حللنا المشكلة الاقتصادية والمشكلة التكنولوجية، وإنما هي نظمنا الاجتماعية وقيمنا التي لا تزال تتحدانا. إنما الأزمة هي أزمة الحضارة، لا بسبب القنبلة الذرية وحدها، وإنما بسبب الصراع القائم بين مشكلات مجتمعنا على جميع المستويات - الشخصية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والروحية - ولأن هذه المشكلات جميعها لها دخل في إعادة البناء إعادة كاملة شاملة، أقول إن أزمة الحضارة الراهنة تعود إلى هذا الصراع بين المشكلات وإلى العلاقة بينها وبين إعادة البناء حتى إذا لم تكن هناك قنبلة ذرية. ولا نستطيع أن نحل المشكلة الاقتصادية على أساس وجود وفرة تظهر بمظهر القلة بسبب طرق التسويق وتسلط الدول الكبرى. ولا تستطيع الدول المتخلفة والشعوب غير البيضاء، وهي تكون ثلثي سكان المعمورية، أن تسد حاجاتها ببرامج المعونة التي تقدمها الدول المتقدمة أو بجهدها الذاتي؛ فإن الفجوة بين آمال هذه الدول ومواردها عميقة سحيقة. ولأسباب شبيهة بهذه لا نستطيع أن ننظم حكومة عالمية على أساس تنظيم الولايات المتحدة؛ ومن ثم فإن اشتراط نجاح مثل هذه الحكومة لمستقبل البشرية هو في الوقت الحاضر وهم من الأوهام.
القنبلة الذرية رمز لأزمة الحضارة، ولكنها لا تعني الموت أو العصر الذهبي للإنسان؛ لأننا إذا حملنا القنبلة هذا المعنى كنا بمثابة من يعزو إلى الرمز ما يرمز إليه. لقد حاول الإنسان - خلال تاريخه كله - أن يحقق إنسانيته بتطوير قدرات الفرد وقدرات المجتمع على السواء. واقتضى ذلك استخدام العقل، وتطبيقه على تطوير الآلات والتكنولوجيا وعلى النهوض بتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية. ومن الحق أنه لم يكن هناك في تاريخ الإنسان من قبل تقدم تكنولوجي تكمن فيه كل هذه القدرة على تحطيم جانب كبير من المجتمع البشري، وهو الجانب الذي يعد نفسه العالم، ومن الحق أنه لم يسبق للإنسان في تاريخه أن أدرك فيه هذا العدد العديد من الرجال مصيرهم المشترك الذي يتطلب اتخاذ الوسائل لإنشاء نظم سياسية تسمح للناس في جميع أرجاء العالم أن يتابعوا ما يشغل أذهانهم من مختلف الاهتمامات. ومن الحق أن عددا كبيرا من الناس عندهم إحساس أرهف بوجود ثقافات متنوعة تقوم بينها الفوارق، وباتساع مدى نشاط الإنسان فوق الأرض؛ ولم تشمل الأزمات السابقة مثل هذه الرقعة الفسيحة من الأرض، وهذا العدد العديد من الناس، وهذه الثقافات المتنوعة، أو الشعور بهذا الدمار الشامل الذي يهدد العالم بأسره. إن المشكلات التي تثيرها أزمات الوقت الحاضر تتطلب الاعتراف بضرورة إصدار قرارات عامة شاملة. إننا لا نستطيع أن نتخلص من الماضي تماما، ويجب أن نعترف بالضغط الواقع علينا من ازدياد السكان في العالم، ومن التكنولوجيا الحديثة والدول العظمى. والفلسفة التي تنكر أي عامل من هذه العوامل لا يمكن أن تكون وافية أو شافية.
وفي معمعان الحرب الباردة وظروفها يستطيع كل فرد منا أن يحس زيادة المسئولية التي تقع على عاتقه، ونستطيع أن نحاول وضع النظم التي تدفع إلى الأمام تقدم العلوم والفنون والاتجاهات الخلقية. وما يوضحه لنا مفكرونا هو الاعتراف بالحاجة إلى حل للتوتر القائم بين الذكاء البشري - الذي يتمثل في العلم - والقيم البشرية - التي تتمثل في برامج التنظيم الاجتماعي والعقائد الأخلاقية. وعلى هذا المستوى نجد اتفاقا بين رادا كرشنا الذي يمثل الشرق المتصوف، وأينشتين الذي يمثل الغرب المادي. إن أحدهما يريد العلم لإثراء الحياة البشرية، والآخر يريد أن يسترشد العلم بالغايات البشرية، ولكن كليهما يريد الحياة الطيبة والمجتمع الطيب، وكلاهما يرى الإمكانيات العملية لخروج هذه الحياة من جوف هذا الوقت الحرج الذي نعيش فيه. أما رادا كرشنا فيرى الوسيلة في ضرورة الاعتراف بدور الشرق في أي مستقبل نتطلع إليه، كما يرى أن الشرق ليس بحاجة إلى وسائل الغرب العملية فحسب، ولكنه بحاجة كذلك إلى النظرة التي تجمع بين الغايات البشرية والوسائل العلمية. وأما أينشتين فيرى أن الاحتياجات العملية التي تنبثق من تقدم البحوث الذرية سوف تحطم البشرية إذا لم يتفق أبناؤها على أن العلم لا تكون له قيمة إلا إذا سار نحو الأهداف الإنسانية العادلة. وجميع الفلاسفة الآخرين يقفون موقفا وسطا بين هذين الرجلين، مبشرين بهذه العقيدة المشتركة، كل بطريقته الخاصة. (2) نحو الفرد
إن من أهم ما تتميز به فلسفات العصر الحاضر صبغتها الشخصية، بعدما اجتازت الفلسفة فترة كاد يهمل فيها العنصر الشخصي إهمالا تاما. وأعتقد أن كثيرا من رجال الفكر في الغرب قد انتهوا إلى عقيدتهم الراهنة بعد الإقلال من شأن الإيمان بالفرد وزيادة الاهتمام بالمبادئ الاجتماعية والاقتصادية البحت. وقد اجتذبت الماركسية الأنظار في الثلاثينيات من هذا القرن؛ لأنها ظهرت بمظهر المحاولة العلمية لتفسير السبب في أن قيام الأزمة لا بد منه على نطاق واسع، والسبب في أن الحروب والثورات والتدهور الاقتصادي والفاشستية وما إليها قد سادت التاريخ المعاصر. وزعمت الماركسية أنها ترشدنا إلى طريق الخلاص، وأنها تجعل الأرض موطنا محببا، وأنها من ناحية أخرى عقيدة تربط الغريب في هذا العالم بالدنيا التي يعيش فيها. والماركسية بهذا نوع من أنواع الولاء الشخصي أو الخلقي له تأثيره القوي؛ لأن المبدأ الذي تبشر به يقتضي أن يتنازل الإنسان عن ذاته لكي يجد نفسه تابعا مريدا في قضية تتجاوز حدود هذا العالم؛ ومن ثم فإن المنطق الماركسي يمدنا بخلق شخصي حينما يطلب إلينا أن ننكر شخصياتنا، باعتبارها ظاهرة برجوازية لا لزوم لها.
ولكن هذا المعبود قد فشل، ويعزى فشله إلى حد ما إلى الخطأ في تحليل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع الحديث، كما يعزى أيضا إلى أنه لا يعترف بوجود الشخصية التي لا مندوحة عن وجودها لدى الفرد وفي الشئون الاجتماعية؛ فنحن كأفراد لسنا أجزاء من آلة اقتصادية، ولسنا ذرات في موجة عظمى. إنما نحن أفراد لنا أهدافنا التي نسير نحوها. نحن نختار ونقوم، واختيارنا وقيمنا معا تشكل المستقبل لنا.
لقد علمنا التاريخ وتحليل النفس وعلم الإنسان - كما علمتنا الخبرة الشخصية - أن هناك عوامل تؤدي إلى السعادة، كما أن هناك ظروفا تعترض سبيلها. والحياة تحت أكثر الظروف لها قيمتها عند كل فرد تقريبا. وتكاد الحياة تكون قيمة مجردة. وذلك هو ما تدعو إليه القواعد الدينية والخلقية كما تدعو إليه النظرية الديمقراطية - الحياة حق مقدس. والأشخاص كائنات بشرية، والكائنات البشرية، سواء في المجتمعات البدائية أو في البلاد المستعمرة المتخلفة، في الاتحاد السوفيتي أو في الولايات المتحدة، لها حاجات لا مناص من الاعتراف بضرورة إشباعها. والنقطة الأساسية في هذا هي أن هناك نواحي نشاط وخبرات مشروعة - إنسانية ومستحبة في آن واحد - وأن هذه النواحي لا ينبغي إنكارها أو اعتراضها لمجرد أنها أمور شديدة الحرج تجابه الإنسان الحديث. ولا ينكر ضرورة إشباع حاجات الإنسان وملذاته الميسورة إلا إنسان شاذ ما دامت هذه الحاجات والملذات سليمة معقولة مسايرة لمصلحة المجتمع.
ليس ثمة داع للتشاؤم، ولا بد من الإيمان بأن الحرب ليست من الضرورات التي لا مفر منها. ويجب علينا أن نأخذ الأمور بابتسامة السخرية وروح الفكاهة حتى نتغلب على ما يواجهنا من صعاب. (3) نحو الحرية
أو ليس من الواضح بعد هذا كله أن من واجب كل عاقل أن يدافع عن الحرية والديمقراطية؟ وقد أجمع الفلاسفة السياسيون على أن للحرية شروطا أربعة: المساواة أمام القانون، والأخذ برأي الأغلبية في الحكم، وحرية البحث، وحرية الاختيار.
والشرط الأول - شرط المساواة أمام القانون - يكفل العدالة، ويضمن مجتمعا يقوم على أساس النظام وحريات الأفراد. وهذا الشرط لازم لتحقق الشروط الأخرى؛ لأن مراعاته تكفل للمرء قدرا كبيرا من الأمن على حياته. وقد نص على ذلك الماجنا كارتا الذي جاء فيه: «لا يجوز أن يؤخذ رجل حر أو يحبس ... أو يحطم على أية صورة من الصور ... إلا بحكم قانوني من أترابه، أو بحكم القانون السائد في البلاد.» وقد أضافت إلى ذلك القرون السبعة التي تلت صدور الماجنا كارتا أن القانون لا ينبغي أن يحابي شخصا ما، وأنه لا يجوز أن يلقى القبض على فرد ما، أو أن يوضع تحت الحراسة، أو أن ينفى اعتباطا وتحكما، وأن المحاكمة أمام محكمة عادلة حق لكل فرد، وكذلك التحرر من كل تدخل تحكمي في خصوصيات الفرد، أو في بيته، أو أسرته. ولكن الدول الدكتاتورية الحديثة لا تراعي احترام هذا الشرط الأول من شروط الحرية.
والشرط الثاني، وهو الأخذ برأي المحكوم ما دامت تؤيده الأغلبية، يكفل حرية تعديل القانون الذي نعيش في ظله. إن حق الكبار جميعا في الإسهام في الحكم لا بد أن يكون حقيقة واقعة، في الانتخابات الحرة التي تحدث في فترات معينة، وفي حرية اختيار الممثلين. قد يؤخذ على حكم الأغلبية أنه لا يلتزم الدقة في بعض القرارات، ولكنه صمام أمن ضد الحكومات المستبدة.
ويرتبط الشرط الثالث بهذا الشرط الثاني، ولكنه أوسع منه مدى. هذا هو شرط الحرية في بحث جميع الاحتمالات، وهي حرية البحث والتفكير والكلام والكتابة، ما دام الفرض لا يعرض للخطر حياة الآخرين. ولا بد في هذا من التجربة، على أساس الفروض المعقولة، لا على أساس من النشاط العشوائي. وبمقتضى هذا الشرط لا بد أن يشترك جميع الأفراد في السلطة السياسية العليا، وأن تكون لهم حرية النقد وتصحيح الأخطاء. ولا يتوافر ذلك إلا في ظل حكومة ديمقراطية لا تعترف بالملكية أو الأرستقراطية أو الدكتاتورية؛ لأن هذه الأنواع من الحكومات تستخدم نفوذها في صالح طبقة معينة أو في حرب عدوانية على حساب الطبقة الكبرى في المجتمع، التي يتألف منها الشعب.
والشرط الرابع، شرط حرية الاختيار، يتعلق بطريقة حياة الأفراد. وقد يتسع مجال الاختيار وقد يضيق طبقا للموقف، إلا أنه ينبغي في كل حالة من الحالات أن يكون للمرء في طريقة حياته قدر من حرية الاختيار في العمل الذي يقوم به، والمتعة التي يمارسها، مع مراعاة شروط الحرية الأخرى، وهذا هو حق المرء في تحقيق سعادته.
ومن الواضح أن هذه الشروط الأربعة مترابطة، ومن الواضح أيضا أننا لا ندعو إلى الحرية المطلقة؛ فهناك درجات من الحرية تتوقف على الظروف والموارد والمشكلات السائدة في وقت من الأوقات، كما تتوقف على مدى تحقيق شروط الحرية المذكورة ذاتها. ولا نقول إن التزام هذه الشروط يحتم النجاح في جميع الحالات، ولكن المحاولة ذاتها ضرورة من ضرورات الديمقراطية الصحيحة ، لكي يتعلم الإنسان من فشله كما يتعلم من نجاحه.
وثمة كلمة أخيرة بشأن ناحية من أهم نواحي النظرية الديمقراطية المعاصرة، وهي تتعلق بحكم الدولة من حيث ارتباطه برفاهية المجموع، والسؤال بعبارة أخرى هو: ما هي الحدود التي نضعها لسلطان الدولة لكي نكفل تحقيق شروط الحرية، ولكي تؤتي الحرية ثمرتها المرجوة؟ وينبغي أن نذكر في هذا الصدد أن نفوذ الهيئات الحكومية والهيئات غير الحكومية على حد سواء ينبغي أن يحد لكي تتوافر لأفراد الشعب العاديين حرياتهم، ويراعى ذلك عند تأميم الصناعات والخدمات، وعند النظر في مدى الضمان الاجتماعي، وعند معاونة الحكومة لمعاهد التربية والتعليم.
إن الجهود التي بذلها أسلافنا في سبيل تدعيم أركان الحرية ينبغي أن تستمر مهما واجهنا من صعاب وعقبات. وقد يتدبر بعض الناس عالم اليوم الذي نعيش فيه، ويذكر الخطر الذي يهددنا من القنبلة الهيدروجينية وتجارب الأسلحة النووية فيرى أن الحرية لا ترتكز على أرض ثابتة، وأنها لم تكن في أي عصر مضى مثلما هي اليوم أمرا يشق على أولي الأمر الاحتفاظ به. ولكنا برغم هذا لا نؤمن بأن المثل التي تدعو إلى «الحياة، والحرية، وتحقيق السعادة» مثل الحرية والحق والعلم قد أفلست.
إن فلاسفة الحرية الذين نتعقب آثارهم يؤمنون بعقيدة مشتركة، وهي أن الإنسانية تستطيع أن تتقدم لكي نكشف عن طرق للحياة جديدة تقربنا من حياة الحرية والعقل والحضارة العالمية.
الجزء الأول
مختارات من الكتاب الفلسفيين
الفصل الأول
أرنولد توينبي
(1988م-...)
ربما كان أرنولد توينبي المؤرخ المعاصر الوحيد الذي استرعى انتباه العالم بأسره وإعجاب الناس أجمعين. وقد انتهت خدمته أخيرا كأستاذ باحث في التاريخ الدولي بجامعة لندن، وكمدير للدراسات بالمعهد الملكي للشئون الدولية. ويجمع كتابه «دراسة التاريخ» الذي يتألف من عدة مجلدات بين المعرفة التاريخية العميقة النادرة والتصور البعيد المدى الذي يتجه نحو الأساطير ومصطلحات التاريخ. وقد وصف هذا الكتاب ب «أنه بعد كتاب «رأس المال» الذي ألفه كارل ماركس، أكثر المؤلفات في النظريات التاريخية إثارة للتفكير مما كتب في إنجلترا.» ومن المبالغة أن نتوقع لكتاب له ما لهذا الكتاب من أفق تاريخي فسيح أن يصبح شائعا؛ بمعنى أن تقرأه من أوله إلى آخره، وأن تهضمه عامة الناس. بيد أن نموذجا لا بأس به من نظرته الثورية بات مألوفا للقارئ العادي عن طريق المجلات الواسعة الانتشار والملحقات الأسبوعية للصحف اليومية، وعن طريق منصات المحاضرات العامة.
ومبحث توينبي الرئيسي هو أن التاريخ لا يمكن إدراكه إلا بالنظر إلى المدنيات باعتبارها الوحدات الحقيقية للتاريخ، ويستحيل إدراكه بالمعالجة المألوفة التي تقتصر على سيرة شعب من الشعوب. وقد وجد أن إحدى وعشرين مدنية قد قامت في الستة الآلاف سنة الماضية، وأن جميع هذه المدنيات قد انهارت أو فنيت فيما خلا المدنية الغربية (أي المدينة اللاتينية المسيحية، التي انبثقت من الهلينية عندما بلغت صورتها الرومانية)، غير أن هذه المدنية الأخيرة التي بقيت على وجه الزمن قد تعقدت مشكلاتها إلى حد كبير، ولا يستطيع أحد أن يضمن نجاحها في المستقبل. ولكن توينبي - بالرغم من هذا - لا يفتأ يردد إيمانه بنظرية «التحدي ورد الفعل» التي تغمر ميدان الحركة الإنسانية بأسره، وهو يحاول أن يؤكد عامل قدرة الإنسان على الخلق، وينبذ نظرية «قانون القضاء والقدر الصارم»، ويقذف بها في هوة العقائد البالية. وسواء لديه اتخذ هذا القانون صيغة الحتمية التي يفرضها العنصر أو البيئة أو المستوى الاقتصادي، ولو أن القدرات المجهولة للصفة الخلاقة عند الإنسان اهتدت وتحررت بطريقة التطور الديني «الرفيقة» اللينة، لأمكن لحضارة الغرب أن تنقذ نفسها، وبالأخص إذا كرست نفسها ب «المجتمع» الذي هو هدف الحضارات؛ ففي هذا تحول الروح «من الدنيا، ومن المادة، ومن الشيطان، إلى مملكة السماء».
ولد أرنولد توينبي في لندن في عام 1889، وتلقى تعليما كاملا شاملا في الدراسات القديمة بكلية باليول في أكسفورد، وترعرع في جو الأمن السائد حينئذ، ذلك الجو الذي شعر به الناس حقيقة واقعة في مستهل هذا القرن، واستمتع بذلك الوهم اللطيف الذي وصفه توينبي نفسه بقوله: «إن التاريخ قد حدث لغيرنا من الناس.» وكانت الحرب العالمية الأولى هي أولى الكوارث التي هدمت هذا الإحساس البريء المستحب ، كما أن سنوات السلم التي أخذت تتقدم باطراد نحو الحرب العالمية الثانية نهضت دليلا على انحلال المدنية الغربية. ويعتقد توينبي اليوم أنه إذا نشبت حرب عالمية ثالثة فستكون على الأرجح سببا في فناء البشر، ويستخلص من ذلك أنه من واجبنا في هذه الساعة الحرجة أن نقابل هذا التحدي الذي يصوبه نحونا عالم طبيعي قوي موحد بديانة عالمية قوية موحدة.
وإن من يقرأ المقتطفات التالية من مقالات توينبي - سواء اتفق أو اختلف معه في الرأي بجملته أو بتفصيله - سرعان ما يسلم بأن ما كتبه توينبي يحقق المثل الأعلى الذي رسمه لورد آكتن حين قال: «إنه يتميز عن التاريخ المشترك لجميع الشعوب، وليس عبئا على الذاكرة، ولكنه إضاءة للروح.» (1) نظرة مؤرخ
إلى أزمة الحضارة الحديثة «أرنولد توينبي» (1-1) هل نحن خاضعون لقدر محتوم؟
هل يعيد التاريخ نفسه؟ كان الكتاب في عالمنا الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يحاولون الإجابة عن هذا السؤال لمجرد التدريب على البحث العلمي. إن شدة الذهول التي أصابت أجدادنا من جراء الرفاهية التي اتسمت بها الحضارة في ذلك الحين قد غشت أبصارهم حتى لم يروا أمامهم إلا رأيا عجيبا يجافي الحقيقة، وتوهموا أنهم «ليسوا كغيرهم من الناس»، واعتقدوا أن مجتمعنا الغربي يبرأ من إمكان وقوعه في تلك الأخطاء والنكبات التي أدت إلى انهيار بعض المدنيات الأخرى، التي أصبح تاريخها من بدايته إلى نهايته كتابا مفتوحا. أما بالنسبة إلينا نحن أبناء هذا الجيل، فقد أصبحت لهذا السؤال القديم على حين غرة دلالة عملية أخرى. وتنبهنا إلى الحقيقة (وإني لأعجب كيف يعمى عنها الإنسان)، وهي أن الرجل الغربي وأعماله ليست أشد حصانة من المدنيات البائدة، مدنيات الأزاتقة والأنكا والسومريين والحيثيين؛ ومن ثم فنحن اليوم نبحث - في شيء من الجزع - في ثنايا الكتب المقدسة عن الماضي لعلنا نلتمس فيها درسا نستطيع الإفادة منه. فهل التاريخ يمدنا بأي نوع من أنواع المعرفة التي تتعلق بمصيرنا؟ وإن كان يمدنا بنوع منها، فما مداه؟
1
إن نظرة شاملة إلى الرقعة التاريخية في ضوء ما نعلمه اليوم، تبين أن التاريخ - حتى اليوم - قد أعاد نفسه عشرين مرة تقريبا، وفي كل مرة يتمخض عن مجتمعات بشرية من النوع الذي ينتمي إليه مجتمعنا الغربي، كما تبين أيضا أن هذه المجتمعات التي نسميها المدنيات - ربما فيما خلا المدنية الحاضرة - قد بادت فعلا أو هي في دور الاحتضار. ثم إننا - فوق ذلك - حينما ندرس تاريخ هذه المدنيات البائدة أو العليلة تفصيلا، ونقارن بين إحداها والأخرى، نجد ما يدل على وجود ما يشبه النموذج المتكرر في طريقة انهيارها وتدهورها وسقوطها. ونحن نتساءل اليوم بطبيعة الحال، إن كان لا مناص لهذا الفصل المعين من التاريخ من أن يعيد نفسه في حالتنا الراهنة: هل هذا النمط المتكرر في التدهور والسقوط ينتظرنا بدورنا باعتباره قدرا محتوما لا أمل لحضارة من الحضارات في الفرار منه؟ إن الإجابة على هذا السؤال - في رأي الكاتب - هي بالنفي بكل تأكيد. إن الجهد الذي يبذل لخلق صورة جديدة من صور الحياة - سواء أكانت نوعا جديدا من الحيوانات اللافقرية أو نوعا جديدا من المجتمع الإنساني - قلما، بل يستحيل أن ينجح في المحاولة الأولى؛ فليس الخلق عملا هينا بكل هذه السهولة. إنما يبلغ نجاحه النهائي بعد عدة محاولات تتعثر في الزلل والخطأ. ويترتب على ذلك أن الفشل في التجارب السابقة، لا يحتم فشل التجارب اللاحقة بدورها بالطريقة عينها، بل إنه ليهيئ الفرصة لهذه التجارب الأخيرة لكي تحقق النجاح عن طريق الحكمة التي يمكن أن تكتسب من أسباب الفشل. إن تتابع الفشل فيما مضى لا يكفل النجاح بطبيعة الحال للمرحلة اللاحقة، كما أنه لا يحتم عليها الفشل بدورها. وليس هناك ما يمنع حضارتنا الغربية من أن تتأثر بسوابق التاريخ - إن هي شاءت - فتنتحر انتحارا اجتماعيا. بيد أنه لا يتحتم علينا أن نحكم على التاريخ بأن يعيد نفسه. وأمامنا الفرصة أن نوجه التاريخ في عصرنا - بجهدنا - وجهة جديدة غير مسبوقة. ولقد وهبنا باعتبارنا بشرا هذه القدرة على الاختيار ، وليس بوسعنا أن نلقي تبعاتنا على الطبيعة أو على الآلة، بل ينبغي لنا أن نواجه مسئولياتنا، والأمر مفوض لنا.
2 (1-2) الموقف الدولي الحاضر
ما هي القضية التي تثير هذا القلق اليوم في كل أرجاء العالم؛ بين الأمريكان والكنديين، وبين أنفسنا وجيراننا الأوروبيين والروس ...؟ سوف أقدم إليكم رأيي الشخصي، وهو رأي - كما سوف ترون - يقبل الجدل. عقيدتي الشخصية أن هذه القضية المفزعة قضية سياسية، وليست قضية اقتصادية. ولست أعتقد أن هذه القضية السياسية لا تتعلق بالوحدة السياسية للعالم في المستقبل القريب. إني أعتقد أن العالم سوف يتحد سياسيا في المستقبل القريب على أية صورة من الصور، وأن هذه النتيجة قد انتهينا من الوصول إليها. ولعل هذه العقيدة فيما أظن هي أكثر مبادئي عرضة للجدل، ولكني لا أملك إلا أن أذكر ما أعتقده بأمانة وإخلاص (ولست أرى كيف يستطيع المرء أن يبلغ نتيجة غير هذه، إذا هو تدبر أمرين اثنين؛ مقدار اعتماد شعوب الأرض في وقتنا الحاضر بعضها على بعض، وقوة الفتك في أسلحتنا الراهنة؛ ثم ضم هذين الاعتبارين أحدهما إلى الآخر). أعتقد أن القضية السياسية الكبرى المفزعة الحقيقية اليوم لا تنحصر في الشك في وحدة العالم السياسية الوشيكة، بل في أي طريق من الطريقين الوحيدين الممكنين سوف تسير هذه الوحدة العاجلة.
فهناك الطريقة العتيقة المألوفة التي لا يستسيغها أحد، طريقة الحروب المتواصلة التي تبلغ نهاية مرة تستطيع عندها دولة حية كبرى أن تنقض على منافستها الأخيرة الباقية، ثم تفرض السلم على العالم بحق الغزو. هذه هي الطريقة التي وحدت بها روما بالقوة في القرن الأخير قبل الميلاد العالم الإغريقي الروماني، ووحدت بها إمارة «تسن» ذات العقلية الرومانية العالم في الشرق الأقصى في القرن الثالث قبل الميلاد. ثم هناك التجربة الجديدة، وهي الحكومة التعاونية العالمية - ولا أقول إنها طريقة جديدة كل الجدة - فقد كانت هناك محاولات فاشلة سابقة لإيجاد طريقة تعاونية للتخلص من المتاعب التي انتهت فعلا بفرض ميثاق السلم الروماني، وميثاق السلم السنيكي، عنوة وبالقوة. بيد أن متابعتنا لهذا الاتجاه - خلال الحياة التي عشناها - الذي يدعو إلى هذا الحل الموفق كانت أشد حزما، وأعمق في نفوسنا وعيا ، حتى إننا لنستطيع أن نعدها بحق بداية جديدة. وكانت المحاولة الأولى هي إنشاء عصبة الأمم، والمحاولة الثانية هي الأمم المتحدة. وواضح أننا في هاتين المحاولتين نشغل أذهاننا بمشروع سياسي مبتكر عظيم المشقة يشمل مجالا مجهولا إلى حد كبير. ولو نجح هذا المشروع، حتى إذا لم يفلح نجاحه إلا في أن ينقذنا من طريقة فرض السلام بالغزوات والحروب، أقول لو نجح هذا المشروح لفتح للبشرية آفاقا بعيدة، آفاقا لم تمتد إليها أبصارنا من قبل خلال الخمسة أو الستة الآلاف سنة الماضية التي شهدتنا ونحن نقوم بعدة محاولات لإقامة الحضارة.
وبعدما نحيي هذه البارقة من الأمل التي لمعت في الأفق، أرى أننا نحيد عن الصواب إذا نحن لم ندرك طول ووعورة الطريق الذي يصل ما بين هدفنا والموقف الذي نقفه اليوم. ولا يحتمل أن ننجح في التحول عن طريقة الاحتكام إلى نتائج الحروب إلا إذا وضعنا في اعتبارنا الظروف التي تدعو إليها لسوء الحظ.
وأول هذه الظروف السيئة التي تتحتم علينا مجابهتها هو أن عدد الدول الكبرى ذات القوى المادية العظمى - إذا نحن قسنا هذه القوى بمجرد القدرة على القتال - قد انخفض من ثمان إلى اثنتين؛ فالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يتقابلان اليوم وجها لوجه وحدهما في ميدان القوى السياسية المجردة. وإذا نشبت حرب عالمية أخرى فالأرجح ألا تبقى سوى دولة واحدة تقوم بتوحيد العالم بالطريقة العتيقة، طريقة فرض الغازي حكمه وإرادته.
وهذا الهبوط السريع المذهل في عدد الدول الكبرى ذات القوى المادية العظمى يعزى إلى الوثبة المفاجئة في معيار الحياة المادي، الذي دعا إلى انكماش دول ضخمة مثل بريطانيا العظمى، وفرنسا أصبحت ضئيلة بالقياس إلى دول مثل الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وقد حدث مثل هذه الوثبات المفاجئة من قبل في التاريخ؛ فمنذ نحو خمسمائة أو أربعمائة عام تضاءلت دول ضخمة مثل البندقية وفلورنسة بالظهور المفاجئ لدول أضخم مثل إنجلترا وفرنسا.
وهذا التضاؤل الذي أحدثته للدول الأوروبية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كان لا بد من حدوثه - من غير شك - على أية حالة من الحالات في أي وقت من الأوقات؛ فهو في رأيي نتيجة نهائية حتمية لاتساع الرقعة الأرضية أخيرا في روسيا وأمريكا الشمالية، ولنمو الموارد فيهما الذي حدث بعد ذلك نتيجة لتطبيقهما - على نطاق واسع - للوسائل الفنية التي تم اختراع بعضها في معامل غرب أوروبا. غير أن الوقت الذي تطلبته هذه العملية الحتمية كان ربما يستغرق نحو مائة عام، لولا أنه اختصر إلى ثلث أو ربع هذا المدى بسبب تجمع آثار حربين عالميتين. ولولا التعجل الذي لازم أحداث هذا التغير لتمت العملية تدريجيا بحيث تسمح لكل الأطراف المعنية بتكييف نفسها طبقا لها دون معاناة تذكر. ونتيجة للعجلة التي أحدثت بها الحربان العالميتان هذه العملية، كانت العملية ثورية وضعت كل جهة من الجهات في حيص بيص.
3 (1-3) الحرب والطبقات في حضارتنا
هذه الانتصارات التي حققها الزمن جعلت الطبقة الوسطى في الغرب تتمخض عن ثلاث نتائج دون تدبير سابق - ليس لها في التاريخ نظير - وقد دفعت هذه النتائج مجتمعة عجلة التاريخ نحو روح الانتقام؛ ذلك أن الغرب قد عرف الوسائل التي يوحد بها العالم بأسره بالمعنى الحرفي، أي سطح الأرض المسكون الذي يمكن عبوره، كما شجع بهذا النوع من المعرفة نظام الحرب ونظام الطبقات، وهما مرضان وراثيان في المدنية، وجعل منهما مرضين فتاكين قتالين. وهذا الثالوث من النتائج غير المقصودة يتحدانا تحديا مريعا حقا.
لقد كابدنا من الحروب والطبقات منذ عليت المدنيات الأولى فوق مستوى الحياة البشرية البدائية لخمسة أو ستة آلاف عام خلت، وكانت دائما موضعا للشكوى. ولقد بادت أو اعتلت جميع الحضارات التي عرفها المؤرخون الغربيون المحدثون، ويبلغ عددها العشرين تقريبا، بادت جميعها فيما خلا حضارتنا. وإذا ما نحن بحثنا في سبب العلة في كل حالة من الحالات بعد موت الحضارة أو فنائها ألفينا أنه دائما وبغير استثناء الحرب أو نظام الطبقات، أو هما مجتمعين على صورة ما. هاتان العلتان كانتا معا حتى اليوم كافيتين لإبادة تسعة عشر نموذجا من عشرين من هذا النوع من المجتمع البشري الذي تطور في الفترة الأخيرة من التاريخ العام. غير أن قوة الفتك في هذه الأسلحة المبيدة كان لها حتى اليوم حد تقف عنده؛ فبينما استطاعت هذه الأسلحة أن تقضي على نماذج فردية، فشلت في إبادة الجنس البشري نفسه. لقد قامت المدنيات ثم ماتت، ولكن ظاهرة «المدنية» نفسها قد نجحت كل مرة في تجسدها مرة أخرى في مثال جديد من أمثلة الظاهرة نفسها؛ لأن الحروب والطبقات - برغم كونهما من عوامل التدمير الاجتماعي لخطيرة - لم تكن في يوم من الأيام عامة شاملة، فهي قد تحطم المراتب العليا في مجتمع من المجتمعات، ولكنها تفشل عادة في الحيلولة دون بقاء المراتب الدنيا سليمة إلى حد كبير، مدثرة بأزهار الربيع، ومعرضة للضوء والهواء. وحينما كان ينهار مجتمع من المجتمعات في ركن من أركان العالم فيما مضى، لم يجر غيره معه من المجتمعات حتما إلى هوة السقوط؛ فلما انهارت مدنية الصين القديمة في القرن السابع قبل الميلاد، لم يمنع هذا الانهيار المدنية الإغريقية المعاصرة في الطرف الآخر من العالم القديم من مواصلة الصعود نحو قمتها. ولما بادت المدنية الإغريقية الرومانية في النهاية من المرضين المتلازمين، مرض الحرب ومرض الطبقات، خلال القرن الخامس والسادس والسابع بعد الميلاد، لم يحل ذلك دون ميلاد مدنية جديدة نابضة بالحياة في الشرق الأقصى خلال هذه السنوات الثلاثمائة عينها.
لماذا لا تسير المدنية متعثرة، متنقلة من فشل إلى فشل بالطريقة الأليمة الشائنة - وإن لم تؤد إلى الفناء المطلق - التي سارت عليها في بعضة ألوف السنين الأولى من وجودها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تحددها الاختراعات الحديثة التكنولوجية التي تخص الطبقة الوسطى الحديثة في الغرب. هذه الحيل الآلية التي تستخدم في استغلال القوى الطبيعية غير البشرية قد تركت الطبيعة البشرية ذاتها بغير تغيير. إن طريقة الحرب ونظام الطبقات ليست إلا انعكاسا للجانب الآخر من الطبيعة البشرية - أو ما يسميه رجال الدين الخطيئة الأولى - وذلك في نوع المجتمع الذي نسميه الحضارة. وهذه الآثار الاجتماعية لطبيعة الإنسان الفردية الآثمة لم تتلاش بسبب التقدم المشئوم الحديث في معرفتنا التكنولوجية، بل إنها لم تسلم من براثنها. ولما كانت باقية بغير تلاش، فقد تعهدها الإنسان بدرجة قصوى كبقية نواحي الحياة البشرية - نظرا لقدرتها المادية - فأصبح نظام الطبقات اليوم قادرا على تفكيك روابط المجتمع بشكل قاطع. كما باتت الحرب قادرة على إبادة الجنس البشري قاطبة. إن الشرور التي كانت حتى اليوم شائنة بكرامة الإنسان داعية للأسى وحسب، قد أمست اليوم فتاكة لا يمكن احتمالها؛ ومن ثم فقد بات أمامنا نحن أبناء العرب في هذا الجبل أن نواجه الاختيار بين أمرين - استطاعت العناصر الحاكمة دائما في المجتمعات الأخرى في الماضي أن تتغاضى عنهما - مع ما ترتب على ذلك من نتائج سيئة، في جميع الأحيان، وإن لم يؤد ذلك إلى التضحية الكبرى بتاريخ الإنسان على هذا الكوكب والبلوغ به إلى نهايته. علينا أن نواجه تحديا لم يتحتم على أسلافنا قط أن يجابهوه؛ فإما أن نقضي على نظام الحرب والطبقات - وأن يكون ذلك منذ هذه اللحظة - وإما أن نشهر انتصارهما - إذا نحن تراخينا أو فشلنا - على الإنسان، نصرا يكون هذه المرة حاسما ونهائيا.
إن الصورة الجديدة للحرب قد باتت مألوفة لأهل الغرب؛ فنحن على علم بأن القنبلة الذرية وأسلحتنا الكثيرة الأخرى الجديدة الفتاكة قادرة في حرب أخرى، لا على محو الأمم المحاربة وحدها، بل كذلك على محو الجنس البشري بأسره. ولكن كيف عززت التكنولوجيا شرور النظام الطبقي؟ ألم ترفع التكنولوجيا بالفعل إلى درجة ملحوظة الحد الأدنى لمستوى المعيشة، على الأقل في البلدان ذات الكفاية الخاصة أو المحظوظة فيما وهبته من الثروات الطبيعية وفي نجاتها من دمار الحروب؟ ألا يحق لنا أن نتطلع إلى اطراد الزيادة في ارتفاع هذا المستوى الأدنى إلى درجة عالية، وأن نأمل في أن تستمع نسبة كبيرة من الجنس البشري بهذه الزيادة، بحيث لا تثير بعد ذلك الثروات الضخمة التي تمتلكها الأقليات ذات الحظ الأوفر الأحقاد في القلوب؟ إن نقطة الضعف في هذا الاتجاه في التفكير هي أنها لا تضع في الاعتبار حقيقة حيوية، وهي أن الإنسان لا يعيش بالخبز وحده؛ فإنه مهما ارتفع الحد الأدنى لمعيشته المادية، فإن ذلك لا يغنيه عن المطالبة بالعدالة الاجتماعية. وقد تحول عدم المساواة في توزيع السلع في العالم بين الأقلية صاحبة الامتياز والأغلبية المحرومة منه من شر لا مفر منه إلى ظلم لا يحتمل، وذلك بفعل أحدث المخترعات التكنولوجية التي ابتدعها الرجل الغربي.
4 (1-4) توحيد العالم
والآن نتحدث عن الثورة الكبرى، وهي ثورة تكنولوجية، كون بها الغرب ثروته، واستغل بها جميع المدنيات الحية، ووحدها بالقوة في مجتمع وحيد يشمل العالم بأسره بغير مبالغة. هذا الاختراع الغربي الثوري هو استبدال المحيط بالمروج كوسيلة رئيسية في وصل أطراف العالم. إن استخدام المحيط لهذا الغرض - أولا بالسفن الشراعية، ثم بالسفن البخارية - مكن الغرب من توحيد جميع العالم المسكون والقابل للسكنى، بما في ذلك الأمريكتان.
لقد بلغنا نهاية المطاف، وآن لنا أن نرسو على الشاطئ؛ لأنا لا نستطيع الرؤية بوضوح إلى مسافة أبعد، ولقد دخلنا في مرحلة تاريخية تنتقل فيها الآن القوى المادية من موطنها الأول قبل داجاما؛ فهي تنتقل من جزيرة بريطانيا الصغيرة التي تقع على مرمى الحجر من الساحل الأطلنطي لقارة آسيا، إلى جزيرة أمريكا الشمالية، وهي أكبر حجما وأبعد منها بمرمى القوس. بيد أن الانتقال للقوى المادية من لندن إلى نيويورك قد يشير إلى نهاية آثار التفكك التي يتميز بها تبادل الصلات في عهدنا الحاضر - عهد الاتصال عن طريق المحيط - لأننا اليوم على أعتاب عصر جديد سوف لا يكون فيه الوسيط المادي لتبادل الصلات الإنسانية المحيطات أو المروج، بل الهواء، وقد يفلح الإنسان في عصر الهواء في التحرير من الارتباط بتضاريس السطوح - أرضية أو مائية - التي لا تخضع لنظام أو قانون.
إن مركز الجاذبية في الشئون البشرية، في عصر الهواء، قد لا تحدده الجغرافيا الطبيعية، وإنما تحدده الجغرافية البشرية، لا تحدده أوضاع المحيطات والبحار والمروج الصحاري، والأنهار وسلاسل الجبال، والممرات والمضايق، وإنما يحدده توزيع كثافة السكان، وطاقات البشر، وقدراتهم، ومهاراتهم، وصفاتهم. وقد يكون لعدد السكان - من بين هذه العوامل البشرية - أثر أقوى في النهاية مما كان عليه في الماضي. إن المدنيات المنفصلة التي كانت قائمة قبل عصر داجاما قد خلقتها واستمتعت بها أقلية حاكمة متحضرة تعتلي ظهر طبقة من الفلاحين الذين عاشوا في العصر الحجري الأخير عيشة ساذجة، كما امتطى السندباد البحري رجل البحر العجوز. هؤلاء الفلاحون السذج هم آخر قوم نيام أقوياء أيقظهم الغرب أمامه.
إن يقظة هذه الكتلة الصناعية البشرية السلبية كان عملا بطيئا، فقد أشعلت كل من أثينا وفلورنسة شمعة صغيرة وسلطتها على العينين الناعستين لهذا النائم المستلقي، ولكنه كان يكتفي في كل مرة بأن ينقلب على الجانب الآخر ثم يغط في نومه مرة أخرى. وكان على إنجلترا الحديثة أن تمدن هذا الفلاح، وأن تمده بقدر من النشاط الجم يكفي لأن يدفع الحركة للسير حول محيط الأرض. غير أن هذا الفلاح لم يتلق هذه اليقظة برفق؛ فقد حاول حتى في الأمريكتين أن يبقى على مثل ما كان عليه في المكسيك والجمهوريات التي تمر فيها سلسلة جبال الإنديز، ومد لنفسه جذورا جديدة في أرض عذراء في إقليم كوبك. بيد أن عمليات إيقاظه كانت - برغم هذا - تستجمع قواها. وحملتها الثورة الفرنسية إلى القارة الأوروبية، كما نشرتها الروسية من ساحل إلى ساحل. وبالرغم من وجود ما يقرب من ألف وخمسمائة مليون من الفلاحين لا يزالون حتى اليوم بحاجة إلى الإيقاظ - وهم نحو ثلاثة أرباع الجيل البشري الحي - في الهند، والصين، والهند الصينية، وإندونيسيا، ودار السلام، وشرقي أوروبا، بالرغم من هذا فإن إيقاظهم لا بد آت بعد حين، وبعدما يتم هذا تصبح للأعداد قيمتها.
5
وسيقول المؤرخون في المستقبل - فيما أظن - إن الحدث الأكبر في القرن العشرين كان تأثير المدنية الغربية في كل المجتمعات الحية الأخرى في العالم في ذلك الحين، سوف يقولون عن هذا التأثير إنه بلغ من القوة والشمول أنه قلب حياة كل من تعرض له رأسا على عقب وباطنا لظهر، وتشكل به سلوك الأفراد من الرجال والأطفال والنساء، ونظرتهم إلى الحياة ومشاعرهم ومعتقداتهم، حتى نفذ إلى صميم أفئدتهم، ومس فيها أوتارا لا يمكن أن تمسها القوى المادية الخارجية المجردة - مهما بلغت شدتها ودرجة إرهابها. ولست أشك في أن المؤرخين سيقولون بهذا وهم يرجعون بأبصارهم إلى زماننا حتى بعد فترة وجيزة من الزمان لا تتجاوز عام 2047 بعد الميلاد. أما مؤرخو عام 3047 بعد الميلاد فسوف يهتمون اهتماما شديدا - فيما أعتقد - بالآثار الرجعية القوية التي سوف يحدثها المتأثرون - بعدما يبلغون هذا التاريخ - في حياة أولئك الذين أثروا من قبل فيهم. وإذا ما حل عام 3047 فقد تتحول مدنيتنا الغربية - كما عرفنا وكما عرفها أسلافنا في الألف ومائتي أو الألف وثلاثمائة عام الأخيرة تقريبا، منذ خروجها من العصور الوسطى المظلمة؛ أقول قد تتحول هذه المدنية إلى صورة تطمس جميع معالمها، من أثر إشعاع مضاد يصدر عن العوالم الأجنبية التي نحن اليوم بصدد احتضانها في عالمنا، إشعاع مضاد يصدر عن المسيحية الأرثوذكسية، وعن الإسلام والهندوكية، وعن الشرق الأقصى.
وإذا ما حل عام 4047، فإن التفرقة بين المدنية الغربية مؤثرة والمدنيات الأخرى متأثرة - وهي تفرقة تبدو اليوم ضخمة كبيرة - سوف تبدو على الأرجح عديمة الأهمية. وبعدما يعقب الإشعاع إشعاع مضاد، سوف لا يبقى قائما إلى تجربة فريدة كبرى، يشترك فيها جميع أفراد البشر، وتلك التجربة هي تحطم الميراث الاجتماعي الإقليمي من أثر الصدام مع مواريث إقليمية لمدنيات أخرى، ثم إيجاد حياة جديدة - حياة مشتركة جديدة - تنبع من الحطام المتخلف. سوف يقول مؤرخو عام 4047 بعد الميلاد إن أثر المدنية الغربية في المدنيات المعاصرة لها، في النصف الثاني من الألف عام الثانية من بعد ميلاد المسيح، كان أهم سمات العصر؛ لأنه كان الخطوة الأولى نحو توحيد الجنس البشري في مجتمع واحد.
6 (1-5) تغير النظرة التاريخية
إذا نظرنا إلى التاريخ بهذه العين، تحتم على مؤرخي هذا الجيل ومؤرخي الأجيال القادمة - فيما أحسب - أن يقوموا بهذا الواجب إذا أردنا أن نؤدي الخدمة التي بوسعنا أن نؤديها - كاملة - لإخواننا في الإنسانية. أعني تلك الخدمة الهامة، خدمة معاونتهم على إيجاد العلاقات فيما بينهم وبين أنفسهم في عالم موحد، إذا أردنا ذلك تحتم علينا إعنات الخيال وتصميم الإرادة على شق طريقنا خلال أسوار السجن الذي تحبسنا فيه تواريخ أقطارنا وتواريخ ثقافاتنا - تلك التواريخ المحلية القصيرة المدى.
7
ولست شخصيا أعتقد أن هذه النظرية التقليدية التاريخية الغربية العتيقة سوف تبقى طويلا بعد اليوم. ولست أشك أننا سوف نتجه وجهة جديدة في المستقبل، وأعتقد أننا سوف نتجه نحو الشرق مرة أخرى. ولكن لماذا ننتظر حتى يمسكنا التاريخ من رقابنا ويلفت رءوسنا إلى الأمام، ويعاملنا كما كان جندي التدريب البروسي في القرن الثامن عشر يعامل مرءوسيه من الجنود؟ ولو أن جيراننا قد أعيد تدريبهم حديثا بهذه الطريقة المذلة المنفرة، إلا أنه ينبغي لنا بالتأكيد أن نكون أحسن منهم تصرفا؛ لأننا لا نستطيع الزعم بأننا أخذنا على غرة، كما أخذوا. إن الحقائق تجابهنا صراحة، ولو استخدمنا خيالنا التاريخي ربما استطعنا أن نتنبأ بالتربية الإجبارية التي بدأت فعلا تسير نحو صفوفنا؛ فقد كان الفيلسوف الروائي كلنثيز يدعو زيوس والقدر أن يمكناه رحمة به من السير في إثرهما بإرادته دون تخلف «لأني» - كما قال - «إذا صرخت أو عصيت فسوف تتحتم علي الطاعة رغما عني».
8
ماذا يجب علينا إذن أن نعمله - نحن أبناء الغرب - إذا تمنينا - كما تمنى كلنثيز - أن نسير في إثر زيوس والقدر مستخدمين ذكاءنا وممارسين لإرادتنا، بدلا من أن نكره هذه الآلهة على أن تخضعنا بطريقة الإرغام المذلة؟
أقترح أولا أن نعيد توجيه نظرتنا التاريخية على الأسس التي أعاد عليها الممثلون المثقفون للمجتمعات الأخرى الشقيقة نظرتهم خلال هذه الأجيال القليلة الأخيرة. إن المعاصرين لنا من غير أبناء الغرب قد أدركوا أن تاريخنا الماضي قد أمسى جزءا حيا من تاريخهم نتيجة لتوحيد العالم الذي تم أخيرا. وعلينا إزاء ذلك نحن الغربيين - الذين لا تزال عقولنا تغط في نعاسها - أن ندرك الآن من ناحيتنا أنه بفضل الثورة ذاتها - وهي ثورة نحن الذين أحدثناها - سوف يصبح ماضي جيراننا جزءا حيا من مستقبل الغرب.
ونحن إذ نوقظ أنفسنا لكي نبذل هذا الجهد في الخيال لا يتحتم علينا أن نتحرك من نقطة البداية. لقد عرفنا واعترفنا دائما بديننا لليونان وروما. بيد أن هذه المدنيات قد بادت بطبيعة الحال. كما استطعنا أن نعترف بالجميل لها دون أن نتزحزح عن موقفنا التقليدي الذي نحفظ لأنفسنا فيه أقدارها؛ لأنا كنا نسلم دائما - في العمل الذي فرضته علينا أنانيتنا - بأن نفوسنا النبيلة تكفي تبريرا للمدنيات «البائدة». تصورنا أن هذه المدنيات قد عاشت وماتت من أجل تمهيد الطريق لنا - تمثل دور يوحنا المعمدان إذا فرضنا أننا نحن الذين نمثل دور المسيح (وأستميح القراء عذرا في هذه الموازنة التي تتعرض للدين، ولكنها في الواقع تبرز في وضوح مقدار انحراف نظرتنا بدرجة مريعة).
كما أنا قد أدركنا كذلك أخيرا أهمية بعض المدنيات الأخرى باعتبارها مسهمة في بناء ماضينا. وهي مدنيات لم تنطفئ شعلتها فحسب، ولكنها اختفت في زوايا النسيان قبل أن ننبش أطلالها. من اليسير علينا أن نسخو في اعترافنا بفضل المانوية والحيثيين والسومريين. ولقد كان الكشف عن هذه الحضارات زينة في صفحات الباحثين الغربيين، كما أنها عادت إلى الظهور على مسرح التاريخ تحت إشرافنا ورعايتنا.
وأشق على نفوسنا من ذلك أن نعترف بحقيقة ليست أقل من هذه وضوحا، وهي أن التاريخ القديم لمعاصرينا الأحياء الذين يضجون بالصياح، والذين يتعرضون أحيانا للقذف والطعن، وأعني بهم الصينيين واليابانيين والهولنديين والمسلمين، وإخواننا الكبار من المسيحيين الأرثوذكس - هذا التاريخ القديم سوف يصبح جزءا من تاريخنا الغربي القديم في عالم مقبل لن يكون غربيا ولا شرقيا، ولكنه سوف يرث كل الثقافات التي مزجنا بينها جميعا نحن أبناء الغرب في بوتقة واحدة. بيد أن هذه هي الحقيقة الناصعة حين نواجهها. إن أبناءنا الذين سيخلفوننا لن يكونوا مجرد غربيين مثلنا، بل سوف يكونون وارثين لكنفشيوس ولاوتي، كما يرثون سقراط وأفلاطون، سيكونون ورثة لجوتاما بوذا كما هم ورثة لأشعياء ويسوع المسيح، ورثة لزرادشت ومحمد كما هم ورثة لإليشع وإيليا وبطرس وبولس، ورثة لشنكارا ورامانوجا كما هم ورثة لكلمنت وأوريجن، ورثة لآباء كبادوشيا التابعين للكنيسة الأرثوذكسية كما هم ورثة لأغسطين الأفريقي وأمبريان بندكت، ورثة لابن خلدون كما هم ورثة بوسويه، ورثة للنين وغاندي وصن يات كما هم ورثة لكرمويل وجورج واشنطن ومازيني (إذا بقينا متمرغين في حمأة السياسة).
إن إعادة تشكيل النظرة التاريخية تتطلب ما يناظرها من إعادة النظر في طرق دراسة التاريخ. دعنا - لو استطعنا - نعد التمسك بطريقة عتيقة في التفكير والشعور، فنعترف - في تواضع جم - بأن ما أنجزه أبناء الغرب فيما مضى من التاريخ كان - بقدرة الله - عملا لا يتعلق بهم فحسب، وإنما يتعلق بالبشرية كلها، عملا بلغ من الضخامة أن تبتلع نتائجه تاريخنا الإقليمي. إننا بصنع التاريخ نتجاوز حدود التاريخ. لقد انتهزنا الفرصة التي سنحت لنا دون أن نعلم ماذا نحن صانعون. ولأن يسمح للمرء بأن يحقق إرادته بتساميه فوق ذاته لميزة جليلة لأي مخلوق من مخلوقات الله.
بهذه النظرة إذن - وهي نظرة متواضعة ولكنها برغم ذلك تدعو إلى الزهو أيضا - نرى أن القوة الرئيسية لتاريخنا الغربي الحديث لا تنحصر في الحوادث السياسية المحلية لمجتمعنا الغربي كما نراها منقوشة فوق أقواس النصر المقامة في بعض عواصم إقليمية، أو مدونة في السجلات الوطنية والبلدية ل «الدول الكبرى» ذات العمر المحدود، بل إن القوة الرئيسية لتاريخنا الغربي ليست في امتداد الغرب فوق أنحاء المعمورة - ما دمنا نصر على أن هذا الامتداد مشروع خاص لصالح المجتمع الغربي وحده. إنما القوة الرئيسية هي في إقامة هيكل - بأيد غريبة - توحد بداخله كل المجتمعات - التي كانت منفصلة في يوم من الأيام - نفسها في بناء واحد. كانت البشرية منذ بدايتها مفككة، وقد استطعنا في الوقت الحاضر أخيرا أن نتحد. وإن العمل الغربي الذي جعل هذه الوحدة ممكنة لم يتم بأعين مفتوحة كما تمت أعمال داود الخالية من الأثرة لمصلحة سليمان، إنما تمت هذه الأعمال في جهل مطلق للغرض منها، كأنها من عمل تلك الحيوانات البحرية الصغيرة التي تبني الشعب المرجانية من قاع البحر حتى تستطيع في النهاية أن ترفع جبلا من المرجان فوق الأمواج. غير أن الهيكل الذي شيده الغرب قد أقيم من مواد أقل قدرة من هذه الشعب على البقاء. وأوضح مادة من موادها هي التكنولوجيا، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بالتكنولوجيا وحدها. ولما ينضج الوقت، حينما يقوم البيت العالمي ذو الطوابق العديدة ثابتا فوق أسسه الخاصة به وتتساقط المعينات التكنولوجية الغربية المؤقتة - ولست أشك في أن ذلك سوف يحدث - أعتقد حينئذ أنه سوف يتضح أن الأسس ثابتة في النهاية؛ لأنها تمتد إلى صخرة الدين السحيقة.
9 (1-6) ماذا نصنع لكي ننجو؟
إن المشكلات التي أحاطت بالمدنيات الأخرى وقهرتها في نهاية الأمر قد بلغت ذروتها في عالمنا اليوم. لقد اخترعنا السلاح الذري في عالم تتقسمه دولتان كبيرتان عظيمتان، وتقف كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ممثلتين لنظريتين متعارضتين بلغتا من التناقض حدا لا يمكن من التوفيق بينهما كما هما الآن؛ ففي أي طريق نلتمس النجاة في هذه الأزمة الخطيرة التي نمسك فيها بين أيدينا الخيار بين الحياة أو الموت، لا لنا وحدنا، ولكن للجنس البشري كله؟ ربما يقع طريق النجاة - كما يحدث دائما - في التماس طريق وسط، وهذا الطريق الذهبي لا يتحقق - في السياسة - بالسيادة المطلقة في الدول الإقليمية أو بحكم الاستبداد الذي لا يلين والذي تتولاه حكومة عالمية مركزية، وهو لا يتحقق - في الاقتصاد - بالمشروعات الفردية غير المقيدة أو بالاشتراكية غير المخففة.
10
وينبغي في الحياة الروحانية أن نقيم البناء الدنيوي الخارجي على أسس من الدين. إن جهودا تبذل في عالمنا الغربي اليوم لكي نشق طريقنا صوب كل من هذه الأهداف. ولو بلغنا ثلاثتها، حق لنا أن نشعر بأنا كسبنا معركتنا الحاضرة في سبيل بقاء حضارتنا. غير أن هذه الأهداف كلها فيها طموح بالغ، وتتطلب العمل الشاق والشجاعة القصوى لكي نحرز أي درجة من درجات التقدم نحو تحقيق أي منها وإبرازه إلى حيز الوجود.
وليس من شك في أن الهدف الديني من بين الأهداف الثلاثة أهمها جميعا في النهاية. بيد أنا أسرع حاجة إلى الهدفين الآخرين؛ لأنا لو فشلنا في تحقيقهما في المستقبل القريب، فربما فقدنا إلى الأبد فرصتنا في تحقيق ميلاد روحاني جديد لا يمكن أن نستنزله حينما نشاء، ولكنه لن يأتي - إذا أتى إطلاقا - إلا بخطا وئيدة تتدفق عندها أعمق تيارات الخلق الروحاني.
ولعل الهدف السياسي هو أشد الأهداف الثلاثة لجاجة. والمشكلة الحالية العاجلة في هذا الميدان مشكلة سلبية. إننا اليوم - باعتماد كل شعب من شعوبنا على غيره وبما نملك من سلاح - نقبل على أعتاب وحدة سياسية لا بد أن تتم بوسيلة ما. ولما كان الأمر كذلك، فإن علينا أن نتحاشى حدوث هذه الوحدة بصورة أليمة نلجأ فيها إلى قوة السلاح، وهي الطريقة المألوفة التي يفرض فيها بالقوة «صلح روماني»، الذي ربما كان أيسر السبل لتفادي القوى السياسية المريعة التي يقع عالمنا اليوم في قبضتها. هل تستطيع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى أن تتعاون مع الاتحاد السوفيتي عن طريق الولايات المتحدة؟ لو أن منظمة الأمم المتحدة نمت حتى أصبحت نظاما فعالا لحكم عالمي، لكان ذلك أفضل حل للخروج من الأزمة السياسية التي نتردى فيها، بيد أنه يجب علينا أن نحسب حساب إمكان فشل هذا المشروع، وأن نستعد - في حالة الفشل - بحل آخر نلجأ إليه. هل يمكن أن تنقسم الأمم المتحدة - في الواقع - إلى مجموعتين دون أن يتحطم السلام؟ ولو فرضنا أن وجه هذا الكوكب الأرضي كله أمكن تقسيمه سلميا إلى عالم أمريكي وآخر روسي، فهل يمكن أن يعيش عالمان جنبا إلى جنب فوق كوكب واحد متساويين، لا يستخدمان العنف ولا يتعاونان، أمدا يكفي لأن تتهيأ لهما الفرصة لكي يخف تدريجا ما بينهما من فوارق في الجو الاجتماعي والجو العقائدي؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على إمكان كسب الوقت - في هذه الظروف - الوقت الذي نحتاج إليه لكي نحقق هدفنا الاقتصادي الذي يرمي إلى إيجاد طريق وسط بين المشروعات الحرة والاشتراكية.
إن هذه الألغاز قد تصعب قراءتها، ولكنها تبين لنا في جلاء ووضوح ما نحن في أشد الحاجة إلى معرفته. إنها تنبئنا بأن مستقبلنا يتوقف على أنفسنا إلى حد كبير. ولسنا تحت رحمة قدر لا يلين وحسب.
11
المصادر
كل المختارات من مجموعة مقالات أرنولد توينبي التي تقع تحت عنوان «محنة الحضارة».
1 «هل يعيد التاريخ نفسه؟»
2 «هل يعيد التاريخ نفسه؟»
3 «النظرية الدولية».
4 «الفكرة الراهنة في «التاريخ »».
5 «توحيد العالم وتغير النظرة التاريخية».
6 «التقاء الحضارات».
7 «محنة الحضارة».
8 «توحيد العالم وتغير النظرة التاريخية».
9 «توحيد العالم وتغير النظرة التاريخية».
10 «الفكرة الراهنة في «التاريخ»».
11 «هل يعيد التاريخ نفسه؟»
الفصل الثاني
ألبرت أينشتين
(1879-1955م)
اعتاد أعضاء معهد الدراسات العليا في برنستن أن يطلوا من نوافذ حجرات الدرس في الأيام المشمسة، أو الأيام الممطرة، أو حتى في أثناء العواصف التي كانت تهب بين الحين والحين، فتقع عيونهم على رجل صغير الحجم بدين وخط رأسه المشيب، يرتدي سروالا فضفاضا في غير أناقة وقميصا ذا بنيقة لينة يعلوه صدر رياضي، يعبر فناء المعهد في طريقه إلى غرفة الدرس الخاصة به. وعلى أحد جدران غرفته سبورة يدون عليها هذا الرجل الرقيق معادلاته الرياضية، أو يرقب زائريه وهم يتطلعون إليه ممسكا بالطباشير. هذا الرجل هو ألبرت أينشتين في السنوات الأخيرة من العقد السابع من عمره، وقد تجنس بالجنسية الأمريكية، وقنع من أعماق قلبه بعزلته التي اختارها لنفسه في المدينة الجامعية الشرقية الصغيرة، وقد أمسى هذا الرجل وهو لا يزال على قيد الحياة أسطورة من الأساطير، وكان - غير منازع - أعظم نابغة في العلم في العالم الحديث، ومع ذلك فقد عرف بإشراق قلبه العطوف، كما عرف بقوة عقله الخالقة التي بلغت حد الإعجاز.
وأينشتين هو العامل الوحيد لثورة القرن العشرين في الطبيعة؛ تلك الثورة التي عرفت باسم نظرية النسبية. وقد أضاف - إلى جانب ذلك - كثيرا إلى تطور نظرية الطاقة الذرية، وسار شوطا بعيدا وعرا وسط الإنتاج العلمي الخطير تميز به العهد الذي عاش فيه. وكان عليه أن يقف سنوات متعددة في وجه المعارضين من أكبر علماء عصره الذين أصابهم الذعر من آرائه، والذين شق عليهم أن يهضموا التغيرات المذهلة في النظرية الأساسية التي تتعلق بالمكان والزمان والكتلة والطاقة والجاذبية، وتتعلق في نهاية الأمر بهندسة الدنيا. ومن المتناقضات العجيبة أنه في الوقت الذي كان يتأهب فيه المجتمع العلمي للاعتراف في حماسة بثورة أينشتين في الطبيعة ، وبعد تنبؤات أينشتين فيما يتعلق بالتواء شعاعات الضوء، تلك التنبؤات التي أثبتها بشكل مسرحي فريقان علميان إنجليزيان في عام 1919م، كان أينشتين نفسه يواصل البحث في جلد عجيب عن نظرية موحدة تضم في قانون واحد الظواهر الطبيعية، صغيرة كانت أو كبيرة. وقد ضم أينشتين ثمرة ثلاثين عاما من البحث الدائب في هذه المشكلة الضخمة في طبعة عام 1950م لكتابه «معنى النسبية». وهكذا نرى أن أينشتين قد تشكك مرة أخرى في عمله العلمي قبيل انتهاء حياته، وقد وجد هذا الشك إلى نفسه سبيلا منذ حداثته.
وبالرغم من أن أينشتين كتب مرة في مقال له عن سيرة حياته: إن الأساس في كيان رجل من طرازه ينحصر كله فيما يفكر فيه وفي الطريقة التي فكر بها لا فيما يعمل أو يعاني، ثم استطرد في الحديث عن طبيعة نظريات الطبيعة حديثا فنيا حماسيا، بالرغم من هذا كان أينشتين رجلا ذا ضمير خلقي لا يتزعزع، متعصبا لمبادئه؛ ومن ثم فقد كان رجلا ذا عقيدة اجتماعية قاسية مستعدا في المناسبات الهامة لأن يعمل وأن يقود. ومن الأعمال الجليلة التي قام بها أينشتين في حياته ذلك الخطاب، في 2 من أغسطس عام 1939م، الذي قال فيه في عبارة سهلة: «تقدم إلي حديثا أ. فرمي ول. ز. لارد بمخطوط جديد يدفعني إلى التكهن بأن عنصر اليورانيوم قد يتحول إلى مصدر جديد هام من مصادر الطاقة في المستقبل القريب ... إن قنبلة واحدة من هذه المادة، إذا تفجرت في أحد المواني، فقد تدمره كله تدميرا، كما تقضي على الأرض التي تجاوره ...» وهكذا نرى أن أينشتين قد أصدر قراره الصارم، بعد سنوات متعددة في خدمة السلام والإيمان بالاشتراكية الديمقراطية، وهو قرار يقضي بأنه ليس من المصلحة أن يسمح للنازيين بسبق غيرهم في الحصول على مثل هذه القنبلة، ويتحتم أن تكون الولايات المتحدة أولى الدول التي تطور هذا السلاح الفاتك.
وقد اتخذت صورة أينشتين مكان الشرف إلى جوار صور غاندي وألبرت شفيتزر في الهيئات الأوروبية التي كانت تدعو إلى السلام في عام 1920م وما بعده. وبعد عشرين عاما أصبح يسمى أبا القنبلة الذرية. ولكن المبدأ الذي يفسر هذا التناقض - الذي يبدو شديدا - يستند إلى قاعدة خلقية بعيدة الغور، وتلك هي «حبه العارم للعدالة الاجتماعية»، الذي ترتبت عليه كراهيته الشديدة للفاشية العسكرية التي تسترق الرجال، وتستطيع أن تقضي على عنصر بشري بأسره بوسائلها في الفتك الذريع بالناس. وما إن انتهت الحرب بهزيمة الفاشية حتى نادى أينشتين بضرورة كسب السلام أيضا؛ إذ إن كسب الحرب وحده لا يكفي؛ ومن ثم فقد استنكر أينشتين في المرحلة الأخيرة من حياته خطة الاعتماد على التهديد بالحرب الذرية التي ظن أنه لمسها في سياسة الولايات المتحدة أكثر مما لمسها في سياسة الاتحاد السوفيتي. وفي غضون حماسته للسلام والوئام العالمي، أثنى على نوايا السوفيت، ووجه اللوم إلى البلاد الحرة التي يستطيع عظماء الرجال فيها أن يعبروا عن آرائهم، وأن تجد هذه الآراء من الناس من يأبه لها.
أما آراؤه الدينية فقد كانت موضع الاهتمام والبحث من جانب أولئك الذين كانوا يعدونه عالما قديسا متفلسفا. ولد في ألمانيا من أبوين يهوديين كانا شديدي العقيدة في الدين - كما قال عنهما ابنهما - أما هو فقد نبذ الدين وهو في صباه؛ لأنه اقتنع من قراءاته في الكتب العلمية الشائعة بأن قصص العهد القديم ليست صادقة؛ فلما نضج تبلور تقديره للطبيعة، وإحساسه بالعجب والرهبة إزاء لغز الدنيا والوجود الذي لا يمكن تفسيره أو حله، تبلور هذا كله في صورة عقيدة أسماها بحب «الاسبينوزية». لم يعتقد في إله له ذات مستقلة، وإنما الإله عنده كائن في الطبيعة، وهو «الانسجام المنظم لكل ما هو موجود». كانت عقيدته «إحساسا دينيا كونيا شاملا». وهذه العقيدة التي آمن بها في حياته، سواء في صورتها الدينية أو في غير هذه الصورة الدينية، كان معناها «تطوير الفرد تطويرا حرا بحيث يحمل تبعات نفسه حتى يستطيع أن يكرس جهوده في حرية وابتهاج لخدمة المجتمع الإنساني». (1) إيمان عالم
ألبرت أينشتين (1-1) دور العالم اليوم
إن علماء الطبيعة يجدون أنفسهم اليوم في موقف لا يختلف عن موقف ألفرد نوبل؛ فقد اخترع نوبل أقوى مادة متفجرة عرفت حتى الوقت الذي عاش فيه، وهي وسيلة من وسائل التخريب من الطراز الأول. ولكي يكفر عن هذا الصنيع، ولكي يريح ضميره الإنساني، قدم جوائزه لخدمة قضية السلام وللأعمال التي تؤدي إلى السلام. واليوم يحس علماء الطبيعة - الذين أسهموا في صنع أشد الأسلحة التي عرفها التاريخ فتكا وخطرا - بشعور مماثل من المسئولية، بل ومن ارتكاب الذنب. ولا نستطيع أن نكف عن التحذير وتكرار التحذير، ولا نستطيع - بل ولا ينبغي لنا - أن نتراخى في بذل الجهد لكي نبصر أمم العالم - وحكوماته خاصة - بالكارثة الكبرى التي لا مناص لهم من إيقاعها ما لم يغيروا من موقف كل منهم إزاء الآخر وإزاء واجبهم نحو تشكيل المستقبل. ولقد عاونا في ابتداع هذا السلاح الجديد لكي نسبق أعداء البشرية في التوصل إليه. ولو كان لمن بيدهم هذا السلاح عقلية النازي لانتهى الأمر حتما باستعباد بقية العالم وتدميره تدميرا لا يتصوره العقل. ولقد أسلمنا هذا السلاح لأيدي المناضلين في سبيل السلام والحرية، ولكنا لا نلمس حتى اليوم أي ضمان للسلام، ولا نرى أي ضمان للحريات التي وعد بها الشعوب ميثاق الأطلنطي. لقد كسبنا الحرب ولكنا لم نكسب السلام. والدول الكبرى التي اتحدت في القتال، تنقسم اليوم بشأن تسويات الصلح. لقد وعد العالم التحرر من الخوف، ولكن الخوف - في الواقع - قد ازداد كثيرا منذ انتهاء الحرب. وقد وعد العالم التحرر من العوز، غير أن المجاعة تهدد اليوم أجزاء كبيرة من العالم، في حين أن أجزاء أخرى تمرح في رغد من العيش. وعد الحرية والعدالة، بيد أنا شاهدنا، ولا زلنا نشاهد، المنظر الأليم، منظر جيوش «التحرير» تطلق النيران على شعوب تطالب باستقلالها وبالمساواة الاجتماعية، وتؤيد في تلك الشعوب ذاتها بقوة السلاح الأحزاب والأشخاص الذين يصلحون لخدمة أغراض أصحاب المنفعة. كما أن مشكلات الحدود، والتنازع على السلطان - وإن تكن من الأمور البائدة - لا تزال تغطي على المطالب الأساسية، مطالب الرفاهية والعدالة ...
إن صورة عالمنا بعد الحرب صورة قاتمة. ولسنا - نحن علماء الطبيعة - في حدود اختصاصنا، من رجال السياسة، ولم نرغب قط فيما مضى في المشاركة في شئون السياسية. بيد أنا نعرف بعض الأمور التي لا يعرفها رجال السياسة، ونحس أن من واجبنا أن نصارح المسئولين وأن نذكرهم بأن الوقت لا يسمح بالارتياح والدعة، وأن الشوط الذي ينبغي لنا أن نقطعه لا يسمح لنا بالتقدم رويدا رويدا، أو بتأجيل التغيرات الضرورية إلى المستقبل البعيد. إن الوقت لا يسمح لنا بالمساومة في توافه الأمور. إن الموقف يستدعي بذل الجهود بشجاعة، والتعديل الأساسي في نظرتنا كلها، وفي التصور السياسي بأسره؛ فلعل الروح التي دفعت ألفرد نوبل إلى تقديم الجوائز لمن يخدمون قضية السلام، روح الثقة والإيمان، روح السماحة والأخوة بين الناس، لعل هذه الروح أن تغلب في عقول أولئك النفر الذين تتوقف على قراراتهم مصائرنا، وإلا فالمدنية الإنسانية مصيرها الفناء.
1 (1-2) الأزمة بين الفرد والجماعة
لقد أخذت أصوات لا حصر لها تؤكد منذ مدة أن المجتمع الإنساني يجتاز الآن أزمة، وأن استقراره قد انهار انهيارا شديدا. ومن خصائص أمثال هذه الفترات ألا يكترث الأفراد بالجماعة التي ينتمون إليها، صغرت هذه الجماعة أو كبرت، بل لعلهم يعادونها. ولكي أوضح ما أرمي إليه دعني أسجل هنا خبرة شخصية مررت بها؛ كنت أبحث حديثا مع رجل ذكي متزن وعيد حرب أخرى، قد تعرض - في ظني - بقاء الجنس البشري إلى خطر شديد، وذكرت له أن الوقاية من هذا الخطر لا تتحقق إلا بإنشاء منظمة تتجاوز حدود القوميات. وعندئذ قال لي صاحبي في هدوء وبرود شديد: «ولماذا تعترض كل هذا الاعتراض على فناء الجنس البشري؟»
وأنا على يقين أن أحدا من الناس - منذ قرن واحد فقط - ما كان يخطر له أن يذكر مثل هذه العبارة؛ فهي لا تصدر إلا عن رجل حاول عبثا أن يحصل في نفسه على التوازن المنشود، وفقد الأمل في الظفر به إلى حد كبير. إنها تعبير عن عزلة أليمة ووحشة يعاني منها كثير من الناس في هذه الأيام. فما السبب في ذلك؟ وهل هناك مخرج ؟
إن الإنسان كائن انفرادي واجتماعي في آن واحد؛ فهو - ككائن انفرادي - يحاول أن يحمي بقاءه وبقاء أولئك المتصلين به، وأن يشبع رغباته، وينمي قدراته الطبيعية؛ وهو - ككائن اجتماعي - يسعى إلى الظفر بتقدير زملائه في الإنسانية ومجتمعهم، وإلى المشاركة في ملذاتهم، وإلى مواساتهم في أحزانهم، وإلى تحسين ظروف حياتهم. وإنما يعلل صفة الإنسان الخاصة التي يتميز بها وجود هذه النوازع المتنوعة التي كثيرا ما تصطرع في نفسه. وتآلفها على صورة من الصور يحدد للفرد المدى الذي يستطيع أن يبلغه لتحقيق اتزان شخصيته، وللإسهام في رفاهية المجتمع.
ومن الواضح أن اعتماد الفرد على المجتمع حقيقة من حقائق الطبيعة لا يمكن إهمالها، كما هو الشأن في حالة النمل والنحل. غير أن حياة النمل والنحل كلها تحدد أدق وقائعها غرائز جامدة موروثة، في حين أن التكوين الاجتماعي وتشابك العلاقات بين الأفراد يتخذان صورا مختلفة ويتعرضان لتطورات متعددة؛ فالذاكرة، والقدرة على رسم صور مختلفة من العلاقات، وموهبة الاتصال عن طريق الكلام، كل ذلك جعل بالإمكان تطور العلاقات بين الناس، تطورا لا تمليه الضرورات البيولوجية. ويتبدى هذا التطور في التقاليد والنظم والهيئات المختلفة، يتبدى في الأدب، وفي الأعمال العلمية والهندسية، وفي الإنتاج الفني. ويفسر لنا هذا كيف يحدث أن المرء يستطيع - بمعنى من المعاني - أن يؤثر في حياته عن طريق مسلكه، وأن التفكير الواعي والحاجة تستطيع أن تلعب دورا في هذه العملية.
يكتسب الإنسان عند مولده بالوراثة تكوينا بيولوجيا، يجب علينا أن نعده ثابتا لا يتغير، ويشتمل هذا التكوين على الدوافع الطبيعية التي تميز الجنس البشري. وهو - فوق ذلك - يكتسب خلال سني حياته تكوينا ثقافيا يستمده من المجتمع عن طريق اتصاله به وعن طريق مؤثرات عديدة أخرى. وهذا التكوين الثقافي هو الذي يتغير بمرور الزمن، وهو الذي يحدد - إلى حد كبير - العلاقة بين الفرد والمجتمع.
ولو سألنا أنفسنا: كيف ينبغي أن يتغير تكوين الجماعة واتجاهها الثقافي لكي تصبح الحياة الإنسانية مرضية بقدر الإمكان؟ وجب علينا أن ندرك دائما أن هناك ظروفا معينة نعجز عن إدخال أي تعديل فيها؛ فطبيعة الإنسان البيولوجية - كما ذكرت من قبل - لا تحتمل التعديل في الأغراض العملية، ثم إن التطورات التي حدثت في التكنولوجيا وفي نسب المواليد والوفيات في القرون القليلة الأخيرة قد خلقت ظروفا جديدة نراها اليوم قائمة بيننا. ففي المجتمعات الكثيفة السكان نسبيا، والتي تملك سلعا لا غنى عنها لاستمرار بقائها، في مثل هذه المجتمعات لا مفر من تقسيم العمل تقسيما واسع المدى، ولا مناص من إيجاد جهاز للإنتاج يتصف بالمركزية الشديدة. ولقد انقضى إلى غير رجعة ذلك الزمن الذي كان يستطيع فيه الأفراد أو المجتمعات الصغيرة نسبيا أن يكتفوا بذواتهم اكتفاء تاما. ولقد نعود بأبصارنا إلى هذا الزمن فنراه شعريا خياليا. وليس من المبالغة أن نقول إن الإنسان قد بات اليوم يؤلف مجتمعا كوكبيا للإنتاج والاستهلاك.
والآن أراني قد بلغت نقطة أستطيع عندها أن أشير في إيجاز إلى ما ينحصر فيه لب الأزمة في وقتنا الحاضر، إنه يتعلق بالصلة بين الفرد والجماعة؛ فلقد بات الفرد أشد إدراكا من أي وقت سبق لاعتماده على الجماعة، بيد أنه لا ينظر إلى هذا الاعتماد باعتباره ميزة إيجابية، أو رباطا عضويا، أو قوة وقائية، بل إنه لينظر إليه باعتباره عاملا من العوامل التي تهدد حقوقه الطبيعية، بل وكيانه الاقتصادي. وموقفه من المجتمع - فوق ذلك - يدعو إلى شحذ دوافع تكوينه الفردي دائما، في حين أن دوافعه الاجتماعية - وهي أضعف بطبيعتها - تتدهور شيئا فشيئا، وكل الكائنات البشرية - مهما يكن مركزها في المجتمع - تشكو هذا التدهور المستمر. إنهم يحسون - وهم سجناء أنانيتهم على غير علم منهم - أنهم يعيشون في قلق وعزلة، محرومين من استمتاعهم بالحياة استمتاعا ساذجا بسيطا لا تعقيد فيه. ولا يستطيع المرء أن يجد للحياة معنى - برغم قصرها ومخاطرها - إلا إذا كرس نفسه للمجتمع.
2
إن قيمة الفرد للجماعة تتوقف أولا على مدى توجيه مشاعره وأفكاره وأعماله نحو النهوض بمصلحة إخوانه في البشرية، وهو في أعيننا فاضل أو شرير وفقا لنوع شعوره إزاء المجتمع. وكأن تقديرنا للفرد يعتمد كل الاعتماد على صفاته الاجتماعية.
بيد أن هذا الرأي لا ينطبق على الصواب؛ فمن الجلي أن كل شيء مما له قيمة في المجتمع - ماديا كان أو معنويا أو خلقيا - يمكن أن يرد عبر الأجيال المتعددة إلى بعض الأفراد المبدعين. فاستخدام النار، وزراعة النباتات التي تؤكل، والآلة البخارية، كل شيء من ذلك كان من اكتشاف رجل واحد.
الفرد وحده يستطيع أن يفكر، فيبتكر بتفكيره قيما جديدة للمجتمع، بل يضع معايير خلقية جديدة تصاغ عليها حياة الجماعة. إن تقدم المجتمع بغير الأفراد المبدعين المستقلين في تفكيرهم وأحكامهم أمر لا يمكن تصوره كتقدم الفرد دون تربة المجتمع التي تغذيه.
3
يا له من موقف عجيب، موقفنا نحن أبناء هذه الدنيا! إن كلا منا يسير على وجه الأرض رحلة قصيرة، لا يدرك لها هدفا، وإن كان يحسب في بعض الأحيان أنه يحس به. ولكنا إذا نظرنا إلى الحياة اليومية، دون أن نتعمقها، ألفينا أننا إنما نعيش من أجل إخواننا في البشرية - من أجل أولئك الذين تتوقف سعادتنا بأسرها على بسماتهم وراحتهم أولا، ومن أجل كل أولئك الذين لا نعرفهم معرفة شخصية ولكنا مرتبطون بمصائرهم برباط العاطفة ثانيا. إنني أذكر نفسي مائة مرة كل يوم أن حياتي في الظاهر والباطن تتوقف على مجهود غيري من الأحياء والأموات، وأنه يتحتم علي أن أبذل جهدا كي أعطي بمقدار ما أخذت ولا زلت آخذ.
4 (1-3) العلم والمجتمع
يؤثر العلم في شئون الناس عن طريقين؛ أولهما مألوف لكل منا؛ فالعلم يقدم بطريق مباشر، وإلى درجة أكبر بطريق غير مباشر، المعينات التي قلبت حياة الإنسان رأسا على عقب. أما الطريق الثاني فتربوي في طبيعته، فهو يفعل في العقل فعله. وهذا الطريق الثاني قد لا يكون في وضوح الأول عند النظرة العابرة، غير أنه لا يقل عنه عمقا وبعدا.
إن أوضح أثر عملي للعلم هو أن يمكننا من تدبير أشياء تجعل الحياة غنية بالرغم من أنها تعقدها في الوقت عينه - وهي مخترعات كالآلة البخارية، والقاطرة، والقوى الكهربية والضوء الكهربي، والتلغراف، والراديو، والسيارة، والطائرة، والديناميت ... إلخ. ويجب أن نضيف إلى هذه القائمة ما حققته البيولوجيا وعلم الطب في مجال الاحتفاظ في الحياة، وبخاصة ما أنتجناه من مخففات الآلام ووسائل تخزين الطعام وحفظه. وفي رأيي أن أعظم فائدة عملية تقدمها كل هذه المخترعات للإنسان، هي أنها تحرره من الجهد العضلي الشاق الذي كان لا غنى له عنه لكي يحتفظ بمجرد البقاء. وإذا استطعنا أن نزعم أننا قد ألغينا الرق، فإنما يرجع ذلك إلى نتائج العلم العملية.
ومن ناحية أخرى نجد أن التكنولوجيا - أو العلم التطبيقي - قد خلقت للإنسان مشكلات خطيرة عميقة. ويتوقف بقاء الإنسان نفسه على إيجاد حل ملائم لهذه المشكلات. ويتعلق الأمر بابتداع نوع من النظم والتقاليد الاجتماعية لا مناص لهذه الآلات الجديدة بدونها من أن تجلب للبشرية أشد الكوارث.
إن وسائل الإنتاج الآلية في حالة اقتصادية لا نظام فيها أدت إلى أن جانبا لا يستهان به من الناس لم يعد مطلوبا لإنتاج السلع، وهؤلاء من أجل ذلك يستبعدون من الدورة الاقتصادية. والنتائج المباشرة لذلك هي إضعاف قوة الشراء وهبوط قيمة العمل نظرا لحدة المنافسة. ويؤدي ذلك - في فترات تزداد تدريجيا في قصر مداها - إلى شلل خطير في إنتاج السلع. ومن ناحية أخرى نجد أن ملكية وسائل الإنتاج تحمل في ثناياها سلطة ليس في وسائل الحماية التقليدية في نظمنا السياسية ما يقابلها، ويجد الإنسان نفسه إزاء نضال لا مفر له منه لكي يكيف نفسه لهذه الظروف الجديدة - وهو نضال قد يؤدي إلى التحرير حقا، إذا برهن أبناء هذا الجيل على أنهم أكفاء لأداء هذا الواجب الذي وقع على كواهلهم.
وكذلك قربت التكنولوجيا المسافات، وأوجدت وسائل للتدمير جديدة فعالة لم يعهد مثلها الإنسان من قبل، وهي وسائل - إن وضعت في أيدي أمم تطالب بحرية العمل لا تخضع لقيد - تصبح تهديدا للأمن، بل ولبقاء الجنس البشري نفسه. ويتطلب هذا الموقف سلطة قضائية وتنفيذية موحدة لهذا الكوكب بأسره. وتقف التقاليد القومية عقبة كأداء في سبيل إنشاء هذه السلطة المركزية. ونجد أنفسنا هذا أيضا وسط معركة سوف تحدد نهايتها مصيرنا جميعا.
وأخيرا فإن وسائل المواصلات ، وتيسير الطباعة والنشر، والراديو، إذا اتحدت بالأسلحة الحديثة، جعلت بالإمكان أن يوضع الجسم والروح تحت السيطرة التامة للسلطة المركزية - وهنا مصدر ثالث من مصادر الخطر على البشرية. وتدل ضروب الاستبداد الحديثة وآثارها المدمرة دلالة واضحة على مدى بعدنا عن استغلال هذه الأدوات استغلالا منظما لمصلحة البشر. وهنا أيضا نجد أن الظروف تتطلب حلا دوليا، مع العلم بأن الأساس السيكولوجي لهذا الحل لم يوضع بعد.
ولننظر الآن في الآثار العقلية التي تنجم عن العلم. لم يكن بالإمكان في العصور السابقة أن يصل الإنسان - عن طريق الفكر وحده - إلى نتائج يمكن للبشر جميعا أن يقبلوها باعتبارها أكيدة ولازمة. وأقل من ذلك احتمالا أن يؤمن الناس بأن كل ما يقع في الطبيعة يخضع لقوانين ثابتة لا تتغير.
فإن النظر إلى القانون الطبيعي من زاوية واحدة - كما كان ينظر إليه الإنسان البدائي عند الملاحظة - أباح نمو العقيدة في الأشباح والأرواح؛ ومن ثم فإن الإنسان البدائي حتى اليوم يعيش في ذعر دائم من تدخل القوى غير الطبيعية التحكمية في مصيره.
إن مزايا العلم الأبدية أنه استطاع بتأثيره في العقل البشري أن يتغلب على شعور الإنسان بالخوف من نفسه ومن الطبيعة؛ فلقد استطاع الإغريق باختراعهم مبادئ علوم الرياضة أن ينشئوا طريقة للتفكير لا يمكن لأحد أن يغير من نتائجها، ثم اخترع علماء النهضة بعد ذلك المزج بين التجربة المطردة والطريقة الرياضية. وقد أمست الدقة في صياغة القوانين الطبيعية والتيقن بالاختبار من صحتها - بهذا المزج - ممكنة، حتى لقد نجم عن ذلك أنه لم يعد مجال لخلاف أساسي في الرأي فيما يتعلق بعلوم الطبيعة. ومنذ ذلك الحين أخذ كل جيل يبني على أساس ما ورث من علم ومعرفة، دون التعرض لأدنى خطر من أزمة قد تقوض البناء بأسره.
إن عامة الناس تستطيع أن تتابع دقائق البحث العلمي إلى درجة محدودة فقط، ولكنها تستطيع على الأقل أن تحقق ربحا واحدا هاما عظيما، وذلك هو الإيمان بأن الفكر الإنساني موثوق به، وبأن قانون الطبيعة قانون عالمي.
5 (1-4) العلم والدين
ليس من العسير أن نتفق على ما نفهمه من العلم. العلم محاولة قديمة من الإنسان لكي يضم الظواهر المحسوسة في هذه الدنيا - بالتفكير التركيبي - في ائتلاف شامل بقدر الإمكان. وبتعبير جريء أستطيع أن أقول إن العلم هو محاولة إعادة بناء الوجود بعد خلقه عن طريق التصور. أما إن سألت نفسي: وما الدين؟ ما استطعت أن أجد الجواب بهذه السهولة. وحتى إن وجدت جوابا يشفيني في هذه اللحظة، أظل واثقا بأنني لن أستطيع - تحت أي ظرف من الظروف - أن أوفق - ولو إلى درجة ضئيلة - بين كل أولئك الذين أولوا هذا الموضوع اهتماما جديا.
وإذن فأنا أوثر أولا أن أستبدل بسؤالي: ما هو الدين؟ أن أسأل عما تتميز به آمال الشخص الذي أتصور فيه التدين. إن الشخص المستنير من الناحية الدينية يبدو لي كأنه رجل حرر نفسه - على قدر استطاعته - من قيود رغباته الذاتية، وشغل نفسه بالأفكار والمشاعر والآمال، التي يتعلق بها لقيمتها التي تسمو على ذاته. ويبدو لي أن المهم هو قوة هذا المضمون الذي يسمو على الذات، وعمق الاعتقاد في مغزاه البعيد المتسلط على الأذهان، بغض النظر عن محاولة التوحيد بين هذا المغزى وبين كائن مقدس، وإلا ما استطعنا أن نحشر بوذا واسبينوزا بين الشخصيات المتدينة. وبناء على ذلك فإن الرجل المتدين هو كذلك لأنه لا يخالجه شك في دلالة هذه الأغراض وتلك الأهداف التي تسمو على الذات وفي ارتفاع شأنها. وهي أهداف لا تتطلب ولا تحتمل أساسا من العقل، إنها موجودة كأمر ضروري واقعي ضرورة من يعتقد فيها وواقعيته. والدين بهذا المعنى هو محاولة قديمة من الإنسان لكي يعي هذه القيم وهذه الأهداف وعيا كليا واضحا، ولكي يعزز وينشر آثارها على الدوام. فإذا ما تصورنا الدين والعلم طبقا لهذا التعريف أصبح الخلاف بينهما أمرا مستحيلا؛ لأن العلم إنما يحقق فيما هو كائن، لا فيما ينبغي أن يكون، وتبقى القيم بجميع أنواعها من الضرورات التي لا تدخل في نطاقه. أما الدين فلا يتعرض إلا إلى تقويم الفكر الإنساني والأعمال الإنسانية. إنه لا يجد مسوغا لكي يبحث في الحقائق وفيما بينها من علاقات.
وبالرغم من انفصال مجال الدين عن جمال العلم في ميدان البحث انفصالا واضحا، فإنه تقوم بينهما علاقات متبادلة قوية، ويرتكز أحدهما على الآخر في بعض نواحيه. فالدين قد يكون ذلك الذي يحدد الهدف، إلا أنه يأخذ عن العلم - بأوسع معانيه - الوسائل التي تعين على تحقيق الأهداف التي يرسمها لنفسه. ولكن العلم لا يخترعه إلا أولئك المتشبعون تماما بحب الحق والإدراك السليم. وهذا المصدر من مصادر الشعور ينبع من ميدان الدين. ويتصل بهذا الميدان أيضا الإيمان بأنه من الممكن أن تكون القواعد التي تنطبق على عالم الوجود معقولة؛ أي يمكن إدراكها بالعقل. ولا أستطيع أن أتصور عالما حقا بغير هذا الإيمان العميق. ويمكن التعبير عن هذا الرأي بهذه الصورة: العلم بغير دين أعرج، والدين بغير علم أعمى.
ذكرت من قبل أنه لا يمكن أن يقوم حقا صراع مشروع بين العلم والدين. غير أنه ينبغي لي أن ألقي ضوءا على هذا الذي ذكرته مرة أخرى في نقطة هامة، ومع الإشارة إلى المضمون الفعلي للديانات التاريخية. ويتناول الموضوع الذي أريد أن أوضحه فكرة «الإله». حدث في أثناء الفترة الأولى من التطور الروحي للبشر أن ابتدع الإنسان من خياله آلهة على صورة البشر. وكان المفروض في هؤلاء الآلهة أن يقرروا بفعل إرادتهم كل ما يجري بعالم الظواهر، أو على الأقل أن يطبعوه بما لهم من تأثير. وكان الإنسان يسعى أن يحور من ميول هؤلاء الآلهة حتى تتجه إلى ما فيه مصلحته بالسحر والصلاة. غير أن الفكرة عن الإله في الديانات التي نتعلمها اليوم تسمو بهذه الصورة القديمة عن الآلهة. وتتضح الصفات الإنسانية التي ننسبها إلى آلهة العصر الحاضر - على سبيل المثال - بالابتهال إلى «الكائن المقدس» في الصلوات، وبالتوجه إليه بالدعاء لكي يحقق أغراضنا.
ولا شك أن أحدا لا ينكر أن فكرة وجود إله قادر على كل شيء، عادل، عميم الخير، يمكن أن تعطي الإنسان الطمأنينة والمعونة والرشد. وهذه الفكرة أيضا - بفضل بساطتها - ميسورة لأشد العقول سذاجة. غير أن هذه الفكرة - من ناحية أخرى - فيها بعض مواطن الضعف الأكيدة، وقد أحس الإنسان بهذا الضعف إحساسا قويا منذ بداية التاريخ. فإذا كان هذا الكائن قادرا على كل شيء، فكل حدث - بما في ذلك كل عمل بشري، وكل فكرة إنسانية، وكل شعور إنساني، وكل أمل - هو من صنعه. فكيف يمكن أن نحمل الناس تبعة أعمالهم وأفكارهم إزاء مثل هذا «الكائن» القدير؟ فهو في عقابه ومثوبته إنما يحكم - إلى حد ما - على نفسه. فكيف يمكن أن يتفق ذلك مع ما نعزوه إليه من خير وعدل.
إن مصدر الصراع القائم اليوم بين مجال الدين ومجال العلم ينحصر في هذه الصورة الشخصية عن الإله. ومن هدف العلم أن يضع قواعد عامة تحدد العلاقة المتبادلة بين الأشياء والأحداث في الزمان والمكان. وصدق هذه القواعد أو هذه القوانين الطبيعية، عامة، مطلوب قطعا - ولا تكفي البرهنة عليه. إنه منهاج في أساسه، والاعتقاد في إمكان تحقيقه نظريا إنما يقوم على أساس تكرار نجاحه جزئيا. ومن العسير أن تجد شخصا ينكر هذا النجاح الجزئي ويعزو إلى خداع الإنسان لنفسه. وعلى أساس هذه القوانين نستطيع أن نتنبأ بسلوك الظواهر الطبيعية في وقت ما، وفي مجالات معينة بدقة بالغة ووثوق شديد. وهذه الحقيقة تستقر في أعماق الوعي لدى إنسان العصر الحاضر، حتى إن كان ما يدركه من مضمون هذه القوانين ضئيلا محدودا.
وكلما ازداد إيمان المرء بخضوع جميع الأحداث لقواعد منظمة اشتد إيمانه بأنه لا يوجد إلى جانب هذه القواعد المنظمة مجال لأسباب ودوافع من نوع آخر. وهو لا يرى وجودا لإرادة بشرية أو إرادة سماوية كسبب مستقل في أحداث الطبيعة. ولسنا ننكر أن العقيدة في تدخل الإله في مجرى الحوادث الطبيعية لا يمكن للعلم أن ينبذها - بمعنى أن يتجاهلها تماما - لأن هذه العقيدة يمكن دائما أن تجد ملاذا في تلك الميادين التي لم تستطع المعرفة العلمية بعد أن تغزوها.
غير أني أميل إلى الاعتقاد بأن مثل هذا السلوك من جانب رجال الدين عديم القيمة، بل قاتل مميت؛ لأن العقيدة التي تقوى على البقاء في الظلام، ولا تقوى عليه في وضح الضياء، لا بد أن تفقد تأثيرها في الناس، وتعود على التقدم البشري بالأذى البالغ. لا بد لعلماء الدين - خلال نضالهم في سبيل الخير الخلقي - أن يتخلوا عن مبدأ العقيدة في إله له صفة الأشخاص؛ أي لا بد لهم أن يتخلوا عن ذلك المصدر من مصادر الخوف والأمل، الذي وضع في الماضي قوة كبرى في أيدي رجال الدين. لا بد لهم في أثناء جهادهم من استغلال تلك القوى التي بوسعها أن تخلق الخير والحق والجمال في البشرية ذاتها. ولا شك أن هذا عمل أكبر مشقة، ولكنه أكبر قيمة بدرجة لا تقارن. وبعدما يقوم علماء الدين بواجب التهذيب الذي أشرت إليه، فلا ريب أنهم سوف يدركون ببالغ السرور أن الدين الحق قد اكتسب من المعرفة العلمية نبلا وازداد فيها عمقا.
وإذا كان من أهداف الدين أن يحرر البشرية بقدر الإمكان من الخضوع للمخاوف والرغبات والشهوات الذاتية، فإن التعليل العلمي يستطيع أن يعاون العقيدة الدينية بمعنى آخر؛ فلو أنه من الحق أن هدف العلم أن يكتشف القواعد التي تسمح بربط الحقائق وبالتنبؤ بها، إلا أن ذلك ليس هدفه الوحيد؛ فهو يعمل أيضا على اختصار الصلات المكتشفة إلى أصغر عدد ممكن من التصورات العقلية المستقلة بعضها عن بعض. وهو بهذا السعي نحو الوحدة العقلية للمتعدد يحقق أكبر فرص نجاحه، بالرغم من أن هذه المحاولة عينها هي التي تعرضه للخطر الجسيم، خطر وقوعه فريسة للأوهام. غير أن كل من لمس بقوة التقدم المطرد في هذا الميدان، يشعر بالتقدير العميق للتعقل الذي أمكن إظهاره في الوجود. وعن طريق الفهم الصحيح يظفر بتحرر بعيد المدى من قيود الآمال والرغبات الشخصية؛ وبذلك يحقق ذلك التواضع الفكري إزاء عظمة العقل المتجسد في الوجود، والذي يشق على الإنسان بلوغه، في أعمق أعماقه السحيقة. ويبدو لي أن هذه النظرة دينية في أسمى معاني الدين؛ ومن ثم يخيل إلي أن العلم لا يطهر الدافع الديني من أدران ما يعلق به من صفات إنسانية فحسب، ولكنه يعمل كذلك على تلوين إدراكنا للحياة بلون روحاني ديني.
6
إن الفرد يشعر بخواء الرغبات في الأغراض الإنسانية، وبالسمو والنظام العجيب الذي يتبدى في الطبيعة وفي عالم الفكر. إنه ينظر إلى الوجود الفردي كأنه ضرب من ضروب السجن، ويود لو اتصل بالعالم باعتباره كلا واحدا له دلالته. وقد ظهرت بالفعل مبادئ الشعور الديني الشامل للكون في مراحل تطورها الأولى - في كثير من مزامير داود مثلا، ولدى بعض الأنبياء. وتشتمل البوذية على عنصر قوي من هذا الشعور، كما عرفنا من مقالات شوبنهور العجيبة بنوع خاص.
وهذا اللون من الشعور الديني، الذي لا يعرف عقيدة بعينها، ولا يعرف إلها يتصوره الإنسان على صورته، هو الذي يميز العبقريات الدينية في كل العصور - بحيث لا يقوم نظام ديني (كنيسة) ترتكز تعاليمه الأساسية على تلك العقيدة أو ذلك الإله الذي تصوره الإنسان.
إن أولئك الذين يدركون الجهد الضخم، والإيمان القوي خاصة، الذي يتطلبه العمل التمهيدي في العلم النظري، أولئك وحدهم يستطيعون أن يحسوا قوة الشعور الذي منه وحده يمكن أن ينبعث مثل هذا العمل - برغم بعده عن حقائق الحياة المباشرة. أي إيمان عميق في معقولية الكون (حتى إن كان ما يبدو من العقل في هذه الدنيا تافها ضئيلا) وأي شغف بالفهم كان عند كبلر ونيوتن حتى استطاعا أن ينفقا السنوات العديدة في عزلة العمل لكي يستخلصا قواعد الحركة السماوية! إن أولئك الذين يستمدون معرفتهم بالبحث العلمي أساسا من نتائجه العملية سرعان ما يكونون فكرة خاطئة تماما عن عقلية أولئك الذين يتحوطهم عالم متشكك، ولكنهم ينيرون الطريق لأمثالهم في الفكر، المنتشرين في الأرض وخلال القرون. ولا يستطيع أن يدرك تمام الإدراك مصدر الإلهام لهؤلاء الرجال، ومصدر القوة التي تجعلهم يثبتون على تحقيق أغراضهم برغم ضروب الفشل العديدة التي تصادفهم، لا يستطيع أن يدرك ذلك الأمر إلا من كرس حياته لمثل هذه الأهداف. إنه الشعور الديني الكوني الشامل وحده الذي يمد المرء بمثل هذه القوة. قال أحد المعاصرين - وقد صدق فيما قال - إن العاملين في العلم الجادين في عصرنا هذا المادي هم وحدهم الذين يتصفون بالتدين العميق.
7
المصادر
هذه المختارات من ألبرت أينشتين مأخوذة من مجموعة رسائله، ومقالاته، وبحوثه، وإذاعاته، التي ظهرت في كتابه «من سنواتي الأخيرة» وكتابه «العالم كما أراه».
1 «كسبنا الحرب وخسرنا السلام».
2 «ما الداعي إلى الاشتراكية؟»
3 «المجتمع والشخصية».
4 «العالم كما أراه».
5 «العلم والمجتمع».
6 «العلم والدين».
7 «الدين والعلم».
الفصل الثالث
أجنازيو سيلون
(1900م-...)
نستطيع القول عن أجنازيو سيلون بأن حياته كلها كانت رحلة دينية في سبيل الحرية، ومع ذلك فإن هذا الفنان الذي كان يسعى إلى الحقيقة قبل كل شيء، الذي استخدم قواه الذهنية العظيمة لتحقيق العدالة الاجتماعية، يوحي إلى القارئ بشدة تعلقه وحبه لموطنه في إقليم أبرزي بإيطاليا ولساكنيه من الفلاحين المتواضعين. ويقول أحد ناقديه إنه بالنسبة إلى أبرزي كان يحمل ما حمل من قبل روبرت فروست من مشاعر. غير أن هذا النقد لا يشير إلا في القليل إلى النظرة العالمية الخلقية الشاملة التي كانت تتميز بها طريقة سيلون في السخرية، كما أنه لا يشير كذلك بقدر كاف إلى تلك النزاهة الخالصة التي جعلت من هذا الرجل منظما (بمعنى هذه الكلمة في الحركة الاجتماعية) كما جعلت منه أيضا في كثير من المواقف ثائرا فذا جسورا.
ولد سيلون في أول مايو من عام 1900م في بسينا دي مارسي، وهي قرية صغيرة في أبرزي بالابنين. وكانت أسرته من صغار أصحاب الأراضي في الإقليم، فحرصوا على أن يتلقى تعليمه في المدارس الكاثوليكية. فلما بلغ الفتى السابعة عشرة من عمره أصبح سكرتيرا للمزارعين الذين كانوا يعملون في إقليم أبرزي، ويمثل الفلاحين الذين عرفهم حق المعرفة، والذين كان يؤثر أن يقضي جانبا كبيرا من وقته معهم أيام طفولته. وقد هلكت أمه وأبوه في زلزال سنة 1915م. وبعد ذلك ببضع سنوات هجر سيلون وأخ له، نجا من الكارثة، من إقليمهما لكي يعملا في سبيل قضية الشباب والعمال في روما.
وأصبح سيلون أحد مؤسسي الحزب الإيطالي الشيوعي، ورئيسا لتحرير مجلة أفانجارديا الأسبوعية التي تصدر في روما. وفي عام 1921م قام بزيارة إلى روسيا. وعند عودته إلى إيطاليا أقام في تريست، وأخذ يحرر صحيفة العمال اليومية «آل لافوراتور». وكما ذكر في المقتطفات التي سوف نوردها فيما بعد، بقي في إيطاليا بعد إصدار القوانين الخاصة التي صدرت ضد المعارضين للفاشية، وبعد تنفيذها. وهكذا اجتاز سيلون الامتحان الخطير الذي تعرض له في عمله السري، وهو يطبع الصحف غير المشروعة، علما بأن أمرا بالقبض عليه قد صدر، واستولى الفاشست على آل لافوراتور، وقبض على أخيه الذي نجا من الزلزال الذي قضى على أكثر أفراد الأسرة، وأودع السجن، وضرب حتى مات، فعاد أدراجه إلى أبرزي، باحثا عن مأوى، حتى عثر عليه لدى أصدقائه الفلاحين، لفترة ما.
وفي عام 1930م اختلف سيلون مع الحزب الشيوعي، وفي العام التالي استطاع الهروب عبر الحدود إلى ألمانيا. ومن هناك رحل إلى جهات أخرى في أوروبا، متعرضا للحبس والنفي في مناسبات عديدة، في مختلف الأقطار. وفي عام 1931م أقام بسويسرا، ولبث بها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشست. وفي هذه الفترة كتب سيلون رواياته؛ فنتامارا، والخبز والنبيذ، وغيرهما. كما دون تاريخا عن الفاشية في إيطاليا، وأخرج مجلدات من المقالات السياسية، والمحاورات، ونقدا سياسيا هاما للمجلات الاشتراكية في جميع أنحاء العالم. وفي عام 1944م عاد سيلون إلى إيطاليا ليواصل عمله زعيما فكريا للحزب الاشتراكي الإيطالي، ومديرا لصحيفة أفانتي!
وإن مجرد سرد هذه الوقائع في حياة سيلون لا يصور البتة القوى المعنوية الكبرى عند هذا الكاتب الذي نجح في الظفر بالشهرة خلال سنوات منفاه عن طريق كتبه المثيرة التي تدعو إلى العجب. وفي هذه الكتب رسم في صور بشرية حية محنة استخفاف الدول الدكتاتورية بالروح الإنساني. وقد أثارت هذه الصور أذهان المثقفين في غرب أوروبا وأمريكا، كما هزت قلوبهم. وعندما عاد بذاكرته إلى خبرته الشخصية في العقيدة الاشتراكية، التي ظن أول الأمر أن الحزب الشيوعي سيقوم ببثها، والتي عرف بعد سنوات أليمة تكشفت له فيها الحقيقة أنها سبب الفساد والاضطهاد، عندما عاد بذاكرته إلى ذلك كله قال: «إن الاشتراكية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، سلكت مسلك الصائد الذي خرج ليصيد طائر السمان فوقع بين أنياب الذئاب.» ولم يستطع أن ينجو من هذه الذئاب إلا «الأصحاء من الرجال، الذين يتصفون بالصدق والكمال». وذلك عن طريق التساؤل، والعصيان، والبحث الشخصي، والآلام النفسية. فهل سيكون هؤلاء هم الرجال الذين سيحررون روح الإنسان التي تضطر الآن إلى «أن تنقذ نفسها بالاختفاء»؟ هذا لغز عويص ليس من العسير حله. غير أن سيلون يرى أن «إعادة الكشف عن التراث المسيحي في ثورة هذا العصر هي أهم كسب حققناه في السنوات الأخيرة لضمير هذا الجيل».
والقطعة المختارة التي نوردها فيما يلي مقتطفة من فصل في كتاب غير عادي نشر في عام 1941م تحت عنوان «المعبود الذي أخفق»، وهو يحتوي على مقالات دبجها أصحابها عن سيرة حياتهم، وهم جميعا من «أعضاء الحزب». وهؤلاء هم آرثر كسلر، وأجنازيو سيلون، ورتشارد رايت، الذين يعرضون في أمانة فذة ولاءهم للشيوعية في الماضي، ثم إدراكهم فيما بعد أن الشيوعية أكبر خدعة للأمل في حرية الإنسان. وهنا يفلح سيلون في إثارة الشعور - في مقال موجز - الذي يصوره بطريقة فنية دقيقة في رواياته الخيالية، وهو الشعور بأن الفرد في أعلى مستوياته يسمو على كل النظم الاقتصادية والاجتماعية المصطنعة التي تتعسف به وتحاول أن تحرمه استقلاله الروحي. وقد بينا أن سيلون - حتى حينما يتزعم العمال المظلومين - إنما يفعل ذلك بروح الاستقلال الفردي بالرأي التي جعلته لا يؤمن بأمثال هذا الشعار - «الوعي الطبقي» - لأن الأشخاص الذين صورهم سيلون كانوا من الفلاحين، ولم يكونوا من العمال الأجراء. وغاية ما آمن به سيلون في الاشتراكية، هو أقرب ما يكون إلى إثارة العطف نحو الجائعين، والمعوزين، والعاجزين، وأولئك العظماء - مهما يكونوا من المغمورين - الذين هم على استعداد للاستشهاد في سبيل الاعتقاد في الإنسانية والإيمان بها. أما ما تبقى من رحلة سيلون الدينية التي قام بها ليحقق العدالة الاجتماعية والحرية، فينحصر في إيمان ثابت لا يتزعزع بإمكان تخطيط نظام اقتصادي على الأسس الاشتراكية يقوم على قاعدة احترام الفرد بصورة ديمقراطية صحيحة. وفي إحدى قصص سيلون التي نشرها تحت عنوان «السيد أرسطو» يمسك سمبلسيو - وهو على شفا الموت - بيد راع عجوز آواه، ويقول: «اعلم أن الإنسان يستطيع أن يفعل الخير!» وهي عبارة على بساطتها معقدة، تنم عن الماضي وتنبئ بالمستقبل. (1) المعبود الذي أخفق
أجنازيو سيلون (1-1) لماذا صرت شيوعيا؟
في ذلك المساء من شهر نوفمبر بميلان، حينما أردت أن أشرح لأصدقائي لماذا تمسكت - وأنا في السابعة عشرة من عمري وما زلت في سنوات الدراسة - باشتراكية زمروالد، اضطررت إلى أن أعود بذاكرتي، خطوة خطوة، إلى السنوات الأولى من حياة المراهقة، بل لقد وجدتني مرغما على أن أذكر حكايات عن صباي؛ لكي أكتشف أول المصادر التي أمدتني بنظرة إلى المجتمع - اتخذت فيما بعد صيغة سياسية - وكان لا بد أن يظهر فيما بعد أنها نظرة ثائرة. إن المرء في السابعة عشرة من سنه، وفي وقت الحرب، لا يلتحق بحركة ثورية تضطهدها الحكومة، إلا إذا كانت الدوافع إلى ذلك جدية خطيرة.
نشأت في إقليم جبلي في جنوبي إيطاليا. والظاهرة التي تركت في نفسي أقوى الآثار، حينما بلغت سن الرشد، هي ذلك التباين الشديد، التباين الشنيع السخيف الذي لا مبرر له، بين الحياة العائلية والحياة الفردية من ناحية، وهي حياة كريمة نزيهة تقوم على أسس سليمة في جملتها، وبين العلاقات الاجتماعية، التي كانت في كثير من الأحيان جافة ومليئة بالحقد والخداع من ناحية أخرى.
كنت طفلا في الخامسة من عمري حينما كنت - ذات يوم أحد - أعبر الميدان الصغير في قريتي، في صحبة أمي، وهي تقودني من يدي، فشهدت منظرا ينم عن كثير من القسوة والغباء، وهو منظر أحد أعيان البلدة وقد أطلق كلبه الضخم على امرأة فقيرة، وهي خائطة ملابس، كانت خارجة من إحدى الكنائس. فانكفأت المرأة المسكينة فوق الأرض، وقد أصيبت بجراح بالغة، وتمزق رداؤها إربا إربا. وعم الاستنكار في القرية، ولكنه استنكار في صمت. ولم أدر قط كيف عن لهذه المرأة المسكينة أن تقاضي هذا العمدة! ويا لها من فكرة غير موفقة فكرت فيها! فقد كانت النتيجة الوحيدة لهذا الإجراء هي سخرية القضاء، بالإضافة إلى ما أصابها من قبل من أذى. وأقول مرة أخرى إنه بالرغم من أن كل من رآها أشفق عليها، وبالرغم من أن كثيرا من الناس قد عاونها سرا، فإن المرأة التعسة لم تستطع أن تجد شاهدا واحدا على أهبة لأن يدلي بشهادته أمام القاضي، ولم تجد محاميا يتولى الدفاع؛ في حين أن محامي «الجناح الأيسر» الذي تولى قضية العمدة قد حضر في الميعاد، كما حضر عدد من الشهود المرتشين الذين حنثوا في أيمانهم حينما زوروا رواية ما حدث، واتهموا المرأة بإثارة الكلب، فبرأ القاضي العمدة، وحكم على المرأة المسكينة بدفع النفقات - وكان رجلا فاضلا نزيها في حياته الخاصة.
وبعد بضعة أيام سمعت القاضي في بيتنا يسوغ حكمه قائلا: «لقد سارت الأمور بما لا يرضى ضميري، وأؤكد لكم بشرفي أنني كنت في غاية الأسف. ولكن حتى لو شهدت بنفسي هذا الحادث الأليم باعتباري مواطنا عاديا، ولم يكن بوسعي إلا أن أوسع الرجل لوما، فإني - برغم ذلك - كقاض لا بد لي من الأخذ بالشهود، ولقد كانت الشهادة لسوء الحظ في مصلحة الكلب.»
وكنت في السابعة من عمري حينما حدثت أول حملة انتخابية أستطيع أن أذكرها من ناحيتي. ولم يكن لدينا في ذلك الحين أحزاب سياسية؛ ولذا فقد استقبل الناس إعلان هذه الحملة بقليل جدا من الاهتمام. غير أن الشعور العام قد التهب حينما أذيع أن أحد المرشحين هو «الأمير»، ولم تكن ثمة حاجة إلى أن يذكر اسمه أو اسم أبيه لكي يعلم الناس أي أمير كان معنيا؛ فقد كان يملك الضيعة الكبرى التي استحوذ عليها باحتلاله عنوة لمساحات الأراضي الشاسعة التي استصلحت في القرن الماضي بتجفيف بحيرة فوسينو. ولا يزال ما يقرب من ثمانية آلاف أسرة (أي أغلبية سكان الجهة) يشتغلون اليوم بفلاحة هذه الضيعة التي تبلغ مساحتها أربعة عشر ألف هكتار. وكان الأمير يفكر في استعطاف هذه الأسرات التي تتبعه لكي يعطوه أصواتهم حتى يكون نائبا عنهم في البرلمان. وأخذ وكلاء الضيعة، الذين كانوا في خدمة الأمير، يتفوهون بعبارات تنم عن الحرية المنزهة عن كل موطن من مواطن الزلل، فيقولون: «من الطبيعي أن أحدا منكم لن يرغم على إعطاء صوته للأمير. هذا أمر مفهوم. ومن الطبيعي أيضا أن أحدا منكم لا يستطيع أن يرغم الأمير على أن يسمح لأولئك الذين لا يعطونه أصواتهم على أن يعملوا في أرضه. إننا في عصر الحرية الحقيقية لكل إنسان. أنتم أحرار، وكذلك الأمير حر.» وقد أحدث إعلان هذه المبادئ (الحرة) ذعرا عاما مفهوما بين الفلاحين؛ لأنك تستطيع أن تدرك في يسر أن الأمير كان أشد من يمقت الناس في هذا الجزء من البلاد. وما دام في برجه العالي باعتباره مالكا كبيرا إقطاعيا لا يراه أحد (فإلى ذلك الحين لم يره - حتى من بعد - أحد من المستأجرين الذين يبلغ عددهم ثمانية آلاف)، فإن كره الجمهور له كان جائزا، وهو يشبه تلك اللعنات التي يصبها على الآلهة المعادية. وهذه اللعنات ترضي النفوس بالرغم من أنها لا تعود عليها بنفع. ولكن السماء اليوم تنفطر، والأمير يهبط حتى يصبح على مرأى من سكان هذه الدنيا الفانية، وعليهم منذ الآن - بناء على ذلك - أن يعبروا عن سخطهم في حدود دائرة حياتهم الخاصة الضيقة، وأن يستعدوا للترحيب به في طرقات القرية بما يستحق من تكريم.
والظاهر أن أبي لم يرض بقبول مثل هذا المنطق. وكان أصغر إخوته العديدين، وكلهم من صغار الملاك. كان أصغرهم، وأشدهم قلقا، والوحيد من بينهم الذي يميل إلى شيء من التمرد. وذات مساء جاء إخوته الذين يكبرونه ونصحوه بالحرص والتروي لصالح الأسرة جميعا. وكان هذا المساء بالنسبة إلي (ولم يلق أحد منهم إلي بالا؛ لأن الكبار يحسبون أن الصغار لا يدركون أمثال هذه الأمور) شديد التبصرة. قال أكبر الإخوة: «إنني لا أماري في أن ترشيح الأمير مهزلة حقيقية؛ فالترشيح السياسي يجب أن يقتصر على المحامين وغيرهم من أرباب الكلام. أما وقد رشح الأمير نفسه، فكل ما نستطيعه هو أن نؤيده.» وأجاب أبي قائلا: «إذا كان ترشيح الأمير مهزلة، فلست أفهم لماذا نؤيده!» - لأن معيشتنا تتوقف عليه، كما تعلم جيدا. - لا يكون ذلك في السياسة؛ فنحن فيها أحرار. - إننا لا نزرع السياسة، إنما نزرع الأرض. - إن حياتنا تتوقف على الأمير باعتبارنا فلاحين للأرض، وليس هناك ذكر للسياسة في عقودنا الزراعية، ليس بها ذكر إلا للبطاطس والبنجر. أما كناخبين فنحن أحرار. - ووكيل الأمير حر أيضا في عدم تجديد عقودنا. ومن أجل هذا فنحن مضطرون إلى أن نقف بجانبه. - لا أستطيع أن أعطي صوتي لرجل لمجرد أني مرغم على ذلك. إنني حينئذ أشعر بالمذلة. - لن يعرف أحد لمن تعطي صوتك؛ فأنت تستطيع أن تصوت كما تشاء بكامل حريتك، وسرية الدوائر الانتخابية كفيلة بذلك، ولكن خلال المعركة الانتخابية يجب علينا أن نقف إلى جانب الأمير مجتمعين. - كان يسرني هذا لولا أن ذلك يخجلني، ولكن صدقوني؛ إنني أخجل من ذلك كثيرا.
ولكي ينتهي الجدل إلى وفاق، توصل أبي وأعمامي إلى هذا الرأي الوسط. لا يظهر أبي مؤيدا للأمير أو معارضا له.
وقامت بالإعداد لرحلة الأمير الانتخابية السلطات المدنية ورجال الشرطة والفرسان المسلحون ووكلاء المزرعة، وتكرم الأمير ذات يوم أحد بالمرور خلال القرى الأساسية في دائرته الانتخابية، دون أن يتوقف أو يلقي خطابا. وظل أبناء الجهة يذكرون هذه الرحلة أمدا طويلا، لا لشيء إلا لأنه قام بها في سيارة. وكانت هذه أول مرة نشهد فيها السيارة، بل إن كلمة «سيارة» نفسها لم تجد لها مكانا بعد في لغة حديثنا اليومية، وكان الفلاحون يسمونها «العربة التي لا تجرها الخيل». وفي يوم الأحد هذا خرج جميع سكان القرية للقاء الأمير في عرض الطريق التي كان ينتظر أن يسلكها، وبدت علامات متعددة تدل على الإعجاب والمحبة الجماعية للأمير. وكانت الجماهير ترتدي أجمل ثيابها، وكانوا في حالة من النشوة العظمى التي لا يعرف الجميع أسبابها. ووصلت العربة التي لا تجرها الخيول في وقت متأخر، وعلا ضجيجها خلال الجماهير المحتشدة وعبر القرية، دون أن تقف أو حتى أن تبطئ في سيرها، مخلفة وراءها سحابة من الغبار الكثيف الأبيض.
وبعد يومين وصل من روما رجل عجوز ضئيل الجسم، وكان يرتدي نظارة ويحمل عصا سوداء وحقيبة صغيرة، ولم يعرفه أحد، وقال إنه طبيب عيون، وقد رشح نفسه ضد الأمير، وتجمع حوله نفر من الناس مستطلعين، وأكثرهم من الأطفال والنساء، الذين ليس لهم حق التصويت. وكنت بين الأطفال أرتدي سروالا قصيرا، وأحمل تحت إبطي كتبي المدرسية. ورجونا هذا الرجل العجوز أن يخطب فينا، فقال: «ذكروا آباءكم أن التصويت سري. وليس عندي شيء غير هذا.» ثم قال: «إنني رجل فقير، أعيش من عملي كطبيب عيون، ولكن إذا شكا أحدكم من عينيه فأنا على استعداد لأن أعالجه بغير مقابل.» فأتينا له بامرأة عجوز تبيع الخضر، وكانت تشكو من عينيها، فقام بتنظيفهما، وأعطاها قارورة صغيرة بها بضع قطرات، وشرح لها طريقة استعمالها، ثم قال لنا (وكنا جماعة من الأطفال ليس غير): ذكروا آباءكم بأن التصويت سري. ثم انصرف. ولشد ما كانت دهشتنا جميعا حينما نمى إلينا أن أغلبية كبرى من الناخبين - لسرية الدوائر الانتخابية - قد صوتت ضد الأمير، وأعطت أصواتها لهذا الطبيب المجهول. وكانت فضيحة كبرى.
وفي عام 1915م حدث زلزال لم نعهد شدته من قبل، ودمر جانبا كبيرا من إقليمنا، وقتل في ثلاثين ثانية ما يقرب من خمسين ألف نسمة. ولشد ما كانت دهشتي حينما وجدت كثيرا من أبناء قريتي قد استقبلوا هذه الكارثة المروعة كأنها أمر طبيعي. ولم يلق منهم تفسير الجيولوجيين المعقد الذي روته الصحف سوى الازدراء. وفي بلد مثل بلدنا، حيث تقع المظالم المتعددة دون عقوبة الظالم ينظر الناس إلى تكرار حدوث الزلازل على أنها ظاهرة ليست بحاجة إلى تفسير سوى مجرد حدوثها، بل إن من العجب ألا يتكرر حدوث الزلازل أكثر من ذلك. والزلزال يقضي على الغني والفقير، وعلى المتعلم والجاهل، وعلى الحاكم والمحكوم على السواء، ويلقي بهم جميعا تحت أنقاض المنازل. وفي هذا نجد التفسير الحقيقي لقوى الاحتمال عند الإيطاليين عندما تحل بهم كوارث الطبيعة؛ فالزلزال ينفذ ما ينص عليه القانون ولا يقوم بتنفيذه، وهو المساواة بين الناس جميعا.
أما ما بدا لأهالي ناحيتنا الفقراء أنه مصيبة أشد خطرا من أي كارثة طبيعية فهو ما حدث بعد الزلزال؛ ذلك أن برنامج إعادة بناء الدولة قد بدأ تنفيذه مصحوبا بدسائس لا حصر لها، وبالخداع والسرقة والغش والتزوير، وبكل ضروب الخيانة. وقد أمدني ببعض المعلومات من هذا القبيل عن أعمال إجرامية معينة اقترفها كبار مهندسي إحدى المصالح الحكومية صديق لي طردته هذه المصلحة من خدمتها. ولم تدهشني هذه المعلومات بقدر ما أثرت في نفسي، فسارعت إلى نقل هذه الوقائع إلى بعض أصحاب النفوذ ممن عرفت فيهم الاستقامة والنزاهة لكي يفصلوا هؤلاء المجرمين. ولم ينكر أصدقائي الشرفاء صحة ما ذكرت لهم، بل أيدوه بما لديهم من خبرة. ولكنهم - برغم هذا - نصحوني بأن أبتعد عن هذا الموضوع، وألا أشتبك بسذاجتي في أمور من هذا القبيل. وقالوا لي مخلصين: «أنت شاب، ولا بد لك من إتمام دراستك، وأمامك مستقبلك تفكر فيه، ولا ينبغي لك أن تعرض نفسك لأخطار أمور ليست مما يخصك.» قلت: «لا شك أنه من الأفضل أن يصدر التشهير بهؤلاء الخونة من كبار مثلكم، لديهم سلطة ونفوذ، وألا يصدر من شاب في السابعة عشرة من عمره.»
وأصابهم الذعر من قولي، وأجابوني بقولهم: «لسنا مجانين، سنعنى بالأمور التي تخصنا، وليس لنا شأن بأمور غيرنا من الناس.»
ثم تحدثت في الموضوع بعد ذلك مع بعض القساوسة أصحاب القداسة، ثم مع بعض الشجعان من أقاربي. وقد توسلوا إلي جميعا أن أبتعد عن مكمن الخطر هذا، وأن أنصرف إلى دراستي، وأفكر في مستقبلي وفي عملي، وذلك بالرغم من إقرارهم بأنهم كانوا على علم بالأمور الشائنة التي كانت تجري في ذلك الحين. وأجبتهم بقولي: «سأفعل ذلك مسرورا، ولكن أليس من بينكم أحد على استعداد لأن يعلن عن هؤلاء اللصوص؟» وردوا علي وهم يشعرون بالفضيحة: «لسنا مجانين؛ فإن هذه الأمور ليست مما يخصنا.»
وعندئذ بدأت أفكر جديا أنه قد يكون من الخير أن أقوم - مع غيري من الشبان - ب «ثورة» جديدة تنتهي بالقضاء على مكاتب المهندسين الفاسدين قضاء مبرما. غير أن صاحبي الذي دلني من قبل على انحرافهم في المعاملة صرفني عن هذا العزم. وكان أكبر مني سنا وأكثر خبرة. واقترح علي أن أعلن الاتهام في إحدى الصحف. ولكن أي صحيفة؟ فقال لي: «هناك صحيفة واحدة يمكن أن تهتم بنشر اتهامك، وهي صحيفة «الشيوعية».» ومن ثم شرعت في العمل، وكتبت ثلاث مقالات، وهي أول ما كتبت في حياتي، وعرضت في تفصيل السلوك الفاسد لمهندسي الحكومة من ناحيتنا، وبعثت بها إلى صحيفة «أفانتي». وقد نشر المقالان الأولان فورا، وأثارا تعليقا كثيرا من قراء الصحيفة، ولكنهما لم يثيرا قط أحدا من المسئولين. أما المقال الثالث فلم يظهر؛ لأن أحد الزعماء الشيوعيين - كما علمت فيما بعد - تدخل مع هيئة التحرير. وقد أظهر لي ذلك أن وسائل الغش والخداع التي كنا نعانيها كانت أوسع انتشارا مما بدا لي أول الأمر، وأن فروعها تمتد حتى إلى الشيوعية دون أن يراها أحد. ومهما يكن من شيء، فإن الاتهام الجزئي الذي ظهر في الصحيفة دون أن يتوقعه أحد كان يحتوي على مادة تكفي لإقامة عدد من القضايا، أو على الأقل لتأليف لجنة للتحقيق، غير أن شيئا لم يحدث. ⋆ (1-2) إغراء الشيوعية
أعلم تمام العلم أن الرأي الذي كنت أحاول أن أعرضه في هذه الصفحات قد بلغ من الإيجاز حدا يجعله رأيا متكلفا. وإن كنت أذكر هذا الاعتراض الآن فليس ذلك لأني أود أن أنبذ الرأي أو أن أقسم بالصحة المطلقة لما ذكرت. وأنا أؤكد للقارئ صدق ما رويت وإن كنت لا أضمن مطابقته للواقع. وأنا نفسي كثيرا ما أدهش حينما أجد - عندما أعود بذاكرتي إلى تلك الفترة من حياتي التي قضيتها مع زملائي، وهي فترة بعيدة تكاد تكون قبل التاريخ - كيف لا يستطيع هؤلاء الزملاء أن يذكروا البتة، أو كيف يذكرون في غموض - إن هم تذكروا - إطلاق تلك الحوادث التي كان لها أثر حاسم في نفسي؛ في حين أنهم - على نقيض ذلك - يستطيعون أن يذكروا في وضوح شديد حوادث أخرى كانت بالنسبة إلي تافهة عديمة الدلالة. فهل كان هؤلاء الزملاء جميعا «شركاء في الإثم على غير وعي منهم؟ وبأي قضاء محتوم، وبأي داع يختار الإنسان - في سن معينة - لنفسه إما أن يكون شريكا في الإثم، وإما أن يكون متمردا، على ما في هذا الاختيار من أهمية؟» من أي مصدر يستمد بعض الناس عدم احتمالهم للظلم من تلقاء أنفسهم، بالرغم من أن الظلم لا يقع إلا على غيرهم من الناس؟ ومن أين يستمدون ذلك الشعور المفاجئ بالذنب عندما يجلسون إلى موائد مترعة بالطعام، في حين أن غيرهم يتضورون من الجوع، وتلك الكبرياء التي تجعلهم يؤثرون الفقر والسجن على الاحتقار؟
لست أدري، وربما لا يدري أحد، أنه في لحظات معينة يتحول أكمل اعتراف وأعمقه إلى مجرد سرد للوقائع، ليست فيه إجابة عن هذا السؤال. وكل من فكر في نفسه أو في غيره جديا يعلم أن بعض القرارات تصدر عن دافع شديد الخفاء، وأن بعض الاتجاهات غامضة لا يمكن تفسيرها.
ففي لحظة من لحظات عصياني امتزج الحب بالكراهية. والوقائع التي تسوغ شعوري بالمهانة، والدوافع الخلقية التي بعثت في هذا الشعور، هذه وتلك كانت تصدر مباشرة عن الإقليم الذي ولدت فيه. ولعل هذا يفسر كذلك لماذا كان كل ما كتبت حتى اليوم، وربما ما سوف أكتبه في المستقبل، برغم رحيلي إلى الخارج وإقامتي به، يتعلق كله بهذا الإقليم عينه، أو على وجه أدق، بذلك الجزء منه الذي تقع عليه العين من البيت الذي ولدت فيه، وهو لا يزيد على ثلاثين أو أربعين كيلومترا عن يمين وعن شمال. وهو إقليم كغيره من أقاليم أبرزي، تافه من حيث تاريخه الدنيوي، ويكاد يكون كله مسيحيا وينتمي إلى العصر الوسيط في تكوينه، والمباني الوحيدة التي تستحق الذكر أديرة وكنائس، وأبناؤه اللامعون كانوا لعدة قرون قديسين ونحاتين للصخور. وظروف الحياة الإنسانية به كانت دائما شاقة بوجه خاص. وأهل الإقليم يتقبلون الألم دائما باعتباره أول قوانين الطبيعة، كما يلقى الصليب ترحيبا وتكريما من أجل ذلك. ومذهب الفرنسسكان والفوضى كانا دائما طريقين من طرق العصيان التي يمكن للنفوس الحية في ذلك الجزء من العالم أن تسلكها. ولم يستطع رماد الشك أن يخنق، في قلوب أولئك الذين كانوا أشد من غيرهم عناء، الأمل القديم في إقامة مملكة السماء على الأرض، والأمنية القديمة في أن تحل الرحمة محل القانون، والحلم القديم الذي دار في رأس جيوا كشينو دافيور و«الطائفة الروحانية» و«أتباع السماء».
1
وهذه حقيقة لها أهمية أساسية كبرى؛ فهي في إقليم قاحل مجهد متعب لا رجاء فيه كإقليمنا، كنز حقيقي، وثروة لا تحد. غير أن رجال السياسة لا يدركون وجودها، ورجال الدين يخشونها، وربما لا يدري من أين مأتاها إلا القديسون. وأما ما كان بالنسبة إلينا دائما أشد عسرا، إن لم يكن مستحيلا، فهو أن نتلمس الطرق والوسائل التي تؤدي إلى ثورة سياسية، لكي نخلق مجتمعا حرا منظما.
ولقد ظننت أني وصلت إلى هذا الاكتشاف عندما انتقلت إلى المدينة وبدأت أول اتصالي بحركة العمال. وكان ذلك بالنسبة إلي نوعا من أنواع الصعود إلى السماء، والإنقاذ من عزلة لا تحتمل، والوقوف على أرض ثابتة، وكأنه اكتشاف قارة جديدة. ⋆
ولما بلغت هذه المرحلة أدركت الضرورة الملحة لفهم تطورات العمل الذي شغلت به، والتحقق منه، ومقارنته بالدوافع التي ساقتني أصلا إليه، واستولت علي هذه الفكرة تماما، وسلبتني كل هدوء نفسي. وإذا كان لعملي الأدبي الضئيل أي معنى، أو حللته إلى أعماقه، فهو هذا: لقد حان الوقت الذي بات معنى الكتابة فيه عندي ضرورة مطلقة لا مناص منها، وحاجة قصوى إلى تحرير نفسي من فكرة استولت على كل قلبي، وإلى تبيان معنى هذا الموقف الأليم الحاسم الذي كنت أقفه، وتعيين حدوده وحدود ذلك الولاء الأعمق الذي كنت لا أزال أحس به. لم تكن الكتابة بالنسبة إلي قط، ولن تكون، إذا استثنينا لحظات موفقة من النشوة الروحية، متعة جمالية هادئة. إنما كانت استمرارا للنضال أقوم به في ألم وعزلة. أما عن الصعوبات وأوجه النقص في التعبير الذاتي التي كنت أكابدها أحيانا فلم تنشأ عن قصور في التزام قواعد الكتابة الجيدة، وإنما نشأت عن ضمير كان يصر في عناد على احترام نزاهته، وهو يناضل في سبيل علاج بعض الجراح الخفية، والتي ربما كانت تستعصي على الشفاء؛ إذ ليس هناك من شك في أن الإخلاص وحده لا يكفي، إذا أراد المرء أن يكون صادقا. ⋆
ولم يكن التحاقي بحزب الثورة العمالية يعني مجرد توقيعي مع أفراد منظمة سياسية، إنما كان معناه التحول من عقيدة إلى أخرى، والإخلاص التام للعقيدة الجديدة؛ ففي تلك الأيام كان معنى اعتناق الاشتراكية أو الشيوعية علنا أن يلقي المرء بنفسه في مهب الريح، وأن ينفصل عن أبويه، ويتشرد بغير عمل. وإذا كانت النتائج المادية لهذا التحول شديدة قاسية، فإن صعوبات الانتقال الفكري من محيط إلى آخر لم تكن أقل إيلاما. ولقد اهتز من أساسه عالمي الخاص الداخلي، عالم «العصور الوسطى» الذي ورثته واستقر في أعماق نفسي، والذي أخذت عنه - لو رجعت إلى الأصول الأولى - اتجاهي الأول نحو الثورة، اهتز من أساسه كأنه تعرض لزلزال عنيف، وانصهر كل شيء، وأصبح كل أمر مشكلة: الحياة، والموت، والحب، والخير، والشر، والحق؛ كل ذلك تغير معناه أو فقد كل معنى سابق له. من اليسير أن يجابه المرء الخطر حينما لا يكون وحيدا، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يصف اليأس الذي يستولي على القلب حينما يتخلى المرء إلى غير رجعة عن إيمانه بخلود الروح؟ كان الأمر بالنسبة إلي أكثر جدية من أن أناقشه مع أي إنسان آخر. ولربما رأى زملائي في الحزب أن المسألة لا تستحق إلا السخرية، ولم يعد لي بعد هؤلاء الزملاء صديق؛ ومن ثم تلونت الدنيا في عيني بلون آخر، وسرت وحيدا بغير رفيق. ما أشد حاجة أمثالي إلى الإشفاق!
إن ظروف الحياة التي فرضها على الشيوعيين الغزو الفاشستي للدولة كانت شاقة عسيرة، ولكنها إلى جانب ذلك ساعدت على تأييد بعض النظريات السياسية الشيوعية، كما هيأت الفرصة لإيجاد نوع من أنواع التنظيم يتفق إلى حد كبير مع العقلية الشيوعية؛ ومن ثم فقد تحتم علي أنا كذلك أن أهيئ نفسي لعدة سنوات لأن أعيش غريبا في بلادي، فكان علي أن أغير اسمي، وأن أتخلى عن كل صلة لي سابقة مع أسرتي أو أصدقائي، وأن أحيا حياة زائفة لكي أبعد عن نفسي كل شك في اشتراكي في حركة انقلابية؛ فأمسى الحزب هو الأسرة، وهو المدرسة والكنيسة والثكنات، وكل ما يقع بعيدا عن الحزب لا بد من تدميره وإعادة بنائه من جديد. وما أشبه هذه الحالة النفسية التي يمسي خلالها كل مجاهد بمفرده تدريجا صورة مكررة من نظام جماعي، بتلك الحالة النفسية التي كانت شائعة في بعض النظم الدينية والكليات العسكرية، مع تطابق في النتائج يكاد يكون تاما؛ فكانت كل تضحية تقابل بالترحاب باعتبارها مساهمة شخصية في «دفع ثمن الخلاص الجماعي». ويجب أن نؤكد أن الروابط التي كانت تصل بيننا وبين الحزب كان تشتد وثوقا، لا أقول برغم المخاطر والتضحيات التي كانت تحيط بنا، ولكن بسبب هذه المخاطر والتضحيات عينها. ويفسر لنا ذلك جاذبية الشيوعية لبعض طوائف الشباب من الرجال والنساء، وللطبقة المثقفة، وللأفراد الذين يتصفون بشدة الحساسية وسماحة النفس ممن يعانون كثيرا من عبث المجتمع البرجوازي. ⋆ (1-3) الاستبداد الشيوعي
لم يكن عجيبا أن أخرج من الأزمات الداخلية الأولى التي هزت أركان الشيوعية الدولية بشيء كثير من الشك في الشيوعية ذاتها. وقد نشأت هذه الأزمات من أن الأحزاب الأساسية التي تمسكت بالشيوعية الدولية الجديدة كانت أبعد ما تكون عن التجانس، حتى بعد القبول الرسمي للشروط الواحدة والعشرين التي وضعها لينين ليتحكم في القبول.
حدثت هذه الأزمات الداخلية في محيط بعيد جدا عن محيطي؛ ومن ثم فلم يكن لها في أثر. ولا أقول ذلك مفاخرا، بل إني - على العكس من ذلك - إنما أحاول تفسير الموقف. إن اطراد التدهور في الشيوعية الدولية نحو الاستبداد والبيروقراطية أثار في نفسي النفور والاشمئزاز، غير أنه كانت هناك أسباب اضطرارية حملتني على التردد في التخلي عنها، منها عطفي على الزملاء الذين ماتوا أو أودعوا غياهب السجون، وانعدام وجود أية قوة منظمة تناهض الفاشستية في إيطاليا في ذلك الحين ، والتدهور السياسي السريع - والتدهور المعنوي في بعض الأحيان - الذي حل بكثير ممن تخلوا من قبل عن الشيوعية، وأخيرا توهمي بأن الشيوعية الدولية ربما عادت إليها صحتها على أيدي العمال الأجراء في بلاد الغرب، إذا وقعت أزمة داخل النظام السوفيتي.
وفيما بين عامي 1921 و1927 في أكثر من مناسبة ترددت على موسكو، واشتركت - كعضو في الوفود الشيوعية الإيطالية - في عدد من المؤتمرات والاجتماعات التي عقدتها اللجنة التنفيذية. وكان أشد ما أذهلني في الشيوعية الروسية العجز المطلق - حتى عند أشخاص أفذاذ حقا من أمثال لينين وتروتسكي - عن الإنصاف في الحكم عند مناقشة الآراء التي كانت تتعارض مع آرائهم. وكل معارض - لمجرد الجرأة على المعارضة - سرعان ما يوصم بأنه خائن، نهاز للفرص، مأجور. فالشيوعية الروسية لا تعرف «المعارضة الصادقة». أي انحراف هذا الذي دفع أولئك الذين يسمونهم الماديين والعقليين إلى أن يضعوا في جدلهم العقائد فوق قوة الفكر والمنطق على الإطلاق؟! إننا لا نجد في التاريخ تعصبا شبيها بهذا إلا إذا عدنا إلى عهد محاكم التفتيش.
وعندما هممت بمغادرة موسكو في عام 1922م قالت لي ألكسندرا كولونتاج: «إذا قرأت في الصحف أن لينين قد ألقى علي القبض لأني سرقت الملاعق الفضية بالكرملين، فاعلم أن ذلك معناه أني لست على وفاق تام معه بشأن مشكلة صغيرة من مشكلات السياسة الزراعية أو الصناعية.» وقد اكتسبت كولونتاج روح السخرية في الغرب؛ ولذا فقد كانت لا تستخدمها إلا على قوم من الغرب. وحتى في ذلك الحين، في تلك الأعوام الحماسية، من إقامة النظام الجديد، في ذلك الوقت الذي لم تسيطر فيه العقيدة الجديدة سيطرة تامة على الحياة الثقافية، كان من أشق الأمور أن نصل إلى اتفاق مع أي شيوعي روسي في أبسط الأمور، وفي أشدها وضوحا في أعيننا، كان من أشق الأمور لا أقول أن نصل إلى اتفاق، بل على الأقل أن نتبادل التفاهم، حينما كنا نتحدث عن معنى الحرية عند رجل من الغرب، حتى إن كان من العمال. ولقد قضيت مرة عدة ساعات محاولا أن أشرح لإحدى مديرات مصلحة النشر الحكومية لماذا يجب عليها على الأقل أن تشعر بالخجل من جو التثبيط والإرهاب الذي كان يعيش فيه الكتاب السوفيت، ولم تستطع إدراك ما كنت أحاول أن أحدثها عنه .
قلت لها على سبيل المثال: «إن الحرية هي إمكان الشك وإمكان الوقوع في الخطأ، وإمكان البحث والتجريب، وإمكان الرد بكلمة «لا» على أي صاحب سلطان - سواء في ميدان الأدب، أو الفن، أو الفلسفة، أو الدين، أو الاجتماع، أو حتى السياسة.» فتمتمت هذه الموظفة الكبيرة في المحيط الثقافي السوفيتي مذعورة، وقالت: «ولكن هذا معناه معارضة الثورة ...» ⋆ (1-4) ثورة استالين المضادة
كان لكل الصعوبات التي تجابه حكومة السوفيت صداها في الشيوعية الدولية، بالإضافة إلى الخلافات الداخلية الناجمة عن التنافر بين الأعضاء الذين يؤلفونها. وقد اتضح بعد وفاة لينين أن حكومة السوفيت لا تستطيع أن تتحاشى مصير كل دكتاتورية، وهو ضيق الهرم السياسي تدريجا في عناد لا يلين. ولقد لاقى الحزب الشيوعي الروسي - الذي قمع كل الأحزاب الأخرى المنافسة، وقضى على إمكان إجراء أية مناقشة سياسية عامة في الجمعيات السوفيتية - نفس المصير. وسرعان ما حلت سياسة الأداء الحزبية محل الآراء السياسية للأعضاء. ومنذ تلك اللحظة كان يقضي على كل خلاف في الرأي بين أعضاء الهيئة الموجهة بإبادة الأقلية والحكم عليها بالموت. وبدأت الثورة - التي قضت على أعدائها - تلتهم أعز أبنائها. ولم تعرف الآلهة العطشى أي تهاون أو مهادنة.
وفي مايو من عام 1927م اشتركت مع تجلياتي كممثل للحزب الشيوعي الإيطالي في جلسة غير عادية للهيئة التنفيذية للشيوعية الدولية بعد تضخمها. وقد وفد تجلياتي من باريس، حيث كان يدير السكرتيرية السياسية للحزب، ووفدت من إيطاليا، حيث كنت مسئولا عن الهيئة السرية، والتقينا في برلين، وواصلنا المسير إلى موسكو معا. وفي أول جلسة حضرناها خيل إلي أننا وصلنا في وقت متأخر جدا، وكنا في مكتب صغير في مقر رياسة الشيوعية الدولية، وكان ثالمان الألماني يقوم برياسة الجلسة، وقد شرع فورا في قراءة مشروع قرار ضد تروتسكي، لكي يقدم في الاجتماع العام لجميع الأعضاء. وقد استنكر هذا القرار في أقسى عبارة وثيقة كان تروتسكي قد وجهها إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي. وكان الوفد الروسي في اجتماع ذلك اليوم للهيئة السرية للرؤساء يتكون من أعضاء أفذاذ، وهم: استالين، وريكوف ، وبخارين، ومانيولسكي. وبعد قراءة القراء سألنا ثالمان: هل نحن نوافق على الاقتراح؟ وكان من رأي أوتومار كونين الفنلندي أن القرار ليس شديدا بالدرجة المطلوبة. وحيث إن أحدا من الحاضرين لم يطلب الكلمة، فقد قدمت اعتذاري - بعد مشورة تجلياتي - عن الحضور متأخرا، بحيث لم أستطع أن أطلع على الوثيقة المستنكرة. فأعلن ثالمان صراحة «بأنهم كذلك لم يطلعوا على الوثيقة».
وقد آثرت ألا أصدق أذني، فكررت اعتراضي بصورة أخرى، وقلت: «قد يكون من الحق أن تستنكر وثيقة تروتسكي، غير أنه من الواضح أني لا أستطيع استنكارها قبل أن أطلع عليها.»
فكرر ثالمان القول «بأنهم أيضا لم يطلعوا عليها، كما لم تطلع عليها أكثرية الوفود الحاضرة، فيما خلا الروس ...»
وهنا تدخل استالين، وكان يقف في أحد جوانب الغرفة، وبدا كأنه الشخص الوحيد بين الحاضرين الذي اتسم بالهدوء وضبط النفس.
وقال: «إن المكتب السياسي للحزب لم ير ضرورة لترجمة وثيقة تروتسكي وتوزيعها بين ممثلي الهيئة التنفيذية الدولية؛ لأن بالوثيقة إشارات عديدة إلى سياسة حكومة السوفيت ...»
فسألني أرنست ثالمان: هل اقتنعت برد استالين؟ فقلت: «إنني لا أعارض في حق المكتب السياسي للحزب الشيوعي الروسي في احتفاظه بسرية أية وثيقة، ولكني لست أفهم كيف يمكن أن يطلب إلى غيرهم أن يستنكروا وثيقة مجهولة!» وهنا اشتد السخط علي وعلى تجلياتي الذي بدا عليه تعضيد ما ذكرت.
وكان استالين من بين الحاضرين وحده الذي بقي هادئا لا يساوره اضطراب، وقال: «إذا كان هناك عضو واحد يعارض في مشروع القرار فلن نتقدم به.» ثم أضاف إلى ذلك قوله: «وربما كان زملاؤنا الإيطاليون على غير علم تام بموقفنا الداخلي.» واقترح أن تؤجل الجلسة إلى الغد، وأن يكلف أحد الحاضرين بقضاء المساء مع زملائنا الإيطاليين ليشرح لهم موقفنا الداخلي. وكل هذا الواجب الكريه إلى فاسيل كولاروف البلغاري.
وقد أدى الواجب بلباقة وروح فكهة؛ دعانا إلى تناول الشاي ذلك المساء في غرفته بفندق لوكس، ثم واجه هذا الموضوع الشائك بغير مقدمات، وقال مبتسما: «لنكن صرحاء، هل تظنون أنني اطلعت على هذه الوثيقة ؟ كلا، لم أطلع عليها ... وليس الموضوع يا أصحابي الإيطاليين الأعزاء موضوع الوثائق ... إنه موضوع النضال من أجل السلطة بين مجموعتين متعاديتين لا يمكن التوفيق بينهما، وعلى المرء أن يختار بينهما. أما أنا فقد تم اختياري؛ فأنا مع حزب الأغلبية. ومهما يكن ما تقول به الأقلية، ومهما يكن ما تفعله، وأي وثيقة تحررها ضد الأغلبية، أقول لكم مهما يكن ذلك، فإنني أؤيد الأغلبية، ولا تهمني الوثائق، فلسنا هنا في معهد علمي.» وصب لنا الشاي في الأقداح مرة أخرى.
وأخذ يتمعن فينا بعين المدرس الذي أرغم على معالجة شابين متمردين، ثم سألنا موجها إلي الخطاب بصفة خاصة: «هل كنت واضحا في كلامي؟»
وأجبت قائلا: «بكل تأكيد، كنت واضحا جدا في الواقع.» ثم سأل مرة أخرى قائلا: «وهل أقنعتكم؟» قلت: «لا.» وأراد أن يعرف لماذا، قلت: «لا بد لي أن أشرح لك لماذا أعارض الفاشستية ...»
وفي صبيحة اليوم التالي تكرر في غرفة الرؤساء السرية المنظر الذي حدث في اليوم السابق، وساد هذه الغرفة الصغيرة - التي حشر فيها اثنا عشر منا - جو غير عادي من العصبية، وسأل استالين كولاروف قائلا: «هل شرحت الموقف لزملائنا الإيطاليين؟» وأكد له البلغاري أنه شرحه شرحا وافيا. وكرر استالين ما قاله من قبل، وهو: «إنه إذا عارض في الاقتراح عضو واحد، فلن يقدم للجمعية العمومية، ولا يمكن أن يصدر قرار ضد تروتسكي إلا إذا كان إجماعيا.» ثم التفت إلينا وسأل: «هل زملاؤنا الإيطاليون يؤيدون مشروع القرار؟»
وشاورت تجلياتي ثم صرحت «بأنا نحتم الاطلاع على الوثيقة المذكورة قبل أن ننظر في الاقتراح ...»
فقال استالين: «لقد سحبنا مشروع القرار.» وبعدئذ تكرر المنظر الهستيري الذي حدث في اليوم السابق، بالرغم من احتجاج كيوسنن وركوسي وبير وغيرهم احتجاجا ينطوي على الاستنكار والغضب. واستنتج ثالمان من موقفنا «الشائن» أن اتجاه نشاطنا المضاد للفاشستية كله في إيطاليا لا بد أن يكون خاطئا، وإذا كانت الفاشستية لا تزال متأصلة جدا في إيطاليا فذلك خطؤنا قطعا؛ ومن أجل هذا طلب أن تصفى سياسة الحزب الشيوعي الإيطالي تصفية شاملة.
وفي طريق عودتي قرأت في إحدى صحف برلين أن الهيئة التنفيذية للشيوعية الدولية قد وجهت نقدا شديدا إلى تروتسكي بسبب وثيقة أعدها بشأن الحوادث الأخيرة في الصين، فتوجهت إلى مكاتب الحزب الشيوعي الألماني، وطلبت إلى ثالمان أن يدلي بتفسير ما قرأت، وقلت له في حدة: «هذا غير صحيح.»
بيد أنه ذكر لي أن ميثاق الشيوعية الدولية يخول للرياسة - في الأمور العاجلة - أن تتخذ أي قرار باسم الهيئة التنفيذية. ⋆ (1-5) استمرار إيماني بالشيوعية
أحسست في ذلك الحين كأنني رجل تلقيت ضربة شديدة على رأسي. بيد أني ما زلت قائما على قدمي، أمشي وأتكلم وأشير، ولكن دون أن أدرك تمام الإدراك كل ما حدث.
غير أن الإدراك قد تم بعد ذلك في بطء وفي عسر خلال السنوات التالية، وما فتئت حتى يومنا هذا أفكر فيما أدركت، وأحاول أن أزداد له فهما. وإن كنت قد ألفت الكتب فلم يكن ذلك إلا محاولة مني للفهم، ولأن أجعل غيري كذلك يفهم. ولست البتة على يقين بأني بلغت غاية جهدي، والحقيقة هي أن اليوم الذي تركت فيه الحزب الشيوعي كان بالنسبة إلي يوما حزينا، كان كأنه يوم حداد، حداد على شبابي الضائع. وقد نشأت في إقليم يلبس أهله فيه الحداد فترة أطول منها في أي إقليم آخر. وليس من اليسير على المرء أن يتحرر من تجربة عميقة كتلك التي مرت بي في المنظمة السرية للحزب الشيوعي. إن شيئا من تلك التجربة يبقى في النفس ويترك في سلوك المرء أثرا يدوم ما دام على قيد الحياة. ويستطيع المرء في الواقع أن يلحظ كيف أن الشيوعيين السابقين يمكن تمييزهم، إنهم يؤلفون طائفة منفصلة، كما يؤلف رجال الدين السابقون والضباط المتقاعدون، وما أكثر الشيوعيين السابقين اليوم! ولقد قلت مرة لتجلياتي مازحا من عهد قريب: «إن المعركة الأخيرة سوف تنشب بين الشيوعيين والشيوعيين السابقين ...»
إن إنعام النظر في التجربة التي مررت بها ساقني إلى تعميق الدوافع إلى انفصالي الذي يرجع إلى أبعد من البواعث الطارئة التي أدت إليه. غير أن إيماني بالاشتراكية (الذي أستطيع فيما أحسب أن أقول إن حياتي كلها تشهد به) بقي أشد حيوية عندي من أي عهد سبق. ويرجع هذا الإيمان في صميمه إلى ما كان عليه حينما ثرت أول الأمر على النظام الاجتماعي القديم، وهو رفض الاعتراف بوجود قدر مقسوم، ومد الدوافع الخلقية من محيط الفرد والأسرة المحدود إلى مجال النشاط الإنساني بأسره، والحاجة إلى الأخوة الفعالة، وتأكيد سمو الإنسان الفرد على كل النظم الاقتصادية والاجتماعية التي تتعسف به. وأضفت إلى ذلك بمر السنين الشعور اللدني بكرامة الإنسان والإحساس بتقدير ذلك الحافز في الإنسان الذي يسعى دائما إلى التجاوز عن حدوده، ويرجع في أساسه إلى شعوره الأزلي بعدم الاطمئنان. ولست أحسب أن هذا الضرب من الاشتراكية خاص بي وحدي على أية صورة من الصور. وإن هذه «الحقائق المتهورة» التي ذكرتها لترجع إلى ما قبل ماركس. وقد وجدت في النصف الثاني من القرن الماضي ملاذا لها في حركة العمال التي تولدت عن الرأسمالية الصناعية، وما فتئت مصدرا من مصادر وحيها الدائمة. ولطالما عبرت عن رأيي في العلاقة بين الحركة الاشتراكية والنظريات الاشتراكية. وهذه العلاقة ليست جامدة ولا ثابتة على الإطلاق؛ فالنظريات - مع تطور الدراسات الجديدة - قد تصبح بالية أو منبوذة، ولكن الحركة تواصل سيرها. وليس من الدقة في شيء على أية حال - بالنسبة إلى الصراع القديم بين أصحاب المبادئ وأصحاب التجارب في حركة العمال - أن أعد من بين أعضاء الطائفة الثانية. ولست أتصور السياسة الاشتراكية مرتبطة بأية نظرية من النظريات، إنما هي مرتبطة بالإيمان. وكلما اشتد تدعيم النظريات الاشتراكية بأنها «تقوم على أساس علمي» كانت أقرب إلى صفة الزوال، في حين أن القيم الاشتراكية دائمة. وليس التمييز بين النظريات والقيم ملحوظا بدرجة كافية، ولكنه أساسي جذري. فعلى مجموعة من النظريات يستطيع المرء أن يؤسس مدرسة من المدارس، في حين أنه على مجموعة من القيم يستطيع أن يؤسس ثقافة من الثقافات، أو مدنية من المدنيات، أو طريقة جديدة يعيش عليها الناس معا. ⋆
المصادر ⋆
كل المقتطفات مقتبسة مما أسهم به أجنازيو سيلون في مجموعة المقالات التي صدرت تحت عنوان «المعبود الذي أخفق»، والتي جمعها رتشارد كروسمان.
الفصل الرابع
إ. م. فورستر
(1879م-...)
يمكن تعريف فورستر تعريفا صحيحا بأنه إنساني ترجع أصوله الفلسفية إلى أرازمس ومونتيني. وينبغي لنا أن نضيف إلى هذه الأصول التي تتصف بشيء من الشك البارد يسري في عروقها دفعة قوية من الرومانتيكية المعدلة وميلا شخصيا بحتا لا يسبب للقارئ ضيقا نحو البر والمحبة. كان ينعت فورستر بأنه «من أعقل الكتاب الأحياء». وإذا أمكن للعقل أن يخلو من كل أثر من آثار الغباء، كان هذا الوصف ملائما له كل الملائمة. وروايته «رحلة إلى الهند» التي نشرت في عام 1924م ربما كانت أشهر ما عرف وأكثر ما قدر له في أمريكا. ومع ذلك فبعض النقاد يرون أن روايته الأولى «حيث تخشى الملائكة أن تطأ»، التي قدم بها أهم موضوعاته وآياته الكبرى «هواردز إند»، من الأعمال الفنية التي لها قيمة أسمى.
إن إ. م. فورستر هو في الواقع أكثر من أن يكون واحدا من الكتاب الذين يتكلمون الإنجليزية في هذا العهد؛ فهو شخصية أدبية يسمونه «أستاذا» في مدرسة كمبردج بلومزبري، ويمكن أن يعد من تلاميذه صديقته الكبرى المرحومة فرجينيا وولف والروائية الموهوبة إليزابث بوين. وفورستر - كغيره من الكتاب المعاصرين المتنوعين الآخرين - اهتم اهتماما كبيرا بالنقد، وإن يكن ما أداه في هذا الباب لا يقاس إلى ما أداه ت. س. إليوت.
كان فورستر بمثابة الناقد والضمير اللاذع للطبقة الإنجليزية الوسطى المرتفعة التي تخرج أبناؤها في المدارس الخاصة، وكانوا نماذج بشرية ل «القلب الذي لم يتطور». وكان جانب من عمل فورستر يتجه نحو إثارة الوادعين، وإرغامهم على مواجهة «المنبوذين» اجتماعيا من المجتمع غير الإنجليزي أو من الطبقة الدنيا الإنجليزية. كما يتجه نحو إثارة الشعور الصحيح والتصرف التلقائي الذي ينبغي أن يحطم الوجود البشري الذي ينقسم طبقات. وبرغم هذا فليست لدى فورستر رسالة ذات صبغة «اجتماعية»، ولم يهدف إلا إلى إنسانية أغنى وأكثر اعترافا بالفرد. وقد بلغ حبه لبلاده - إنجلترا - من العمق والثقة ما جعله يوجه إليها أشد الأسئلة إقلاقا للضمير (كما فعل في روايته «رحلة إلى الهند») دون أن ينسى أنه يشغل نفسه في هذا أساسا ب «مشكلة عائلية». وربما كان ما ارتآه فورستر من عهد باكر جدا وعده الخلل المؤلم في الضمير المستبد، و«الوحشية المنطوية على الغباء التي تحطم المشكلات بدلا من أن تعمل على حلها»، ربما كان ذلك ما قوى إيمانه في وسيلة أخرى هي وسيلة الحرية والتسامح، دون أن يقع في الوهم المألوف بأن هذا المزيج المركب من الخير والشر في طبيعة البشر يمكن أن يتحلل إلى عنصرين منفصلين لا يشوب أحدهما الآخر؛ ومن ثم فهو يحيي الديمقراطية مرتين بدلا من ثلاث.
ولد إدوارد مورجان فورستر في لندن في أول يوم من أيام عام 1879م. ويستطيع فورستر أن يزعم لنفسه ميراثا من امتياز الطبقة الوسطى المثقفة، عن طريق أسرة أمه. أما عن طريق أبيه، الذي كان مهندسا معماريا من أصل مختلط من الإنجليز والويلزيين، فإن الكاتب يستطيع أن يزعم لنفسه شيئا أقل من ذلك صلابة ولكنه أشد تحررا، وذلك هو الميل نحو الابتكار الخيالي. وقد كتب فورستر عن تربيته الأولى حينما كان تلميذا «خارجيا» بمدرسة تنبردج، حيث كانت إحساساته الأليمة من عدم شعوره بالامتزاج بالمدرسة تصطحب بتصور أشد لما يمكن أن يعنيه الامتزاج بها من مصير أشد للنفس تحطيما. وقد وجد البلسم الشافي لروحه الجريحة في كلية كنج بكمبردج، ذلك المركز العلمي الذي ربطته به علاقة ودية دامت مدى الحياة. وهناك - كطالب - اكتسب صداقة ج. لويس دكنسن، الذين رحل معه بعد بضع سنوات إلى الهند. وبعدما انتهى من دراسته بالكلية بوقت قصير قصد إيطاليا حيث كتب بعض رواياته الأولى. ولما عاد إلى إنجلترا في عام 1907م ألقى بعض المحاضرات بكلية العمال، ثم أتم روايته «الغرفة ذات المنظر»، كما أتم روايته «هواردز إند» في عام 1910م. وقبيل الحرب العالمية الأولى اشتغل فورستر بالصحافة الأدبية، ومارس كتابة المسرحيات، وفي أثناء رحلته إلى الهند مع دكنسن شرع يسجل الملاحظات تمهيدا لرواية عن الهنود وعن الإدارة الاستعمارية البريطانية، ومشكلة الإمبراطورية. وخلال الحرب العالمية الأولى اشتغل فورستر بشئون الحرب في الإسكندرية، ولم يعد إلى لندن حتى أعلن السلام، ومكنته رحلة ثانية إلى الهند في عام 1921م من إتمام مذكراته لإخراج الرواية. وفي عام 1924م نشر «رحلة إلى الهند» التي نالت جوائز أدبية عديدة، ومن بينها جائزة «جيمز تيت بلاك مموريال». وفي عام 1927م دعا فورستر إلى إلقاء محاضرات كلارك السنوية بكلية كنج في كمبردج، وقد اختار موضوعا لمحاضرته «أوجه الرواية» الذي ظهر فيما بعد على شكل كتاب بهذا العنوان.
وبالرغم من أن فورستر من الناحية الدستورية بعيد كل البعد عن النشاط السياسي، فإن اهتمامه بالثقافة، واعتمادها - الذي لا محيص عنه - على الحرية، جعله على وعي تام بالتطورات السياسية في هذا القرن. وقد استعرض الفترة التي تقع بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ونعتها بأنها «المدخل النحس إلى عصرنا الحاضر». وفي إذاعة له في أثناء الحرب العالمية الثانية ضد النازية قال: «إنني بحكم مهنتي ككاتب، لا أعرف شيئا عن الاقتصاد أو السياسة، ولكني شديد الاهتمام بما يسمونه بالثقافة - وهي تسمية ملائمة - وأريد لها الازدهار في العالم كله.» وبهذا الالتزام دخل فورستر المعركة ضد حكم الاستبداد، وضد مبادئه في الرقابة، وضد العدو الداخلي، الذي يسمم الجو الذي تتنفس فيه الحرية الفردية بعدم التسامح والتحيز العنصري والتعصب الذميم. ويعترف ليونل نزلنج للرجل بقدره في كتاب له عنه، يقول فيه: «إنه أحد رجال الفكر الذين لم يؤد بهم تفكيرهم قط إلى الزعم بأنهم فوق البشر، والذين لا ينزلون عن مستوى البشر إذا أحاطت بهم ملمة من الملمات.»
والمختارات التالية مأخوذة عن كتاب «تحيتان للديمقراطية»، وهو مجموعة مقالات نشرت في عام 1951م. (1) دفاع عن الفردية
إ. م. فورستر (1-1) الاعتقاد في الأشخاص
إنني لا أعتقد في «العقيدة». غير أن عصرنا هذا عصر الإيمان، ومن حولنا مذاهب كثيرة مجاهدة، بحيث يتحتم على المرء دفاعا عن نفسه أن يكون لنفسه مذهبا من المذاهب. وفي عالم يكاد يتمزق من الاضطهاد الديني والعنصري، في عالم يسوده الجهل، والعلم - الذي كان ينبغي أن يسود - يلعب دور التابع الإمعة، في مثل هذا العالم لا يكفي التسامح والعطف وحسن المعاملة، بالرغم من أن هذه الصفات هي التي تهم الإنسان فعلا، وإذا كان الجنس البشري لا ينهار فلا بد لها أن تكون في الطليعة قبل أن ينقضي وقت طويل، ولكنها صفات لا تكفي في الوقت الحاضر، ولا يزيد أثرها قوة عن أثر زهرة محطمة تحت حذاء عسكري، فهي تنقصها الصلابة، حتى إن كانت تخشوشن بالممارسة. والإيمان في نظري هو الذي يكسبها الصلابة، فهو أشبه بالدعامة العقلية التي يجب ألا تقام إلا بالقدر الضئيل جهد الاستطاعة. وإني لشديد الكره لهذه الطريقة، ولا أعتقد فيها البتة لذاتها، وأختلف في هذا عن أكثر الناس الذين يعتقدون في «العقيدة»، بل إنهم ليتأسفون لأنهم لا يستطيعون أن يستسيغوا منها أكثر مما فعلوا. وإني لأستمد الشريعة من أرازمس ومونتيني، ولا أستمدها من موسى والقديس بطرس، ولا أقيم معبدي فوق جبل مقدس، وإنما أقيمه في جنة الفردوس التي يدخلها حتى من ليس على خلق، وشعاري هو: «يا إلهي، إني لا أعتقد، فاللهم أعني على عدم الاعتقاد.»
ولكني أعيش في عصر الإيمان - وهو نوع العصر الذي كنت أسمع عنه الإطراء أيام الصبا. إنه عصر لا يسر البتة حقا، وهو عصر دماء بكل ما تحمله الكلمة من معان، وعلي أن أحتفظ بهدفي فيه، فمن أين أبدأ؟
إنما أبدأ بالعلاقات الشخصية، ففيها ألتمس شيئا ثابتا نسبيا في عالم مليء بالعنف والقسوة، وهو ليس ثابتا كل الثبات؛ لأن السيكولوجيا قد شققت ومزقت فكرة «الشخص»، وبينت لنا أن لدى كل منا ناحية لا تخضع للتعليل، وهي ناحية قد تطفو على السطح في أية لحظة من اللحظات وتحطم فينا الاتزان العادي. إننا لا نعرف حقيقة أنفسنا ، ولا نستطيع أن نعرف حقيقة غيرنا؛ فكيف إذن نستطيع أن نضع أي ثقة في العلاقات الشخصية، أو نتمسك بها وسط العاصفة السياسية؟ إننا من الناحية النظرية لا نستطيع ذلك، ولكنا نستطيعه من الناحية العملية. فإذا كان زيد من الناس ليس زيدا ثابتا لا يتغير، أو كان عمرو ليس عمرا ثابتا لا يتغير قط، فإنه من الممكن - برغم هذا - أن تقوم بينهما محبة وإخلاص، وعلى المرء - لأجل أن يعيش - أن يفترض أن الشخصية ثابتة لا تتغير، وأن «النفس» وحدة لا تتجزأ، وأن يتجاهل كل ما يناقض ذلك. وما دام تجاهل الدلائل المناقضة خصيصة من خصائص الإيمان، فإني أستطيع أن أعلن بكل تأكيد أني أعتقد في العلاقات الشخصية.
فإذا ما بدأت بها استطعت أن أجد شيئا من النظام في الفوضى المعاصرة. يجب على المرء أن يغرم بالناس وأن يثق بهم إذا كان لا يريد أن يعبث بالحياة؛ ومن ثم فإنه مما ليس منه بد ألا يخوننا الناس. ولكنهم كثيرا ما يفعلون. ومغزى ذلك أنه ينبغي لي - عن نفسي - أن أكون محل ثقة ما استطعت، وهذا ما أحاوله. ولكن الثقة ليست من الأمور التي يتعاقد عليها الناس - وهذا هو الفارق الأساسي بين عالم العلاقات الشخصية وعالم العلاقات في العمل - إنما هي أمر من أمور القلب الذي لا يوقع على وثيقة من الوثائق. وبعبارة أخرى، الثقة مستحيلة ما لم يكن هناك دفء طبيعي. وأكثر الناس لديهم هذا الدفء، غير أن سوء الحظ قد يصادفهم فتنطفئ جذوته. وأكثرهم - حتى إن كانوا من الساسة - يودون لو احتفظوا بإيمانهم. وهنا يستطيع المرء - مهما يكن من شيء - أن يبرز ضوءه الخافت هنا، وأن يظهر شعلته المرتعشة الصغيرة الضعيفة، مع العلم بأنه ليس وحده الضوء الوحيد الذي ينير في الظلام، وليس وحده الضوء الذي لا يشمله الظلام. إن العلاقات الشخصية تزدرى اليوم، وتعد من ألوان الترف البرجوازي، وكأنها من ثمار الجو المعتدل الذي انقضى عهده وفات، ويحثنا الناس على أن نتخلى عن هذه العلاقات، وأن نكرس أنفسنا لحركة من الحركات أو قضية من القضايا بديلا عنها. وإني لأمقت فكرة القضايا، ولو خيرت بين أن أخون بلادي أو أخون صديقي، لرجوت أن أجد الشجاعة لأن أخون بلادي. ومثل هذا الاختيار قد يسيء إلى القارئ الحديث، وربما مد يده الوطنية إلى التليفون في الحال واستنجد برجال الشرطة. ولكن ذلك ما كان ليصدم دانتي؛ فلقد ألقى دانتي ببروتس وكاسيس في أسفل جحيم لأنهما آثرا أن يخونا صديقهما يوليوس قيصر على أن يخونا وطنهما روما. وربما لا يطلب إلى المرء أن يقوم بمثل هذا الاختيار - الأليم - غير أن كل مذهب، بالرغم من هذا، وراءه شيء مزعج شاق لا بد أن يعانيه معتنق المذهب، في يوم من الأيام، وفي مذهب العلاقات الشخصية كثير من الرعب والمشقة، على المرء أن يتحمله مهما خف أو هان. إن الحب والإخلاص لفرد من الأفراد قد يتعارضان مع مطالب الدولة، وعندئذ أقول: لتسقط الدولة، وليس معنى ذلك إلا أن تسقطني الدولة.
1 (1-2) تحدي زماننا
أنا فردي بمزاجي، أنا كاتب، ومؤلفاتي تؤكد أهمية العلاقات الشخصية والحياة الخاصة؛ لأني أعتقد فيهما. وماذا يستطيع رجل مثلي بهذا الاستعداد، ليست لديه معرفة تكنولوجية، أن يقول عن تحدي زماننا؟
2
إذا كنا نود أن نفلح في مجابهة هذا الزمان، فلا بد لنا من الجمع بين الاقتصاد الحديث والأخلاق القديمة. إن مبدأ الحرية الاقتصادية لا يتمشى مع العالم المادي؛ فهو الذي أدى إلى السوق السوداء وأدغال الرأسمالية. ولا مناص لنا من التخطيط، وإلا ما وجدت ملايين الناس لها مأوى أو مأكلا؛ في حين أن مبدأ الحرية هو المبدأ الوحيد الذي يتمشى مع عالم الروح؛ فأنت إن أردت أن تخطط للناس عقولهم وتسيطر عليها فلا بد لك من إصابتها بالشلل، ولا محيص لك من الرقابة والشرطة السرية، وهذا هو الطريق إلى العبودية ومجتمع العبيد. إن أولئك الذين يخططون اقتصادنا يضحكون منا أحيانا حينما نخشى الاستبداد الدكتاتوري الذي ينجم عن جهودهم، أو قل إنهم يسخرون منا، وهناك علاقة سحيقة الغور بين التخطيط والسخرية على علماء النفس أن يكشفوا سرها ، ولكن الخطر الذي لا يولونه اعتبارا خطر حقيقي. إنهم يؤكدون لنا أن الاقتصاد الحديث سوف يخلق سلوكا خلقيا ملائما، وأن الناس حينما يجدون جميعا المأوى والطعام الملائم سوف تتكون لديهم نظرة ما تكون هي الصحيحة لأنهم الشعب، ولكني لا أستسيغ هذا الزعم. وليس عندي إيمان صوفي بالشعب، إنما عندي إيمان بالفرد. إنه في نظري عمل سماوي، وأنا لا أثق بأية نظرية تحط من شأنه. وإذا وصفك إنسان بأنك لست إلا فردا قليل الشأن حقيرا - وقد وصفت بهذا فعلا - فلا تتقبل ذلك راضيا، إنما أنت من الأهمية بمكان؛ لأن كل من سواك فرد كذلك، بمن فيهم ذلك الذي يوجه إليك نقده، وأنت عندما تثبت شخصيتك إنما تؤيد حزبك.
هذا إذن هو الشعار الذي أواجه به - ولو إلى حد ما - تحدي زماننا. إننا بحاجة إلى الاقتصاد الجديد مع السلوك الخلقي القديم. نريد التخطيط للأبدان ولا نريده للأرواح. ولكن هذه هي المشكلة: أين ينتهي البدن وتبدأ الروح؟ كانوا في العصور الوسطى يرسمون خطا واضحا يفصل بينهما، وكان الناس طبقا لنظرية العصور الوسطى أيام الإمبراطورية الرومانية المقدسة يعطون أبدانهم لقيصر وأرواحهم لله. غير أن هذه النظرية عجزت عن التطبيق؛ فالإمبراطور الذي كان يمثل قيصر اصطدم في الواقع مع البابا الذي كان يمثل المسيح. ونحن نجد أنفسنا في أزمة شبيهة بهذا اليوم. هب أنك ترسم سياسة لتوزيع الأطعمة توزيعا عالميا، فأنت لا تستطيع ذلك دون أن ترسم سياسة عالمية للسكان، ولا تستطيع ذلك دون أن تتحكم في عدد المواليد وتتدخل في حياة الأسرة. ولا بد لك من الإشراف على الأبوة والأمومة، وأنت حينئذ تتعرض لمملكة الروح، والعلاقة الشخصية، بالرغم من أنك ربما لم تعتزم ذلك. ولا مناص لك من أن تعود مرة أخرى لذلك الحكم الذي لا مفر منه، وهو مزاجك الخاص؛ فهل أنت إذا حدث تعارض في المبادئ تؤثر الفرد على حساب الجماعة كما أوثر؟ أو هل تؤثر العدالة الاقتصادية للجميع على حساب الحرية الشخصية؟
وكثيرا ما يحدث هذا التعارض في المبادئ، وهذا الانشقاق في ولاء المرء، في عهد انقلابي كالعهد الحاضر.
3 (1-3) النظام والفن للفن
المفروض في الواقع أن أتكلم من وجهة نظر الفنان الخالق. وسوف تدركون ما لا بد أن ينتاب الكاتب - الذي يهم كذلك الرجال والنساء والريف - من مشاعر في عالم اليوم. لا شك أنه لا يشعر بالطمأنينة، وهو أحيانا بائس مجروح الكرامة، ولكنه موقن بأن تطورا مرسوما لا بد أن يحدث إذا أردنا للعالم ألا ينحل، كما أنه يأمل أن يوجد في الاقتصاد الحديث مجال للعلاقات الإنسانية؛ ولذلك النشاط الذي لا يلقى تقديرا، والذي يسمونه بالفن. ماذا ينبغي للكاتب، أو الفنان، أن يفعل عندما يواجه تحدي هذا الزمان؟ عليه بإيجاز أن يعبر عما يريد، لا عما تطلب إليه سلطات التخطيط أن يعبر عنه؛ عليه أن يفرض على نفسه نظاما، لا أن يتقبل هذا النظام من الخارج. وقد يستهدف هذا النظام الجمال، ولا يستهدف الاجتماع أو الأخلاق، وقد يريد أن يمارس الفن للفن. ولطالما استعمل هذا التعبير استعمالا سيئا فأثار ابتسامات السخرية، ولكنه تعبير عميق المعنى. إنه يشير إلى أن الفن انسجام في حدوده الذاتية. للفن قيمته، لا لأنه تربوي (بالرغم من أنه قد يكون كذلك)، ولا لأنه مجدد للقوى (بالرغم من أنه قد يكون كذلك)، ولا لأن كل إنسان يستمتع به (لأن هنالك من لا يستمتعون به)، بل حتى لا لأنه يتعلق بالجمال، إنما للفن قيمته لأنه يتعلق بالنظام، ويخلق لنفسه عوالم صغيرة، فيها انسجام داخلي، في عقر هذا الكوكب الذي يتسم بالفوضى.
4
وأود أن أتصدى الآن لفكرة النظام. ولهذه الفكرة أهميتها في دعواي، وأريد هنا أن أستطرد في الكلام، وأنظر إلى النظام في الحياة اليومية، قبل أن أتعرض للنظام في الفن.
في عالم الحياة اليومية، العالم الذي نقطنه بالرغم منا، كثيرا ما يتحدث الناس عن النظام، وبالأخص رجال الدولة ورجال السياسة منهم. ولكنهم يميلون إلى الخلط بين النظام والأوامر، كما يخلطون بين الابتكار والقاعدة. والنظام في رأيي شيء يتطور في الداخل، وليس شيئا يفرض من الخارج. إنه استقرار داخلي وانسجام حيوي، ولم يوجد قط في المجال السياسي والاجتماعي إلا للتيسير على المؤرخين. وليس الماضي حقا - إذا نظرنا إليه نظرة واقعية - إلا سلسلة من الحوادث غير النظامية، يتلو أحدها الآخر طبقا لقواعد يمكن اكتشافها من غير شك. وتتميز قطعا باطراد الزيادة في تدخل الإنسان، ولكنها برغم هذا كله لا تعدو أن تكون سلسلة من الحوادث غير النظامية؛ ولذا فإن ما أرجوه اليوم - ككاتب - هو نوع من عدم النظام يكون أكثر صلاحية للفنانين من النظام الحالي، ويمدهم بمصادر للوحي أوفى، وبظروف مادية أفضل. وانعدام النظام هذا لن يدوم - فإن شيئا لا يدوم - غير أن بعض ضروب عدم النظام في الماضي كان لها بعض المزايا، كما كان في أثينا القديمة مثلا، وفي إيطاليا لعهد النهضة، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر، وفي بعض عهود الصين وفارس، وقد نستطيع أن نقوم بعمل ما لكي نتعجل الفترة التالية. ولكن دعنا لا نتجه بقلوبنا مرة أخرى إلى حيث لا توجد أسباب الفرح الحقيقية. لقد وعدنا نظاما جديدا بعد الحرب العالمية الأولى يتحقق عن طريق عصبة الأمم. غير أن الوعد لم يتحقق، وليست عندي ثقة في الوعود القائمة، أيا كان من يؤيدها، فإن العدوان الصارم للعلم يأبى علينا هذا. ولا نستطيع أن نبلغ الاستقرار الاجتماعي والسياسي لأنا لا نكف عن الكشف العلمي وعن تطبيقه؛ ومن ثم فنحن لا نكف عن تدمير النظم التي أقيمت على أساس مكتشفات سابقة أشد بساطة. ولو أن العلم يكتشف ولا يطبق - أو بعبارة أخرى، لو أن الناس كانوا بالعلم أشد منهم شغفا بالقوة - لكانت البشرية في موقف أكثر أمنا وأشد طمأنينة، ولكان الاستقرار الذي يتحدث عنه رجال الحكومات شيئا ممكنا، ولأمكن إيجاد نظام جديد يقوم على أساس الانسجام الحيوي، ولاقترب العصر السعيد المرتقب فوق هذا الكوكب. بيد أن العلم لا يبدي أية علامة تدل على ذلك. ولقد أعطانا آلة الاحتراق الداخلي، وقبل أن نهضمها ونتمثلها بكثير من المشقة في نظامنا الاجتماعي، أمكنه استغلال الذرة، وحطم كل نظام جديد كان من المتوقع ظهوره ، فكيف يستطيع الإنسان أن ينسجم مع ما يحيط به، في حين أنه لا يفتأ يتناوله بالتغيير والتبديل؟!
وأود أن أؤكد أن النظام في الحياة اليومية وفي التاريخ، أو النظام في المجال الاجتماعي والمجال السياسي، لا يمكن تحقيقه في ظل الظروف النفسية الحاضرة.
فأين يتحقق؟ لا أقول في المجال الفلكي، حيث جلس على عرشه سنوات عدة؛ فلقد أمست السموات شديدة الشبه بالأرض منذ أينشتين، ولم يعد بوسعنا أن نلتمس الطرف المناقض للفوضى في سماء الليل، ونتطلع، مع جورج مرديث، إلى النجوم، ونحسبها محشودة وفقا لقانون ثابت لا يتغير، أو نستمع إلى موسيقى الكواكب؛ فليس النظام هناك. ويبدو أن هناك مجالين اثنين في الكون بأسره يمكن أن نلتمس فيهما النظام. أما أولهما، وهو لا يقع في حدود موضوعي، فهو النظام الإلهي المقدس، أو الانسجام الصوفي، وهو ميسور، طبقا لجميع الديانات، لأولئك الذين يستطيعون أن يتدبروه. ولا محيص لنا عن الاعتراف بإمكان وجود هذا النظام، طبقا لما رواه البارعون فيه، ولا بد لنا من تصديقهم حينما يقولون إنه يتحقق، إذا كان ممكن التحقيق، بالصلاة. ولقد قال أحد شعراء هذه الطائفة: «إني أدعوك يا من لا يتغير أن تحل بي.» وقال آخر: «اللهم يا من تحبني أودع في الحب نظاما.» إن وجود النظام الإلهي المقدس لم يثبت قط بطلانه، وإن يكن من العسير اختباره.
أما المجال الآخر الذي يمكن أن يتحقق فيه النظام فهو مجال الجمال، وهو موضوعي هنا؛ إنه النظام الذي يستطيع الفنان أن يبدعه في فنه. وأعود الآن إلى هذا الموضوع فأقول إن العمل الفني، في عرفنا جميعا، إنتاج فذ، ولكن لماذا؟ إنه ليس فذا لما فيه من مهارة، أو نبل، أو جمال، أو استنارة، أو ابتكار، أو صدق، أو مثالية، أو نفع، أو تربية - وقد ينطوي على أية صفة من هذه الصفات - إنما هو فذ لأنه الشيء المادي الوحيد في هذا الكون الذي يمكن أن ينطوي على انسجام داخلي. وكل ما عدا الفن قد تشكل بضغط من الخارج، وإذا أنت أزلت عنه القالب الذي صب فيه تدهور وانهار. أما العمل الفني فيقف من تلقاء نفسه، وهو وحده الذي يستطيع ذلك. إنه يحقق شيئا كثيرا ما لوح به المجتمع ووعد به، ولكنه كان مخادعا في كل ما وعد. لقد تدهورت أثينا القديمة، ولكن «أنتيجون» يقف على قدميه. وتدهورت روما في عهد النهضة، ولكن سقف سستين لا يزال مصورا. وقد عبث جيمز الأول، وبقيت «ماكبث». وعبث لويس الرابع عشر، وبقيت «فيدر»؛ فهل الفن للفن؟ أعتقد ذلك، وأنا في الوقت الحاضر أشد اعتقادا مني في أي عهد سبق. إنه الإنتاج المنظم الوحيد الذي أخرجه الجنس البشري المتخبط، إنه نداء آلاف الحراس، والصدى العائد من آلاف المتاهات، إنه مصدر النور الذي لا يمكن إخفاؤه (إنه خير شاهد نستطيع أن نقدمه دليلا على كرامة الإنسان).
5 (1-4) التسامح
إن كل إنسان يتحدث عن إعادة البناء، ولخصومنا مشروعاتهم لإيجاد نظام جديد في أوروبا يكفلونه بشرطتهم السرية. ونحن من جانبنا نتحدث عن إعادة بناء لندن أو إنجلترا أو المدنية الغربية، ونرسم الخطط للتنفيذ. كل هذا حسن، ولكني عندما أستمع إلى مثل هذا الكلام وأشهد المهندسين المعماريين وهم يرهفون أقلامهم للرسم، والمتعهدين وهم يحسبون تقديراتهم، ورجال الدولة وهم يحددون مجال نفوذهم، وعندما أرى كل إنسان مقبلا على العمل، أذكر نصا مشهورا يقول: «عبثا ما يعمل كل أولئك الذين يشيدون البيت، ما عدا السيد الذي يبنيه لنفسه.» ووراء الصورة الخيالية التي ترسمها هذه الكلمات تكمن حقيقة علمية صارمة، وهي أنه ما لم يكن لديه اتجاه عقلي سليم، ونفسية صحيحة، لا تستطيع أن تبني أو تعيد بناء أي شيء يتصف بالدوام. والنص صادق لا لرجال الدين فحسب، ولكن للعاملين مهما تكن نظرتهم. ومما له دلالة أن أحد مؤرخينا، وهو الدكتور أرنولد توينبي، قد اختار هذا النص عينه ليقدم به دراسته العظيمة عن نمو الحضارات وانهيارها؛ فمما لا شك فيه أن الأساس السليم الوحيد لأية حضارة من الحضارات هو توافر حالة عقلية سليمة.
وأية حالة عقلية نعدها سليمة؟ إننا في هذا قد نختلف؛ فإن أكثر الناس إذا سئلوا: أية صفة روحانية نحن بحاجة إليها لإعادة بناء المدنية؟ أجابوا بأنها «المحبة». لا بد للناس من تبادل الحب كما يقولون، وكذلك لا بد للأمم من أن تتحاب؛ وعندئذ نقف عند حد سلسلة الكوارث التي تهدد بتدميرنا.
ولكني أعارض هذا الرأي بشدة، رغم احترامي له. الحب قوة عظمى في الحياة الخاصة، بل هو أعظم من كل شيء آخر. غير أن الحب في الشئون العامة لا يجدي، ولقد جرب المرة تلو المرة، في مدنيات العصور الوسطى المسيحية، وكذلك في الثورة الفرنسية، وهي حركة دنيوية أكدت مرة أخرى ضرورة الإخاء بين البشر. وكانت هذه التجارب تئول إلى الفشل دائما. إن فكرة تبادل الحب بين الأمم، أو بين الهيئات التجارية أو لجان التسويق، أو أن يحب الرجل في البرتغال زميله في بيرو الذي لم يسمع به من قبل، هذه فكرة باطلة، غير واقعية، خطرة. وهي تؤدي بنا إلى شعور عاطفي غامض غير مأمون الجوانب. إننا نتغنى ب «حاجتنا إلى المحبة»، ثم نتقاعد وتسير الدنيا سيرتها الأولى. والحقيقة أننا لا نستطيع أن نحب إلا ما نعرفه معرفة شخصية، ولا نستطيع أن نعرف كثيرا. إن ما نحتاج إليه في الشئون العامة، وفي إعادة بناء الحضارة، شيء أقل من ذلك مسرحية وعاطفية، وذلك هو التسامح. وهو فضيلة مقبضة، تدعو إلى الملل والسأم. وكثيرا ما يكون ثقيلا على النفس، على نقيض الحب في هذا. وهو سلبي يعني احتمال الناس فحسب، أو يعني القدرة على تحمل الأمور. ولا أعرف شاعرا تغنى بالتسامح، أو أقام له تمثالا. غير أن هذه هي الصفة التي نحن أشد ما نكون حاجة إليها بعد الحرب، وتلك هي الحالة العقلية السليمة التي نبحث عنها، وهذه هي القوة الوحيدة التي تمكن العناصر المختلفة والطبقات والمصالح المتعارضة من الانضمام بعضها إلى بعض في عملية إعادة البناء.
6 (1-5) تحيتان للديمقراطية
ويؤدي بي هذا إلى الحديث عن الديمقراطية، «بل إلى المحبة، والجمهورية المحببة، التي تعيش على الحرية وحياة الناس». وليست الديمقراطية جمهورية محببة في الواقع، ولن تكون، ولكنها أقل تنفيرا من صور الحكومة المعاصرة الأخرى، ومن أجل هذا فهي تستحق منا التأييد؛ فهي تبدأ من افتراض أهمية الفرد، وأن كل صنوف الناس مطلوبة لإنشاء الحضارة. وهي لا تقسم المواطنين إلى رؤساء ومرءوسين، كما تفعل النظم التي تستهدف الكفاية. إنني أشد ما أكون إعجابا بقوم حساسين يحبون أن يبدعوا شيئا ويكشفوا شيئا، ولا يقيسوا الحياة بمقياس القوة. ومثل هؤلاء القوم يجدون فرصة في ظل الديمقراطية أكثر مما يجدونها تحت أي نظام آخر. إنهم يؤسسون الديانات، الكبرى والصغرى، أو ينتجون الأدب والفن، أو يقومون ببحوث علمية غير مغرضة، أو قد يكونون من نسميهم «عامة الناس» الذين يبدعون في حياتهم الخاصة، فيحسنون تربية أبنائهم، مثلا، أو يساعدون جيرانهم. كل هؤلاء الناس يحتاجون إلى التعبير عن أنفسهم، وهم لا يستطيعون ذلك إلا إذا منحهم المجتمع الحرية لأداء هذا التعبير، والمجتمع الذي يسمح لهم بأكبر قدر من الحرية هو المجتمع الديمقراطي.
وللديمقراطية ميزة أخرى؛ فهي تسمح بالنقد، وبغير النقد العام لا بد أن تقع الفضائح التي يكتم سرها. ومن أجل هذا أومن بالصحافة، بالرغم من كل أكاذيبها وابتذالها، وأومن بالحياة النيابية، بالرغم من السخرية التي تتعرض لها أحيانا ووصف ما يجري في مجالسها بالحديث العابر، ولكني أعتقد في هذه المجالس لأنها مجال للحديث العابر.
ومن ثم فإني أحيي الديمقراطية تحيتين؛ أولاهما لأنها تسمح بالتنوع، وثانيتهما لأنها تبيح النقد. وتكفيها تحيتان، وليس هناك مجال للتحية الثالثة، التي لا تستحقها إلا المحبة، أو الجمهورية المحببة.
7 (1-6) القوة أو الابتكار
ثم القوة، وما أدراك ما هي! إننا حينما نحاول أن نكون حساسين، متقدمين، محبين، متسامحين، ينشأ على الفور سؤال لا نرتاح إليه: ألا يتوقف المجتمع كله على القوة؟ فإذا كانت الحكومة لا تعتمد على الشرطة والجيش، فكيف تأمل أن تستطيع الحكم؟ وإذا كان الفرد يقرع على رأسه أو يزج به في معسكر العمل، فأية أهمية إذن تكون لآرائه؟
ولا تحيرني هذه المشكلة كما تحير غيري؛ فأنا أدرك أن المجتمع كله يتوقف على القوة. غير أن كل الأعمال الخلاقة، وكل العلاقات الإنسانية المهذبة، تقع في الفترات التي لا تكون فيها القوة في الطليعة. وهذه الفترات هي التي لها أهميتها، وأريدها أن تتكرر وأن تطول بقدر الإمكان، وأسميها «الحضارة». ومن الناس من يجعل من القوة مثلا أعلى ويجعل لها الصدارة ويقدسها، بدلا من أن يجعلها في المؤخرة ويبقيها هناك ما استطاع. وأعتقد أن هؤلاء الناس مخطئون، كما أعتقد أن المتصوفين - الذين يناقضونهم في الرأي - أشد منهم خطأ حينما يعلنون أن القوة ليس لها وجود؛ فأنا أعتقد أنها موجودة، وأن من واجبنا أن نمنعها من أن تخرج من مكمنها، ولكنها تخرج عاجلا أو آجلا؛ وحينئذ تدمرنا وتدمر كل شيء جميل نكون قد صنعناه. بيد أنها لا تخرج دائما لحسن الحظ لأن الأقوياء أغبياء.
هذا ما أحسه إزاء القوة والعنف. غير أن القوة - ويا للحسرة - هي الحقيقة النهائية فوق هذه الأرض، ولكنها لا تصل دائما إلى مكان الصدارة. ومن الناس من يسمي فترات اختفائها ب «عهود التدهور»، أما أنا فأسميها «الحضارات»، وأجد في أمثال هذه الفترات ما يبرر التجربة الإنسانية أساسا. وإني لأتجه نحو هذه الفترات حتى يصدمني القدر. ولست أدري إن كان مرد ذلك عندي إلى الشجاعة أو إلى الجبن. غير أني على يقين من أنه لولا انصراف بعض الناس في الماضي عن اتجاه القوة، لما تحدر إلينا أي شيء مما يصح أن تكون له قيمة. إن الناس الذين أوليهم أكبر قسط من احترامي هم أولئك الذين يسلكون مسلك المخلدين، وينظرون إلى المجتمع كأنه أبدي. وكلا الغرضين على خطأ، ولا بد من قبولهما كليهما باعتبارهما حقيقتين ثابتتين لو أردنا أن نواصل الغذاء والعمل والمحبة، وإن أردنا أن نستبقي بعض نوافذ الروح البشرية مفتوحة تخرج منها الأنفاس، وليس من المحتمل أن يهبط على البشرية عهد سعيد، ولن تقام عصبة للأمم أفضل وأقوى، ولن يجلب للعالم سلاما وللفرد كمالا أي ضرب من ضروب المسيحية أو أي دين آخر يحل محلها. إن «قلب الإنسان» لن يتغير، ولكنا لا ينبغي لنا برغم هذا أن نيئس، بل إنا لا نستطيع أن نيئس، فإن التاريخ يثبت لنا أن الناس كانوا دائما يصرون على أن يبدعوا ويبتكروا والسيف مصلت فوق الرءوس، وأنهم أدوا واجبهم الفني والعلمي والعائلي مجردين عن الغرض والهوى، وأنه من الخير لنا أن نحذو حذوهم برغم الطائرات التي تئز فوق رءوسنا. وهناك غيري من الناس أقوى بصيرة وأشد شجاعة يرون خلاص البشرية ماثلا أمام أعينهم، ويرون في تصوري للحضارة تفاهة رأي، ومراوغة للفرار والهروب.
وليس من شك في أن من المبالغة في الرأي أن نقول باستحالة التحسن في النفوس، أو أن نعتقد أن الإنسان الذي لم يتملك القوة إلا بضعة آلاف من السنين لن يتعلم كيف يقيد من قوته. وكل ما أعنيه أن الناس إذا استمروا في التقاتل كما يفعلون فلن يتحسن العالم عما هو عليه، وأنه ما دام هناك عدد من الناس أكثر مما سبق، وما دامت وسائل تدميرهم لأنفسهم أفتك مما كانت، فإن الدنيا لا بد أن تنحدر إلى الأسوأ. أما ما هو خير عند الناس، وما هو خير بالتالي في هذه الدنيا، فهو إصرارهم على الابتداع، واعتقادهم في الصداقة والولاء منزهين عن الأغراض والأهواء. وبالرغم من أن «العنف» لا يزال بالفعل أعظم شريك لنا في هذا العالم المضطرب، فإني أعتقد أن الابتداع لا يزال كذلك - وسيظل أبدا - قوة كامنة تطفو على السطح كلما هبط العنف إلى القاع؛ ومن ثم فإنه بالرغم من أني لست من المتفائلين إلا أني لا أستطيع أن أتفق مع سوفوكليز في رأيه بأنه كان من الأفضل للإنسان ألا يولد. وبالرغم من أني لا أرى دليلا على أن المواليد الجدد يفضلون المواليد الذين سبقوهم - شأني في ذلك شأن هوراس - إلا أني أهيئ الفرصة لنظرة أشد تفاؤلا. إن هذه اللحظة التي نعيش فيها من أشق اللحظات، وليس بوسع المرء إلا أن يكتئب، وأن ترتعد فرائصه ذعرا ورعبا، وربما لا يسعه أيضا إلا أن يكون قصير النظر.
8 (1-7) الاعتقاد في أرستقراطية الحساسين
إننا في بحثنا عن طريق للخلاص ربما اتجهنا نحو عبادة الأبطال، ولكنا لن نجد، فيما أحسب، سبيلا للخلاص في هذا الاتجاه. إن عبادة الأبطال رذيلة خطرة، ومن المزايا الثانوية للديمقراطية أنها لا تشجعها، أو تعمل على إيجاد ذلك النوع من المواطن الذي نسميه «الرجل العظيم»، بل إن الديمقراطية ، على نقيض ذلك، تعمل على إيجاد أنواع مختلفة من صغار الناس بدلا من ذلك الرجل العظيم، وهو عمل أسمى كثيرا. بيد أن الناس الذين لا يستطيعون أن يأبهوا بتنوع الحياة، ولا يستطيعون أن يكونوا لأنفسهم رأيا خاصا، لا يرضيهم ذلك، ويتشوقون إلى بطل يخرون له راكعين ويتبعونه غير مبصرين. ومما له دلالة أن البطل جزء لا يتجزأ من النظام التحكمي الذي ذاع في هذه الأيام؛ فالنظام الذي يعتمد على إبراز الكفايات لا يمكن أن يسير بغير بضعة أبطال يبرزون في المجتمع لكي يزيلوا عنه أثر الغباء، وكأنهم الفاكهة التي ندسها في الطعام الفاسد لكي نجعله مستساغا. في هذا النظام يتصدر بطل من الأبطال وعن يمينه وعن يساره بطلان آخران أصغر منه شأنا. ويعتبر هذا النظام أمرا مستحبا. ويطمئن إلى هذا الثالوث الجبان والسئوم، وينحني احتراما له، ويشعر بالقوة والتسامي.
ولكني لا أثق في «عظماء الرجال»؛ فهم يخلقون حولهم جماعة متكررة متشابهة، وكذلك بركة من الدماء في كثير من الأحيان. وأحس دائما بما يحسه رجل صغير الشأن حينما أراهم يسقطون، ولكني برغم هذا أومن بالأرستقراطية، إذا كانت هذه هي الكلمة الصحيحة، وإذا جاز لرجل ديمقراطي أن يستعملها. غير أنها ليست أرستقراطية القوة التي ترتكز على علو المرتبة والنفوذ، ولكنها أرستقراطية الحساسين، وأولئك الذين يراعون شعور غيرهم، وكل مقدام جسور. وإنك لتجد أعضاء هذه الأرستقراطية في جميع الأمم وبين جميع الطبقات، وفي كل العصور، وإن بينهم لتفاهما خفيا كلما تلاقوا، إنهم يمثلون التراث الإنساني الصادق، والنصر الوحيد الدائم لهذا الجنس البشري الغريب الذي ننتمي إليه على أسباب القسوة والفوضى. وإن آلافا منهم لتهلك في غمرة النسيان، وقل منهم من يظفر باسم عظيم. وهؤلاء حساسون إزاء أنفسهم، كما هم حساسون إزاء غيرهم ، وهم يحافظون على مشاعر الناس دون أن يكونوا سببا في ضيقهم. وليست شجاعتهم اختيالا، ولكنها قدرة على الاحتمال. وهم يستطيعون أن يتقبلوا الفكاهات، وكم من مرة أدرك أصحاب السلطان قيمتهم فتصيدوهم واستغلوهم، كما كان كهنة قدماء المصريين، أو رجال الكنيسة المسيحية ، أو الموظفون المدنيون في الصين، أو الحركات الجماعية، أو غير ذلك من الطرق العجيبة، ولكنهم كانوا دائما ينفذون من خلال ما نصب لهم من شباك ويلوذون بالفرار. وعندما تغلق أبواب المصايد لا تراهم في بطونها؛ فمعبدهم، كما قال أحدهم، هو «قداسة المحبة القلبية»، ومملكتهم، التي لا يملكونها أبدا، هي العالم الفسيح.
ومع وجود هذا النوع من الناس ضاربا في الأرض ومعترضا طريقنا دائما إذا كانت لنا عيون ترى، وأيد تحس، لا يمكن أن نحكم على تجربة الحياة فوق هذا الكوكب بالفشل الذريع. وبوسعنا أن نرحب بهذه التجربة باعتبارها مأساة فحواها أننا عجزنا عن إيجاد وسيلة نستطيع بها أن ننقل هذه المزايا الفردية إلى الشئون العامة؛ ذلك أنه عندما يظفر الناس بالنفوذ تراهم يسيرون على عوج وينحرفون أحيانا؛ لأن الاستيلاء على السلطة يرفعهم إلى منطقة لا يجدي فيها الإخلاص الذي يعرفه الناس. إن مخلص البشرية في المستقبل، إذا كتب له الظهور، لن يبشر بدين جديد، ولن يخرج عن مجرد استغلال هذه الأرستقراطية التي أشرت إليها، وسوف يجعل إرادة الخير والمزاج الطيب الكامن فعلا في النفوس ذا أثر وذا قوة.
إن ما تقدم هو آراء رجل يؤمن بالفردية وبالحرية، وجد الحرية مداسة تحت الأقدام، فأحس أولا بالخجل، ثم تطلع حواليه، وقرر أنه ليس ثمة سبب يدعو إلى الخجل ما دام غيره من الناس، مهما تكن أحاسيسهم، يشعرون كما يشعر بعدم الاطمئنان. أما عن الفردية، فلست أرى مهربا منها، حتى إن أردت ذلك. يستطيع البطل الدكتاتور أن يسحق مواطنيه حتى يصبح كل منها شبيها بالآخر، ولكنه لا يستطيع أن يصهرهم في رجل واحد؛ فإن ذلك فوق طاقته. يستطيع أن يأمرهم بالانغماس، ويستطيع أن يحثهم على التلاشي في الجماعة، ولكنهم يولدون منفردين رغما عنهم، ويموتون منفردين. ونظرا لأن كلا منهم محدود الطرفين، ولا يستطيع أن يتجنبهما، فإنه لا بد أن يخرج دائما عن الخط الدكتاتوري المرسوم. إن ذكرى الميلاد وتوقع الموت تكمن دائما في نفس الإنسان، وتفصله عن غيره؛ ومن ثم تجعله قادرا على تبادل الرأي معهم. لقد أتيت إلى هذه الدنيا عاريا، وسوف أخرج منها عاريا! وهو أمر جميل حقا؛ لأنه يذكرني بأني عار تحت قميصي مهما يكن لونه.
9
المصادر
كل المختارات مقتبسة من مجموعة مقالات إ. م. فورستر وبحوثه وإذاعاته التي نشرها تحت عنوان «تحيتان للديمقراطية».
1 «ما أومن به».
2 «تحدي زماننا».
3
نفس المصدر.
4
نفس المصدر.
5 «الفن للفن».
6 «التسامح».
7 «ما أومن به».
8
نفس المصدر.
9
نفس المصدر.
الفصل الخامس
جون موريس كلارك
(1884م-...)
جون موريس كلارك هو أحد رجال الاقتصاد المبرزين في أمريكا، وقد لعب دورا أساسيا في إعادة توجيه جهود الاقتصاديين نحو القضايا الاجتماعية العاجلة في زماننا هذا، وكان من الطلائع الذين مثلوا دوائر الأعمال في نظريات، والذين فصلوا الملامح الأساسية التي يتميز بها اقتصادنا المختلط. وفي أدائه لهذا الواجب، لم يتقيد كلارك بالفروض المبسطة الثابتة التي تمس الاقتصاد ولا تغوص فيه، تلك الفروض التي كان يقوم عليها علم الاقتصاد القديم المعتمد، والتي لقنها إياه والده جون بيتس كلارك، وهو من الرجال النابهين البارزين. وقد أدى الجانب الإنشائي من عمله إلى سلسلة متصلة الحلقات من المكتشفات التي تعلل تلك النواحي من حياتنا الاقتصادية التي تتصف بأنها أكثر واقعية وأقوى فاعلية، والتي تبحث في المشكلات الكبرى التي تتعلق بحرية الإنسان وبالعوامل الاقتصادية في ظروف العصر الحاضر.
ولد كلارك في نورثهامبتن بماساشوستس عام 1884م، وتلقى تعليمه في العقد الأول من هذا القرن في كلية أمهرست وجامعتي كولمبيا وشيكاغو حينما كانت تسيطر على الفكر والسياسة الاقتصادية «فروض الرضا والقناعة». وعلى هذه الفروض التي تدعو إلى حرية التعامل تؤدي عمليات السوق التي يسودها التنافس إلى معادلة المطالب الحقيقية للمستهلكين بالتكاليف الحقيقية للمنتجين في ظروف تستغل فيها المصادر استغلالا كاملا. وقد عرض كلارك في باكورة أعماله - في الرسائل التي أعدها ليقنع بها زملاءه في المهنة - مواضع النقص في النظريات القديمة، وصاغ وسائل جديدة للتحليل يهاجم بها مشكلات مصادر الثروة المستغلة، وقصور وسائل التسويق، وسوء توزيع مصادر الثروة توزيعا مكانيا في ضوء الغايات البشرية والتكاليف الاجتماعية. وفي أوائل العشرينيات من هذا القرن صدرت هذه المباحث في كتابين يحتويان على آراء إنشائية بناءة أصبحت من الأسس المعتمدة في هذا الميدان، وهذان الكتابان هما: «دراسات في اقتصاديات التكاليف المرتقبة»، و«الرقابة الاجتماعية على الأعمال».
وبعد عام 1929م تعمق كلارك في مباحثه، ونقل اهتمامه إلى الكشف عن الوسائل التي تعالج بها مشكلات الكساد، والحرب، وتسريح الجيوش، وتضخم العملة، وسوغ هذه الوسائل التي دعا إليها. وقد تقدمت دراسته لدورات العمل حتى أمكن أن تصدر في مجلدين، هما: «العوامل الاستراتيجية في دورات العمل» عام 1934م، و«اقتصاديات تخطيط الأشغال العامة» في عام 1935م. وهاتان الدراستان اللتان سبقتا كينز لعبتا دورا هاما في توجيه انتباه الاقتصاديين نحو العوامل الاقتصادية الكبرى التي تؤثر في الاقتصاد عامة، كما أدتا إلى إقناع جمهور أكبر بالدور التوجيهي لسياسة الحكومة المالية والنقدية في زيادة الدخل القومي، والإنتاج، وتوفير العمل. وفي خلال هذه الفترة اشتغل كلارك مستشارا اقتصاديا للحكومة، وللجنة التخطيط القومي (في عام 1934م) ولإدارة الانتعاش القومي (1934-1935م)، وبدخولنا الحرب أمسى مستشارا لمكتب إدارة الأثمان (1940-1941م). وقبل أن تنتهي الحرب وجه التفاته إلى تحليل «تسريح هيئات الرقابة الاقتصادية إبان الحرب» لكي يبحث في طريقة إيجاد أعمال كافية في ظل نظام تلقائي حر، يلعب فيه كل من الحكومة - من ناحية - ونشاط الأفراد - من ناحية أخرى - دورا يتمم الآخر. وبعد الحرب أخذ ضغط التضخم الاقتصادي يزداد، فركز كلارك تفكيره في مشكلة الإجراءات العامة والخاصة التي يجب أن تتخذ لتحقيق مواصلة النمو الاقتصادي دون تضخم. «إن الإنسان بحاجة إلى أن ينتمي إلى مجتمع أصغر حجما وأكثر ذاتية من الدولة صاحبة النفوذ المطلق، ولكن الوحدات التي تقابل هذه الحاجة - بما فيها نقابات العمال - ليست أجزاء من مجتمع متكامل، وإنما هي مجموعات احتكارية، في حرب مع غيرها. ولفض هذا النزاع دون القضاء على الحرية يحتاج الأمر - فيما يبدو - أولا إلى أن تتوازن قوى هذه المجموعات توازنا معقولا، كما يحتاج ثانيا إلى أن تمارس المجموعات نفوذها مع تحملها مسئولية ما تصنع. ووسائل تحقيق ذلك واجب من واجبات صفاتنا كمواطنين وقدرتنا على الابتكار الاجتماعي.»
ولم تقتصر - عند جون موريس كلارك ذاته - صفات المواطن والقدرة على ابتكار وسائل جديدة لعلاج المشكلات العاجلة في العصر الحاضر على المجتمع الأمريكي، بل كتب كتابة مقنعة عن الحاجة إلى قبول الدور الذي يجب علينا أن نؤديه في مجتمع عالمي أوسع، كما كتب عن تهديد الشيوعية لهذا المجتمع، وعن تحدي المناطق التي لم تتقدم بعد ذلك. والتحق بجماعة من الاقتصاديين عالمية ممتازة، ونصح الأمم المتحدة بالإجراءات التي تتخذ للتقدم الاقتصادي، وفي كل ما أدى من عمل أبدى اهتماما شديدا بالحاجة إلى «الدفاع عن أسلوب للحياة يتفق ورفاهية الفرد وحريته وكرامته، وإلى تطويل هذا الأسلوب وتحسينه ليقاوم الدفع القوي للشيوعية الدكتاتورية التي تسير نحو عالم لا يؤيد الديمقراطية». والقطعة المختارة من كتابه «ماذا نستبدل بالعبودية؟» تنم عن اشتغال كلارك بالوسائل الاقتصادية للغايات الإنسانية.
وقد كان جون موريس كلارك أستاذا غير متفرغ بجامعة كولومبيا منذ عام 1953م، وشغل بجدارة كرسي الأستاذية الذي يحمل اسم جون بيتس كلارك. (1) ماذا نستبدل بالعبودية
جون موريس كلارك (1-1) انحلال أم انتقال؟
تحدث الأستاذ شتول عن «الفوضى التي نعيش فيها اليوم، وهي أخطر ما مر بنا منذ سقوط روما». ولا يشك أحد في هذا الخطر، ولا يمكن لأحد أن يعرف يقينا - اللهم إلا إن كان مؤمنا أو يائسا - إن كانت هذه الفوضى هي حالة الاضطراب التي لا مفر منها التي تلازم طور انتقال كبير، أم هي من علامات فناء الحضارة، وهي حضارة فسدت جذورها حتى باتت لا تقوى على حمل عبء الجذع الثقيل والفروع المنتشرة على مساحة واسعة. ونحن نعلم أنه لا يزال بهذه الحضارة كثير من العناصر الطيبة، ولكن كثيرا من الحضارات التي كانت مثلها تنطوي على عناصر طيبة قد ذوى من قبلها. وإن الميزان الذي ينبئ بالبقاء أو الفناء قد يكون غاية في الدقة، كالفارق الذي يفصل بين الهزيمة والنصر في معركة ملتحمة.
ولا يدل الانحلال حتما على أن الأفراد أسوأ اليوم بطبيعتهم مما كانوا من قبل. والواقع أن تماسك المجتمع - حينما يتعقد، وحينما تضعف الفردية ونمو الحرية العقلية والخلقية من النظم القديمة - بحاجة إلى أفراد أفضل. ولقد تغلب الأفراد الأقوياء على هذه الحرية. والناس جميعا لديهم هذه الحرية اليوم، سواء نموا نموا كافيا لمقابلة متطلبات هذه الحرية أم لم ينموا. إنهم ينبذون القيادات القديمة والنظم القديمة، ويتقبل أكثرهم نظما جديدا وقيادات أخرى. غير أن هذه النظم والقيادات الجديدة قد تصاغ على هواهم، ومصالحهم الطائفية، وما يميلون إليه، أكثر مما تصاغ وفقا لما يتطلبه بناء اجتماعي سليم. وقد اكتسبت الطوائف قوة تمكنهم - تحت قيادة تستغل هذه القوى الهدامة - من تحطيم المجتمع بدلا من تعزيزه وتقويته. إن الأسس القديمة التي كانت تعتمد عليها الأخلاق قد بقي تأثيرها في بعض الناس وفقدت تأثيرها في بعضهم الآخر. وأخذ مفهوم النواميس يتغير، وأمسى لكل طائفة ناموسها. وبالرغم من اشتداد الروح الطائفية، فإن القاعدة القديمة - قاعدة الأنانية والمصلحة الخاصة التي لا ترعى مصالح الآخرين - ما زالت قائمة، بعدما تغلبت على العوائق التي كانت فيما مضى تحد من أخطارها. إن إعادة إنشاء ناموس يقبله كل إنسان نوع من الجهد الذي يتطلب انقضاء قرون طويلة من الزمان. وقد تحل بنا الكارثة خلال هذه القرون.
ولست أظن أن شعبا من الشعوب قد واجه من قبل واجب إنشاء ناموس للسلوك الاجتماعي، والأساس الروحاني الذي يرتكز عليه، مع مثل هذا العزوف - الذي نلمسه اليوم - عن قبول القيادة أو السلطة إلا فيما يعزز المصلحة الطائفية التي تتعارض مع مصالح الطوائف الأخرى. إن روح الشك التي تسود هذا العصر أفادت في هدم الأساطير التي ضلل بها القادة المزيفون الشعوب لصالح هؤلاء القادة أنفسهم. ولكن هذا الشك إذا تمادى إلى حد نبذ جميع الآراء ما خلا تلك التي تعزز المصالح الخاصة بصورة واضحة - وهو قمين بهذا - فإن بوسعه حينئذ أن يحطم قدرتنا - كشعب - على التضامن في العمل بدرجة من الحرية معقولة.
ويجدر بنا أن ندرك خطورة هذه الأزمة. غير أن أفضل إيمان نتمسك به هو الاعتقاد بأنا في مرحلة انتقال لا انحلال. حقا لقد كنا نمر بمرحلة انتقال خلال القرن التاسع عشر، وهو انتقال أثار الحيرة عند هنري آدمز الذي نفذ فيه إلى أبعد مما نفذ أكثر الناس. وكانت ضروب الحرية التي استمتعنا بها آنذاك صورا انتقالية، بالرغم من أن كثيرا من الناس ظنها صورا نهائية. ولكنا ما زلنا نأمل أن تكون الحرية ذاتها شيئا أكثر من قصة عابرة، ربما حدثت في فترة قصيرة قبل أن يفرض منطق الثورة الصناعية نفسه فرضا كاملا. ويبدو أن هذا الأمل هو أكثر من تفاؤل لا يستند إلى تعليل عقلي؛ فمن وراء النواميس الخلفية المتغيرة، لا يزال الإنسان العادي يميل ميلا شديدا إلى العيش وفقا لناموس يرضى عنه إخوانه في الإنسانية. نعم إن في داخل الطوائف نظما وقيادات، غير أن بين هذه الطوائف إدراكا للحاجة إلى التوافق أعم مما يبدو في أكثر الأحيان في البيانات العامة التي تتخذ صورة النداء السياسي الخاص بما ينطوي عليه أي نداء سياسي من عيوب.
إن ما نسميه «الرأسمالية» عقيدة توقف موقف المدافع عن نفسها، والمدافع يخسر كثيرا من المواقع. أما المبادأة فتكمن في قوى أخرى. ويبدو أنه لن تكون هناك رجعة إلى المضاربة الفردية. فإن حدثت، فلن يكون فيها حل مشكلة الضمان. ويجب علينا أن نتقدم على أساس يحتوي على الضمان. غير أن الجماعية المطلقة هي بالنسبة إلينا في موقف المدافع أيضا، وبخاصة النوع المركزي منها. أما الجماعية اللامركزية، التي قد تحتفظ بقدر أكبر من المرونة والحرية، فليست من الأمور التي يستطيع الإنسان أن ينشئها إنشاء، ولا بد لها أن تكون نتيجة للتطور. وهي تعتمد على نمو القيود والنظم التلقائية عينها التي نحتاج إليها لكي نجعل نظامنا المختلط في الوقت الحاضر فعالا؛ ومن ثم فإن السؤال القائم الآن هو : في أي اتجاه إنشائي نستطيع أن نتقدم به، وأي بناء إيجابي نستطيع أن نقيمه من القوى التي تملك المبادأة في الوقت الحاضر؟ ⋆ (1-2) الفرد والجماعة والدولة
إننا بحاجة إلى تعريف الحقوق الطبيعية للإنسان في وضع جديد، وفي مضمون جديد، ولقد نأخذ على فكرة الحقوق الطبيعية أنها ارتبطت - إلى حد كبير - بمجموعة من القواعد المعينة التي تقوم على صورة من الفردية بالية عتيقة، وتعزو إليها صفة من الدوام لا تستند إلى أساس، كما أنها طبقت نوعا من المساواة الشكلية المبنية على التعاقد على مجتمع لم تعد وظائفه المتنوعة تتفق مع هذا الإطار، وإنما تختفي وراء ذلك صورة ذهنية عن طبيعة الإنسان - حاجاته، واستجاباته، وقدراته - وعن النظم التي يتطلبها لكي يحقق طبيعته الفردية ويؤدي واجبه في المجتمع. هذه هي حقوقه الطبيعية، التي لا يمكن للمجتمع أن يتجاهلها دون أن يتحمل الجزاء الذي تمتد جذوره في طبيعة المجتمع وطبيعة الإنسان. غير أن النظم التي تتجسد فيها هذه الحقوق لا تثبت على صورة واحدة، وهذه النظم - باستثناء بعض الحالات الأساسية - ليست هي بعينها بالنسبة إلى الهيئات التجارية والمساهمة في الإنتاج، وإلى الطبيب، والأستاذ، والعامل في مناجم الفحم. إن كل جيل لا بد أن يكشف عنها من جديد، مع تغير الظروف، وتغير المعرفة بالإنسان ذاته.
وآراؤنا الأساسية في العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة هي من وراء هذا كله تتطور بتأثيره وتتغير. ولقد عشنا - في هذا الصدد - في دنيا صراع بين مجردات كاذبة - المجتمع المجرد، أو الدولة المجردة، أو الفرد المجرد. وقد بنينا حضارتنا الحرة على أسطورة الفرد المجرد، الذي تقوم الدولة والجماعة لخدمته؛ على اعتبار أن المجتمع ليس إلا مجموعا عدديا لأمثال هذا الفرد، وأن الدولة أداتهم، تؤدي لهم أفضل خدمة إذا هي أعطتهم أقصى حرية لخدمة أنفسهم. وعلى نقيض هذه النظرية، وبالإفادة بما فيها من مغالاة وعيوب، نشأ مبدأ الدولة المتحكمة، التي يعيش فيها الفرد لخدمة الجماعة التي تتجسد في الدولة، وتشمل سلطة الدولة كل شيء في الحياة.
ومعنى هذا عمليا أن السلطة ليست فقط بغير حد، ولكنها كذلك بغير مسئولية.
غير أن نفورنا من هذا المبدأ ينبغي ألا يقودنا إلى تأييد نقيضه في الطرف الآخر الذي يؤدي إلى تأليه مصلحة الفرد الشخصية المستقلة التي لا تحتمل أي نوع من أنواع المسئولية؛ لأن كلتا هاتين النظريتين لا تمس إلا جانبا واحدا من الجانبين، ولا تمثل حقيقة الإنسان والمجتمع، وكلتاهما لا تصلح أساسا سليما لبناء صرح اجتماعي، إنما المجتمع الطيب هو الذي يفرض واجبات على أعضائه، واجبات يتطلب أداؤها استخدام قدراته استخداما كاملا، ويتقبل فيه الأعضاء هذه الواجبات قبولا تاما شاملا وعن رضا وطواعية. وحتى مجتمعنا الذي يغالي في الفردية يعترف بسيادة الدولة حينما تهاجم، بالرغم من أنه يجاهد جهادا شاقا للاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الحرية الشخصية، حتى إبان الحروب.
ويطمئن الأفراد اجتماعيا إذا هم سلموا للجماعة بالسيادة بشرط أن تكون الجماعة من النوع الذي يجد حياته ورفاهيته في حياة أعضائه ورفاهيتهم، وفي حسن العلاقة بين بعضهم وبعض. ومما يدعو إلى أمن الجماعة أن ترى رفاهيتها في رفاهية أعضائها، فتفسح في المجال لأغراضهم الفردية، إذا هم برهنوا على أنهم حيوانات اجتماعية وليسوا وحوشا أو آلات لا تبحث إلا عن ذاتها - إذا كان الفرد منهم يحسب لحاجات غيره وأغراضه حسابها، ويعتبر نفسه مسئولا أساسا عن سلوكه مسلك عضو في جماعة. وبهذا النوع من أنواع الفرد، وفي هذا الضرب من ضروب الجماعة، لا يبقى من المستحيل أن نوفق بين الفكرتين المتعارضتين، ويمكن أن تتحدا في مركب واحد منتج، ويهبط الصراع إلى حد أن يصبح مجرد ملاءمة بين تفصيلات النقاط الفرعية.
وفي هذا النوع من أنواع المجتمع تمس الدولة أقوى عامل محسوس لدى الجماعة، ولكنها ليست العامل الوحيد. وبالرغم من أن الدولة بحاجة إلى أن تملك سلطة الحكم العليا النهائية - ولا نتعرض الآن إلى المشكلة التي تتعلق بحق الثورة الأعلى - فهي تستطيع أن تسير الأمور مع ممارستها لحد ضئيل من سلطة الحكم، واحتفاظها - برغم هذا - بحياة جماعية منظمة.
وعلى قدر ما تكون المسئولية الاجتماعية للأعضاء ناقصة، تكون النتيجة مضطربة.
أما إذا ساد إحساس بالمسئولية أساسي قوي، فإن الاضطراب لن يبلغ حد الفوضى، ولن تكون بالدولة حاجة إلى إقامة نفسها - كما فعلت ألمانيا النازية - هيئة تتجسد فيها الجماعة تجسدا كاملا، وتفرض نفوذها على وجود الفرد من جميع نواحيه، بل تتألف - بدلا من ذلك - جماعات عديدة تمثل أجزاء المجتمع، وما دامت لا تنازع غيرها فهي في ذاتها مجتمعات صغرى. أما في حالة النزاع فعليها إما أن تكيف نفسها وإما أن تخضع لغيرها. ⋆ (1-3) الحاجة إلى مجتمع اقتصادي
لقد خدعنا أنفسنا زهاء مائة وسبعين عاما، فحسبنا أننا نستطيع بمراعاة المصالح الخاصة دون أية مسئولية إزاء الصالح العام أن نقيم مجتمعا لا يتقدم فيه الناس فحسب، بل يعيشون فيه أيضا خلال تقدمهم مكرمين منسجمين. ولقد وضعنا ثقتنا في سوق آلية، تهتم برواج السلع وتهمل الأشخاص، وفي سياسة، لا تقيم إلا وزنا ضئيلا للأخلاق، وتمثل مصلحة معينة أكثر مما تمثل صالح المجموع. وفي الوقت عينه كان هناك عاملان من عوامل الإصلاح - هما: المجتمع الذي يحترم فيه كل جار جاره، وعامل الدين - أخذا يضعفان في قدرتهما على التأليف بين الناس. وفي كثير جدا من شئون الحياة اليومية ترى الفرد أولا عضوا في جماعة اقتصادية من الجماعات، ثم هو بعد ذلك أمريكي (أو وطني). وقد نرثي لهذا المآل، غير أن ما يحز في القلب فعلا هو أن المجتمع هو الذي أدى إلى هذا الموقف، بإهماله أجيالا طويلة للحاجات الضرورية، وبتعاميه عن حقيقة الإنسان وحقيقة الجماعة.
وقد بدأنا نتنبه للحاجات الواضحة المحسوسة، وشرعنا نعد لهذه الحاجات عدتها. فمن الناحية الإنسانية والروحية بدأنا نتحسس طريقنا نحو معايير مشتركة، أو على الأقل نحو قاعدة نعيش على أساسها معا بما لدينا من معايير. غير أن ما لدينا من مخلفات يجب تسويتها كثير. علينا أن نتعلم المعنى العملي لهذه الحقيقة، وهي أن المجتمع ليس مجرد شيء يتطلع إليه الفرد للمنفعة - وإن يكن فيه هذا الجانب - ولكنه كذلك شيء يدين له الفرد بالواجبات، وعلينا أن نتعلم أيضا أن المكاسب يجب أن يسوغها ما نقدمه من معونة، لا للزبائن وحدهم، أو حتى لصناعة من الصناعات، وإنما للصالح العام في جملته، وكان لا بد من إعادة الكشف عن هذه الحقيقة بعد أجيال من الحياة في عالم كان يتوقع من كل فرد أن يرعى صالح نفسه فقط.
ولا تستطيع الدولة مراعاة الحاجات المهملة إلى حد يسير فقط، أما الجانب الأكبر من هذه الحاجات فلا ترعاها إلا الجماعات التي تناضل في سبيل تعزيز مصالحها على حساب مكانة الجماعات الأخرى المعهودة. وهذه طريقة طبيعية سليمة لإحداث التغيرات الضرورية، إذا كانت الجماعات تدرك الخطر الاجتماعي فيما تفعل، وإذا كانت السلطة - فيما بين الجماعات - متوازنة توازنا متسقا يكفي لمفاداة تعرض أية جماعة من الجماعات لما تحدثه السلطة التي لا تحد من أثر فاسد معروف. وقد ألقى برين ج. هوفد رئيس المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي بيانا قويا عن الشروط الضرورية، وكان ذلك منذ فترة وجيزة، قال: «الحرية هي الاجتماع عن طواعية مع الأفراد الآخرين، الذين هم كذلك أحرار؛ ومن ثم فإن الحرية الفردية لا يمكن أن تتفق مع القدرة على استغلال الأفراد الآخرين أو على كبت حرياتهم ... يجب على الفرد أن يفهم ظروف حياته الخاصة لكي يقرر في حكمة أن عليه أن يحتمل هذا القدر من القانون أو من الطاعة لكي يستمتع بهذا القدر من الحرية أو ذاك. مثل هذا الفرد فقط هو الرجل الحر - بقدر المستطاع - الذي يحد فيما بينه وبين نفسه من حريته الخاصة في سبيل أكبر قسط ممكن من الحرية للجميع. والمجتمع الذي يتألف من أمثال هؤلاء الأفراد المتحررين يستطيع أن يهضم كل ما تحدثه التكنولوجيا من تغيرات وكل ما يحل بالعلاقات الاجتماعية من تطورات، وبوسعه أن يشكل القوى الديناميكية في صورة تطور مطرد، تلك القوى التي بغير هذا تكون قمينة بإشعال نار الثورة.»
ويحدد لنا هذا البيان مستوى عاليا دقيقا، وهو يتصور ضرورة الخضوع للقانون، ولا يجعل للفرد حرية اختيار مدى هذا الخضوع؛ ومن ثم فإن ذلك يقتضيه أن يقبل طائعا قرارا إجماعيا قلما يحدد مقدار الخضوع كما يريد الفرد أو يختار. وسيضطر الفرد إلى أن يتنازل عن كثير من حريته الشخصية في سبيل الخضوع للجماعة، وذلك ما لم يحدد حريته، في كثير من الأمور، دون أن ينتظر القانون ليقوم بهذا التحديد. والقواعد التي تتحكم في مثل هذا التحديد، وإن يكن من السهل قبولها نظريا، عسيرة عند تطبيقها على الحالات الملموسة، وبخاصة إن كانت هذه الحالات مما يمس الفرد ذاته. إن أولئك الذين يطالبون بحقوق جديدة لا يستطيعون أن يتبينوا في وضوح ما يلازم هذه الحقوق من واجبات، بل ولا يستطيعون أن يدركوا أن الحقوق الجديدة تتضمن واجبات جديدة، وإلا فهي حقوق مضيعة. وأشق من ذلك في إدراكه مخاطر النفوذ الذي لا يحدده غرض اجتماعي سليم. وحينما نواجه هذه المطالب مواجهة صحيحة، نستطيع عندئذ أن نزعم أننا نكون مجتمعا اقتصاديا. ⋆ (1-4) الحاجات الدينية والمجتمع
إن حاجات الإنسان وقدراته على إنشاء مجتمع من المجتمعات تتضمن حاجاته وقدراته الدينية؛ ومن ثم فإن من واجبنا أن نبحث عن العناصر التي تعاون تعاونا بناء على تحقيق ذلك. ويجب أن نؤكد أن النظرة التطورية إلى أصول الآراء الدينية ليست دليلا على صحة أو خطأ هذه الآراء في صورتها الراهنة. غير أنها قد تدفعنا نحو التسامح ونحو قبول التطور الذي لا يزال مستمرا. والهدف النهائي هو أن نؤلف بين أناس يختلفون في نظراتهم الدينية لكي يؤدوا واجب بناء المجتمع.
إن الإنسان يفسر ما لا يفهمه في الكون في حدود ما يفهمه؛ على اعتبار أن هذه الأمور الغامضة عمل شخصي تقوم به الأرواح الخيرة، أو الأرواح الشريرة. وتأتي في نهاية الأمر فكرة كائن خير، أوحد، عادل، قادر على كل شيء، لمصير كل فرد لديه أهميته - في عقائدنا نحن أهل الغرب. وقد تهذبت هذه النظرة لما زادت إنسانية الإنسان، وأمكن صياغة الكون القائم على أساسها وفقا لتقدم العلوم، وإن تكن الصياغة جزئية وفي وقت متأخر. ويتألف هذا البناء الديني من مواقف مختلفة من الرهبة والتقديس للقوى الكونية، ومن الفروض العقلية، وكذلك من لقانة بشرية وكونية كبرى، مدركة إدراكا ناقصا ومصوغة صياغة ناقصة، ومن استنتاجات منطقية من هذه الصيغ. والمنطق - إذا طبق على هذه الصورة - فقد يكون قوة مريعة؛ فقد كانت محاكم الاضطهاد الديني - إذا سلمنا بما قامت عليه من مقدمات - منطقية تماما وبغير رحمة. ويشتمل البناء الديني أيضا على روح الأخوة البشرية، وعلى المبادئ الخلقية الشكلية، وعلى المثوبة والعقاب، وعلى أمل انتصار الخير واندحار الشر. وهو يفعل فعله عن طريق التأثير في الدوافع الشخصية، وعن طريق الضغط على أنواع السلوك الاجتماعي الظاهري.
وقد وحدت كنيسة العصور الوسطى بين العقيدة والسلوك الخلقي، كما تحكمت في السلوك الاقتصادي والاجتماعي. وكانت معاييرها مألوفة، تكفل شيئا من الحماية للرجل العادي، وجانبا كبيرا منها للنظام القائم. وكان لها نفوذ دنيوي بلغ حدا لم يعد اليوم بالإمكان. وكانت عالمية، تدعم نظامها عقوبة جهنم، وهي نار واقعية طبيعية. وربما لا يستطيع أن يفل من هذا النفوذ للكنيسة سوى تضخم العمل التجاري في العصر الحديث. غير أن الإصلاح البروتستنتي حرم الكنيسة من العالمية الضرورية للتحكم في التصرفات العالمية الاقتصادية، كما مد من الفردية حتى بلغت الأساس الديني للأخلاق، وكذلك كان العلم يضعف من سيطرة العقيدة اليقينية.
ثم فقدت البروتستانتية مؤقتا الاهتمام بالتحكم الموضوعي في الصلات الاجتماعية، وتعرضت بخاصة للهجوم من الراديكاليين على اعتبار أنها «مخدر للجماهير». والآن بعد أن أخذت تحاول أن تعوض الوقت الذي فقدته في هذا الميدان، فإن سلطانها مقيد بالتغيرات التي لا يمكن النكوص فيها تاريخيا، وهي التغيرات التي أشرت إليها؛ فلقد أضحى التزام الدين تطوعا، والجحيم فرضا غامضا، والرعايا في المواقف التي يريد الدين أن يسيطر عليها، متنافرين غير منسجمين، ينخرط في سلكهم كثيرون متمردون صراحة على الدين. فولاية تنسي تضم دايتن، حيث حوكم سكوبس لنشره مبادئ التطور، كما تضم أوك ردج، حيث كان مولد عصر الذرة. وليس الأمر هينا أمام الكنيسة وهي تحاول أن تدخل مرة أخرى المبادئ الملائمة للأخلاق الاجتماعية في بناء اقتصادي ثابت مستقر، نما خلال نحو مائة وسبعين عاما على عقيدة أنه يستطيع أن يتقدم تقدما معقولا بغير هذه المبادئ.
وإني لأحب أن أتصور عالما، لا يرغب في الاعتماد على القوى غير الطبيعية التي لا تتفق والأسباب العلمية ونتائجها، ولكن العلم لم يقتل فيه إحساس الرجل العادي بتقدير الأمور التي يعالجها الدين؛ ثم أتساءل ماذا عساه فاعلا بهذه الأمور في عالم امحت فيه العقائد الدينية والكونية الموروثة؛ هل يرى أن الميراث الاجتماعي للإنسان يتضمن سندا خارجيا، لا يدرك كنهه الإنسان العادي؛ لأنه يخضع لقواعد السيكولوجيا والعلوم الاجتماعية؟ أو هل يرى أن الميراث العنصري للإنسان يتضمن شيئا في اللاوعي أقوى من قدراته الواعية، ويمكن وصفه بحق بأنه قوة كونية، تجعل كل امرئ يحمل بين جنبيه شيئا من الخلود على وجه الظن، ويحمل يقينا شيئا من حياة العنصر البشري الدائمة؟
هل يا ترى يرى أن هذه الحقيقة العلمية إن هي إلا جزء من قوى الطبيعة العالمية التي صاغ حولها الناس صورهم الذهنية عن الآلهة، وأن هذه الصور الذهنية - استنادا إلى ذلك - تمسي أقرب إلى الحقيقة من الآلية العلمية المجردة التي تتجاهل هذه الحقيقة، وأن الحقيقة العلمية تمثل قوة يعيش فيها الإنسان وتعيش في الإنسان، وتؤدي له كثيرا من الأمور التي تعبر عنها الأديان القائمة، بطريقتها الخاصة، في نصوص مكتوبة لا يحيط بها حصر؟ أعتقد أن ذلك ممكن، وأن مثل هذه المادة تحتاج إلى أن تكون جزءا من التصورات الدينية التي يمكن أن تكون حقيقية لقوم شاعت بينهم طرق التفكير العلمية. إنا إذا أكدنا هذه الصورة الذهنية، فقد لا تتضخم في أعيننا الفوارق بين مختلف المذاهب.
ومن الأمور التي ينبغي لمثل هذا العالم أن يدركها هو أننا حينما نجعل حياة الإنسان معبرة عن الجانب الاشتراكي البناء من هذا الميراث العنصري، لا يكفي أن نعظ الأفراد الذين تقوم أعمالهم اليومية على أساس فردي صارم، وإنما يجب علينا أيضا أن نراعي أن القاعدة الفردية في تغير. ولم تنسخ بعد قوانين السوق كل المدى الفردي في العمل وكل مسئولية. والهيئات المسئولة وإن تكن اجتماعية إلى حد ما إلا أن لديها إمكانيات فردية غير مستقلة، ونحن بحاجة إلى أن نجعل لهذه الإمكانيات أثرها في بناء الأعمال اليومية، وإلا فلن يفلح إحياء المحاولة لكي نجعل الأخلاق المسيحية فعالة في الأمور الدنيوية. وقد بلغنا حدا لن تعيش فيه مدينتنا إلا إذا هي قطعت شوطا كبيرا في سبيل النجاح. ⋆ (1-5) مغامرة الذكاء الخطرة
إذا كانت هذه الجولة غير المعهودة في مجالات الطبيعة البشرية وحاجات الإنسان قد أبرزت لنا حقيقة ما، فهي أن الذكاء مغامرة خطرة. إنه يتلمس الوسائل التي تؤدي إلى سد الحاجات التي لم تسمح الطبيعة البدائية بسدها، وهو يتطلب منا أمورا قد تثور عليها طبيعتها اللاواعية، وهو يبني أسسا «معقولة» للسلوك الاجتماعي ثم يشرع في هدم هذه الأسس التي بناها ويسلبها قوتها، وهو ينادي بمبادئ تبعث آمالا لا يستطيع المجتمع أن يحققها كاملة، أو أن يخفف من حدتها فيحطمها ويقضي عليها.
إن المرء في ردود أفعاله لا يكيف هذه الردود تماما طبقا لحاجات المواقف المختلفة، فتتخبط أو تنحاز انحيازا منحرفا. وينطبق هذا الحكم على كل أمر من الأمور، من أبسط الغرائز إلى «أرقى» الأعمال، في صورة المجردات الخلقية أو قواعد السلوك ذات الصبغة المعينة، أو المذاهب الدينية التي وصفها تسن بأنها «الأضواء المنكسرة». والمذاهب لا تفسح مجالا كافيا للدرجات المتفاوتة والأنواع المختلفة من الأحكام الشاملة الكونية التي تصدر عن البديهة، كما أن قواعد السلوك لا تقابل التنوع الذي لا حد له من الشخصيات البشرية والمواقف الإنسانية. وكذلك نجد أن القاعدة التقليدية ل «الفضائل الاقتصادية» التي آمنا بها قد أخذت تتحول، وهي بحاجة إلى موازنة جديدة بين المصلحة الذاتية ومسئولية الجماعة، كما أنها تجاهلت حاجات الإنسان باعتباره حيوانا اجتماعيا، وينبغي أن تفسح لها المجال. إننا لم نبن قط «مجتمعا عظيما» على أساس مشترك من الحرية والأخلاق الاجتماعية التقدمية. وهذا الواجب الذي لم يسبقنا إليه أحد هو الذي يواجهنا اليوم.
إن حياتنا الاقتصادية وتفكيرنا الاقتصادي قد أكدا مقدار ما نسد من حاجات، ومقدار الأنواع التي يمكن أن تنزل إلى السوق، دون الإشارة إلى نوع هذه الحاجات التي نسدها أو التي نستنكرها. إن حياتنا الاقتصادية وتفكيرنا الاقتصادي قد اهتما بالقدرة على تحقيق الأهداف دون الإشارة إلى الأغراض البشرية التي من أجلها تستغل هذه القدرة. وقد أمست القدرة بغير هدف اجتماعي وثنا يقود حضارتنا إلى حافة الفوضى والخراب. وكلنا يدرك اليوم أن هتلر قد استطاع أن يملأ هذا الفراغ إلى حد كبير؛ لأنه قدم لشعبه هدفا معينا. ولسنا بحاجة إلى مثل هذا الهدف، ولا إلى أي هدف جماعي يسود ويسيطر، اللهم إلا حينما يكون المجتمع مهددا بالخطر. ولكنا بحاجة إلى إدراك جماعي لأهداف المجتمع التي تدفع دفعا واعيا إلى الأمام حاجات هذا المجتمع وأهدافه. ⋆
لماذا تحتاج الدولة إلى مجتمع منظم من خلفها، دولة يقابل تكوينها تكوين هذا المجتمع؟ إنها بحاجة إلى ذلك لأنها بدونه لا تجد لها سبيلا آخر غير الإرغام والفوضى. وإذا كان المجتمع متماسكا تماسكا شديدا، استطاع أن يوجه الدولة إلى أداء أمور مختلفة تحسن الدولة أداءها، ولا تلجأ إلى الإرغام إلا لكي تحد من نشاط الأقليات التي لا تتجاوب. أما إذا كانت في المجتمع «حالة طبيعية» تكاد تكون حالة من حالات الحرب، فالدولة إذن إما أن تخفق في حفظ نظام محتمل، وإما أن تقوم به على حساب الإرغام الشامل الذي لا يميز، والحرية الشخصية في كلتا الطريقتين مفقودة.
والجماعات الاقتصادية التي ننتظم فيها اليوم تقترب جدا من هذا الوضع؛ فهي تقرب طريق الإرغام والفوضى بحيث لا تتوافر لنا راحة أو أمن. وهذه الجماعات من الضخامة بمكان، شديدة التعقيد، تعي أهدافها وعيا تاما وتعقلها تماما، وهي لذلك لا تستطيع أن تنظم نفسها في مجتمع من النوع «الطبيعي» الذي يحدثنا عنه علماء الأنثروبولوجيا، والذي كان يوجد - مثلا - في جزر البحر الجنوبي قبل أن تغمرها حضارة الجنس الأبيض. وتنظيم هذه الجماعات المتقاتلة يجب أن يتم بذلك النوع المقصود من العمل الذي يرتبط بنظرية «العقد الاجتماعي». والظاهر أننا في دور من أدوار التطور البشري الذي يمكن أن تطبق فيه صورة من صور نظرية «العقد الاجتماعي» لأول مرة على نطاق «المجتمع الكبير». ولا يكون ذلك شاملا لعملية تنظيم المجتمع كلها؛ إذ لا بد أن يكون هناك شعور باطني برباط مشترك - هو على الأقل الخطر من أن يهلك بعضنا بعضا - وذلك لكي نضع أساسا للاعتراف بالحقوق والمسئوليات المتبادلة. وهنا نعود إلى موضوعنا الرئيسي.
إن ذلك يقتضي المغامرة في إعادة البناء، وهي مغامرة لا تكفل لها النتائج السعيدة. إن العالم في براثن نضال جسيم، في أحد جانبيه قوى تدفع نحو الفوضى والاضطراب، قوى سياسية واجتماعية واقتصادية وخلقية، وفي الجانب الآخر قوى تسير نحو السيطرة المركزية، وبين هذه وتلك يقف أولئك الرجال وتلك القوى التي تحاول في استماتة أن تستخلص قاعدة علمية لمجتمع إنساني منظم، يمكن أن يحتفظ بدرجة فعالة من الحرية والديمقراطية، وذلك دون تحطيم المجتمع بممارستهما ممارسة فوضوية وبالغلو فيها غلوا هداما. وليس هناك معنى في أن نطالب - في عالم الطاقة الذرية - بقيام عالم آمن تسوده الحرية والديمقراطية.؛ فقد حكم على المجتمع أن يعيش عيشة خطرة، وليس منا من يشك في ذلك. وفرصتنا في الكفاح تتوقف على تنمية قدرتنا على التفكير والعمل الحر البناء، برغم سيف داموكليز المصلت فوق رءوسنا.
المصادر ⋆
كل هذه المختارات منتقاة من محاضرات ج. م. كلارك التي نشرت تحت عنوان «ماذا نستبدل بالعبودية؟»
الفصل السادس
إريك فروم
(1900م-...)
كان لظهور الكتاب الرائع الذي أخرجه إريك فروم تحت عنوان «الفرار من الحرية» في عام 1941م، أثر قوي في اجتذاب انتباه جمهور القراء في أمريكا إلى أهمية ما قام به إريك فروم من تعديل في التحليل النفسي الذي دعا إليه فرويد. قدم لنا فروم دراسة أصيلة عميقة للأسباب النفسية والاجتماعية التي سمحت للحكم الدكتاتوري المستبد أن ينمو في العالم الحديث. أراد فروم أن ينبذ نظرية فرويد التي تقرر أن الإنسان مخلوق غير اجتماعي في صميمه، يخضع لدوافع بيولوجية ثابتة، على المجتمع أن يروضها ويوقفها عند حد، أراد فروم ذلك فصاغ نظرية ديناميكية عن الإنسان الذي له حاجات فسيولوجية دون شك، غير أن له أيضا حاجات لا تقل عن ذلك ضرورة يبغي من ورائها أن يحقق ارتباطا قويا بينه وبين العالم وبينه وبين نفسه.
ونظرية فروم هي أن الحرية التي نلناها أخيرا، والتي نجمت عن نمو قوى عديدة من الضمير الفردي والسيطرة الخارجية، منذ النهضة الأوروبية، هذه الحرية يصاحبها إحساس متزايد بالعشوائية والوحشة والعزلة. والمعضلة التي برزت في الثقافة الغربية الحديثة هي أن الحرية للفرد الفذ المسئول نسبيا قد باتت عبئا عليه و«التحرر من» الصور القديمة للسيطرة، هذا النوع من التحرر السلبي لم يتطور إلى «التحرر نحو» حياة منتجة يحقق فيها صاحبه ذاتيته. والبحث الذي قام به فروم في الوسائل المعروفة التي يحاول بها أقل المحدثين نجاحا أن «يفر من الحرية» لم يلق ضوءا جديدا على حكم الاستبداد والمتحمسين له فحسب، بل ألقى كذلك ضوءا على المشكلات الكبرى التي يجب أن تفهم وتذلل إذا أردنا لحرية الإنسان البقاء.
للدكتور فروم أهمية خاصة لقيامه بتحليل الإنسان بالمعنى الاجتماعي، وهو بالإضافة إلى ذلك أحد العلماء القلائل الصادقين، وهب القدرة على ترجمة الآراء المتعلقة بالعلاج النفسي إلى لغة يستطيع القارئ العادي أن يفهمها، بل إنه ليستمتع بها في أكثر الأحيان. ويسمح له اتساع اهتماماته ومدى تدريبه السابق أن يخضع لتحليله عمق المعرفة الفلسفية، والإدراك التاريخي، والنظر الأدبي والفني. وكتاب «الإنسان لنفسه» الذي ظهر في عام 1947م يكون حلقة ثانية إيجابية إنشائية من السلسلة التي بدأها بكتابه «الفرار من الحرية». ومن دراساته الأخرى التي تبعث على التفكير، ولكنها ربما تكون أقل من هذه بقاء، كتابه «التحليل النفسي والديني» الذي نشره في عام 1950م، وكتابه «اللغة المنسية» الذي نشره في عام 1951م، وهو دراسة ممتعة عن الأحلام والقصص الخرافية والأساطير. وأحدث كتاب له الذي نشره تحت عنوان «المجتمع السليم».
1
ولد إريك فروم بفرانكفورت في ألمانيا عام 1900م، ودرس علوم الاجتماع والنفس في جامعات هيدلبرج وفرانكفورت وميونخ، ونال درجة الدكتوراه من هيدلبرج في عام 1922م، وتلقى تدريبه الرسمي في تحليل النفس عند تطبيق هذا التحليل على الثقافة والمجتمع. وقد جاء الدكتور فروم إلى أمريكا أستاذا زائرا بمعهد شيكاغو لتحليل النفس في عام 1933م، وأنفق السنوات الثلاث التالية في القيام بالبحث في معهد البحوث الاشتراكية الدولي، بجامعة كولومبيا. وفي عام 1940م أصبح مواطنا أمريكيا بالتجنس. ومنذ ذلك الحين ارتبط ارتباطا وثيقا بمعهد العلاج النفساني في واشنطن (الذي أسسه هاري ستاك سليفان)، وهو زميل في أكاديمية العلوم بنيويورك، وحاضر في جامعة كولومبيا وفي كلية بننجتن. ومنذ عام 1952م أصبح أستاذا في الجامعة الوطنية بالمكسيك.
وكما أن فروم قد طبق أحدث وسائل البحث العلمية الاجتماعية على الكشف عن صفة الإنسان ومجموعة قيمه الخلقية الأساسية، فقد أتقن نوعا من المزاوجة بين تحقيق الذات الأرسطي والإنسانية العملية. ومن الناحية الشخصية أكد طبيعة الحلول المنتجة لمشكلة انعزال الإنسان - مثل العمل الخلاق، والضمير الإنساني الذي يعارض التسلط، والشجاعة، والمحبة، والكبرياء، والأمل في قدرة الإنسان على أن يأخذ نفسه وحياته وسعادته مأخذ الجد. وفي دراسة موجزة حديثة تحت عنوان «فن الحب»، أعلن إريك فروم «أن الحب هو الحل السليم المرضي الوحيد لمشكلة الوجود الإنساني». ويمكن أن نقدر قيمة هذا الحل الشخصي، والتعقيد الذي نلاقيه عند تحقيقه، إذا عرفنا أن إريك فروم يقترن الآن بالزوجة الثالثة. (1) الإنسان لنفسه
إريك فروم (1-1) المشكلة
تميزت الثقافة الغربية في القرون القلائل الأخيرة بروح المباهاة والتفاؤل؛ فهي تباهي بالعقل باعتباره أداة الإنسان لإدراكه الطبيعة وسيطرته عليها. وتتفاءل بتحقيق أعز آمال البشرية، وتوفير أكبر قسط من السعادة لأكبر عدد من الناس.
وقد برر الإنسان لنفسه ما يباهي به؛ فبفضل العلم بنى عالما ماديا يفوق في الواقع حتى الأحلام والرؤى في القصص الخيالية والمدن الفاضلة. إنه يستغل طاقات الطبيعة التي سوف تمكن الجنس البشري من توفير الظروف المادية اللازمة لوجود كريم منتج. وبالرغم من أن الإنسان لم يحقق بعد كثيرا من أهدافه إلا أننا لا نكاد نشك في أن هذه الأهداف ممكنة التحقيق، وأن «مشكلة الإنتاج» التي كانت مشكلة الماضي قد حلت من حيث المبدأ. والآن يستطيع الإنسان لأول مرة في التاريخ أن يدرك أن فكرة وحدة الجنس البشري وإخضاع الطبيعة لسيطرة الإنسان ولمصلحته لم تعد حلما، بل هي من الأمور الممكنة الواقعية. أليس الإنسان إذن على حق في مباهاته وفي ثقته بنفسه وبمستقبل الجنس البشري؟
غير أن الإنسان الحديث - برغم هذا - يشعر بالقلق والحيرة المتزايدة. إنه يعمل ويجاهد، ولكنه يدرك إدراكا غامضا عبث ما يبذل من نشاط. وبينما تنمو سيطرته على المادة، نجد أنه يحس العجز في حياته الفردية وفي المجتمع. وبينما نراه يبتدع «وسائل» يسيطر بها على الطبيعة، نجده واقعا في حبائل تلك الوسائل وقد فقد إدراك الغاية التي تعطيها - وحدها - أهميتها، وتلك الغاية هي: أن الإنسان لنفسه. فبينما أمسى الإنسان سيدا على الطبيعة، بات عبدا للآلة التي صنعها بيده. وبرغم كل ما عرف عن المادة، فهو على جهل فيما يتعلق بالمشكلات الهامة الأساسية الخاصة بالوجود البشري: ما الإنسان؟ وكيف ينبغي له أن يعيش؟ وكيف يمكن إطلاق الطاقات الجبارة الكامنة فيه واستخدامها استخداما منتجا؟
إن الأزمة الإنسانية المعاصرة قد أدت إلى التراجع عن الآمال والآراء التي سادت في «عهد النور» الذي بدأ تقدمنا السياسي والاقتصادي تحت رعايته، وأمست فكرة التقدم ذاتها وهما صبيانيا، وأصبحنا نبشر عوضا عنها ب «الواقعية»، وهي كلمة جديدة تعبر عن انعدام الثقة المطلق في الإنسان. وبتنا نعترض على فكرة الكرامة والقوة الإنسانية، وهي التي أمدت الإنسان بالقدرة والشجاعة للقيام بالأعمال الجسيمة التي أنجزها في القرون القليلة الماضية، ونستعيض عنها بالعودة إلى فكرة العجز المطلق والتفاهة التي يتصف بها الإنسان، وتهدد هذه الفكرة باقتلاع الجذور ذاتها التي نمت منها ثقافتنا.
إن الآراء التي سادت في «عهد النور» علمت الإنسان أنه يستطيع أن يثق في عقله كمرشد له في إقامة معيار خلقي ثابت، وأنه يستطيع أن يعتمد على نفسه دون الحاجة إلى هداية الكنيسة أو سلطتها لكي يفرق بين الحق والباطل. إن شعار «عصر النور»، وهو «شجاعة المعرفة»، ينطوي على «الثقة في المعرفة»، هذا الشعار أصبح الحافز عند الإنسان الحديث لكي يعمل ويبذل الجهود. أما الشك النامي في قدرة الإنسان الذاتية وفي عقله، فقد أوجد حالة من حالات الفوضى المعنوية التي تركت الإنسان دون إرشاد من الوحي أو من العقل.
وترتب على ذلك قبول الرأي الذي يقول بالأوضاع النسبية، والذي يرى أن تقدير القيم والمعايير الخلقية أمور تتعلق كلية بالذوق أو بالمفاضلة التي تقوم على أساس، وأنه لا يمكن في هذا الميدان أن يصدر حكم واحد موضوعي ثابت، ولكن ما دام الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون قيم أو معايير، فإن هذه النسبية تجعله فريسة سهلة لطرق التقويم التي لا تستند إلى عقل. وعندئذ يرتد الإنسان إلى مكانة تغلبت عليها من قبل الثقافة الإغريقية، والمسيحية، والنهضة الأوروبية، وعصر النور في القرن الثامن عشر. عندئذ يستمد الإنسان معاييره وقيمه من مطالب الدولة، ومن الحماسة لما عند الزعماء الأقوياء من صفات سحرية، ومن الآلات القوية، والنجاح المادي.
فهل نترك الأمر عند هذا؟ هل نرضى بالخيار بين أمرين؛ إما الدين وإما نسبية الأمور؟ هل نقبل تنازل العقل فيما يمس الأخلاق؟ هل نعتقد أن الخيار بين الحرية والعبودية، بين الحب والكراهية، بين الحق والباطل، بين النزاهة والانتهازية، بين الحياة والموت، ليس إلا نتيجة للمفاضلة الذاتية في كثير من الأمور؟
هناك في الواقع وجه آخر للموضوع؛ فإن المعايير الخلقية الثابتة الصالحة يمكن أن تكون من وضع العقل البشري، وبه وحده؛ فالإنسان قادر على رؤية القيم وعلى أن يجعل لها من الصلاحية ما لكل القيم الأخرى التي يبنيها على أساس من العقل. وقد وضعت التقاليد العظيمة، تقاليد الفكر الإنساني الأخلاقي، أسس طرق التقويم المبنية على قدرة الإنسان الذاتية وعلى عقله وتفكيره. وأقيمت هذه الطرق على فرض أساسي، وهو أنك إن أردت أن تعرف ما هو خير للإنسان وما هو شر له، فلا بد لك أولا من أن تعرف طبيعة الإنسان؛ ومن ثم كانت هذه الطرق كذلك مباحث نفسية في أساسها. ⋆ (1-2) فضل فرويد وحدوده
ربما كان أكبر فضل لفرويد هو أن نظرية التحليل النفساني هي أول طريقة نفسية حديثة لا تجعل موضوعها نواحي الإنسان المختلفة التي تنفصل إحداها عن الأخرى، وإنما شخصيته بكليتها؛ فقد اكتشف فرويد طريقة جديدة مكنته من دراسة شخصية الإنسان بجملتها كما مكنته من إدراك ما يدفع الإنسان إلى أي عمل يقوم به، وأحل هذه الطريقة محل طريقة علم النفس التقليدي، التي كانت تحصر نفسها في دراسة الظواهر التي يمكن عزلها عزلا يكفي لملاحظتها في تجربة من التجارب.
وطريقة فرويد، طريقة تحليل المعاني المتداعية تداعيا حرا، وتحليل الأحلام والأخطاء، وانتقال الأفكار ، إنما هي وسيلة يمكن أن تصبح بها الوقائع «الخاصة» التي لا يعرفها ولا يتأملها إلا صاحبها، «علنية» ظاهرة في الصلة التي تقوم بين الفرد الذي يخضع للتحليل والمختص الذي يقوم بهذا التحليل؛ ومن ثم فقد أمكن لطريقة التحليل النفساني أن تفرد الظواهر التي لم تكن بدونها لتخضع للملاحظة. كما أزاحت الغطاء في الوقت عينه عن كثير من التجارب العاطفية التي لم يمكن إدراكها حتى بالتأمل الباطني لأنها مكبوتة ومنفصلة عن العقل الواعي.
كان فرويد في بداية دراساته يهتم أساسا بالأعراض النورستانية. ولكن كلما تقدم التحليل النفساني، اتضح أن الأعراض النورستانية لا يمكن فهمها إلا بفهم بناء الشخصية التي تظهر فيها، فأصبح الموضوع الأساسي لنظرية التحليل النفساني وللعلاج النفساني هو الشخصية النورستانية، لا مجرد الأعراض وحدها. وفي أثناء دراسة فرويد للشخصية النورستانية نجده يضع أسسا جديدة ل «علم الشخصية»، الذي أهمله علم النفس في القرون الحديثة وتركه لكتاب الرواية والمسرحية.
إن «علم الشخصية» الذي يقوم على أساس التحليل النفساني، برغم حداثته، لا غنى عنه لتطور النظريات الأخلاقية. ولا مناص من أن تبقى جميع الفضائل والرذائل التي يعالجها علم الأخلاق التقليدي غامضة؛ لأنها كثيرا ما تدل بلفظة واحدة على مواقف إنسانية مختلفة وعلى شيء من التناقض. وهي لا تفقد غموضها إلا إذا فهمت من حيث علاقتها ببناء شخصية الفرد الذي تعزى إليه الفضيلة أو الرذيلة. إن الفضيلة منفصلة عن محيط الشخصية قد يتبين أنها عديمة القيمة (كالتواضع الذي ينشأ عن الخوف، أو الذي يعوض به صاحبه عن كبرياء مكبوتة). كما أن الرذيلة قد تدل على شيء آخر إذا فهمت في محيط الشخصية كلها (كالكبرياء التي تعبر عن عدم الطمأنينة وشعور المرء بانحطاط قدره). وهذا الاعتبار له بالأخلاق علاقة وثيقة. ومعالجة الفضائل والرذائل منعزلة باعتبارها صفات مستقلة تضلل ولا تكفي. إن موضوع الأخلاق هو «الشخصية»، ولا يمكن أن تقوم صفات منعزلة أو أعمال منفصلة دون الإشارة إلى بناء الشخصية بكليتها (إن الموضوع الحقيقي للبحث الأخلاقي هو الشخصية الفاضلة أو الشخصية الشريرة، وليس هو الفضائل والرذائل المجردة).
ولا يقل عن ذلك أهمية - بالنسبة للأخلاق - فكرة التحليل النفساني عن الدوافع التي تصدر عن اللاوعي. وبالرغم من أن هذه الفكرة - في صورتها العامة - ترجع إلى ليبنتز واسبينوزا، إلا أن فرويد قد كان أول من درس الدوافع التي تصدر عن اللاوعي دراسة تطبيقية عملية وفي تفصيل دقيق؛ ومن ثم كان هو الذي وضح أسس نظرية الدوافع البشرية. إن تطور التفكير الأخلاقي يتميز بأن تقدير القيم فيما يتعلق بالسلوك الإنساني قد صيغ بالإشارة إلى الدوافع التي تختفي وراء الفعل دون الإشارة إلى الفعل ذاته؛ ومن ثم فإن فهم الدوافع التي تصدر عن اللاوعي يفتح لنا مجالا جديدا للبحث الأخلاقي. وقد ذكر فرويد «أنه لا يرسب في اللاوعي ما هو دنيء في الذات فقط، وإنما يرسب فيه أيضا ما هو سام»، ويمسي أقوى دافع للعمل، ولا يستطيع البحث الأخلاقي أن يتجاهله.
وبالرغم من الإمكانيات الكثيرة التي يمدنا بها التحليل النفساني لدراسة القيم دراسة علمية، فإن فرويد ومدرسته لم يستغلوا طريقتهم أكبر استغلال منتج مفيد للبحث في المشكلات الخلقية، بل إنهم في الواقع قاموا بكثير من الخلط في القضايا الكبرى. وينشأ الاضطراب عن موقف فرويد النسبي، الذي يفترض أن علم النفس يمكن أن يعاوننا على فهم الدافع إلى تقدير القيم، ولكنه لا يعيننا على تثبيت صلاحية القيم ذاتها.
إن نسبية فرويد تظهر في جلاء شديد في نظريته عن الذات العليا (الضمير)، وطبقا لهذه النظرية يمكن أن يكون أي موضوع محلا لوخز الضمير إذا كان بالمصادفة جزءا من الأوامر والنواهي التي ينهى عنها ضمير الأب أو التقاليد الثقافية (والضمير وفقا لهذه النظرة ليس إلا السلطة الباطنية). إن تحليل فرويد للذات العليا ليس إلا تحليلا ل «الضمير المتسلط».
ومهما يكن من شيء، فإن موقف فرويد ليس دائما نسبيا بأية حالة من الحالات. إنه يبدي إيمانا حارا بالحقيقة باعتبارها الهدف الذي ينبغي للمرء أن يجاهد في سبيله، وهو يعتقد في قدرة الإنسان على هذا الجهاد ما دامت الطبيعة قد وهبته العقل، وهو يعبر عن هذه النظرة التي تناقض النسبية تعبيرا واضحا في مناقشاته ل «فلسفة الحياة»، وهو يعارض النظرية التي تقول بأن الحق ليس إلا نتيجة لحاجاتنا ورغباتنا؛ لأنها تصاغ تحت ظروف خارجية متغيرة. وفي رأيه أن مثل هذه النظرية الفوضوية «يتقوض في اللحظة التي يحتك فيها بالحياة العملية». واعتقاده في قوة العقل وقدرته على توحيد البشرية وتحرير الإنسان من قيود الخرافة يتميز بما تتميز به فلسفة عصر النور من عطف وحنان. وهذا الإيمان بالحقيقة ينضوي تحت فكرته عن العلاج بالتحليل النفساني. إن تحليل النفس هو محاولة الكشف عن حقيقة الفرد. وفي هذا الاتجاه يواصل فرويد الفكر التقليدي الذي يعتقد - منذ بوذا وسقراط - في الحق باعتباره القوة التي تجعل الفرد فاضلا وحرا، أو بتعبير فرويد «صحيحا». إن الهدف من العلاج بالتحليل هو إحلال العقل (أو الذات) محل الجانب الذي لا يعقل؛ فالموقف التحليلي يمكن تعريفه من هذه الزاوية بأنه الموقف الذي يكرس فيه اثنان - هما المحلل والمريض - نفسيهما للبحث عن الحقيقة. والهدف من العلاج هو إعادة الصحة، والعلاج هو الحق والعقل. وربما كان أقوى تعبير عن عبقرية فرويد هو افتراضه موقفا يقوم على الصراحة الشديدة في وسط ثقافي تندر فيه مثل هذه الصراحة. ⋆ (1-3) الأخلاق الإنسانية
الأخلاق الإنسانية التي يكون فيها «الخير» مرادفا ل «خير الإنسان»، و«الشر» مرادفا ل «شر الإنسان»، تفترض أنا لكي نعرف ما هو خير للإنسان لا بد لنا من أن نعرف طبيعة الإنسان (الأخلاق الإنسانية هي العلم التطبيقي ل «فن الحياة» الذي يقوم على أساس «علم الإنسان» النظري). وهنا - كما في أي فن آخر - يكون الامتياز في عمل الإنسان متناسبا مع مقدار ما يعرفه الفرد عن علم الإنسان ومع مهارة الفرد ومرانه. غير أن الفرد يمكنه أن يستنتج المعايير من النظريات في حالة واحدة فقط، وهي التسليم بأن هناك ناحية معينة من نواحي النشاط ينتقيها المرء، وهدفا من الأهداف يبغيه. إن الفرض في علم الطب هو أن علاج المرض وإطالة العمر من الأمور المرغوب فيها، فإن لم يكن الأمر كذلك فإن كل قواعد علم الطب تصبح غير ذات موضوع.
إن كل علم تطبيقي يقوم على أساس فرض ينشأ عن عملية الانتقاء، أعني أن تكون الغاية من النشاط مرغوبة. بيد أن هناك فارقا بين الفرض الذي ينضوي تحت الأخلاق، والفرض الذي ينضوي تحت الفنون الأخرى. نستطيع أن نتصور ثقافة فرضية لا يريد فيها الناس أن يعيشوا. إن الدافع إلى الحياة كامن في كل كائن عضوي، ولا يسع المرء إلا أن يعيش بغض النظر عما يود أن يعتقد في هذا السبيل.
2
إن الخيار بين الحياة والموت أمر ظاهري وليس حقيقة من الحقائق. أما الخيار الحقيقي عند الإنسان فهو بين الحياة الطيبة والحياة السيئة.
ومن الشائق هنا أن نتساءل: لماذا فقد زماننا فكرة «الحياة كفن من الفنون»؟ فالظاهر أن الإنسان الحديث يعتقد أن القراءة والكتابة من الفنون التي تتعلم، وأنه لكي يصبح المرء مهندسا معماريا، أو مهندسا ميكانيكيا، أو عاملا ماهرا، لا بد له من قدر كبير من الدراسة، ولكنه يعتقد أن «العيش» أمر من السهولة بمكان بحيث لا يحتاج إلى جهد معين لكي يؤدي. ولأن كل إنسان «يعيش» بطريقة ما، تعتبر الحياة أمرا يعد فيه كل فرد خبيرا. ولقد أتقن الإنسان فن الحياة إلى حد ما، ولكن فقدانه الإحساس بصعوبته لا يعزى إلى ذلك. ومن الواضح أيضا أن هذا الأمر لا يفسره كذلك ما يسود الناس من فقدان للمتعة الحقيقية والسعادة الصادقة اللتين يمكن أن يستمدهما من عملية الحياة ذاتها؛ ذلك أن المجتمع الحديث - بالرغم من كل ما يؤكده عن أهمية السعادة والفردية والمصلحة الذاتية - قد علم الإنسان أن سعادته (وإذا جاز لنا أن نستعمل اصطلاحا دينيا قلنا خلاصه) ليست هي الهدف من الحياة، وإنما هدفها أداء واجبه نحو العمل أو نجاحه؛ فالمال والمركز الاجتماعي والنفوذ باتت هي دوافعه وغاياته، وهو يعمل متوهما أن نشاطه يعود بالنفع على مصلحته الذاتية، ولكنه في الواقع يخدم كل شيء إلا مصالح نفسه الحقيقية، كل شيء يهمه إلا حياته وفن الحياة. إنه لكل شيء، ولكن ليس لنفسه.
وإذا كانت الأخلاق تؤلف مجموعة الأنماط التي تؤدي إلى التفوق في ممارسة فن الحياة، فلا بد أن تصدر قواعد الأخلاق العامة عن طبيعة الحياة عامة والوجود البشري خاصة. وطبيعة الحياة كلها - على وجه عام - هي أن تحتفظ بوجودها وتؤكد؛ فلدى كل كائن عضوي ميل كامن نحو الاحتفاظ بوجوده. ومن هذه الحقيقة افترض علماء النفس وجود «غريزة» حفظ الذات. إن أول «واجب» للكائن العضوي هو أن يحيا.
و«بقاء الإنسان حيا» فكرة ديناميكية وليست فكرة استاتيكية ثابتة (والوجود والكشف عن القوى الخاصة للكائن العضوي أمر واحد). ولدى كل كائن عضوي ميل كامن إلى إخراج إمكانياته الخاصة إلى حيز الواقع؛ وإذن ف «الهدف من حياة الإنسان» يجب أن يفهم على أنه الكشف عن قواه طبقا لقانون طبيعته.
غير أن الإنسان لا يوجد وجودا «عاما»، فهو يشترك مع جميع أعضاء جنسه في لب الصفات الإنسانية، ولكنه - مع ذلك - دائما مفرد، أو وحدة فذة، يختلف عن كل فرد آخر. وهو يختلف فيما يتصف به من مزيج خاص من الشخصية والمزاج والمواهب والميول كما يختلف في أطراف أصابعه، ولا يستطيع أن يؤكد إمكانياته البشرية إلا بتحقيق فرديته. إن واجب المرء أن يحيا هو نفسه واجبه في أن يكون نفسه، وأن يتطور إلى الفرد الذي تكمن فيه بذرته.
وخلاصة القول «أن الخير في الأخلاق الإنسانية هو تأكيد الحياة، والكشف عن قوى الإنسان، والفضيلة هي المسئولية إزاء وجوده ذاته»؛ والشر يتألف من العوامل التي تفل من قوى الإنسان، والرذيلة هي استهتار المرء إزاء ذاته. وهذه هي القواعد الأولى للأخلاق الموضوعية للإنسانية. ⋆ (1-4) التوجيه المنتج
إن الفرض بأن الإنسان لديه دافع نحو النمو والتكامل لا يترتب عليه أن يكون لديه دافع إلى الكمال على اعتبار أن هذا الدافع هبة خاصة خص بها الإنسان، إنما يصدر هذا الدافع عن طبيعة الإنسان ذاتها، عن المبدأ الذي يقول ب «أن القدرة على العمل تخلق الحاجة إلى استخدام هذه القدرة، وأن الفشل في استخدامها ينتهي بشل العضو عن أداء وظيفته وبالبؤس والشقاء.» ويمكن أن نتبين صحة هذا المبدأ بسهولة بالنسبة إلى وظائف الإنسان الفسيولوجية. الإنسان لديه القدرة على المشي وعلى الحركة، فإذا ما حيل بينه وبين استخدام هذه القدرة نشأ عن ذلك المرض أو عدم الارتياح البدني. ولدى المرأة القدرة على حمل الأطفال وإرضاعهم، فإذا ما لبثت هذه القدرة بغير استخدام، وإذا لم تصبح المرأة أما، وإذا هي لم تستطع أن تنفق قدرتها على حمل الأطفال ومحبتهم، شعرت بخيبة الأمل الذي لا يمكن علاجه إلا بزيادة إدراكها لقدراتها في ميادين حياتها الأخرى. وقد نبه فرويد إلى نوع آخر من عدم الإنفاق كسبب من أسباب الألم وهو الطاقة الجنسية، وذلك حينما أدرك أن كبت هذه الطاقة قد يكون سببا في الاضطرابات النورستانية. وربما بالغ فرويد في تقدير أهمية الإشباع الجنسي، إلا أن نظريته تعبير «رمزي» عميق عن هذه الحقيقة، وهي أن فشل الإنسان في استخدام ما لديه وفي إنفاقه هو السبب في بعض الأمراض وأسباب البؤس والشقاء. إن صحة هذا المبدأ تظهر فيما يتعلق بقدرات المرء النفسية، كما تظهر فيما يتعلق بقدراته البدنية. إن عند الإنسان قدرة طبيعية على الكلام وعلى التفكير، فإذا ما كبتت هذه القدرات أصيب صاحبها بضرر بالغ. ولدى الإنسان قدرة على الحب، وإذا هو لم يستطع أن يستخدم هذه القوة، وإذا ما عجز عن الحب، عانى من هذه المأساة التي حلت به حتى إن هو حاول أن يتجاهل آلامه بكل أنواع التبرير أو بالتجائه إلى مخارج الهروب من الألم الذي ينجم عن فشله؛ تلك المخارج التي اتخذت لها صيغا ثقافية معروفة.
والسبب في أن ظاهرة عدم استخدام المرء لقدراته تنتهي ببؤسه يكمن في ظروف الوجود البشري نفسه. إن وجود الإنسان يتميز بانقسام وجودي؛ فهو لا يجد سبيلا إلى الاتحاد بالعالم وإلى أن يتحد مع نفسه في آن واحد، لا يجد سبيلا إلى الاتصال بغيره وإلى أن يحتفظ بكمال نفسه وباعتباره وحدة فذة، لا يجد سبيلا إلى ذلك إلا باستخدام قواه استخداما منتجا؛ فإذا هو فشل في ذلك فلن يستطيع أن يحقق الانسجام والتكامل الباطني، وانقسم وتمزق، واضطر إلى الفرار من نفسه، ومن الشعور بالتخاذل، والملل والعجز، وهي نتائج لفشله لا مناص منها. ولما كان الإنسان حيا، فلا يسعه إلا أن يرغب في الحياة، والوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها أن يفلح في حياته هي استخدام قدرته والإنفاق مما لديه. ⋆
ونستطيع أن نفهم معنى «التفكير المنتج» فهما مبدئيا بالنظر إلى الفرق بين العقل والذكاء.
الذكاء هو أداة الإنسان لبلوغ الأهداف العملية، بقصد الكشف عن تلك الأوجه من الأشياء التي تعتبر معرفتها ضروريا لتناولها. أما الهدف نفسه - أو بعبارة أخرى - المقدمات التي يرتكز عليها التفكير «الذكي» فليست موضع الجدل، وإنما يسلم بها، وقد تكون وقد لا تكون معقولة في حد ذاتها. وهذه الصفة الخاصة التي يتصف بها الذكاء يمكن أن تشاهد بوضوح في حالة من حالات الشذوذ، وهي حالة المخبول؛ فقد يبدأ تفكيره مثلا بأن الناس جميعا يتآمرون ضده، وهي مقدمة للتفكير خاطئة غير معقولة. ولكن عملياته الفكرية المبنية على هذه المقدمة قد تنم في حد ذاتها عن قدر كبير من الذكاء، وهو في محاولته أن يبرهن على موضوع خبله يربط بين الملاحظات ويكون التراكيب المنطقية، التي كثيرا ما تبلغ من التماسك حدا يتعسر معه التدليل على ما في المقدمة من خطأ عقلي. وتطبيق مجرد الذكاء على مختلف المشكلات لا ينحصر بطبيعة الحال في أمثال هذه الظواهر المرضية. إن أكثر تفكير يتعلق حتما بتحقيق نتائج عملية، يتعلق بأوجه الظواهر الكمية و«السطحية» دون البحث في صحة الأهداف والمقدمات التي تنطوي عليها، ودون محاولة فهم طبيعة الظواهر ونوعها.
أما العقل فينطوي على بعد ثالث، هو العمق الذي يبلغ جواهر الأشياء والعمليات. وإذا كان العقل لا ينفصل عن أهداف الحياة العملية (وسوف أبين فيما بعد بأي معنى يصدق هذا القول) إلا أنه ليس مجرد آلة للعمل المباشر. إن وظيفته هي المعرفة، والفهم، والإدراك، وربط المرء بالأشياء عن طريق إدراكها، وهو ينفذ خلال ظواهر الأمور لكي يكشف عن جواهرها، وعلاقاتها الخفية ومعانيها العميقة و «منطقها». ويمكن أن يقال إن العقل لا يحد ببعدين اثنين، وإنما «يحيط بجميع النواحي» - على حد اصطلاح نيتشه - أي إنه يرى كل الأوجه التي يمكن تصورها ويرى جميع الأبعاد، ولا يقف عند حد ما له صلة عميقة. وليس معنى الاهتمام بجواهر الأمور الاهتمام بشيء «وراء» الأمور، وإنما معناه الاهتمام بالضروري والنوعي والعالمي، وبأعم صفات الظواهر وأشملها، متحررة من أوجهها السطحية والعارضة (التي ليست لها صلة منطقية). ⋆
العقل نعمة الإنسان، وهو أيضا نقمته. إنه يرغمه على أن يكافح إلى ما لا نهاية في سبيل حل مشكلة لا تحل، هي مشكلة الانقسام. والوجود البشري يختلف من هذه الناحية عن جميع الكائنات العضوية الأخرى، فهو في حالة دائمة من حالات عدم التوازن التي لا مفر له منها. إن حياة الإنسان لا يمكن أن «تعاش» بتكرار نمط نوعه، وإنما ينبغي له «هو» أن يعيش. الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يمكن أن «يمل» ويمكن أن «يسخط»، والذي يمكن أن يشعر بطرده من الجنة. الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يكون وجوده الشخصي مشكلة عليه حلها، وليس بوسعه أن يتحاشاها، إنه لا يستطيع العودة إلى حالة ما قبل البشرية التي سادها الانسجام مع الطبيعة، ولا بد له من مواصلة تطوير عقله حتى يصبح سيد الطبيعة وسيد نفسه.
لقد خلق ظهور العقل عند الإنسان انقساما في نفسه يرغمه على النضال إلى الأبد في سبيل إيجاد حلول جديدة. وإن الحركة الدائمة في تاريخه هي من ضرورات وجود العقل اللازمة التي تدفعه إلى أن ينشئ وأن يطور عالما خاصا به يشعر فيه بالطمأنينة مع نفسه ومع زملائه. وكل مرحلة يبلغها الإنسان تتركه ساخطا متحيرا، وهذه الحيرة عينها تحثه على السير نحو حلول جديدة. ليس عند الإنسان «دافع إلى التقدم» طبيعي، وإنما التناقض في وجوده هو الذي يجعله يسير على الطريق الذي رسمه. لما فقد الإنسان الفردوس، أو فقد وحدته مع الطبيعة، انقلب إلى متجول دائم التجول (أوديسيس، وأوديب، وإبراهيم، وفاوست). واضطر إلى السير قدما بجهد لا يني لكي يجعل المجهول معلوما، يملأ ما في معرفته من فراغ بالإجابات والحلول، لا بد أن يبرر لنفسه نفسه، ومعنى وجوده. وهو مدفوع إلى التغلب على هذا الانقسام الداخلي، يؤرق جنبيه التشوق إلى «التجرد» إلى نوع آخر من الانسجام يزيح عنه النقمة التي فصلته عن الطبيعة، وعن زملائه، وعن نفسه. ⋆ (1-5) الإيمان كصفة من صفات الشخصية
ليس الإيمان من الآراء التي تتلاءم مع الجو العقلي الذي يسود العالم في الوقت الحاضر. إن الإنسان يربط عادة بين الإيمان وبين الله والعقائد الدينية؛ على اعتبار أن هذا يتناقض مع التفكير العقلي والتفكير العلمي؛ إذ المفروض أن هذا التفكير يشير إلى مجال الوقائع، الذي يتميز عن المجال الذي يجاوز الوقائع، والذي لا يجد التفكير العلمي له محلا فيه، حيث يسود الإيمان وحده. ويرى كثير من الناس أن هذا التقسيم اعتباطي لا يمكن الدفاع عنه؛ فإذا كان الإيمان لا يتفق مع التفكير العقلي فلا بد من استبعاده باعتباره بقية بائدة متخلفة من المراحل الأولى للثقافة، ولا بد من أن يحل محله العلم الذي يعالج الوقائع والنظريات التي يمكن فهمها ويمكن التدليل على صحتها.
وهذه النظرة الحديثة إلى الإيمان جاءت بعد نضال طويل المدى ضد سلطة الكنيسة وادعائها حق السيطرة على أي لون من ألوان التفكير؛ ومن ثم فإن الشك فيما يتعلق بالإيمان يرتبط بتقدم العقل نفسه. غير أن هذا الجانب البناء من جوانب الشك الحديث له جانب آخر يقابله، وقد أهمله الناس.
إن إنعام النظر في بناء شخصية الإنسان الحديث والعلاقات الاجتماعية المعاصرة يؤدي بنا إلى أن ندرك أن انعدام الإيمان السائد المنتشر على مدى فسيح لم يعد له الوجه التقدمي الذي كان له منذ أجيال. كان النضال ضد الإيمان في تلك العصور السحيقة نضالا في سبيل التحرر من القيود الروحية، كان نضالا ضد الاعتقاد الذي لا يستند إلى عقل، وكان تعبيرا عن الثقة في عقل الإنسان وفي قدرته على إقامة نظام اجتماعي تحكمه مبادئ الحرية والمساواة والإخاء. أما اليوم فإن انعدام الإيمان إنما هو تعبير عن اليأس والاضطراب الشديد. كان الشك وكان التعليل العقلي في وقت من الأوقات قوى تقدمية تعمل على تطوير الفكر، أما اليوم فهما تبرير لنسبية الفكر وعدم الثقة. وقد أمسى الاعتقاد في أن ازدياد جميع الوقائع سيؤدي حتما إلى معرفة الحقيقة خرافة من الخرافات؛ فالحقيقة نفسها ينظر إليها - في بعض الأنحاء - على أنها صورة ذهنية ميتافيزيقية، وواجب العلم ينحصر في جمع المعارف. إن وراء اليقين العقلي المزعوم شكا عميقا يعد الناس لقبول أية فلسفة تفرض عليهم أو للتوافق مع هذه الفلسفة.
هل يستطيع الإنسان أن يعيش بغير إيمان؟ وهلا ينبغي للرضيع أن «يجد الإيمان في صدر أمه»؟ وهلا ينبغي لنا جميعا أن نؤمن بزملائنا، وبأولئك الذين نحب وبأنفسنا؟ هل نستطيع أن نعيش بغير إيمان في صحة أنماط معينة من الحياة؟ حقا إن الإنسان بغير إيمان يمسي عقيما، يائسا، خائفا في أعماق نفسه.
إن تاريخ العلم مليء بأمثلة من الإيمان في العقل ورؤية الحق. كان كوبرنكس وكبلر وجاليليو ونيوتن متشبعين بإيمان لا يتزعزع في العقل؛ ومن أجل هذا أحرق برونو، وعانى اسبينوزا من نقمة الكنيسة عليه وحرمانه منها. إن «الإيمان» ضروري في كل خطوة من تخيل الصورة العقلية إلى صياغة النظرية؛ الإيمان بالصورة باعتبارها هدفا سليما من الناحية العقلية تنبغي متابعته، والإيمان بالفرض باعتباره رأيا محتمل الصدق معقولا، والإيمان بالنظرية النهائية، على الأقل، حتى نبلغ مرحلة الإجماع العام في صحتها. إن هذا الإيمان تمتد جذوره إلى خبرة الفرد، وإلى ثقته في قدرته على التفكير، والملاحظة والحكم. وإذا كان الإيمان الذي لا يستند إلى العقل هو قبول أمر من الأمور على اعتبار أنه صادق لسبب واحد فقط، وهو أن سلطة من السلطات - أو أكثرية الناس - تقول به، فإن الإيمان الذي يستند إلى العقل تمتد جذوره إلى العقيدة المستقلة التي تقوم على أساس الملاحظة والتفكير المنتج للفرد.
وليس التفكير والحكم وحدهما هما ميدان التجربة الذي يظهر فيه الإيمان الذي يستند إلى العقل؛ فإن الإيمان - في مجال العلاقات الإنسانية - صفة لا غنى عنها لأية صداقة أو محبة لها أهميتها؛ فإيمانك بشخص ما معناه ثقتك في الاعتماد عليه وفي ثباته على اتجاهاته الأساسية، وثقتك في لب شخصيته. ولست أعني بهذا أن الشخص قد لا يعدل عن آرائه، وإنما أعني أن دوافعه الأساسية تبقى كما هي، وأن تقديره - مثلا - لكرامة الإنسان واحترامه لها جزء من نفسه، لا ينحرف ولا يتغير.
وبنفس هذا المعنى عندنا إيمان بأنفسنا، فنحن على وعي بوجود نفس، بوجود لب في شخصيتنا لا يقبل التغير، ويبقى ثابتا خلال حياتنا برغم تغير الظروف وبغض النظر عن بعض التغيرات التي تتناول الآراء والمشاعر، هذا اللب هو الحقيقة التي تكمن وراء كلمة «أنا»، والتي على أساسها تقوم الثقة في تحقيق الشخصية. وما لم يكن لدينا إيمان في ثبات النفس تزعزع شعورنا بتحقيق ذاتيتنا، وأصبحنا نعتمد على غيرنا من الناس الذين تصبح عندئذ مصادقتهم أساس شعورنا بإدراك ذواتنا. ولا يستطيع أن يخلص للآخرين إلا من كانت له بنفسه ثقة؛ لأنه وحده يستطيع أن يثق بأنه سوف يكون هو بعينه في المستقبل كما هو اليوم، ومن ثم يحس ويعمل كما يتوقع الآن أن يفعل. إن ثقة المرء بنفسه شرط من شروط قدرتنا على الوعد بأمر ما. وما دام الإنسان - كما أشار نيتشه - يمكن أن يعرف بقدرته على الوعد، كان ذلك شرطا من شروط الوجود البشري.
ومعنى آخر من معاني توافر الإيمان بشخص ما يتعلق بما لدينا من إيمان بإمكانيات الآخرين، وبإمكانياتنا، وإمكانيات البشرية. وأبسط صورة يوجد عليها هذا الإيمان هي الإيمان الذي يتملك الأم إزاء وليدها الجديد، إيمانها بأنه سوف يعيش وينمو ويمشي ويتكلم. ومهما يكن من شيء فإن نمو الطفل بهذا المعنى يحدث بدرجة من الانتظام تجعل توقع حدوثه بغير حاجة إلى الإيمان فيما يبدو. غير أن الأمر يختلف عن ذلك فيما يتعلق بالإمكانيات التي قد لا تنمو، ومن ذلك قدرة الطفل الكامنة على أن يحب، وأن يكون سعيدا، وأن يستخدم عقله، والإمكانيات الأخرى الأخص من هذه مثل المواهب الفنية؛ فهي البذور التي تنمو وتزدهر إذا توافرت لها الظروف الملائمة لنموها ، والتي تذوي إذا لم تتوافر هذه الظروف. ومن أهم هذه الظروف أن يكون عند الأشخاص ذوي الأهمية في حياة الطفل إيمان بهذه الإمكانيات، ووجود هذا الإيمان هو الذي يحدد الفارق بين التربية ومجرد تناول الطفل؛ فالتربية معناها معاونة الطفل على أن يحقق إمكانياته، ونقيض التربية هو مجرد التناول، الذي يرتكز على أساس انعدام الإيمان بنمو الإمكانيات، وعلى الاعتقاد بأن الطفل لا يستقيم إلا إذا زوده الكبار بما يحبون، ومنعوه مما يبدو لهم غير محبوب، وليست بنا حاجة إلى الإيمان بالإنسان الآلي ما دام ليس به حياة.
والإيمان بالآخرين يبلغ ذروته في الإيمان بالجنس البشري. وقد عبر أهل الغرب عن هذا الإيمان بطريقة دينية في العقيدة اليهودية المسيحية، أما من الناحية الدنيوية فقد التمس هذا الإيمان أقوى تعبير له في الآراء السياسية والاجتماعية التقدمية خلال الأعوام المائة والخمسين الماضية. وهذا الإيمان بالبشرية - كالإيمان بالطفل - يستند إلى الرأي الذي يقول بأن إمكانيات الإنسان مهيأة على صورة تجعلها قادرة على بناء نظام اجتماعي تتحكم فيه مبادئ المساواة والعدالة والمحبة، إذا توافرت لها الظروف الملائمة. ولم يتمم الإنسان بعد بناء مثل هذا النظام الاجتماعي؛ ولذلك فإن الثقة بأنه يستطيع بناءه تحتاج إلى الإيمان. وهذا الإيمان - ككل إيمان عقلي آخر - ليس أمنية من الأماني، ولكنه يقوم على دليل ما أنجزه الجنس البشري في الماضي، وعلى التجربة الباطنية لكل فرد، على ممارسته للعقل والمحبة.
إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير إيمان، والنقطة الهامة لجيلنا وللأجيال القادمة هي: هل يكون هذا الإيمان إيمانا غير معقول بالقادة، والآلهة، والنجاح، أو إيمانا معقولا بالإنسان يستند إلى ممارستنا لنشاطنا المنتج الخاص؟ ⋆
المصادر ⋆
كل المختارات في هذا الفصل مقتطفة من كتاب «الإنسان لنفسه» لإريك فروم.
الجزء الثاني
مختارات من الفلاسفة الدينيين
الفصل السابع
جاك ماريتان
(1882م-...)
ظل الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان سنوات عدة شخصية رئيسية في الحركة الاشتراكية الجديدة في القرن العشرين. وقد أدخل عمق العلم ومرونة الخيال على تفسيره لفلسفة القديس توماس أكويناس - وهو موضوع حاضر فيه في جامعات العالم الغربي كله؛ في لوفان وجنيف وفريبورج وميلان وأكسفورد وسانتاندر، وجامعات شيكاغو وبرنستون وكولومبيا وأنجليكام بروما ومعهد دراسات العصور الوسطى في تورنتو وكندا. غير أن «ما يسترعي النظر فيه ليس شرحه لمبادئ توماس، وإنما قدرته على النمو العقلي المستمر» كما قال ناقد صديق له. وقد شغل ماريتان نفسه بجميع التيارات الفكرية والروحية في العالم المعاصر، كما يتبين من كتاباته في المنطق الصوري، ونظرية المعرفة، وتاريخ الفلسفة، والفن، وعلم الجمال، ونظرية الدولة، وبخاصة في العلاقة بين المسيحية والديمقراطية، والتربية، وفي الأمور الحيوية في زماننا مثل النازية، والحركة المناهضة للسامية، والحرب والسلم. وفي كثير من تفكيره نراه وثيق الصلة بمبادئ الفردية والبشرية. وقد كتب بحرارة في «الحرية في العالم الحديث» دون أن يخفف من اعتقاده بأن «إقحام المسيحية وحقائق الكتاب المقدس في قلب الحياة الاجتماعية والثقافية، أمر لا غنى عنه لتحقق الإنسانية أغراضها، ولتبلغ الحضارة أوج كمالها.»
ولما كانت لماريتان مكانة ممتازة كممثل للكاثوليكية الحديثة، فقل من الناس من يدرك أنه كان يؤمن بغيرها وتحول إليها. ولد جاك ماريتان في الثامن عشر من شهر نوفمبر من عام 1882م في أسرة يحتفظ بيتها بجو البروتستانتية الحرة. وقد أصبحت أمه الكاثوليكية بالميلاد بروتستانتية عندما تزوج أبوها للمرة الثانية بعد وفاة أمها. واعتنق دين زوجته الجديدة البروتستانتي. وقد تلقى جاك ماريتان تعليمه بالسوربون، والظاهر أنه كان شديد السخط على الفلسفة الأكاديمية المتشككة شيئا ما، وعلى العلم المادي الذي كان يعلم هناك. وكان تلميذا للمرحوم هنري برجسن، فقبل فلسفة اللقانة، التي وصفها بعد سنوات بأنها «فلسفة غير معقولة للحركة الصافية». وفي خلال دراسته بالسوربون التقى بطالبة زميلة، هي رائسا أومانكوف، وهي مهاجرة روسية يهودية، تزوج منها في عام 1904م، وواصل الزوجان الشابان - وهما طالبان للفلسفة محترفان - بحثهما عن «المطلق»، الذي وجداه في النهاية لا في الفلسفة ذاتها، ولكن في الدين، تحت تأثير حماسة الإيمان عند ليون بلوي وشارلزبجي. وفي يونيو من عام 1908م تعمد جاك ورائسا ماريتان في الكنيسة الكاثوليكية، وهو تحول صدم أسرتيهما، غير أن التوفيق بينهما وبين أسرتيهما قد تم بمرور الزمن.
وقضى ماريتان بعض الوقت في دراسة مركزة لكتاب «سوما ثيولوجيا» للقديس توماس تحت إشراف الأب كليريساك الدومنيكي بفرساي. وكثير من كتبه الأولى، مثل «مناهضة الروح العصرية» الذي نشر في عام 1922م و«ثلاثة مصلحون» الذي صدر في عام 1928م، تعضد في صراحة إحياء مذهب توماس في العلم الحديث. ولكن ماريتان اكتسب من النقاد إعجابا أشد بكتبه التي جاءت بعد ذلك، مثل «الفن والمذهب المدرسي، والمسيحية والديمقراطية، والإنسانية الصحيحة، وحقوق الإنسان والقانون الطبيعي، والإنسان والدولة، ومدى العقل». وقد تعاونت رائسا ماريتان - وهي كاتبة وشاعرة - مع زوجها في تأليف كتاب «الصلاة والذكاء». وفي أخريات العقد الخامس من القرن العشرين، كان ماريتان سفيرا فرنسيا بالفاتيكان لدى البلاط المقدس. وكذلك قضى بعض الوقت يكتب في أمريكا بمعهد برنستون للدراسات العليا.
ويعزى إلى ماريتان أنه بشر بموجة من التحول نحو الكاثوليكية بين المثقفين في الغرب، وبخاصة في ميدان الفنون. وحتى حينما لا يتسبب في التحول كان تأثيره محسوسا، كما يتبين من تعليق ت. س. إليوت الذي قال فيه: «إنه يرى أن ماريتان هو أقوى دافع في الفلسفة المعاصرة.» (1) الإنسانية التي تدور حول الدين
جاك ماريتان (1-1) حاجتنا في الوقت الحاضر إلى التوفيق بين العلم والحكمة
إن حلول عصر الذرة قد أظهر للعالم فجأة الجانب الخطير من هذه المشكلة. ولم يعد الإنسان يعتقد أن العلم والمهارات الفنية تستطيع وحدها أن تكفل تقدم الجنس البشري وسعادته، بل إنه ليفزع حين يرى الخراب والكوارث التي يمكن أن يسببها العلم والمهارات الفنية. ورجال العلم يراجعون أنفسهم، ولا بد لنا أن ننظر بالتقدير العميق - محاولين في إخلاص أن ندرك مدى تأثير المأساة التي تهددنا - إلى الذعر الذي ينتاب عالما نابغا مثل ألبرت أينشتين.
ولا يكفي أن نوجه نظر الشعوب إلى الكوارث المدمرة للعالم بأسره التي قد تؤدي إليها المكتشفات الحديثة في علم الطبيعة إذا ما وقع نزاع مسلح آخر؛ فإن الخوف لا يكفي لأنه يجعل الناس عقلاء، كما لا يكفي أن نقول لهم إن هذه المكتشفات عينها - إذا استخدمت في أغراض السلم - قد تفتح مجالات لم يحدث مثلها من قبل لرفاهية الجنس البشري وحريته؛ فإن الاحتمال لا يكفي لإيجاد السعادة، وإن ما نريده من الذكاء البشري هو أن يدرك أننا قد أقبلنا على عصر حاسم في تاريخنا، أقبلنا على فترة يجب - مهما كلفنا الأمر - أن تخضع للعقل فيها أدوات القوة الضخمة، التي حصلنا عليها بالسيطرة العلمية على المادة، وذلك بالتغلب على الشهوة الجامحة التي تتملك الإنسان وتدفعه إلى طريق غير طريق العقل، وبخاصة في وجوده الجماعي. ومن الضروري أيضا أن ندرك أن هناك سلطات باطنية متدرجة وعلاقات متبادلة حيوية بين فضائل النفس البشرية؛ فبينما يعالج العلم في مجاله «الوسائل»، فإن مجال «الغايات» يتعلق بشيء ليس بالعلم، ولا يطابقه، نسميه الحكمة. ولن نأمل في السلام، أو الحرية، أو الكرامة، في عالم الغد، ما دام العلم والحكمة في مؤسسات الحضارة وفي وعي الناس (بل وفي وعي العلماء أنفسهم) لا يتفقان، وما دامت تطبيقات العلم العملية لا تخضع خضوعا تاما لإرادة خلقية صحيحة وللغايات الحقيقية لحياة الإنسان. لقد انقضى عهد كنا نتوقع فيه أن يحل العلم المشكلات الخلقية والميتافيزيقية والدينية، أو أن يستغني عنها؛ حينئذ كنا نعتمد على العلماء لكي يقيموا في يوم من الأيام السلطة الروحية التي تقود البشرية نحو الأوجه اليانعة من التقدم الذي لا بد منه. أما اليوم فعلينا أن ندافع عن العلم ضد أولئك الذين يتهمونه الآن - بغير حق - بالإفلاس، بعدما طلبوا منه أكثر مما يستطيع أن يعطي، فحادوا عن جادة الحق. ونرى رجال العلم - من ناحية أخرى - مشتغلين بتحليل باطني لأنفسهم ، يتساءلون فيه عن العلاقة بين ضميرهم كرجال وبين ما يمكن أن يستخدم فيه علمهم كعلماء، ونستطيع أن نراهم وقد حاق بهم الخطر من معاملة الدول لهم كمجرد خامات صناعية لها قيمة خاصة تعزى إلى إنتاجهم الذي يخرج على صورة المكتشفات. وإذن فهي كرامة العلم ذاته وكرامة العالم التي تتعرض للخطر. ومن أجل الإبقاء على هذه الكرامة والاحتفاظ بها، ومن أجل التطبيقات المباشرة للعلم في اتجاه رفاهية العالم لا في اتجاه دماره، من أجل ذلك يجد الإنسان نفسه بحاجة إلى تجديد قوي عنيف في تنمية جانب الحكمة فيه، وبحاجة إلى إعادة إدخال الحقائق الخلقية والميتافيزيقية والدينية في ثقافته، وبحاجة إلى ذلك التوفيق بين العلم والحكمة الذي أشرت إليه فيما سبق.
1 (1-2) فشل المدنية الدنيوية
إن العملية الضخمة، عملية تحول الرجل المسيحي إلى إنسان دنيوي، قد عادت على كل ما في العالم بنتائج باهرة، إلا الإنسان نفسه؛ فقد انقلبت الأمور إلى الأسوأ فيما يتعلق بالإنسان ذاته، وليس في هذا ما يدعو إلى العجب.
إن عملية تحويل الرجل المسيحي إلى رجل دنيوي تتعلق فوق كل شيء بفكرة الإنسان وبفلسفة الحياة التي تطورت في العصر الحديث. حدث في واقع التاريخ البشري الملموس نمو في نفس الوقت الذي تمت فيه انتصارات إنسانية كبرى؛ نظرا لسير المدنية الطبيعي، وللدافع البدائي، والدافع الإنجيلي، نحو المثل الديمقراطي. وقد بقيت مدنية القرن التاسع عشر على الأقل مسيحية في مبادئها الحقيقية رغم نسيان هذه المبادئ أو إهمالها، وذلك في الآثار العلمانية لما تصوره هذه المدنية في حياة الإنسان وفي الحضارة، في الحرية الدينية التي احتفظت بها طوعا أو كرها، بالرغم من أن هذه الحرية ربما انحرفت في بعض الأحيان وفي بعض البلدان، بل وفي نفس الاهتمام بالعقل وعظمة الإنسان التي استخدمها المفكرون الأحرار سلاحا ضد المسيحية، وأخيرا في الشعور الدنيوي الذي أوحى بتقدمها الاجتماعي والسياسي، وبآمالها الكبرى، بالرغم من مذهبية خاطئة.
ولكن الشقة قد ازدادت بعدا بين السلوك الحقيقي في هذا العالم المسيحي الدنيوي وبين المبادئ الخلقية والروحية التي أكسبته معناه ومنطقه الذاتي، والتي أراد أن ينكرها؛ ومن ثم فإن هذا العالم يبدو كأنه خلو من مبادئه، وهو يميل إلى أن يصبح عالم ألفاظ - عالما اسميا - أو عجينة بغير خميرة. وهو يعيش ويحتمل العيش بالعادة وبالقوة التي اكتسبها من الماضي لا بقوته الذاتية، ويندفع بقوة عكسية لا بقوة باطنية متحركة. وهو عالم نفعي، قاعدته العليا هي المنفعة، ولكن المنفعة - وهي ليست وسيلة نحو هدف - ليس من ورائها جدوى. وهو عالم رأسمالي بمعنى هذه الكلمة في القرن التاسع عشر (وهو المعنى الحقيقي قبل أن يحرف). وقد مكنت المدنية الرأسمالية القوى الابتكارية لدى الفرد من تحقيق انتصارات ضخمة على الطبيعة المادية. غير أن إنسان هذا العصر - كما لاحظ ورنر سمبارت - لا يستهدف جواهر الأمور، ولا يشعر بالمحبة؛ أي إنه فقد الإحساس ب «الوجود»؛ لأنه عاش في الرموز وبالرموز، كما فقد الإحساس ب «المحبة» لأنه لم يستمتع بحياة الفرد الذي يعيش مع غيره من الأفراد، ولكنه جاهد جهادا شاقا في سبيل الثراء من أجل الثراء.
وبالرغم من المذهبية الخاطئة التي وضعت، والصورة المشوهة للإنسان التي ترتبط بها، فإن حضارتنا تحمل في صلب مادتها الميراث المقدس للقيم الإنسانية والسماوية الذي يعتمد على نضال أسلافنا في سبيل الحرية، وعلى أساس التقاليد اليهودية المسيحية، وعلى القديم الكلاسيكي؛ تلك القيم التي هبطت في كفايتها بدرجة مؤلمة، ولكنها لم تتقوض البتة في مضمونها الكامن.
وأشد الظواهر إزعاجا في الأزمة الحاضرة هو أننا - برغم اشتغالنا بنضال مميت في سبيل الدفاع عن هذه القيم - كثيرا ما نفقد الإيمان والثقة في المبادئ التي يقوم على أساسها ما ندافع عنه؛ وذلك لأننا نسينا في أكثر الأحيان المبادئ الصادقة المعتمدة، ولأننا في الوقت ذاته نشعر - ونحن واعون إلى حد كبير - بضعف الآراء السطحية التي تفترس هذه المبادئ افتراسا كالطفيليات التي تعلق بالأجسام.
2 (1-3) صورة الحضارة المسيحية الجديدة
إن عصر العالم المسيحي الجديد - إذا حل - سيكون عصر التوفيق بين ما كان قد تفكك، عصر حضارة مسيحية «دنيوية»، عصرا تمارس فيه الأمور الدنيوية، والتفكير الفلسفي والعلمي، والمجتمع المدني، استقلالها الذاتي، وتدرك فيه - مع ذلك - الدور الملهب الإيحائي الذي تقوم فيه الأمور الروحانية، والعقيدة الدينية، والكنيسة، من مستواها الرفيع؛ عندئذ سوف تقوم فلسفة مسيحية للحياة مجتمعا مسيحيا حقا لا ظاهرا، مجتمعا تتوافر فيه حقوق الإنسان وكرامة الفرد، مجتمعا يقوم فيه بأداء واجب دنيوي مشترك، يدعو إلى الإنسانية وإلى التقدم، قوم ينتمون إلى أصول عنصرية مختلفة، وإلى مواريث روحانية متباينة.
وإذا تعمقت التحليل قلت إن الأزمنة الحديثة منذ نهاية العصور الوسطى - وهي لحظة أحس فيها المخلوق البشري وهو يتنبه لذاته بأنه مظلوم مسحوق في وحدته - أخذت تتطلع إلى استرداد كرامة المخلوق البشري. وقد بحثت هذه الأزمنة الحديثة عن رد اعتبار الإنسان في انفصاله عن الله، وكان ينبغي أن تبحث عنه في صلته بالله؛ فالمخلوق البشري يزعم لنفسه الحق في أن يحب، ولا يمكن أن يحب حبا حقيقيا مثمرا إلا في هذه الصلة بالله. ويجب أن يحترم هذا المخلوق لعلاقته بالله، ولأنه يتلقى كل شيء - وكرامته ذاتها - من الله. وبعدما زال الوهم الكبير في «الإنسانية المركزة في الإنسان»، وبعد التجربة القاسية في مناهضة الإنسانية في الوقت الحاضر، فإن ما يحتاج إليه العلم هو إنسانية جديدة، إنسانية «مدارها الدين»، أو إنسانية متكاملة تنظر إلى الإنسان في كل جلاله وكل ضعفه الطبيعي، وفي كيانه الناقص الذي يحل به الإله، وفي حقيقة الطبيعة الكاملة، وفي إثمه، وفي قداسته. مثل هذه الإنسانية تعترف بكل ما لا ينطبق على العقل في الإنسان، بقصد أن ترده إلى العقل، وتعترف بكل ما يتجاوز العقل، لكي تبث به الحياة في العقل، ولكي تهيئ الإنسان لكي يحل فيه القدس. إن العمل الأساسي لهذه الإنسانية الجديدة هو أن تجعل روح الإنجيل ووحيه يتخللان مؤسسات الحياة الدنيوية - وهو عمل يهدف إلى تقديس النظام الدنيوي.
و«إنسانية التجسيد» هذه تهتم بالجموع البشرية، وبحقهم في ظروف دنيوية جديرة بالإنسان وبالحياة الروحية، وبالحركة التي تسير بالعمل نحو مسئوليته الاجتماعية عن إبلاغ هذا العمل مرحلة الرشد، هذه الإنسانية تميل إلى أن تستبدل بالمدنية المادية الفردية ، وبالنظام الاقتصادي الذي يقوم على أساس وفرة المال، لا اقتصادا جماعيا، بل ديمقراطية مسيحية تعترف بالفرد. وهذا الواجب ينضم إلى الجهد الحاسم الذي يبذل اليوم لحماية الحرية من اعتداء حكم الاستبداد! وإلى عمل آخر مواز يستهدف إعادة البناء ولا يحتاج إلى حماسة أقل، وهو ينضم أيضا إلى يقظة تامة للضمير الديني. إن من أسوأ أمراض العالم الحديث ثنائيته، أو الفصل بين ما لله وما للدنيا، لقد ترك ما للدنيا أو ما يتعلق بالحياة الاجتماعية الاقتصادية السياسية لقانونه المادي الشهواني، بعيدا عن مقتضيات الكتاب المقدس؛ فكانت النتيجة أن العيش في هذه الحالة قد اشتدت استحالته، وفي الوقت ذاته أمست في هذا الصدد الأخلاق المسيحية - التي لم تتخلل فعلا الحياة الاجتماعية للناس - عالما من القواعد الرمزية والألفاظ، لا في حد ذاتها، ولا في الكنيسة وحدها، وإنما في العالم الدنيوي، وفي السلوك الاجتماعي العام. وهذا العالم من القواعد والألفاظ قد أضحى في الواقع خاضعا في السلوك العملي الاجتماعي للطاقات الحقيقية لهذا العالم الدنيوي ذاته الذي انفصل وجوديا عن المسيح.
والمدنية الحديثة - فوق هذا - التي تدفع اليوم الثمن غاليا للماضي، تبدو كأنها تندفع بالتناقض الذاتي واللزوميات العمياء التي عانت منها، نحو صيغ متباينة من البؤس والمادية المركزة. ولكي نرتفع فوق هذه اللزوميات العمياء نحتاج إلى إيقاظ الحرية وإيقاظ قواها الخلاقة، التي لا يكون الإنسان جديرا بها بفضل الدولة أو بفضل أي لون من ألوان التربية الحزبية، وإنما بفضل الحب الذي يثبت مركز حياته إلى الأبد فوق العالم وفوق التاريخ الدنيوي. وأود أن أشير خاصة إلى أن روح الوثنية العامة التي تخللت حضارتنا أدت إلى أن يضع الإنسان أمله في القوة وحدها وفي قدرة الكراهية، في حين أن المثل الأعلى السياسي للعدالة والصداقة المدنية - التي تحتاج إلى قوة سياسية وإعداد فني، ولكنها تستوحي المحبة - في نظر الإنسانية المتكاملة، هذا المثل الأعلى هو وحده الذي يستطيع أن يوجه عمل الإحياء الاجتماعي.
3 (1-4) الكاثوليكية والعقيدة الديمقراطية
فيما يتعلق بالديمقراطية التي ترد إليها الحياة والتي نتطلع إليها، أرى أن الحل الوحيد هو من النوع «المتعدد». يستطيع الناس الذين ينتمون إلى مذاهب وأصول فلسفية ودينية مختلفة جدا أن يتعاونوا في الواجب المشترك، ومن أجل الرفاهية المشتركة للمجتمع الدنيوي يستطيعون ذلك، بل ينبغي لهم ذلك، بشرط موافقتهم على صورة واحدة من صور المجتمع الذي يتألف من أفراد أحرار، وعلى ما لهذا المجتمع من حقوق أساسية؛ لأن مجتمع الأفراد الأحرار يتضمن ميثاقا ضروريا وحقوقا أساسية هي من صميم وجوده، ومن واجبه أن يدافع عنها وأن يعمل على تقدمها. ومن أخطاء التفاؤل بالفردية الاعتقاد بأن «الحق» في المجتمع الحر، الحق الذي يتعلق بأسس الحياة المدنية، كما يتعلق بالقرارات وطرائق السلوك التي تلائم الكرامة الإنسانية والحرية الإنسانية، الاعتقاد بأن هذا الحق يصدر تلقائيا عن التنازع بين القوى والآراء الفردية التي تفترض فيها الحصانة ضد أي اتجاه لا يطابق العقل أو ضغط يؤدي إلى التفكك. وموضع الخطأ هو تصور المجتمع الحر شبيها بحلقة الملاكمة التي يتوافر فيها «الحياد» التام، فيكون حلقة تلتقي فيها كل الآراء الممكنة عن المجتمع وقواعد الحياة الاجتماعية، وتتصارع في سبيل الفوز، دون أن تهتم السلطة السياسية بالقيام على رعاية أية ظروف مشتركة أو وحي عام؛ ومن ثم فإن المجتمع الديمقراطي - في مسلكه الملموس - لم تكن له «صورة ذهنية» خاصة به، والحرية - وهي منزوعة السلاح مشلولة - تعرضت لما قام به أعداؤها، الذين حاولوا بكل الوسائل أن يثيروا في الناس رغبة دنيئة في أن يتحرروا من الحرية.
وإذا أردنا أن نتغلب على الاتجاهات الاستبدادية والإخلاص لرسالتها، فلا بد أن تكون للديمقراطية المتجددة صورتها الذهنية عن الإنسان وعن المجتمع، وأن تكون لها فلسفتها، وعقيدتها، التي تمكنها من تربية الناس على الحرية، كما تمكنها من الدفاع عن نفسها ضد أولئك الذين يودون أن يستخدموا الحريات الديمقراطية في تحطيم الحرية والحقوق الإنسانية. ولا يستطيع أي مجتمع من المجتمعات أن يعيش دون وحي عام أساسي وإيمان عام أساسي.
والنقطة الهامة التي يجب التنبيه إليها هنا هي أن هذا الإيمان وهذا الوحي وهذه الفلسفة وهذه الصورة الذهنية عن الديمقراطية التي تحتاج إليها الديمقراطية، كل ذلك لا يتعلق في حد ذاته بناحية المذهب الديني والحياة الأبدية، وإنما يتعلق بالناحية الدنيوية أو العلمانية من الحياة فوق هذه الأرض، كما يتعلق بالثقافة والحضارة، بل إنها أمور ذات صبغة «عملية» أكثر منها ذات صبغة نظرية أو عقائدية، أقصد أنها تعالج المعتقدات العملية التي يستطيع العقل البشري أن يحاول تبريرها - حقا أو باطلا - من وجهات نظر فلسفية جد مغايرة ، بل ومتنازعة متصارعة. ويرجع ذلك على الأرجح إلى أنها تعتمد أساسا على مدركات بسيطة «طبيعية»، يكون القلب البشري قمينا بها بتقدم الضمير الخلقي؛ ومن ثم يمكن للأفراد الذين يعتنقون آراء دينية وميتافيزيقية مختلفة، بل ومتضاربة، أن يلتئموا، لا بفضل تماثل المذاهب، ولكن بفضل تجانس متشابه في المبادئ العملية، ليتجهوا نحو النتائج العملية بعينها، كما يستطيعون أن يشتركوا في نفس العقيدة الديمقراطية العملية، بشرط أن يتفقوا على تقديس الحق والعقل، والكرامة الإنسانية، والحرية، والمحبة الأخوية، والقيمة المطلقة للخير الخلقي، حتى إن كان هذا الاتفاق لأسباب جد مختلفة.
وهنا - إن أردنا أن نكون ناقدين في تفكيرنا ولا نخشى الألفاظ - ينبغي لنا أن ننبه إلى أنه حيثما تكن العقيدة - المقدسة أو البشرية - لا بد أن يكون هناك أيضا الزنادقة الذين يهددون وحدة المجتمع، الدينية أو المدنية. والزنديق في المجتمع «المقدس» هو الذي يخرج على الوحدة الدينية. أما في مجتمع الأفراد الأحرار الدنيوي، فالزنديق هو الذي يخرج على «المعتقدات والسلوك الديمقراطي العام»، هو الحاكم المستبد، هو الذي ينكر الحرية - حرية جاره - وكرامة الفرد الإنساني، والقوة المعنوية للقانون. ولا نريد أن نحكم على مثل هذا الرجل بالإحراق، أو بالإبعاد عن المدنية، أو بالحرمان من حماية القانون، أو بالحبس في المعسكرات. ولكن المجتمع الديمقراطي لا بد أن يحمي نفسه منه بإبعاده عن قيادته، عن طريق رأي عام قوي مستنير، بل وعن طريق تسليمه للعدالة حينما يعرض نشاطه أمن الدولة للخطر، وفوق هذا كله لا بد للمجتمع الديمقراطي أن يحمي نفسه منه ببث وتعزيز فلسفة للحياة، ومعتقدات فكرية، وعمل بناء، لا يجعل لنفوذه أثرا.
4 (1-5) لكي نخدم واجب السلام
إذا كنا نود أن نمهد لعمل السلام في أذهان الناس وفي وعي الأمم، فلن يكون ذلك إلا إذا اقتنعت العقول بشدة بمثل المبادئ الآتية: إن السياسة الطيبة هي أولا وقبل كل شيء السياسة العادلة. على كل شعب أن يجاهد لكي يفهم نفسية الشعوب الأخرى، وتطورها وتقاليدها، وحاجاتها المادية والمعنوية، وكرامتها الصحيحة ودورها التاريخي؛ لأن كل شعب لا ينبغي له أن يتطلع إلى مصلحته فقط، بل إلى الصالح العام لمجموعة الأمم كذلك. وهذا التنبه إلى التفاهم المتبادل وإلى الحس بالجماعة المتحضرة يسد الحاجات التي تتطلبها الضرورات الطارئة في عالم سيكون حتما منذ اليوم موحدا، بالرغم من أنه ما زال مقسما تقسيما قاتلا من حيث الأهواء والمصالح السياسية، يسد هذه الحاجات بالرغم من افتراض وجود نوع من الثورة الروحية (على أساس العادات القديمة للتاريخ البشري). إن وضع المصلحة القومية فوق كل شيء آخر وسيلة مؤكدة لفقدان كل شيء. إن مجتمع الأحرار لا يمكن تصوره إلا إذا اعترف بأن الصدق هو التعبير عما هو كائن، والصواب هو التعبير عما هو عادل، وليس هو التعبير عما هو لازم في وقت معين لمصلحة المجموعة البشرية. لا يجوز أن نقضي على حياة الرجل البريء لأنه أمسى عبئا باهظا لا فائدة منه لأمته، أو لأنه يقف في سبيل الأعمال الناجحة لأية مجموعة مهما تكن. إن كل فرد من الناس لديه من الكرامة ما يفترضه صالح الجماعة نفسه، وينبغي لمصلحة الجماعة ذاتها أن تحترم هذه الكرامة، وله كذلك حقوق أساسية معينة وعليه واجبات معينة، باعتباره مدنيا، أو باعتباره شخصا اجتماعيا أو عاملا. الصالح العام يسبق الصالح الخاص. إن دنيا العمل لها الحق في الإصلاح الاجتماعي الذي يقتضيه نمو العمل في التاريخ البشري، وللجماهير حق الإسهام في الثورة الثقافية والروحية العامة. إن مجال الضمائر حرم لا ينتهك. من واجب الدولة من أجل الصالح العام أن تحترم الحرية الدينية كما تحترم حرية البحث. إن المساواة الأساسية بين الناس تجعل التعصب العنصري، والطبقي، والطائفي ، والتمييز العنصري، جرائم ترتكب في حق الطبيعة البشرية وكرامة الفرد، كما تجعله تهديدا قويا للسلام.
إذا أردنا أن نثبت دعائم السلام الذي يكون جديرا باسم السلام، مكينا دائما، في يوم من الأيام بين شعوب العالم، فإن ذلك لا يتوقف على التنظيم الاقتصادي والسياسي والمالي الذي يرتئيه رجال السياسة ورجال الدولة، ولا يتوقف فقط على إنشاء مؤسسة تتجاوز حقا حدود القوميات وتربط بينها على أساس شرعي، مؤسسة مزودة بالوسائل الفعالة للتنفيذ، لا يتوقف على هذا أو ذاك فحسب، وإنما يتوقف أيضا على وعي الناس وعيا تاما لمبادئ عملية مثل التي ذكرت، والتزامهم بها.
ويتوقف أيضا - إذا أخذنا الأمور على علاتها - على ذلك «الروح الأكبر» الذي يحتاج إليه عالمنا بعدما أصبح - كما قال برجسن - أضخم من الناحية التكنولوجية، ويتوقف أيضا على تدفق ظافر لتلك الطاقة الحرة السامية التي تهبط علينا من عل، والتي نعرفها بالمحبة الأخوية - مهما تكن تبعيتنا الدينية أو مذهبنا الفكري - وهو تعريف عبرت عنه الكتب السماوية بأسلوب هز ضمير الإنسان في جميع العصور.
5 (1-6) الإيمان الذي نعيش به
هل هناك إيمان نعيش به؟ هذا هو موضوع السؤال الذي طلب إلي أن أجيب عنه منذ بضع سنوات. وإني لأشك في أن هذه الصيغة من الألفاظ تعرض المشكلة عرضا ملائما. ما هو الضروري؟ ما الذي نحتاج إليه أشد الحاجة؟ هل هو إيمان نعيش به، أو إيمان نعيش له، إيمان نعيش ونموت في سبيله؟! لما كانت حياتنا ذاتها في خطر، فنحن مضطرون إلى أن نعيد الكشف عن إيمان نعيش له ونموت في سبيله.
في تصور الكثيرين من معاصرينا أن الإيمان - الإيمان الذي نعيش به - هو أبعد من أن يعرف بحقيقة ذاتية لا تقبل الجدل، تسمو على الإنسان وعلى الحياة الإنسانية، فهو مجرد شيء يقاس بالشعور الإنساني أو بالحاجات الإنسانية، يستهدف طمأنينة النظام العقلي والاجتماعي لحياة الإنسان، وتأمين الإنسان، وهو يتملك الأرض ويسود الطبيعة. ولقد بات الإيمان بالله تدريجا لعدد كبير من الناس - منذ عهد ديكارت وجون لوك إلى الوقت الحاضر - نوعا من الإيمان يعيشون به. وفي نهاية الأمر تحول الشعور الديني إلى مجال الحياة الإنسانية. إن أسلافنا تعهدوا بالقيام ببحث جريء مستنير ثابت عن إيمان يعيشون به، هو الإيمان بالإنسان، تعهدوا بهذا البحث وتابعوه في أمل ليس له حد. وهذا الإيمان بدا - خلال بعض الأجيال - شديدا قويا، وأدى أعمالا رائعة وإن تكن قابلة للتدهور. والحقيقة الواقعة هي أننا فقدنا الإيمان بالإنسان.
وما نسميه اليوم الوجودية الملحدة هو أقوى مظاهر هذه الحقيقة. كانت وجودية كركجارد هي الشعور بالإيمان الذي يبحث عن الحقيقة التي يشق إدراكها ولا يمكن التعبير عنها. وحتى وجودية هيدجر تبحث عن لغز الوجود عن طريق الشعور الأليم بالعدم. ولكن الوجودية الملحدة، التي بشر بها في السنوات الأخيرة كتاب لم يكونوا سوى مرايا صادقة لعصرهم، لا تعكس ما يلاقيه الإنسان من ألم وهو يواجه العدم، وإنما تعكس تشوق الإنسان إلى العدم وتصرح به. إنها تعبر عن الميل إلى إنهاء الوجود والرغبة فيه. غير أن هذا أمر مستحيل؛ لأن التشوق إلى العدم مع الحكم على الإنسان بالوجود معناه أن يتخلى المرء عن نفسه. والشيوعية - وهي الوجه الأخير من أوجه المذهب العقلي الذي يجعل الإنسان مداره - تعلن في الواقع إيمانها بالإنسان، وتزعم أنها آخر أمل في النظرة المتفائلة. ولكن تفاؤلها هو تفاؤل طاقات المادة والحيل الفنية الجبارة التي تفرض سلطانها. والإنسان فيها يخضع خضوعا تاما لحكم التاريخ مجسدا في فئة اجتماعية. نعم إنها إيمان بالإنسان، ولكن في أي نوع من أنواع الإنسان؟ في الإنسان الجماعي الذي يحرم الفرد حرية العقل، ويتحول إلى إله زائف صادر عن تطور المادة ومناقضات التاريخ؛ وبذلك نضحي بالإنسان الحقيقي، بالشخص البشري، في سبيل عبادة وثنية قاتلة لعظمة الإنسان.
وهنا نتساءل: هل اليأس له الكلمة الأخيرة؟ وهل نحن محاطون بالمأساة من كل جانب؟
الواقع أن العقل يقتضينا أن نؤمن بالإنسان. والآن دعنا نترك عالم الإنسان الحالي وننظر في عالم الطبيعة؛ أعني أن نحدق فيها بالنظر المبسط الذي يخلو من التعقيد. إننا نجد أن السلام السحيق الذي يتجاوز حدود الفرد، والذي ليس منه مهرب - وهو أساس الخير وقوى الوجود العالمية - نجد أن هذا السلام يتخلل الطبيعة في أعماقها، بالرغم من ذيوع قانون النضال والصراع. والإنسان - كجزء من الطبيعة - لديه جوهر طيب في حد ذاته. إننا نرى أن تطور الكون هو عبارة عن حركة دائبة - بالرغم من انحرافها باستمرار - نحو صور أسمى من الحياة والوعي، حركة تنتهي بالفوز النهائي للنوع البشري، حركة تسيرها حرية الإنسان، في حدود إمكانياته البشرية، كما نرى أن التقدم البطيء الأليم للجنس البشري - منذ عهد إنسان الكهف - يدل على وجود طاقات عند الإنسان تجعل أي ازدراء للجنس البشري صبيانيا لا يستند إلى فرض سليم. أنظر بشيء من المحبة إلى أي فرد مهما يكن وسط الجماهير العامة المجهولة من البشرية المسكينة. إنك كلما ازددت معرفة به، اكتشفت فيه مصادر خفية للخير لم يستطع الشر أن يقضي عليها. إن موقف الإنسان العسير ينشأ من أنه ليس من مخلوقات الطبيعة فحسب، ولكنه كذلك من مخلوقات العقل والحرية، وهما عنصران ضعيفان فيه، ولكنهما - مع ذلك - من أسباب قوته التي لا تهد، ومن علامات كرامته الكامنة فيه. ولا يمكن لأي نوع من أنواع الفشل أو لأية لوثة من اللوثات أن تمحو عظمة الإنسان الأصيلة.
أجل، إننا نرى أنه لا بد أن يكون لدينا إيمان بالإنسان. بيد أنا لا نستطيع ذلك؛ فإن خبراتنا توقف العقل عند حد. وقد كان عالم الإنسان الحاضر بالنسبة إلينا كاشفا للشر، حطم كل ثقة فينا. وكم من جريمة شهدنا لا يمكن أن يعوضها أي انتقام عادل، وكم من موت يائس، وكم من مواقف من الامتهان المذل للطبيعة البشرية! إن صورة الأشباح الدموية في معسكرات الإبادة، التي لا تمحى ولا تنسى، قد غشت صورتنا عن الإنسان. وشهوة الحكم الاستبدادي - نازية كانت أو شيوعية - التي تتغذى على ما فينا من أسباب الضعف الخلقي، قد أطلقت الشياطين في كل مكان، وكأن كل ما أحببنا قد تسمم، وكأن كل ما وثقنا به قد فشل. واتجه العلم والتقدم نحو دمارنا، وكياننا ذاته مهدد بالخطر من جراء التحليل الدقيق لقوى العقل والأخلاق. ولغتنا ذاتها قد انحرفت فبات اللفظ غامضا، وكأنه لا ينقل إلا خداعا. إننا نعيش في عالم كافكا
Kafka ، فأين إيماننا الذي نعيش به؟
1
ربما نكون قد اخترنا الطريق الخاطئ، وربما كان من الأفضل لنا أن نتشبث بإيمان نعيش له ونموت في سبيله، بدلا من أن نبحث عن إيمان نعيش به فحسب. إن الحكمة الوثنية القديمة عرفت أن أنبل وأسعد وأكثر النواحي البشرية إنسانية متعلقة بما يسمو على البشرية، كما عرفت أن الإنسان لا يستطيع العيش إلا بما يحيا من أجله وما هو مستعد لأن يموت من أجله، وبما هو أفضل منه. وإذا كانت إنسانيتنا قد فشلت فربما كان مرد ذلك إلى أنها كانت تدور حول الإنسان وحده، وأنها كانت نفعية لا بطولية، ولأنها حاولت أن تلقي بالموت والشر في هوة النسيان، بدلا من أن تواجههما وتتغلب عليهما بصعود الروح إلى الحياة الأبدية، ولأنها وضعت ثقتها في الحيل الفنية بدلا من أن تضعها في المحبة؛ أقصد المحبة التي بشر بها الإنجيل.
يقول القديس بولس: إن الإيمان هو مادة الأشياء التي نضع فيها آمالنا. ويمضي فيقول: إنه الثقة في أمور لا نراها. الإيمان هو التمسك بالحق الذي يسمو على البشر، وهو المدخل إلى مملكة الأشياء المقدسة التي لا ترى. الإيمان يجعل حياتنا متعلقة بالعيش الكامل، الذي يفضل حياتنا الخاصة كثيرا، وهو إلى نفوسنا أحب. الإيمان هو الالتقاء ب «شخص هو الحق ذاته وهو المحبة ذاتها». شخص إذا نحن أسلمنا إليه نفوسنا أدى بنا ذلك إلى الحرية القصوى، وإذا نحن متنا في سبيله أضحت حياتنا ثابتة لا يلحق بها الدمار.
ثم إنا نعيش من أجل الحق، وهذا الحق الذي نعيش من أجله أقوى من الدنيا بأسرها. ونحن نعيش من أجل الحب، وهذا الحب الذي نعيش من أجله قد صنع الدنيا، وسوف يجددها ويعيد تشكيلها في النهاية. ونحن أحرار، وليس بوسع أي شيء في الدنيا أن يحطم إيماننا.
وهذا الإله الذي هو الحق والحب قد خلق الإنسان على صورته، وقدر للإنسان أن يقاسمه حياته. وقد مات المسيح في سبيل خلاص الإنسان. وبالرغم من جميع الكوارث التي تنجم عن فشل الإنسان وانحرافه عن جادة الحق، فإن الله يسير تاريخ البشر نحو العمل وتشكيل الدنيا على الصورة التي يحب ويرضى. هذه هي عظمة الإنسان، وهذه هي نقطة الارتكاز في إيماننا به.
ومن ثم فإن الإيمان بالإنسان يعود إلى الحياة إذا امتدت جذوره إلى ما يسمو عن الإنسان، إن الإيمان بالإنسان يصعد عن طريق الإيمان بالله.
إن تاريخ البشر يسير في اتجاه معين، وهو يتوقف على الطاقات الطبيعية والروحية، وتاريخ البشر - من بين جميع ضروب الصراع - يميل نحو تحقيق الإنسانية بطريقة طبيعية؛ أقصد أنه يميل نحو إظهار جوهر الإنسان وإمكانياته تدريجا، وإلى التقدم التدريجي لأشكال معرفته، وضميره الخلقي، وحياته الاجتماعية، ويقصد إلى تحقيق الوحدة والحرية تدريجا. وهو يميل أيضا إلى تحقيق الروحانية، التي تسمو على الزمان وتتجاوز حدود التاريخ، والتي يعدها المسيحي مملكة السماء والإلهام لأبناء السماء. وهذان الاتجاهان للتاريخ - وإن كانا يمتزجان امتزاجا لا ينفصل - ينتسبان إلى عالمين يتميز كل منهما عن الآخر تميزا واضحا، وكثيرا ما يقف ضعف الإنسان في سبيل أحدهما، ويعمل على حث الآخر على التقدم. وفي مقابل هذين الاتجاهين ينمو عامل الشر كذلك في التاريخ، فترى حركة سفلية تسبب زيادة الخسائر في نفس الوقت الذي تسعى فيه الحركة العلوية إلى أن تتمخض عصارة الدنيا عن ثمار أفضل. إن الشر يعمل متخفيا إبان ازدهار بساتيننا التي لم يتم إيناعها، وذلك في أسعد فترات التاريخ. وفي أحلك العصور ظلمة يتأهب الخير متخفيا كذلك لانتصارات غير منظورة، والخير أقوى من الشر؛ ومن ثم يتحقق قول الكتاب المقدس: «قل لمن هم على طريق الحق إن الدنيا بخير.» وفي سفر الرؤيا اليهودي جاء أن عصر آلام المسيح سيكون هو عصر انتصاراته الكبرى.
وفي تقديم كتابه «على أعتاب سفر الرؤيا» لأحد القراء، كتب ليون بلوي منذ نحو ثلاثين عاما في الصفحة الأولى: «أرجو أن تتقدم بخطاك يا صديقي العزيز.» ويبدو في الواقع أننا تقدمنا فعلا بالخطا، ويبدو كأن عصرنا هو من عصور الإيحاء، فيه تصفية لقرون عدة من التاريخ. إننا ما زلنا نجني ثمار الغضب، ولم تنته آلامنا بعد، ولكن عالما جديدا سيخرج في نهاية الأمة التي نعانيها.
وبهذه الأفكار في أذهاننا تتخذ التجربة صورة جديدة، وهي التجربة عينها التي هزت من قبل إيماننا بالإنسان. إنها تكتسب معنى جديدا؛ فهي ليست الإبانة عن تفاهة الوجود، إنما هي الإبانة عن آلام التاريخ وجهوده، وهي ليست الإبانة عن وضاعة الإنسان وحقارته الوضيعة، وإنما هي الإبانة عن الكرب التي يتكشف عندما يهبط من كبريائه، وعن المحن والكوارث التي تبرز من خلالها عظمة مصيره الكامنة فيه.
والتطور التاريخي كذلك الذي نمر به لا يتم في يوم واحد؛ فعامل الزمن ضروري لكي يتمكن العقل من السيطرة على الوسائل المادية المريعة التي وضعتها بين أيدينا الضعيفة الثورة الصناعية والتكنولوجية. وعامل الزمن ضروري لكي يهز الثورة الخلقية الروحية التي نحن أشد حاجة إليها منا إلى أية ثورة أخرى، تهزها من أعماق الحيرة البشرية؛ لأن أقل ما نتطلبه هو انتصار إيمان الكتاب المقدس في السلوك الاجتماعي للإنسان فوق هذه الأرض. إن تجديد الحضارة الذي نأمل فيه، وعصر الإنسانية المتكاملة، والوقت الذي يتم فيه التوفيق بين العلم والحكمة، وإنشاء دولة مشتركة أخوية، وبداية التحرر البشري الحق، كل ذلك لا ننتظره في غدنا، وإنما ننتظره بعد غدنا، ننتظره في اليوم الذي أعلن القديس بولس أنه سوف يكون - بعد أحلك الظلمات - كالربيع تزدهر فيه الدنيا وتتجدد.
إن كل مجهود يبذل في هذا السبيل لا بد أن يثمر في نهاية الأمر. ولست أشير إلى النضال الروحي لأولئك الذين استمعوا - كما قال هنري برجسن - إلى نداء البطل، الذين ينبهون الناس إلى المحبة التي يبشر بها الكتاب المقدس، لا أشير إلى ذلك فحسب، وإنما أشير أيضا إلى النضال الدنيوي لأولئك الذين يهبون أنفسهم لرفع مستوى حياة إخوانهم وتنويرهم، من علماء وشعراء ورواد للعدالة الاجتماعية. وأشير إلى الجهد اليومي الذي يبذله أولئك الذين لا يعرفون الراحة ما دام إخوانهم في عبودية وبؤس. وحتى إن كانت الظروف العامة في العالم وما تجمع لدينا من أخطاء يحول دون أن تتغلب أمثال هذه الجهود في الوقت الحاضر على الشرور التي تتدفق من كل صوب، فهي تمهد لعهد تزداد فيه كرامة الإنسان وتنتشر فيه المحبة تحت رعاية الله.
وحتى هذا لن يكن إلا خطة في تاريخ كوكب صغير قابل للفناء. والأمل يتجاوز الزمن؛ لأنا ننتظر في النهاية بعث الأموات، والحياة الأبدية. هذا هو الإيمان الذي نعيش له، ولما كنا نعيش له فهو الإيمان الذي نعيش به.
6
المصادر
كل المختارات التي وردت في هذا الفصل مقتبسة من كتاب «مدى العقل» لجاك ماريتان.
1
احتمالات التعاون في عالم منقسم.
2
الإنسانية المسيحية.
3
نفس المصدر السابق.
4
مبدأ التعدد في الديمقراطية.
5
احتمالات التعاون في عالم منقسم.
6
الإيمان الذي نعيش به.
الفصل الثامن
رينولد نيبور
(1892م-...)
إذا كان هناك خيط واحد يربط بين المؤلفات العويصة الفصيحة التي أسهم بها نيبور فيما كتب متعلقا بالفلسفة الحديثة وبالدفاع عن البروتستانتية، فمن الجائز أن ننعته بأنه حرب صليبية موجهة ضد التفاؤل الشديد الذي ساد عصر العقل والعلم، وذلك بالرجوع إلى فكرة الخطيئة الأولى وحالة الإنسان التي تدعو إلى الأسف والأسى. وتصف صفحات إحدى المجلات الواسعة الانتشار رينولد نيبور بأنه «رجل الدين الأول في بروتستانتية الولايات المتحدة». وفي عبارة أفضل انتقاء وأقوى تبيانا يقول المؤرخ آرثر شلنجر: «إنه لم يظهر في هذا الجيل واعظ له ما لنيبور من قوة الأثر، ولم يظهر واعظ له ما له من أثر في الدنيا العلمانية.»
ونيبور، الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس اتحاد المعاهد الدينية بنيويورك، ولد في مدينة رايت بميسوري يوم 21 من يونيو من عام 1892م. وقد جاء أبوه مهاجرا إلى هذه البلاد (أمريكا) من ألمانيا في سن السابعة عشرة. وعندما رزق رينولد كان راعيا للكنيسة الإنجيلية الطائفية في مدينة رايت. وربما كان لوفاة والده في سن مبكرة، وما ترتب على ذلك من ضيق مالي عانت منه أمه، التي كان عليها أن تواجه تربية أبنائها ، شأن بالتحاق نيبور بكلية ألمهرست في ألينواز، وهو معهد تخرج فيه عام 1910م دون الحصول على درجة علمية، لكي يلحق بمعهد إيدن الديني، بجوار سنت لويس، ثم انتقل بعد ذلك بثلاث سنوات إلى مدرسة ييل للاهوت، ومنها حصل على درجة البكالوريوس في اللاهوت عام 1914م، وعلى درجة الأستاذية في عام 1915م.
وفي عام 1915م عندما نصب قسيسا في كهنوت الكنيسة الإنجيلية الطائفية بشمال أمريكا، تولى نيبور أول وآخر وظيفة له كراع في كنيسة بثل الإنجيلية بدترويت. وتميزت خبرة السنوات الثلاثة عشرة في دترويت باهتمام حماسي بحركة العمال، وبنوع من الوعظ الثائر الذي كان يعطف على الاشتراكية وعلى القادة المجاهدين في صفوف عمال السيارات بتلك المدينة الهامة. وقد شاع بين الناس أن رجال الصناعة تنفسوا الصعداء عندما غادر نيبور دترويت لكي يلتحق بهيئة اتحاد المعاهد الدينية. وبعد عامين عين نيبور أستاذا لكرسي وليم رودج، وهي أستاذية في المسيحية التطبيقية في اتحاد المعاهد الدينية. وبمرور السنين اشتد ارتباطه وزادت مسئولياته إزاء هذه المؤسسة.
وقد أدرك نيبور منذ أيام دترويت أن الأزمة العالمية في عصرنا الحاضر تتعلق بالمشكلات الأساسية للخلق السياسي. وكتابه «الإنسان الخلقي والمجتمع غير الخلقي» لا يزال بيانا قويا عن الحاجة إلى نظام اجتماعي عادل قبل أن نتوقع ل «الإنسان الخلقي» أن ينتعش. وفي كتابه «أبناء النور وأبناء الظلام» يهاجم نيبور تخلي «أبناء النور» عن المسئولية الخلقية، فهم يعجزون عن اللحاق بوقائع السلطة المعقدة، بالرغم من نبل نواياهم وطهارتها. وفي هذا الصدد ألف نيبور أن ينقد مرة كل أسبوعين الكنائس الأمريكية والزعماء الدينيين، ويصمهم بأنهم إنما يلقون المواعظ والنصائح الخطرة التي ليست لها بواقع الحياة صلة. وبسبب هذا النقد المتواصل اكتسب نيبور بعض الأعداء الأقوياء في الدوائر الأمريكية المسيحية. أما في شئون السياسة فقد نادى نيبور بضرورة التزام الحكمة التي تخلو من التعصب، وهي الحكمة التي تطابق المذهب البراجمي (العملي) المتحرر. وتدل بعض مؤلفاته الأخيرة مثل «المسيحية وسياسة السيطرة» و«الواقعية المسيحية والأزمة السياسية»، ومقالاته العديدة التي نشرها في صحف الرأي مثل «الرائد الحديث»، على عادته في وزن الأمور على أوجهها الواقعية المختلفة وزنا دقيقا، ووزن النتائج الخلقية للقرارات السياسية.
وقد أظهر نيبور مرة أخرى عند اقتراب الحرب العالمية الثانية الشجاعة والنزاهة التي دفعته من قبل إلى أن ينضم إلى الاشتراكيين في الفترة التي تقع بين عام 1930 و1940م، وذلك حينما انفصل عن الاشتراكيين في يونيو من عام 1940م، واختلف معهم بشأن الحرب الأوروبية، التي أدرك أنه لا مناص للولايات المتحدة من دخولها، والتي ينبغي لها من الناحية الخلقية أن تتدخل فيها. ولما كان نيبور يعتقد «أن قدرة الإنسان على العدالة تجعل الديمقراطية ممكنة، غير أن ميل الإنسان إلى الظلم يجعل الديمقراطية ضرورة»؛ فقد اهتم اهتماما بالغا بالقضايا الملموسة في السياسة الخارجية، كما اهتم بالسياسة الداخلية الوطنية في أمريكا. وبينما نراه يلجأ إلى نوع من الوعظ المسهب بشأن الأخطاء الأمريكية في كتابه «سخرية التاريخ الأمريكي»، نجد أنه يعتقد بشدة في قدرة أمريكا على أن تحدد مصالحها الوطنية في إطار سمح يسمح بحقوق الأمم الأخرى.
وفي كتابه «النفس ومسرحية التاريخ» يرتد نيبور إلى الاهتمام الذي سيطر عليه في محاضرات جفورد التي ألقاها بأدنبرة في عام 1929م، حينما اختار موضوع «الطبيعة ومصير الإنسان» للمحاضرة. وهنا نراه يذكر في عبارة بليغة تقديره للعنصر العبري في المدنية الغربية، كما أنه يحتفظ بالتقاليد الهلينية، وهو فوق ذلك يقدم لنا في قوة مؤثرة فلسفة عامة في النفس، سواء من ناحية تقيدها بظروف خلقها أو من ناحية أمجادها الخلاقة. (1) الواقعية المسيحية والأزمة السياسية
رينولد نيبور (1-1) الجذور العلمانية لورطتنا
إن الميل الطبيعي عند المسيحي المؤمن حينما ينظر إلى الوقائع المؤسفة في حياتنا المعاصرة، هو أن يرى الحق في المسيح إزاء ما نستعيض به عن الإيمان المسيحي، وهو استبدال الباطل بالحق، الأمر الذي ربما عاون على إيجاد هذا العالم المفجع الذي نعيش فيه اليوم. ألم يهدم هذا الذي استبدلناه بالإيمان المسيحي الإحساس بالسياسة المقدسة التي نخضع لها جميعا؟ ألم يخترع وسائل للتخلص من الشر جعلت الشعور بالندم أمرا لا ضرورة له ؟
هذا الميل قد يحدد أيضا مسئوليتنا. غير أني أشك فيما إذا كانت هي مسئوليتنا الأولى؛ فالفرصة سانحة لنا كذلك لكي نجعل لصدق كلمة الله أثرا في الجذور الدنيوية للورطة التي نحن فيها اليوم؛ لأن تاريخنا الجاري هو في الواقع مثل رائع للوسيلة التي يباغت بها إله الانتقام كبرياء الإنسان، وللطريقة التي يوقع بها الحكم الإلهي العقوبة على الأفراد والشعوب الذين يرفعون أنفسهم فوق مستواهم.
ولقد أدى بنا تحرير الثقافة إلى الظن بأن الفكرة المسيحية التي تقول بميل الناس جميعا نحو الإثم إنما هي فكرة عتيقة انقضى عهدها وفات، وأحللنا مكانها فكرة حب الذات حبا بريئا لا ضرر منه؛ إما بسبب اهتمام الفرد بمصلحته مع مراعاة الحكمة والاعتدال، وإما بسبب توازن القوى الاجتماعية جميعا، توازنا يحول حب الذات عند الناس أجمعين إلى انسجام اجتماعي أسمى. غير أن بطلان هذه الفكرة قد ثبت بازدياد المفارقة المستمرة في التناسب بين القوى في مجتمعنا، كما ثبت أيضا باطراد التدهور بين الناس في مجتمع قوامه الوسائل التكنولوجية. وأدى بنا تحرير الثقافة أيضا إلى الظن بأن الخلاص يكون عن طريق النمو والتطور؛ فالناس - كما يقال - لا يعانون من الإثم بمقدار ما يعانون من العجز. غير أن سير التاريخ كله - لحسن الحظ - كان في حد ذاته مخلصا للإنسان؛ فقد حول الإنسان من حالة العجز إلى حالة القدرة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الحالة التي يكون فيها فريسة لحكم التاريخ إلى الحالة التي يكون فيها سيدا له. غير أن وهم هذه الفكرة لا يقل مأساة عن وهم الفكرة الأولى. وما دامت خطيئة الإنسان ترجع إلى فساد إرادته ولا ترجع إلى ضعفه، فإن احتمالات الشر تنمو مع اطراد الزيادة في حريته وقدرته، التي كان مفروضا أن تعمل على تحريره.
وهذه الأوهام الواضحة في العالم الحر عجلت بثورة ماركسية ضد الثقافة الحرة بأسرها، فنادت بالإيمان بنوع جديد من انسجام المجتمع عن طريق التحطيم الثوري للملكية، ليحل محل الإيمان بالتناسق البسيط بين القوى الاجتماعية جميعا؛ وبذلك رأت أن النظام الاجتماعي هو أساس الشر عند الإنسان، وبشرت بخلاصه عن طريق تحطيم هذا النظام، وبشرت بالخلاص عن طريق القضاء على النظام القديم وظهور نظام جديد، بدلا من فكرة الخلاص عن طريق النمو والتقدم الذي لا يقف عند حد. ولم يكن معنى ذلك الموت المستمر للنفس الذي ورد في الكتاب المقدس، إنما كان تبشيرا بحياة جديدة لنا نحياها بإماتة أعدائنا.
وقد ازدادت مأساة هذا العصر فجيعة لسببين؛ أولهما أن هذا الرأي الجديد الذي نستبدله بالحرية الدنيوية قد دل من وجوه كثيرة على أنه أكثر وهما وأشد خطأ، وثانيهما أن هاتين الصورتين من الخطأ قد أوقعتا العالم في حرب أهلية مريرة تحطم المجتمع قوميا كان أو دوليا.
وهذا الاتجاه الجديد أثبت أنه أشد خطأ؛ لأن دعاة هذا الدين الجديد تحولوا إلى ملوك مقدسين مستبدين، فقدوا كل إحساس بصفة الترابط بين كل المصالح والأفكار البشرية، فأشاعوا في العالم طرا تعصبهم الذميم لصواب تفكيرهم دون سواهم. وقد أثبت هذا الاتجاه الجديد أنه كذلك أشد خطأ؛ لأن مذهب اشتراكية الملكية حينما يتحول إلى مذهب خلاص ديني، بدلا من اكتفائه بأن يكون حلا عمليا، إنما يجمع بين القوى الاقتصادية والسياسية في أيد أوليجاركية واحدة واحدة؛ مما يؤدي إلى الظلم والتعسف. وهذا الشر الواضح وهذا الاستبداد في الرأي قد أعطى لمؤيدي النظام القديم حجة قوية، لا لكي يتوبوا عن خطاياهم، بل ليكتفوا بتوجيه الانتباه إلى أخطار الرأي الجديد.
وربما كان قلة الصدق وكثرة الخطأ في هذين الرأيين الدنيويين اللذين استعضنا بهما عن العقيدة المسيحية هما اللتين أدتا إلى إقحام العالم في حرب أهلية لا رجاء فيها، حرب يرى كل فريق فيها أن لديه من الحق ما يكفي للتمسك برأيه في سمو رسالته، كما أن لديه من الخطأ ما يفزع به الفريق الآخر بالنتائج التي يحتملها انتصاره.
1 (1-2) آثام الكنيسة
وليس من شك في أنه من واجبنا أن نشهد ضد هذين اللونين من الوهم الدنيوي من وجهة نظر الحق الذي لا نراه من تلقاء أنفسنا، إنما نستمده من الكتاب المقدس، وبهذه الشهادة يكون موقفنا الراهن دعامة قوية للحق الذي جاء في الكتاب المقدس. وينبغي لنا أن نبشر بالكتاب المقدس في الوقت الذي يتردى فيه الإنسان الحديث - الذي كان على ثقة شديدة أنه يستطيع أن يسيطر على مصيره - في مصير تاريخي، يبدو فيه أن إرادة الإنسان قد أمست عاجزة كل العجز فاقدة لكل رجاء. إن ما يباهي به كل فريق من فضائل ليس إلا شرورا من وجهة نظر الفريق الآخر، وآثاما في نظر الإله. وإن هذه العبارة التي جاءت على لسان صاحب المزامير تنطبق على موقفنا تمام الانطباق: «لقد ثار الكفار وتصور الناس أمورا باطلة، ولكن ذلك الذي يستوي على عرش السماء سوف يسخر منهم ويضحك.»
ولكن دعنا لا نزعم أننا نسخر مع الله. إن ضحكة الله الساخرة هي حكم إلهي له ما يسوغه على هذه الكبرياء التي استجدت بالنسبة إلى الإنسان الحديث، والتي هي مع ذلك موجودة من قديم الزمان. يجب ألا نضحك خشية أن ننسى أن حكم الله هو علينا كما هو عليهم؛ فنحن مشتركون اشتراكا قويا في كارثة عصرنا هذا، اشتراكا لا يسمح لنا بأكثر من شهادة مؤقتة ضد ما يسمى المجتمع العلماني. ويرجع ظهور هذا المجتمع - في صورتيه الحرة والماركسية - في الوجود، إلى حد ما، إلى اشتراك المسيحية اشتراكا شديدا في الآثام الاجتماعية لهذا العصر وفي الظلم الاجتماعي الذي لا يلين. وهذا العرض الموجز لآثام الكنيسة يبين المدى البعيد لمقدار اشتراكنا فيها: (1)
ليس هناك شر اجتماعي، وليست هناك صورة من الظلم - سواء من النوع الإقطاعي أو من النوع الاجتماعي - لم تؤيد بشكل ما بالشعور الديني؛ ومن ثم أصبحت أشد صلابة ضد التغير. وإن ما قاله ماركس في هذا الصدد صادق إلى حد ما، وهو «أن بداية كل نقد هي نقد الدين؛ لأن ادعاءات الناس تبلغ أضل صورة لها عند هذا المستوى النهائي، والإثم النهائي يرتكب دائما باسم الدين.» (2)
أعلن جانب من الكنيسة - خشية الاشتباك في متاهات السياسة - أن مشكلات السياسة لا تمت إلى الحياة المسيحية بصلة؛ فترك الإنسان الحديث في حيرة المجتمع الحديث، كما رأى الإخاء يتحطم في المجتمع التقني دونما تأنيب من الضمير، بل إن هذا الحياد كثيرا ما لا يلتزم بنزاهة وإخلاص. والكنيسة المحايدة حليف في العادة للقوة الاجتماعية القائمة. (3)
وجانب من الكنيسة اكتفى - عند مواجهة مركبات النظام السياسي - بنظرة عاطفية لا تحتمل، فأعلن أن هذه المشكلات ما كانت لتظهر لو أن الناس تبادلوا فيما بينهم المحبة، وأصر على أن قانون المحبة سهل ممكن، في حين أن تجاربنا كلها تدل على أن المشكلة الحقيقية في وجودنا هي أننا ينبغي أن نتحاب ولكنا لا نفعل. وكيف نستطيع أن نقيم مجتمعا محتملا في حين أن الناس جميعا - وفيهم المسيحيون - يميلون إلى أن يستغل كل منهم الآخر؟ وحتى يومنا هذا نجد كثيرا من المسيحيين يأملون في بلاهة أن ينطق المجتمع المسيحي ذات يوم بكلمة خلقية يسيرة تنهي بالمحبة الصراع الأليم بين أفراد المجتمع الإنساني. وإن أشد رجال السياسة انتهازا للفرص - الذي يدرك الأمور المعقدة التي يواريها هذا الشعور العاطفي - هو برغم فساده أقرب إلى أن يدخل مملكة السماء قبل ذلك المنافق الذي يستطيع أن يتصور أنه بوسعنا أن نرتفع بأنفسنا فوق المتناقضات الخلقية المفجعة الكائنة في وجودنا بعمل يسير من أعمال الإرادة. (4)
وجانب من الكنيسة - لوعيه بهذه الأمور المحيرة - تأهب لوضع مشروعات مسهبة مفصلة للعدالة وللقانون لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية للإنسان تحت مستوى المحبة والشعور النبيل. ولكن هذا الجانب جر نفسه إلى وضع تشريع صارم لا ينطوي على سماحة الشعور، فهو لا يعرف أن كل قانون قد يكون الوسيلة إلى ارتكاب الإثم، وأن أحكام العدالة الصارمة - وبخاصة في الظروف السريعة التغير التي تلازم التطور التكنولوجي الحديث - أقرب إلى أن تعوق منها إلى أن تعين على تنفيذ العدالة الحقة. ومما ينبغي للمسيحية قطعا أن تسهم به في مشكلة العدالة السياسية هو أن تخضع كل أحكام العدالة لقانون المحبة، وتنهي بذلك هذا الجدل العقيم بين أتباع الفلسفة البراجمية (العملية) وأتباع مذهب الحق المشروع، وأن توجد الحرية والقدرة على المراوغة التي لا مناص منها لتحقيق درجة من التوافق المقبول بين الأفراد والشعوب في العلاقات الإنسانية الآخذة في التعقيد. إننا بحاجة إلى نظرة براجمية نحو كل نظام من نظم الملكية ونظم الحكم، فندرك أنه ليس من بين هذه النظم نظام يبلغ من التقديس الحد الذي تريد بعض القوانين المسيحية المزعومة أو القوانين الدنيوية أن تخلعه عليه، وأن كل هذه النظم عرضة للفساد، وأن إلغاءها هو كذلك عرضة للفساد. ولا يمكن أن تنحط هذه الحرية إلى حد الفوضى لو عرف الإنسان «أن كل شيء له، وأنه للمسيح، والمسيح لله».
2 (1-3) الحق المسيحي في عصرنا
لقد تحدثت حديثا سلبيا، وقلت إن الكنيسة المسيحية ينبغي أن تستنكر كل صورة من صور الكبرياء والغرور، سواء في الثقافة الدنيوية أو المسيحية، وأن تركز اهتمامها في خطايانا خشية أن نجعل المسيح حكما على غيرنا وليس حكما علينا. غير أن الشعور بالندم لا يكفي وحده، فهو جزء من شعور عام بالخلاص، وواجبنا من الناحية الإيجابية هو أن نقدم إنجيل الخلاص المسيحي للأمم كما نقدمه للأفراد. ونحن - طبقا لما نؤمن به - كثيرا ما نقع في الإثم وفي وهدة الموت؛ لأننا نحاول مستيئسين أن نحيا، وأن نحتفظ بكبريائنا، وأن نبقى على مكانتنا العالية. غير أنه بالإمكان أن نحيا حياة صادقة إذا نحن أنكرنا الحياة على ذواتنا، وإذا حد الإنسان من غروره بأن يأخذ بالحكم الإلهي الذي يقضي بأن الحياة تصلح حقا بالبركة الإلهية. وهذا الوعد بالحياة الجديدة موجه إلى الأفراد، ولكن من ذا الذي يستطيع أن ينكر ارتباطه كذلك بالأمم والدول، وبالمدنيات والثقافات بالرغم من أن هذه الصور الجماعية من الحياة ليس لها ما لروح الفرد من صفاء كامل، ولا يمكنها أن تتصل اتصالا مباشرا بالحكم الإلهي وبالبركة الإلهية؟
إن الموقف في الحياة الجماعية للإنسان في الوقت الحاضر يدل على أننا حطمنا حياتنا العامة عن طريق القوى الجديدة والحرية التي قدمتها المدنية التكنولوجية لنا ووضعتها بين أيدينا. وهذه الحياة المحطمة، التي تتبدى في بؤس العالم كله وقلقه، هي حكم تاريخي موضوعي علينا، وهي الموت الذي ترتب على حياة الغرور التي تحياها الأمم والشعوب، وهي بغير إيمان ليست إلا فناء، وبغير إيمان تولد الحزن والأسى للدنيا بأسرها، وهذا هو اليأس. وبغير إيمان يكون هذا الاضطراب دليلا على انعدام المعنى الذي يترتب على تدمير النظم المبسطة لمعنى الحياة التي تجعلنا وتجعل شعوبنا وثقافتنا مركزا لها. غير أن الموت - عن طريق الإيمان بالله الذي تكشف في ذلك الذي مات ثم رفع إلى السماء - قد يصبح أساسا لحياة جديدة، كما أن انعدام المعنى قد ينقلب إلى معنى، وكذلك الحكم قد يكون بركة ونعمة. وواجبنا أن نوسط الحكم الإلهي والبركة حتى تستطيع الشعوب والطبقات والدول والثقافات، وكذلك الأفراد، أن ترى السبب السماوي في جراحهم، وحتى تستطيع كذلك أن تدرك إمكان قيام حياة جديدة سليمة. وفي يوم من أيام الرضاء والأمن يجب على الكنيسة المسيحية أن تتوقع القضاء الذي لا بد أن يحل، وأن تعلن أن يوم القيامة سوف يكون ظلاما ليس به بصيص من نور، وفي يوم القضاء ووقوع القدر تكون رسالة الكتاب المقدس هي الأمل لأولئك الذين يعلنون الندم.
وفي الحق إن موقف البشرية يجعل الندم مطلوبا دائما؛ لأن الشر دائما في نمو وازدياد. غير أنه من الخطأ أن نبشر بهذه الدعوى عامة، كأن التاريخ لم تكن فيه فترات وعصور، وكأنه لم تحدث به وقائع خاصة معينة. ولن يكون من وراء تبشيرنا مغزى إذا اقتصرنا على حث الأفراد والشعوب على الاعتراف بالخطيئة الأولى التي تلوثنا جميعا، ولم نحثهم على الاعتراف بالخطايا الفردية التي ارتكبناها. وليس من أقل واجباتنا أن ننشر العطف والرحمة لكي نخفف وقع الألم على الإنسان الضعيف. وهلا ينبغي لنا أن ننذر الأمم الظافرة أنها تخطئ إذا هي ظنت أن انتصارها دليل على فضيلتها، حتى لا يكبلوا العالم بسلسلة جديدة من الشر بحبها للانتقام الذي ليس إلا الغضب لاسترداد حقها؟ ثم أليست الكلمة التي نوجهها إلى الأمم المهزومة من نوع آخر؛ إذ نذكرهم أن معركتهم هي أن يتبينوا بجلاء أنهم قد لاقوا على يدي بارئهم عقوبتهم على كل ما اقترفوا من إثم؟
وإن العقاب هو في الحقيقة من عند الله، حتى إن كان لا يتلاءم تماما مع الشر الذي أتوه. وهلا ينبغي لنا أن ننذر الأمم والطبقات القوية الآمنة ألا تثق ثقة عمياء في أهميتها، وأنها عندما تقول إنها ك «الملكة لا تعرف الحزن» يهبط عليها الحزن أكيدا في لحظة مباغتة؟ وهلا ينبغي لنا أن نذكر الضعاف والمخدوعين والمحتقرين أن الله ينتقم للقساوات التي يعانون منها، ولكنه إلى جانب ذلك لن يغفر لهم قسوة الحقد التي توغر صدورهم؟ وهلا ينبغي لنا أن نقول لطبقات المجتمع الغنية الآمنة إن ولاءهم في زهو لقوانين المجتمع وأنظمته التي تكفل لهم مزاياهم إنما يصطبغ بالمصلحة الشخصية؟ وهلا ينبغي لنا أن نقول للفقراء إن حلمهم بقيام مجتمع لا ملكية فيه تتوافر فيه العدالة الكاملة ينقلب إلى كابوس من الظلم جديد؛ لأنه يقوم على إدراك الخطيئة التي يرتكبها غيرهم فحسب، ولا يدرك شيئا عن الخطيئة التي يرتكبها الفقير عندما يزول عنه الفقر ويصبح من طبقة الحكام؟ إن الحياة تتحول إلى موت في كل مكان؛ لأنها محوطة بخداع النفس، ولأنها تحاول الفرار من الإله الحق بدلا من أن تعمل على لقائه. والكنيسة تعاني في كل مكان هذا الموت؛ لأنها تسمح بإعلان التفاخر القومي والهوى العنصري، كما تسمح بصبغ رسالتها بالمبالغة في تقدير الذات وحب النفس، حتى لقد بدا التدين في عصرنا للمشاهد المتشائم (بل ربما بدا أيضا للإله الحق) كأنه مجهود ضخم لاستجداء العلي القدير لكي نظفر منه بتأييد دعوانا بحكمه المقدس.
وإذا كنا نعني بدعوى أن الكنيسة ينبغي أن تكون للكنيسة شيئا غير انسحابها من الدنيا، أفلا تعني الدعوة إذن أنها بالصلاة والصيام خلصت نفسها على الأقل إلى حد ما من التحالف المحرج من هذه الطبقة أو تلك، أو مع هذا الجنس أو تلك الأمة، حتى تستطيع أن تنطق بكلمة الله وهي أكثر طهارة وأشد استقامة، وتوجهها إلى كل رجل وكل أمة، بل إلى كل جيل وفقا للحاجات الخاصة لكل فرد ولكل ساعة؟
إن الحياة الجديدة ممكنة لأولئك الذين يميتون ذواتهم القديمة، أمما كانوا أو أفرادا، في أي وقت وفي أي موقف، ولكن من الناحية الإيجابية هناك أيضا كلمات خاصة يخاطب بها العصر إلى جانب الكلمات الأزلية. إن الحياة الجديدة التي نحتاج إليها مجتمعين في عصرنا تتحقق بقيام مجتمع يتسع لأن يجعل اعتماد كل أمة في الدنيا مع غيرها في عصر تكنولوجي أمرا محتملا، وعدالة متزنة اتزانا دقيقا إلى حد يجعل القوى الديناميكية في مجتمع تكنولوجي مؤدية إلى عدالة محتملة لا مؤدية آنا إلى الفوضى التي لا تحتمل وآنا آخر إلى استبداد بغيض. ولكي نبلغ هذا الهدف يجب أن تتلاشى بعض معتقداتنا ليحل محلها قانون المحبة - وهو ليس بالأمر الهين على الفرد أو المجتمع - وأن نرفعه إلى مكانة عالية بحيث يصبح المعيار النهائي لكل مؤسسة أو بناء أو نظام للعدالة. وإلى أولئك الذين يرفعون الحرية إلى مكانة عالية يجب أن نقول إن الحرية بغير شعب متماسك ليست هي المحبة، وإنما هي تؤدي إلى أن يجعل الإنسان من نفسه الغاية القصوى. وإلى أولئك الذين يرفعون تماسك الشعب إلى مكانة عليا نقول إنه لم يوجد في التاريخ مثل هذا الشعب الذي يستحق كل هذا التقديس من الفرد، ما دام قوام الإنسان وبناؤه يحتمان عليه أن يجعل الله وحده غاية حياته. ويجب أن نصر في وجه أولئك الذين يقدسون الدولة على أن الدولة تميل دائما إلى أن تضع عظمتها في موقف المعارضة الثائرة ضد عظمة السماء. أما أولئك الذين يخشون اتساع الدولة من أجل تنظيم الحياة الاقتصادية الحديثة، فيجب أن نقول لهم إن مخاوفهم كثيرا ما لا تصدر عن الاهتمام بالعدالة، وإنما تصدر عن رغبة غيور في الاحتفاظ بنفوذهم. وليس من اليسير أن نقيم مجتمعا محتملا تحت الظروف الراهنة، ولا تمكن إقامة مثل هذا المجتمع بتاتا إلا إذا أدركنا أن كثيرا مما كنا نعده حقائق مطلقة ليس إلا أمرا نسبيا، وإلا إذا سعى الناس في كل مكان إلى فصل الغث من السمين، وميزوا بدقة بين مصالحهم وما يتطلبه منهم الرب والجار.
3 (1-4) العلاقة بين الديمقراطية والعقيدة الإنجيلية
إن الحكمة الديمقراطية التي تعرف كيف تتحاشى المذاهب المتصارعة وتلغي أثرها - تلك المذاهب التي تقوم على أساس من المصلحة - هذه الحكمة قد تكون بطبيعة الحالة نتيجة الخبرة لا نتيجة رأي خاص في العقيدة المسيحية. بيد أنا لا نستطيع أن ننكر أن الإيمان بالإنجيل (الذي تستمد منه اليهودية والمسيحية) يتميز بإدراكه ثلاثة أمور في الموقف البشري لا غنى عنها للديمقراطية؛ فهو يفترض أولا وجود مصدر من مصادر السلطة يستطيع الفرد من زاويته (أعني زاوية هذا المصدر) أن يتحدى سلطات هذه الدنيا (يجب علينا أن نطيع الله قبل الإنسان). والأمر الثاني تقدير القيمة الفذة للفرد، الأمر الذي يجعل من الخطأ أن نضعه في أي نظام سياسي باعتباره مجرد أداة. أما الإنسانية العلمية فكثيرا ما تسيء إلى كرامة الإنسان، التي تمجدها في ظاهر الأمر، وذلك بالنظر إلى الكائنات البشرية باعتبارها خاضعة للتجريب، وباعتبارها مجرد أدوات لغايات «يقرها المجتمع». وهذا الميل في عصرنا العلمي هو الذي يوثق العلاقة بين هذا العصر وبين الحكم الجماعي المستبد، ويبرر حكمنا بأن الإنسانية العلمية لا تضر لسبب واحد، وهو أنها لا تقوم على أساس برنامج سياسي يجعل السلطة حكرا على الصفوة، والتي تفترض نظرياتها دائما وبغير إخلال حيازاتهم لها.
والأمر الثالث هو إصرار المسيحية على أن الحرية الأساسية التي تجعل الإنسان خلاقا هي بعينها التي تجعله بطبيعته هداما خطرا، وإصرارها على أن كرامة الإنسان وشقاوته هما من أجل ذلك من أصل واحد. وهذا الإدراك هو أساس كل واقعية سياسية نجد فيها أن النظرية الدنيوية معيبة، سواء أكانت هذه النظرية هي الحرية أم الماركسية، وهذه النظرة هي التي تبرر النظم الديمقراطية بصورة أشد تأكيدا من أي نظرة عاطفية إلى الإنسان، سواء أكانت هذه النظرة حرة أم انقلابية.
4 (1-5) نحو مجتمع عالمي
إن كل حجة نسوغ بها قيام حكومة عالمية تستند إلى فرض بسيط، وهو أن الرغبة في نظام عالمي تدل على إمكان تحقيق الحكومة العالمية. غير أن موقفنا المزعزع لا يدل - لسوء الحظ - على قدرة الإنسان الخلقية على إنشاء حكومة عالمية بعمل إرادي، كما لا يدل على القدرة السياسية لهذه الحكومة على إيجاد مجتمع عالمي قبل نمو «التماسك الاجتماعي» بصورة أكثر تدرجا، ذلك التماسك الذي يحتاج إليه أي مجتمع أشد من حاجته إلى الحكومة.
إن أكثر الداعين إلى الحكومة العالمية يزعمون كذلك أن الأمم لا تحتاج إلا إلى أن تحذو حذو المثال الذي ثبتت صحته وسبقها إليه الأفراد في عصر آخر، أولئك الذين نعتقد أنهم حققوا تماسك المجتمع بصياغتهم لما بينهم من اتفاق في صورة قانون وبإقامتهم أداة من نوع ما لتنفيذ القانون. غير أن هذا الزعم يتجاهل الحقيقة التاريخية التي تثبت أن الاحترام المتبادل لحقوق الأفراد في الجماعات المعينة يسبق صياغة أي قانون، وأن أداة تنفيذ القانون لا يمكن أن تكون فعالة إلا إذا كانت الجماعة عموما تطبع قوانينها بطبيعتها، بحيث لا يطبق القانون إجباريا إلا على الأقلية التي تعصي.
إن مغالطة الحكومة العالمية يمكن أن تذكر في عبارتين بسيطتين؛ الأولى هي أن الحكومات لا تنشأ بالقانون (وإن كان من الممكن أحيانا فرضها بطريقة تعسفية)، وثانيتهما أن قدرة الحكومات على إيجاد التماسك بين أفراد المجتمع محددة.
والواقع أن أحكم فن من فنون السياسة لا يستطيع أن يخلق التماسك الاجتماعي، إنه يستطيع أن يقيم - إلى حد ما - بناء اجتماعيا، وأن يربط بين لبناته أو أن يعيد تصميمه، ولكن التصميم الأول للبناء الذي يعمل على إقامته لا بد أن يكون «معدا» من قبل.
إن المجتمع الدولي لا يفتقر كلية إلى التماسك الاجتماعي، ولكنه تماسك واه إذا قيس إلى ذلك التماسك الذي يوجد في حكومات معينة. ولنذكر الآن في إيجاز العوامل المختلفة التي تؤدي إلى هذا التماسك. إن أهم قوة تدعو إلى التماسك الاجتماعي في المجتمع العالمي هي اطراد الزيادة في اعتماد شعوب العالم بعضها على بعض من الناحية الاقتصادية. غير أنه من المهم أن نوازن موازنة مباشرة بين هذا الاعتماد الاقتصادي وبين المفارقة الشديدة في القدرة الاقتصادية للأمم المختلفة.
وعامل آخر في التماسك الاجتماعي بين أفراد الجماعة العالمية هو الخوف من أن تبيد الشعوب بعضها بعضا، وقد اشتدت القدرة على الإبادة في السنوات الأخيرة بالقوة الجديدة التي أمدت بها المكتشفات الذرية سلاح الموت الذي يملكه الإنسان. وينبغي ألا نهون من شأن هذا الخوف كقوة اجتماعية، كما ينبغي أن ندرك أن بعض الجماعات في التاريخ الذي مضى من التي تعددت فيها الثقافات قد حققت شيئا من التماسك باعتقادها - ولو بقدر يسير - في فضل النظام على الفوضى . ولكن الخوف من الدمار في حد ذاته أقل قوة من الخوف من خطر معين من عدو بذاته. وليس في التاريخ ما يدل على أن الشعوب قد أقامت مجتمعا مشتركا؛ لأن كلا منها كان يخشى الآخر، في حين أن التاريخ يمدنا بأمثلة كثيرة كان فيها الخوف من عدو مشترك عاملا من عوامل قوة التماسك.
إن العامل الحاسم وأهم العوامل في إيجاد التماسك الاجتماعي في المجتمع العالمي هو القوة الروحية. والأفراد المستنيرون في جميع الأمم يحسون بعض الإحساس بالواجب نحو إخوانهم في البشرية، وهو إحساس يجاوز حدود الدولة التي ينتمون إليها. وهناك على الأقل إحساس خفيف بالواجب نحو المجتمع البشري قاطبة الذي بدأنا نحس وجوده إحساسا طفيفا. وقد عزز الإحساس بهذا الواجب الذي استقر في ضمير البشرية منذ ظهور الفلسفات والديانات العالمية لتحل محل نظائرها المحلية، الضرورة الحتمية لقيام مجتمع عالمي أشد تماسكا. وهذا الإحساس المعنوي المشترك ذو أهمية قصوى لحياة الناس الخلقية والدينية، ولكن أثره السياسي المباشر لا يبلغ القدر الذي نظن أحيانا. إن التماسك السياسي يتطلب عقائد مشتركة في أمور معينة تتعلق بالعدالة، ونحن نفتقر إلى هذه العقائد.
وموجز القول أن القوى التي تعمل على تماسك المجتمع العالمي محدودة. ولا تعني إشارتنا إلى هذه الحقيقة أن كل جهد يبذل في سبيل تعزيز تماسك المجتمع العالمي وتوسيع رقعته عبث لا طائل تحته؛ فإن هذا الواجب ينبغي أن يشغل ضمير البشرية لعدة قرون مقبلة، ولسوف يحدث ذلك قطعا. بيد أن بناء الحكومة الذي سوف نشيده لن يكون سليما نافعا إلا إذا تناسب ارتفاعه مع قوة المواد التي تقيمه منها. والموقف السياسي الراهن يتطلب منا ألا نسعى إلى السلام فحسب، بل نسعى كذلك إلى الاحتفاظ بحضارة نعتقد أنها أفضل من الاستبداد العالمي الذي يهددنا به الاعتداء السوفيتي، وهدفنا هو أن ننجح في هذا الواجب المزدوج، ولا ينبغي لنا أن نحيد عن هذا الهدف ونظن أنه بوسعنا أن نستبدل به غيره.
وأعتقد أن فرصة النجاح في كفاحنا ضد العدو المتعصب تكون أكثر سنوحا لنا إذا نحن خففنا من ثقتنا فيما عندنا من طهارة وفضيلة. إن غرور الأمم القوية وإيمانها بفضلها أشد خطرا على نجاحها في مجال السياسة من حيل الأعداء. وإذا نحن استطعنا أن نجمع بين قدر أكبر من التواضع وعزمنا الأكيد، فقد لا يقف الأمر عند حد زيادة نجاحنا في صد تيار الاستبداد، بل يتخطاه تدريجا إلى إقامة إحساس صادق بمشاركة العدو، مهما تكن هذه المشاركة ضئيلة. ومهما اشتد عنادنا في مقاومة الضغط الروسي، فلا بد لنا من شيء من الحس بمشاركة الاتحاد السوفيتي، نستمده من حسنا باشتباكنا في مصير مشترك يدعو إلى الأسى الشديد، ومن إدراكنا للإثم المشترك الذي نقترفه بتبادل الخوف والفزع. وإذا كان المجتمع في قواعده الأساسية يقوم بتأثير قوى التاريخ العضوية المختلفة، فلا بد من حفظ كيانه في نهاية الأمر بتبادل الاحتمال والتسامح.
5 (1-6) الله ومصير الإنسان
ربما فشل جيلنا، وربما أعوزنا التواضع والمحبة والبر الذي يلزم لتحقيق هذا الهدف، بل إن هناك ما ينذر بإمكان فشلنا، بل وباحتماله. وفي الكتاب المقدس وعد بحياة جديدة للأفراد والأمم، ولكن ليس هناك ما يضمن النجاح على مدى التاريخ. وليست هناك وسيلة إلى تحويل العقيدة المسيحية إلى نظام من التفاؤل يدوم ما دام التاريخ. إن الانتصار الحاسم على فوضى الإنسان يكون من عند الله ولا يكون من عند الإنسان، ولكنا مسئولون عن الانتصار المؤقت. والحياة المسيحية إذا خلت من الحس المرهف بالمسئولية عن صحة مجتمعاتنا وشعوبنا وثقافاتنا تتدهور إلى تفكير في العالم الآخر لا يطاق. ونحن لا نستطيع أن ننبذ موطننا فوق الأرض، ولا نستطيع أيضا أن نزعم أن انتصاره أو هزيمته هو الذي يحدد المعنى النهائي لوجودنا.
ولقد بكى المسيح على بيت المقدس وأسف؛ لأن هذا البلد لم يعرف ما يتعلق بأمنه وسلامه. ولدينا في العهد القديم قصة إبراهيم المؤثرة وهو يجادل الرب في عدد الأفراد اللازمين لإنقاذ المدينة، هل يحتاج الأمر إلى خمسين أو أربعين أو ثلاثين؟ واتفق مع الرب في النهاية على عشرين. إن الأمر لا يحتاج إلا إلى خميرة صغيرة. إن مركزا صغيرا من الصحة قد يكون وسيلة إلى النقاهة لمجتمع بأسره. وتحدد هذه الحقيقة المسئولية الضخمة التي تقع على عاتق شعب الله في مدن الخراب في هذا العالم.
غير أن لهذه القصة مغزى بعيدا كثيرا ما نهمله، وهو مغزى خطير يمكن تطبيقه على عصرنا الحاضر؛ فإنه مهما تكن البقية الصالحة التي يحتاج إليها الإله لإعادة بناء مجتمعاتنا صغيرة، فإنها لم تبشر بالظهور في سدوم وعامورة، وربما كان من الصواب أن نقول إن الأقلية الصالحة في سدوم ربما كانت كافية في عددها، غير أن صلاحها لم يكن كافيا لإنقاذ سدوم وعامورة. وإني لأحس في غير اطمئنان أن اليوم في مثل هذا الوضع؛ ففي مدينتنا الحديثة بأسرها قليل جدا من الصحة، حتى إن المرء ليضل الطريق إلى موضع النظام الذي يقاوم منه الفوضى. وأمسى الاختيار أمامنا محدودا جدا. هل لا بد لنا أن نختار في النهاية بين الفناء بالذرة أو الخضوع لظلم شامل؟ إذا جاء هذا اليوم يجب أن نذكر أن لغز السيادة والرحمة الإلهية يتجاوز مصير الإمبراطوريات والمدنيات. والله باق في علاه حتى بعد فناء هذه الإمبراطوريات والحضارات. ومهما يكن من أمر فإن الله لا يحب الهلاك لهذه الإمبراطوريات والحضارات، وإنما يحب لها أن تتخلى عن وسائلها الشريرة وتحيا، وهو يطلب إلينا أن نعمل في ضوء النهار، ما دام ظلام الليل آتيا، وعندئذ لن يستطيع أحد منا أن يعمل.
6
المصادر
كل المختارات في هذا الفصل مقتبسة من كتاب «الواقعية المسيحية والأزمة السياسية» لرينولد نيبور .
1
الفصل الثامن «الحق المسيحي في النظام القومي والاجتماعي».
2
نفس المصدر السابق.
3
نفس المصدر السابق.
4
الفصل السابع «الديمقراطية، والدنيوية، والمسيحية».
5
الفصل الثاني «وهم الحكومة العالمية».
6
من الفصل الثامن.
الفصل التاسع
سارفيبالي رادا كرشنان
(1888م-...)
إن سارفيبالي رادا كرشنان الفيلسوف، والباحث في الديانات المقارنة، والمربي، ونائب رئيس جمهورية الهند،
1
يذكر العالم الحديث بما قال أفلاطون من أن الفلسفة والنفوذ السياسي يجب أن يتضافرا لحكم الناس بطريقة أفضل. ويعد هذا الرجل الفذ، الذي كان فيما سبق زميلا لغاندي ورابندرانات طاغور - وهو اليوم رفيق ملازم لنهرو رئيس وزراء الهند - أعظم مفكر حي في الشرق، وأول ممثل لتقاليده الفلسفية الغنية. وهو يألف كذلك تقاليد الغرب الفلسفية والدينية، كما قام بالتدريس عدة سنوات بأكسفورد، وهو المتحدث الأول اليوم عن التوفيق بين القيم الشرقية والقيم الغربية. وقد أطلق عليه ذات يوم فيلسوف صديق له «الفيلسوف الذي يتحدث بلغتين» الذي يتدبر في مؤلفاته «حكمة العالم الروحية».
ولد رادا كرشنان في اليوم الخامس من شهر سبتمبر عام 1888م، وتلقى علومه في كلية مدراس المسيحية. وفيما بين عامي 1911 و1916م كان أستاذا مساعدا للفلسفة في كلية الرياسة بمدراس، ثم أستاذا جامعيا للفلسفة في ميسور فيما بين عامي 1918 و1921م، وشغل بعد ذلك كرسي جورج الخامس للفلسفة في جامعة كلكتا، كما شغل كذلك مناصب كبرى في إدارة التعليم في وطنه، منها تسع سنوات نائبا لرئيس جامعة بنارس الهندية. وفي أخريات العقد الثالث من القرن العشرين رحل إلى أمريكا، وزار العاصمة الصاخبة بالغرب الأوسط، حيث ألقى محاضرات هاسكل في الديانة المقارنة بجامعة شيكاغو، ثم ألقى فيما بعد محاضرات هبرت.
ونظرا لتفوقه العقلي، دعي رادا كرشنان ليقوم بعدة خدمات في السياسة الدولية، وكان عضوا في اللجنة الدولية للتعاون الثقافي بجمعية الأمم بجنيف فيما بين عامي 1931 و1939م، كما لعب دورا هاما في الأمم المتحدة التي خلقت عصبة الأمم، وكان رئيسا للمجلس التنفيذي باليونسكو في باريس عامي 1948 و1949م، ثم أصبح عضوا في لجنة الدستور الهندي في الفترة التي تقع بين عام 1947 وعام 1949م، وفي عام 1949 عين سفيرا للهند لدى الاتحاد السوفيتي، وفي عام 1952م تقلد منصب نائب رئيس جمهورية الهند.
وفي مجال التنظيم التربوي كان رادا كرشنان كذلك من الرواد. وقد كان رئيسا لمؤتمر التعليم لدول جميع آسيا الذي عقد في بنارس في عام 1930م. وفي عام 1949م عين رئيسا للجنة الجامعات في حكومة الهند.
وبالرغم من كل هذه الأعمال المتنوعة في مجال السياسة والسفارات، استطاع رادا كرشنان بطريقة ما - نظرا لحيويته الكبرى - أن يكون باحثا مبدعا كثير الإنتاج، فأمكنه أن يدبج عشرات المقالات والخطب والمحاضرات والتقارير، كما أخرج مجلدات خاصة ضمها إلى كتبه العديدة الهامة المطولة. ومن بين مؤلفاته الرئيسية كتابه الضخم «فلسفة الهند»، وهو يقع في مجلدين كبيرين، كرس لهما المؤلف زهاء عشرين عاما من البحث والكتابة. وله كتابان آخران لهما أثرهما البالغ، وهما: «نظرة مثالية إلى الحياة»، وهي محاضرات هبرت، و«الديانات الشرقية والتفكير الغربي». وتلمس في كل ما كتب رادا كرشنان روح البحث في الديانة المقارنة والفلسفة المقارنة. وهي روح يمكن إدراكها على أحسن وجه بالنحو الذي صاغ به سؤالا رئيسيا هو: «هلا جاهدنا في سبيل فلسفة تجمع بين خير ما في الإنسانية الأوروبية والديانة الآسيوية، فلسفة أعمق وأكثر حيوية من هذه وتلك، مزودة بقوة روحانية وخلقية أكبر، تغزو قلوب الناس وترغم الشعوب على الاعتراف بسلطانها؟» وما دامت الفلسفة عند رادا كرشنان هي أسلوبا للحياة وتعودا على متابعة الحق حتى يعرف الإنسان نفسه ويسترشد خلقيا، فهو لا يرى إمكان استبعاد السياسة والشئون الدولية مما يهتم به الفيلسوف. ولقد قال: «إن الدين يتضمن الإيمان بالأخوة البشرية، والسياسة هي أفعل الوسائل التي ترسمها في صورة مرئية؛ فليست السياسة إلا تطبيق الدين.» (1) ديانة الروح وحاجات الدنيا
سارفيبالي رادا كرشنان (1-1) وظيفة الفلسفة
إن الطالب الهندي للفكر الفلسفي الذي يعيش في هذه الفترة التاريخية ذات المعنى العميق أمامه واجبات وعليه مسئوليات. إن أهم ظاهرة في عصرنا ليست هي الحروب أو الدكتاتوريات التي تشوه وجه الدنيا، إنما هي تأثير الثقافات المختلفة بعضها في بعض، وتفاعلها، وظهور مدنية جديدة تقوم على أساس حقائق الروح ووحدة البشرية. إن المآسي والكوارث التي تشغل جانبا كبيرا من أبرز ما في وعينا إنما ترمز إلى انهيار الاتجاهات الانفصالية والسير نحو اتحاد الجماعات القومية في وحدة عالمية. وفي اضطرابات الفترة المعاصرة ينبغي لهذا الجيل، الذي وقع في الخطأ وعانى طويلا وأمسى عاجزا، ألا يغض الطرف عن الحركة الكبرى التي ترمي إلى الوحدة التي يسهم فيها.
وقد عادت الهند مرة أخرى إلى صلتها بالعالم الغربي عن طريق علاقتها ببريطانيا، وتداخل التيارين العظيمين من مجهود الإنسان في مثل هذه الأزمة التي يجتازها تاريخ الجنس البشري لا يخلو من المعنى بالنسبة إلى المستقبل. إن التفكير الهندي، لما يتميز به من إحساس عميق بالواقعية الروحية والتدبر في عالم تجاربنا العادية، وبما يتصف به من بصيرة سامية نافذة وآمال خالدة، ربما استطاع أن يصرفنا نحن المحدثين عن الانشغال التام بالحياة الدنيوية أو بالصيغ الراهنة التي كثيرا ما أراد التفكير المنطقي أن يحبس فيها الطموح الروحي. والظاهر أننا على غير استعداد عقلي أو روحي إلى تلك المادية المتزايدة التي تنجذب إليها الشعوب البعيدة بقوة الظروف الطبيعية والاقتصادية. إن العالم الذي أمسى اليوم جسما واحدا يبحث عن روحه. فهلا مهدنا لروح العالم الصادقة التي لم تولد بعد بتبادل حر للآراء وتطوير للفلسفة التي تجمع بين خير ما في الإنسانية الأوروبية والديانة الآسيوية، فلسفة أشد عمقا وأكثر حيوية من هذه وتلك، مزودة بقوة روحية وخلقية أكبر، تغزو قلوب الناس وترغم الشعوب على الاعتراف بسلطانها. إن مثل هذه النظرة إلى وظيفة الفلسفة في الحياة الحديثة تتولد عن ضرورة الفكر، وربما استطاع الباحث الهندي أن يقدم شيئا من العون على تطوير النظرة العالمية في الفلسفة. ⋆
وبالرغم من أني لم أدرك الاتجاه الصحيح الذي أسير فيه، ولم أدرك أني إنما ولدت لكي أؤدي ما أؤديه اليوم، فإن أسفاري وصلاتي في أصقاع مختلفة من العالم لأكثر من جيل من الزمان أمدتني بهدف في الحياة. وكان اهتمامي الوحيد الأكبر أن أحاول أن أرد الإحساس بالقيم الروحية إلى الملايين من الناس الذين انحرفوا من الوجهة الدينية، والذين كافحوا لكي يجدوا ملاذا آخر غير الدين في مجالات الفنون والعلوم الطارئة، وفي الفاشية والنازية، وفي الإنسانية والشيوعية. وأول خطوة نحو استرداد الإحساس بالقيم الروحية هي أن نفهم طبيعة الاضطراب الفكري الذي يستولي على اتجاه الملايين من البشر. ومن بين المؤثرات الكبرى التي تنمي روح الشك بالنسبة إلى الحق الديني نمو الروح العلمية، وتقدم الحضارة التكنولوجية، ودين رسمي أو دين مصطنع يجد نفسه في صراع مع ضمير اجتماعي متيقظ، ودراسة مقارنة للديانات. ⋆ (1-2) تدهور الدين
أخذ الإنسان يسير سيرا حثيثا منذ عام 1500م نحو تكوين جماعة واحدة. وقد أدت الحربان العالميتان إلى انكماش المسافات وضمور العالم. وهذه الوحدة الطبيعية للعالم تتطلب لبقائها وحدة سيكولوجية. غير أن الحواجز التي تقيمها الديانات المتزمتة تصيب بالعقم جهود الناس التي تبذل في سبيل التنسيق بين قواهم في تشكيل المستقبل؛ فكل ديانة تنافس الديانات الأخرى. وهناك أمور أخرى أكثر أهمية مما يحمله كل منا من ولاء خاص نحو عقيدة معينة: الحق والإنسانية، وذلك الوعي الديني العالمي الذي تمتلكه الكائنات البشرية جميعا ملكا مشتركا بفضل ما أوتيت من روحانية. وما دام ولاؤنا الطائفي قويا غلابا فلا يمكن أن ننتمي إلى الجماعة الإنسانية العامة.
إن الدين - بوظيفته التي يؤديها حتى الآن - لا يقوم على أساس علمي أو أساس اجتماعي. ونظرا لهذه المميزات للديانة التقليدية، فإن قطاعات كبيرة من البشرية تقع فريسة للكفر رغما عنها. ونحن نعيش في عصر تفكك من الأفكار وتردد في العمل، وقيمنا غامضة، وتفكيرنا مضطرب، وأهدافنا متغيرة، ومستقبلنا غير واضح. هناك معارف متناثرة هنا وهناك، ولكن ليست هناك صورة واحدة مرئية. وقد أشار الشاعر الإنجليزي و. ب. بيتس إلى حالتنا هذه في كلمات خالدة يجدر بنا أن نتدبرها جيدا، قال:
كل شيء يتداعى والمركز يتلاشى،
والفوضى الشاملة تزحف على الدنيا،
وتيار الدماء يتدفق،
ومكانة الكرامة تنحط في كل مكان،
وأفضل الناس يعوزهم الإيمان،
وأسوءهم يسير مع الأهواء.
ولو أردنا أن نتغلب على المخاطر التي تهددنا، فلا مناص لنا من مواجهتها بشجاعة، ولا بد لنا من الحيطة ضد قدرتها على إيذائنا. وقضية الدين في عصرنا هذا لا تتعلق بالفروق المذهبية والخلافات بشأن الطقوس، وإنما هي تتعلق بوجود الدين ذاته. وإن حالة الجفاء أو عدم المبالاة التي تتجاهل الدين لأشد فتكا من نبذه صراحة. وحتى ماركس ذاته لا ينظر إلى الدين باعتباره أمرا تافها، وإنما ينظر إليه باعتباره شرا وبيلا. إن المثقفين في هذا العصر الحديث يلخصون الموقف في هذه العبارة: يعتقد بعض الناس أن الله موجود، ويعتقد بعضهم أنه غير موجود، والأمر لا يهم في كلتا الحالتين. ⋆ (1-3) الحاجة إلى تماسك الرأي
إن العقل العالمي بحاجة إلى التماسك، وهذه النظرة البلهاء التي ننظرها اليوم إلى غير هدف تحتاج إلى أن نستبدل بها هدفا جماعيا معقولا. وإذا كنا نود ألا تؤدي بنا حالة التردد الراهنة إلى اليأس، فلا بد لنا من فلسفة، ومن اتجاه وأمل. إن العقيدة قد تكون عسيرة، بيد أنه ليس من الحاجة إلى الاعتقاد مفر. إننا نبحث عن دين روحاني، يصلح للدنيا بأسرها، دين حيوي، واضح المعالم، دين يدرك المعنى الجديد للحق والشعور الاجتماعي المتيقظ، وهما من الصفات البارزة في موقفنا من الدين في الوقت الحاضر. ويجب ألا نهمل النزاهة العقلية الصارمة والميل الشديد نحو العدالة الاجتماعية؛ فهما تعبير عن الإخلاص الروحي. إن الدين الذي نعتنقه يجب أن يمدنا بنشاط فكري لا يحاول أن يراوغ مع نفسه، ويجرؤ على الإخلاص، ونشاط إرادي يمدنا بالقدرة على أن نقول ما نعتقد، ونفعل ما نقول. وكثيرا ما دل الشك وإنكار الله على أنا نمر بلحظة من لحظات الجدل في تاريخ الدين، وعلى أنهما من الوسائل التي استخدمها الإنسان ليستزيد من معرفته بالله، ويحرر نفسه من الآراء الدينية المعوجة.
وليس نقيض الدين انعدام الدين، وإنما نقيضه دين آخر؛ ولما أنكر بوذا آلهة الفيدا، فإنما فعل ذلك باسم دين أسمى؛ ولما حكم على سقراط بالموت بتهمة الإلحاد، كان دفاعه أنه إنما نبذ دينا ناقصا. ولما جيء بالمسيحيين إلى البهو الروماني ليستشهدوا في سبيل معتقداتهم، صاح الرعاع من الوثنيين قائلين: «ادفعوا بالملحدين إلى الأسد الضارية.» (1-4) جذور الدين
إن توتر الطبيعة البشرية هو الذي يجعل الإنسان شائقا؛ فبغير هذا التوتر لا يعي الإنسان تفاهته وعجزه، وأنه كمية مهملة، معتمد على غيره، خاو، ضعيف. ولضيقه وآلامه نتيجة إيجابية. وجذور الدين تمتد إلى هذا العذاب الباطني الذي لا بد من تبديده. ولا مناص للإنسان من الكفاح في سبيل الوحدة مع الطبيعة ومع غيره من الناس ومع نفسه، ولا تتحقق له الكرامة البشرية إلا إذا انتصر في هذا الكفاح. إننا نبحث عن عالم لا بد أن ينشأ، ونحن حجاج في رحلة إلى هذا العالم المرتقب؛ إذ إننا قوم رحل في هذه الدنيا. ولا بد لنا من تخطي حدود وعينا الثنائي المنقسم، ولا نستطيع أن نبقى قائمين في عزلة مصمتة من رغباتنا المكبوتة، ولا نستطيع أن نبقى دائما في حالة من حالات النقص التي يجب أن تسد، بل إن أدنى صورة من صور الحياة لتجاهد في سبيل التلاؤم والتكيف.
ولقد لعب أسلاف الإنسان دورا هاما في هذه المسرحية الكبرى التي تمثل التطور الكوني، بالرغم من أنهم لم يفهموا المسرحية كما لم يفهموا دورهم فيها. وعلى الإنسان أيضا أن يلعب دوره، ولكن مع العلم بتكوين المسرحية ومغزاها، ولا بد له أن يفهم بذكائه الخطة الكونية، وأن يعمل بإرادته على دفعها إلى الأمام. إن التقدم البشري لا يتوقف على فعل القوانين الطبيعية والبيولوجية البطيء. ويمكن أن نسارع به بجهدنا، إذا نحن حررنا أنفسنا من العبودية، وإذا نحن تحاشينا الحياة الجزية، ودخلنا في الحياة الكلية. إن دعاء الأوبانشاد الذي يقول «اللهم أخرجني من غير الواقع إلى الواقع، ومن الظلام إلى الضياء، ومن الموت إلى الخلود»؛ هذا الدعاء يفترض أنا نعيش في عالم من الخوف والهم والعزلة والموت والعدم، وأنا نسعى إلى عالم من الوجود، وعدم الخوف، والحرية والروح والخلود. إننا نسعى إلى أن نتجاوز نهائية الوجود البشري لكي نظفر بالحياة الأبدية.
إننا نتوق أحيانا إلى أن نعود القهقرى، إلى أن نصبح بغير تفكير وبغير خيال، إلى أن نغرق في بساطة الوجود البيولوجي، إلى أن نهبط إلى مستوى الحيوان البدائي. غير أن هذا الاتجاه معناه التضحية المقصودة بسلامة كياننا، والتخلي عن محاولة بلوغ الكمال. إننا لا نستطيع أن نقلب الأوضاع ونلقي ميراثنا عن كواهلنا. والإنسان الواعي بنفسه لا يمكن أن يتحول إلى الحيوان الغرزي. وحتى إن هو أبى أن يفيد من وعيه العاقل، فإنه لن يستطيع أن يسترد الوحدة الأولى مع الطبيعة؛ فذكرى الماضي وتوقع المستقبل يحولان دون ذلك. لقد أراد أيوب أن يجد مأواه في النوم ولكنه لم يفلح. «وحينما أقول إن فراشي سيريحني، وإن سريري سيخفف من بلواي، عندئذ تزعجني بالأحلام وتدخل في نفسي الرعب بالرؤى.» إننا لا نستطيع أن نتخلى عن عقولنا، ولا نستطيع أن نفر من وعينا بأنفسنا. والعلاج من اضطراب نفوسنا لا يكون بالارتداد إلى ظلمة اللاوعي، وإنما يكون بالتقدم نحو الوعي الخلاق. إن ما نستهدفه هو استنارة الحكيم، لا سذاجة الوليد الجديد وعدم خبرته.
إننا لا نستطيع أن نعالج المحنة التي نعانيها من جراء العقل والانعزال وحالة القلق والضيق، بتعاطي المخدرات، أو بأساطير الدين، أو بالمعتقدات السياسية. إن هذه الخطط التي نرسمها للفرار من سجن حياتنا قد تعين القليلين منا لفترة وجيزة؛ فإذا نحن تناولنا الأفيون فقد نجد بضع لحظات جميلة هادئة إذا قيست إلى العالم الذي يعج في الخارج، ولكنها لا تدوم طويلا. وكذلك العقائد التي لا تستند إلى العلم، والخرافات الساذجة تنبئنا عن عقل الإنسان أكثر مما تنبئنا عن تكوين الحقيقة والواقع، ولا يمكن أن تنقذ الإنسان من الشك.
وإذا كان الفرد المنعزل يتشبث بشيء خارج عنه، فقد يظفر بالطمأنينة، غير أنه يظفر بها على حساب كرامته كفرد. وقد ننبذ حرية البحث ونعصب أعيننا عن مواصلة البحث برباط مذهب حاسم من المذاهب؛ وبهذه الطريقة قد نتخلص من إصدار القرارات أو تحمل المسئولية عن المستقبل. بيد أنا نحس في أعماق نفوسنا بالقلق والاضطراب؛ لأن ظهور الذات الفردية لا يمكن أن يوءد. إن السعادة في الحرية ، والحرية في عظمة الروح.
وقد يقال إن التقدم العلمي سيقضي على الشعور بالعزلة التي ننظر بها إلى العالم الخارجي، وسوف ينهي عجز الإنسان عن أن يحدد مصيره بنفسه.
وقد نسلم بأنا نستطيع أن نتنبأ بمجرى الظواهر الطبيعية، بل ونستطيع إلى حد ما أن نتحكم فيها، ولكن الطبيعة لا يمكن أن تروض على تنفيذ إرادة الإنسان، وسوف تستمر أهواؤها العمياء وعواصفها وزوابعها وأعاصيرها وزلازلها في تحطيم عمله وتدمير أحلامه. ولا يستطيع الإنسان أن يغير من حدود حياته أو جسمه. «أيها الغافل! إنك في حاجة إلى روحك هذا المساء!»
إن ازدياد المعرفة بالعلم دون أن يقابله نمو في الحكمة الدينية إنما يزيد من مخاوفنا من الموت، وثقافتنا العلمية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية. لقد سيطرنا على قوى الطبيعة وتحكمنا في البحار وغزونا الفضاء، ولقد زدنا من الإنتاج، وحاربنا المرض، ونظمنا التجارة، وجعلنا الإنسان سيدا على بيئته، ولكن سيد الأرض لا يستطيع برغم هذا أن يعيش مطمئنا؛ فهو يختبئ في باطن الأرض تارة، ويلبس الأقنعة يتقي بها الغازات تارة أخرى. إن مخاوف الحروب تطارده، فهو يعيش في حالة من الشك دائمة. ولا يمكن أن تكون هذه الحضارة المهددة بالحرب، والمندفعة بقوة الآلة، هي آخر ما يصل إليه الإنسان من كفاحه، وما لم نكن بلهاء مكفوفين أو ضعاف العقول راضين عن أنفسنا، فسوف نعرف أن التنظيم العلمي لا يفي بما تتطلبه روح الإنسان. ⋆ (1-5) إخاء في الدين لا اندماج
لا بد لنا أن نسير على طريق يتجاوز كل ما اضطرب به التاريخ الماضي من فوارق، ولا بد للبشر جميعا في نهاية الأمر أن يسلكوا طريقا واحدا؛ فكثيرا ما كان الاعتقاد في دعاوى معينة دون غيرها واحتكار الحق الديني لطائفة دون سواها مصدرا من مصادر الكبرياء والتعصب والشحناء. وموقفنا إزاء الديانات الأخرى يجب أن يتميز بروح تلك العبارة العظيمة التي وردت في إحدى مسرحيات سوفوكليز، على لسان أنتيجون، حيث يقول: «إنني لم أولد لكي أشارك الناس بغضاءهم، وإنما ولدت لكي أشاركهم المحبة.» ⋆
إن العالم لا يسعى إلى اندماج الأديان بمقدار ما يسعى إلى المؤاخاة بينها، تلك المؤاخاة التي تقوم على أساس الصفة الأساسية في تجربة الإنسان الدينية. يقول وليم بليك: «كما أن الناس جميعا متشابهون (برغم تعدد الأفراد تعددا لا حصر له) فكذلك جميع الديانات، ككل المتشابهات، تنبع من مصدر واحد.» تستطيع الديانات المختلفة أن تحتفظ بشخصياتها وبتعاليمها الخاصة وطقوسها المميزة، ما دامت لا تضعف الإحساس بالإخاء الروحاني. إن ضياء الأبدية يعشي أبصارنا إذا سطع في وجوهنا بكل قوته، وهو يتحلل إلى ألوان حتى تستطيع أعيننا أن تدرك شيئا منه . وكذلك التقاليد الدينية المختلفة تشكل الحقيقة الواحدة في صور مختلفة، ويمكن لهذه الصور أن تتقابل وتخصب كل منها الأخرى، فتكسب الجنس البشري الكمال المتعدد الجوانب، من إشعاع الهندوكية الروحاني، إلى طاعة اليهودية المخلصة، إلى حياة الجمال في الوثنية الإغريقية، إلى سمو الرأفة في البوذية، إلى صورة المحبة المقدسة في المسيحية، إلى روح الاستسلام لإله المسلمين جل جلاله؛ كل ذلك يمثل أوجها مختلفة من الحياة الروحانية الباطنية، وهي صورة ذهنية بارزة لتجارب الروح البشرية التي يعجز عن وصفها اللسان.
وإذا كان الدين هو إدراك طبيعتنا الحقيقية في الله، فهو إذن يعمل على اتحاد جميع البشر على أساس الاتحاد بالأبدية، وهو يرى في كل ديانة أخرى نفس الحاجة العالمية الكبرى ذاتها التي أحسها في نفسه. إن الديانات المختلفة تستمد مصدرها من طموح الإنسان نحو عالم لا يرى، بالرغم من أن الصور التي يتخذها هذا الطموح تتشكل بعوامل البيئة والجو الفكري. ووحدة الديانات تلتمس في ذلك الجانب المقدس أو العالمي في كل منها، ولا تلتمس في ذلك الجانب الموقوت أو الموضعي فيها. وحيثما كان هناك روح الحق فهناك اتحاد. وهناك في مجال الدين - كما أن هناك في المجالات الأخرى - متسع للتنوع دون حاجة إلى التنافر؛ فإذا ادعى داع أن تقليدا دينيا واحدا هو الذي يتميز دون غيره بالحق ويكشف عن وجود الإله الحق، كان في دعواه تناقض مع الاعتقاد في إله حي يخاطب الناس بأقدار متنوعة وبطرق مختلفة. وقد ذكر أفلاطون أن الله بالضرورة متصل بذاته يتصف بالخير الذي لا يشوبه حقد. ليست هناك عقيدة واحدة لا تتغير يتلقاها القديسون. إن الوحي إلهي إنساني. وكما أن الله لا يكشف عن وجوده للحجر أو للنبات، وإنما يكشف عنه للإنسان وحده، فإن صورته تتشكل بقدرة العقل البشري على التفكير. إن روح الخالق مستعدة دائما أن تكشف عن نفسها لروح الإنسان الباحث، بشرط أن يكون البحث صادقا والجهد عسيرا. وليست الكلمة العليا للكشف عن الله في كتاب لا يخطئ أو كنيسة لا تخطئ، وإنما هي في شهود النور الخفي. وما نحن بحاجة إليه ليس الخضوع إلى سلطة خارجية، وإنما هو استنارة باطنية تختبر صحتها - بطبيعة الحال - بالتقليد أو بالمنطق. وإذا نحن تدبرنا الأمر مليا رأينا وحدة التطلع الروحي والجهد الروحي التي تكمن تحت الطرق العليا المتنوعة التي تنم عنها العقائد العالمية المختلفة. إن تنوع الصيغ التقليدية يميل إلى التناقض كلما صعدنا درجات السلم المؤدي إلى الكمال الروحاني، وكل طرق الصعود تؤدي إلى قمة الجبل. وهذا الميل إلى التلاقي وتلك الدرجة الكبيرة من الاتفاق في نظر أولئك الذين يبلغون قمة الجبل لأقوى دليل على حقيقة الدين. ⋆ (1-6) دين عالمي
شريعة الدين تحتم على المرء أن يغير ما بنفسه حتى يجعل الجانب المقدس فيه غلابا. الدين يدعو إلى القضاء على الإنسان كما نعرفه بكل ما لديه من رغبات دنيوية، وإلى ظهور الإنسان الجديد. وليست هذه هي تعاليم الأوبانشاد والبوذية فحسب، بل هي كذلك مما تدعو إليه الألغاز الإغريقية والأفلاطونية وتعاليم الكتب السماوية ومذاهب اللاأدرية. وهذه هي الحكمة التي يشير إليها أفلوطين حينما يقول: «ليس هذا المذهب جديدا، بل لقد عبر عنه الإنسان منذ أقدم العصور، وإن لم يستطع أن ينميه بصورة واضحة. ولا نريد إلا أن نكون شارحين للحكماء القدامى، وأن نبين ببرهان من عند أفلاطون نفسه أنهم كانوا يعتنقون آراء كآرائنا.» هذا هو الدين الذي يذكره أوغسطين في عبارته المشهورة: «إن ما نسميه الدين المسيحي كان موجودا بين القدامى، ولم يعدم وجوده قط، من بداية الجنس البشري حتى جاء المسيح في لحم ودم، وهذا هو الوقت الذي بدأ فيه الدين الحق - الذي كان موجودا من قبل - أن يسمى المسيحية.» إن هذه الحقيقة تطالعنا في لهجات مختلفة عبر القارات وعبر قرون التاريخ. وأولئك الذين يتجاهلون هذه الحكمة الأبدية، ذلك الدين الأبدي الذي يكمن وراء جميع الأديان، وتلك العقيدة الأزلية، الحكمة التي لم يبتدعها أحد، والتي هي اليوم كما كانت في كل وقت مضى، وكما سوف تكون في كل وقت آت، أولئك الذين يتجاهلون هذا ويتشبثون بالأشكال الخارجية، ويختلفون فيما بينهم مسئولون عن المدنية الفوضوية التي نعيش فيها. ومن واجبنا أن نعود إلى هذا اللباب من الدين، إلى هذه الحكمة الأساسية التي طمستها وشوهتها التطورات العقائدية والدنيوية خلال التاريخ.
إننا في أبداننا وعقولنا، وفي قاماتنا وأمزجتنا، ومواهبنا وأذواقنا، نختلف كل الاختلاف أحدنا عن الآخر، ولكنا في أعمق أعماقنا، في أرواحنا التي هي الأساس الصحيح لوجودنا، يتشابه أحدنا مع الآخر. وإذا أردنا للدين أن يكون قوة فعالة في شئون البشر، وأن يؤدي دور الأساس في نظام العالم الجديد، فلا بد له من أن يكون أكثر باطنية وأكثر عالمية، شعلة تطهر دخائل نفوسنا فتطهر بذلك العالم. ولمثل هذا الدين لا تكون التعابير التاريخية عن الحق الروحاني والمصطلحات النفسية التي تلجأ إليها الأديان ليحملوها الحق العالمي، لا تكون هذه الأمور صخورا مؤذية في الطريق. وهكذا تنهار الحواجز التي تفصل بين الناس وتعود الوحدة بين البشر والاتحاد بين جميع الأفراد، وهي وحدة نسير فيها جميعا سيرا خلاقا، ويأخذ كل منا فيها بنصيب؛ عندئذ يتحقق دعاء سنت جون الذي نادت به في ختام مسرحية برناردشو التي تحمل هذا الاسم، وهو: «يا إلهي، يا من خلقت هذه الدنيا الجميلة، متى تستطيع هذه الدنيا أن تفتح صدرها للقديسين الذين يتبعونك؟» وعندما يجيء الوقت الذي يقطن في هذه الدنيا عنصر من الناس، ليس في تكوينه نقص، ولا على عقله مأخذ، متحرر من نير المرض والحرمان، وكذلك من الكلمات الكاذبة، ومن المحبة التي انقلبت إلى عداوة. وعندما تبلغ الكائنات البشرية كمالها، وتبلغ ذلك العالم الذي لا يرى، مملكة السماء، حينئذ تبدي هذه الكائنات البشرية في العالم الخارجي تلك «المملكة» التي يبطنون في أنفسهم. وفي هذا اليوم الموعود نكف عن تعريف الله في عقائد جامدة، كما نكف عن الجدل في طبيعته ونترك كل امرئ يعبد الله في قلبه، ويبحث عنه حتى يلتقي به.
إنني لم أنجذب قط للرحلة من أجل الرحلة، ولكني قمت بكثير من الرحلات، وعشت في أماكن بعيدة عن أرض الوطن، في إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا، وقضيت فترات طويلة لبضع سنوات في إنجلترا، وأثرت في نفسي تأثيرا حسنا صفات الشعب الإنجليزي، كمحبتهم للعدل، وبغضهم للتعصب العقائدي، وعطفهم على الحيوان. وقد كانت «كلية جميع الأرواح» وطنا ثانيا طوال هذه السنين، وزودتني ببصر نافذ في الحياة الثقافية الإنجليزية بما فيها من حرص واستقرار وثقة ومغامرة. ومهما يكن ما يحسه المرء إزاء لون الحكومة الروسية، فإن الشعب هناك رقيق رحيم، وحياتهم - كحياة الناس في كل مكان - مليئة بالفكاهة والغيرة، والحب والبغضاء. وبالرغم من أني لم أستطع أن أمد جذوري في أي من هذه البلدان الأجنبية، إلا أني التقيت بالكثيرين، من علية القوم وسفلتهم، واستطعت أن أصل إلى الجانب الإنساني في نفوسهم؛ إذ ليست هناك فروق أساسية بين شعوب العالم، فلديهم جميعا المشاعر الإنسانية العميقة، وحب العدالة التي تسمو على مصالح جميع الطبقات، والفزع من إراقة الدماء ومن العنف. إنهم يسعون نحو دين يدعو إلى إمكان وضرورة اتحاد الإنسان بنفسه، وبالطبيعة، وبزملائه، وبالروح الأبدي، الذي ليس العالم المرئي إلا صورة منه، دين يعتقد في ظهور الوعي الكامل كغاية للإنسان ومصير له. إن دياناتنا التاريخية لا بد أن تتحول إلى إيمان عالمي أو تذوي وتنقرض. وقد يبدو هذا الأمل عند بعض الناس عجيبا ولا يرحبون به، ولكنه أمل له صدقه وله جماله، وهو يعتمل في عقول الناس، وسرعان ما يمسي حقيقة واقعة. إن وحدة البشر لا تتوقف على الأصول القديمة، بل على هدف المستقبل واتجاهه على ما نحن سائرون إليه، وعلى الصوب الذي نوليه وجوهنا. ولقد كانت الحضارات القديمة محدودة في مصادرها وآفاقها إذا هي قورنت بالحضارة التي تنتشر الآن فوق سطح الأرض بفضل العلم وتطبيقه. ويزعم العلماء أن الحياة العضوية ظهرت فوق هذا الكوكب منذ نحو 1200 مليون عام، ولكن الإنسان ظهر إلى الوجود فوق الأرض خلال نصف المليون عام الذي سبق، ولم تظهر حضارته هنا إلا في العشرة الآلاف عام الماضية. إن الإنسان لا يزال في طفولته، وأمامه فوق هذا الكوكب أمد طويل، إنه سوف يعمل على تحقيق وحدة أسمى، وسوف ينجب رجالا ونساء ذوي عقول عالمية.
إن الدين الأبدي، الذي رسمت خطوطه العريضة في هذه الصفحات، أمر معقول يقوم على أساس علمي، وليس مهربا للإنسان أو منافيا لروحه الاجتماعية. وقبول هذا الدين يحل كثيرا من مشكلاتنا التي يئسنا منها، ويعود بالسلام على أولئك الذين حسنت نياتهم.
وهذه هي الفلسفة الشخصية التي بلغتها بطرق ومسالك مختلفة، وهي فلسفة انتفعت بها في أشد المحن، في صحتي ومرضي، وفي نصري وهزيمتي. وقد لا يكون مقدرا لنا أن نشهد سيادة الإيمان، ولكن من المقدر لنا أن نجاهد في سبيل سيادته. ⋆
المصادر ⋆
كل المختارات من مقال رادا كرشنان الذي نشره تحت عنوان «ديانة الروح وحاجات الدنيا» (وهي مقتطفات من اعترافاته، مقتبسة من مجلد فلسفة سارفيبالي رادا كرشنان) في مجموعة «مكتبة الفلاسفة الأحياء» التي جمعها بول آرثر شلب.
الجزء الثالث
مختارات من الفلاسفة الإنسانيين
الفصل العاشر
جان بول سارتر
(1905م-...)
إن سارتر يبشر في عزم مصمم بفلسفة صاغها خاصة للأزمة التي نعانيها في عصرنا هذا. وهذا الوجودي الفرنسي صاحب الشهرة العالمية، الذي أمسى اليوم أديبا محترفا، كان أستاذا للفلسفة، وكاتبا من كتاب المسرحية والرواية، وأحد الوطنيين الفرنسيين في حركة «المقاومة» التي قامت في أثناء احتلال فرنسا في الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من أنه يرث التقاليد التي انبثقت من كركجارد، فإن «وثبة الإيمان» عنده لا ترتفع إلى درجة يبلغ بها الله. وهو ملحد صراحة وعقلا؛ ومن ثم فهو يقبل المشكلة التي أثارها دستويفسكي، وهي أنه إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء ممكن، ويضيف إلى ذلك ما يترتب على هذا القول، وهو أنه إذا كان الله موجودا فلن يغير من أمر الإنسان شيئا. أما الإنسان نفسه فهو عبارة عن «هوى لا يجدي»، لا يستطيع أن يفهم وجوده ذاته، معزول، ضعيف، ينفر من انعدام المعنى في كل شيء في الوجود الظاهري، ومن العدم المؤلم لذاته التي لا مبرر لها ولا يعرف لها حدودا؛ ومن ثم فإن الإنسان ليس «إلا ما يصنعه بنفسه». وهذا هو المبدأ الأول من مبادئ الوجودية. وبهذه المعرفة يعتقد سارتر أن الإنسان بوسعه أن يستعد لإلزام نفسه ب «عمل ما»، كما يعتقد أنه على وعي تام بحريته في اختيار القيم التي يريد. وما دامت حرية الإنسان مطلقة لا جذور لها، فهي حالة غامضة، تبعث على الفزع كما تبعث على التحرر في آن واحد.
ولد جان بول سارتر في باريس في اليوم الحادي والعشرين من شهر يونيو من عام 1905م، وجده لأمه كان أستاذا للغة الألمانية في ليسيه هنري الرابع بباريس. ولا يمكن أن تكون البيئة العائلية المباشرة لسارتر علمية جدا؛ لأن أباه كان ملاحا لقي حتفه في الهند الصينية وسارتر لا يزال في المهد صبيا. وتلقى سارتر تعليمه في الليسيه بسانت روشل وفي ليسيه هنري الرابع، وتلقى تعليمه العالي في مدرسة المعلمين العليا، وفي عام 1928م ظفر بشهادة الأجريجاسيون في الفلسفة، وبعدئذ أصبح أستاذا في لاون، وفي هافر فيما بعد. وبعد ذلك بفترة وجيزة رحل إلى برلين ليدرس الفلسفة الألمانية المعاصرة. ولما عاد إلى فرنسا اشتغل بالتعليم مرة أخرى في ليسيه باستير في نويلي، ثم التحق بخدمة الجيش الفرنسي بخط ماجينو في عام 1939م، وأسر في يونيو من عام 1940م، وأعيد إلى وطنه في ربيع عام 1941م. واشتغل بالتعليم مرة أخرى حتى كان عام 1944م، حيث تخلى عنه ليكرس نفسه للأعمال الأدبية يفرغ لها كل وقته. وفي العام التالي قام بزيارة للولايات المتحدة. ولما عاد إلى الوطن مرة أخرى شرع يحرر «الأزمنة الحديثة»، وهي صحيفة كان أول ظهورها في خريف عام 1946م.
وربما كان أقوى الوثائق أثرا مما كتب سارتر بيانه البليغ الذي طبعه في المجلد الذي كتبه تحت عنوان «جمهورية الصمت»، والذي نشره أ. ج. ليبليج بعد انتهاء الحرب ببضع سنوات، في هذا الموقف النهائي الذي يختار فيه المرء بين أن يؤمن مع زملائه في المقاومة ويفقد حياته ولكنه يحتفظ بإنسانيته، وبين أن يخرج على إيمان زملائه، ويسلك الطريق التي يحتفظ فيها بذاته كشيء ما، لا كإنسان، في هذا الموقف يبين لنا سارتر أن مذهبه الوجودي ومذهب البطولة قد يعيشان جنبا إلى جنب ، وفي هذا يقول: «وهكذا عرضت لنا مشكلة الحرية، ووقفنا عند بداية المعرفة العميقة التي يمكن أن يبلغها الإنسان عن نفسه؛ لأن سر الإنسان ليس في مركب أوديب أو مركب النقص، إنما هو في حدود حريته وقدرته على مقاومة التعذيب والموت.»
وقد يظن أن إعجاب سارتر الظاهر بحركة سياسية معينة وانضمامه إليها يناقض فلسفته العامة، يقول أحد النقاد: «إن حبه للحرية وحبه لنظام سياسي واضح المعالم يتناقضان دائما ... إن سارتر نفسه يعاني من مصير أبطال قصصه الذين نراهم دائما عاجزين عن تحديد الجانب الذي ينضمون إليه.» وقد وهب سارتر مزاياه العقلية الكبرى للحزب الشيوعي الفرنسي في مناسبات عدة، ولكنه عومل - وربما كان ذلك بواقعية قاسية - كأنه حصان طروادة، أثمن من أن يمسه المؤمنون الصادقون.
ويقحم سارتر كتاباته في ميادين الميتافيزيقا والأخلاق والجمال والسير، وذلك بالإضافة إلى رواياته ومسرحياته. وقد أسهم بكثير من المقالات في الموضوعات السياسية والاجتماعية للمجلات الأدبية في فرنسا وأمريكا، ومؤلفه الفلسفي الأكبر هو كتابه الضخم «الوجود والعدم»، الذي نشر في فرنسا عام 1943م، وترجم إلى الإنجليزية في العام التالي. وخير مسرحياته هما المسرحيتان القصيرتان «الذباب» و«لا مخرج». وله سلسلة روايات بعنوان «الطريق إلى الحرية» بلغت الآن أربعة مجلدات. غير أن بعض من يدرسون إنتاج سارتر الأدبي لا يزالون يؤثرون روايته الصغيرة الأولى التي أعطاها عنوانا شائقا هو «غثيان»، ونشرها عام 1937م. ومن بحوثه الهامة التي نشرها في صورة مقالات «الوجودية والإنسانية» عام 1948م، و«ما هو الأدب؟» عام 1947م. (1) الوجودية الإلحادية
جان بول سارتر (1-1) اتهام الوجودية
أود بهذه المناسبة أن أدافع عن الوجودية ضد بعض التهم التي وجهت إليها.
اتهمت الوجودية أولا بأنها تدعو الناس أن يلزموا الهدوء يائسين؛ لأنه ما دامت الحلول مستحيلة، فمن الواجب علينا أن ننظر إلى العمل في هذه الدنيا باعتباره أمرا يستحيل تمام الاستحالة، وعلينا إذن أن ننتهي إلى فلسفة تأملية. وما دام التأمل ترفا، فإننا نبلغ في غاية الأمر فلسفة برجوازية. وقد وجه الشيوعيون على الأقل هذه التهم إلى الوجودية.
ثم اتهمنا أيضا من ناحية أخرى بإصرارنا على انحطاط الإنسان، وبإشادتنا في كل مكان بالخسيس والغامض والمبهم، مع إهمالنا للجليل والجميل، وللجانب المشرق من طبيعة الإنسان؛ فاتهمنا مثلا - وفقا لما ذكرته الآنسة مرسييه، وهي ناقدة كاثوليكية - بتجاهل ابتسامة الطفل. والطرفان يتهماننا بتجاهل التماسك البشري، وباعتبار الإنسان كائنا منعزلا. ويقول الشيوعيون: إن السبب الأساسي في هذا هو أننا نتخذ الذاتية الخالصة، أو مذهب ديكارت «إني أفكر»، نقطة للبداية، أو بعبارة أخرى اللحظة التي يعي فيها الإنسان وعيا كاملا معنى انعزاله. ويترتب على ذلك أنا نعجز عن العودة إلى حالة التماسك مع غيرنا من الناس، وهي حالة لا يمكن أن نبلغها في حالة الذاتية، حالة إيماننا بمذهب «إني أفكر».
كما أنا - من وجهة النظر المسيحية - نتهم بنكران حقيقة العمل الإنساني وجديته؛ لأنا - حينما ننبذ وصايا الله والحقائق الأبدية - لا يبقى لنا شيء سوى الهوى المطلق، حيث يسمح لكل امرئ أن يفعل ما يشاء، وحيث يعجز - من وجهة نظره - عن تقدير وجهة نظر الآخرين وما يعملون.
وسوف أحاول الآن أن أرد عن الوجودية هذه التهم، وسيدهش الكثيرون مما سوف أسوقه هنا بصدد الإنسانية، وسوف نحاول أن نرى بأي معنى تفهم الإنسانية. وعلى أية حال فإن ما يمكن أن يقال منذ البداية هو أنا نعني بالوجودية مذهبا يجعل الحياة الإنسانية ممكنة، مذهبا يعلن - فوق ذلك - أن كل حقيقة وكل عمل يتضمن موقفا إنسانيا، وذاتية إنسانية.
وهذا المذهب في الواقع هو أقل المذاهب عيبا، وأشد صرامة، وهو موجه بحذافيره إلى المختصين والفلاسفة، ومع ذلك فمن اليسير أن نعرفه. غير أن ما يعقد الأمور هو أن هناك نوعين من الوجودية؛ أولهما أولئك المسيحيون، ومنهم ياسبرز وجبريل مارسل، وكلاهما كاثوليكي؛ وهناك ثانيا الوجوديون الملحدون، ومنهم هيدجر، والوجوديون الفرنسيون وشخصي. والأمر الذي يشتركون فيه هو أنهم يعتقدون أن الوجود يسبق الماهية، أو إن شئت قلت إن الذاتية لا بد أن تكون نقطة البداية. ⋆ (1-2) الإنسان يصنع نفسه
الوجودية الإلحادية التي أمثلها تقول بأنه إذا لم يكن الله
1
موجودا، فهناك على الأقل كائن واحد يسبق وجوده ماهيته، كائن وجد قبل إمكان تعريفه على أية صورة ذهنية، وهذا الكائن هو الإنسان، أو هو - كما يقول هيدجر - الحقيقة البشرية. فماذا نعني هنا حينما نقول إن الوجود سبق الماهية؟ إننا نعني - أولا - أن الإنسان يوجد ويبرز ويظهر على المسرح، ولا يعرف نفسه إلا فيما بعد ذلك. وإذا كان الإنسان -كما يتصوره الوجوديون - لا يمكن تعريفه، فذلك لأنه في أول الأمر عدم ... ولن يكون شيئا ما إلا فيما بعد. وعندئذ يكون هو نفسه الذي صنع ما سوف يكونه. وهكذا ترى أنه ليست هناك طبيعة بشرية، ما دام ليس هناك إله يتصورها. وليس الإنسان فقط هو الصورة التي يرى نفسه عليها، وإنما هو أيضا ما يريد لنفسه أن يكون بعد اندفاعه هذا نحو الوجود.
ليس الإنسان إلا ما يصنع بنفسه، وهذا هو المبدأ الأول من مبادئ الوجودية، وهو أيضا ما يسمى الذاتية، وهو الاسم الذي نوصم به حينما توجه إلينا التهم. ولكن ماذا نعني من هذا، إذا كنا لا نعني أن للإنسان كرامة تفوق ما للحجر أو الخشب؛ لأنا نعني أن الإنسان يوجد أولا، أي إن الإنسان - قبل كل شيء - هو الكائن الذي يوجه نفسه صوب مستقبل ما، والذي يعي أنه يتخيل نفسه كائنا في المستقبل؟ الإنسان في مبدأ أمره خطة واعية بنفسها أكثر منه كتلة من الطحلب المتخلف، أو قطعة من نفايات اللحوم أو الخضر؛ إذ لا شيء يوجد قبل هذه الخطة. ليس في السماء شيء عنه، وإنما سوف يكون الإنسان ما رسم لنفسه أن يكون، وليس ما يريد أن يكون؛ لأنا بكلمة «الإرادة» نعني عادة قرارا واعيا يترتب على ما سبق أن صنعنا بأنفسنا؛ فقد أريد أن أنتمي إلى حزب سياسي، أو أن أكتب كتابا، أو أن أتزوج، غير أن هذا كله ليس إلا إظهارا لاختيار سابق أكثر تلقائية، نسميه «الإرادة». ولكن إذا كان الوجود يسبق الماهية فعلا، فالإنسان إذن مسئول عما هو عليه؛ فالدعوة الوجودية الأولى إذن هي أن تجعل كل امرئ واعيا بما هو عليه، وأن تلقي بالمسئولية الكاملة لوجوده على كاهله. وحينما نقول إن الإنسان مسئول عن نفسه، لا نعني أنه مسئول عن فرديته فحسب، وإنما نعني أنه مسئول عن الناس جميعا.
ولفظة الذاتية لها معنيان، وخصومنا يستغلون ما في اللفظة من تورية؛ فالذاتية تعني من ناحية أن الفرد يختار ويصنع نفسه، وهي تعني من ناحية أخرى أنه يستحيل على الإنسان أن يتجاوز الذاتية البشرية. والمعنى الثاني هو المعنى الأساسي للوجودية. وعندما نقول إن الإنسان يختار ذاته، فنحن نعني أن كلا منا يفعل ذلك، ولكنا نعني بذلك أيضا أنه عندما يقوم بهذا الاختيار فهو يختار كذلك جميع الناس. والواقع أننا عندما نخلق الإنسان الذي نريد أن نكونه، فليس هناك عمل واحد من أعمالنا لا يخلق في الوقت نفسه صورة للإنسان كما نعتقد أنه ينبغي أن يكون، واختيارنا أن نكون هذا أو ذاك هو تأكيد في الوقت نفسه لقيمة ما نختار؛ لأنا لا يمكن أن نختار الشر، وإنما نحن نختار الخير دائما، ولا يمكن أن يكون شيء ما خيرا لنا دون أن يكون خيرا للجميع.
وإذا كان الوجود - من ناحية أخرى - يسبق الماهية، وإذا سلمنا بأنا نوجد ونشكل صورتنا في نفس الوقت، فإن الصورة تكون صالحة لكل إنسان ولعصرنا بأكمله؛ ومن ثم فإن مسئوليتنا تفوق كثيرا ما قد نفترضه؛ لأنها تشمل الجنس البشري قاطبة؛ فإذا كنت عاملا وأوثر أن ألتحق بنقابة عمالية مسيحية على أن أكون شيوعيا، وإذا كنت بعضويتي أريد أن أبين أن خير الأمور للإنسان أن يستسلم، وأن مملكة الإنسان ليست في هذه الدنيا، وليس الأمر مما يخصني وحدي، وإنما أنا أريد أن أستسلم ممثلا في ذلك كل إنسان غيري؛ فعملي - نتيجة لذلك - يتضمن البشرية كلها. ولآخذ أمرا أخص من هذا: إذا أردت أن أتزوج وأن أنجب أطفالا - حتى إن كان هذا الزواج يتوقف كلية على ظروفي الخاصة، أو على عاطفتي، أو رغبتي - فإني أجر الإنسانية كلها إلى الزواج ولا أجر نفسي وحدها؛ ولذلك فأنا مسئول عن نفسي وعن كل إنسان آخر؛ لأني أخلق صورة معينة للإنسان كما أختاره بنفسي. وإني حين أختار نفسي، إنما أختار الإنسان عامة. (1-3) «الضيق» و«اليأس»
ويعيننا ذلك على أن ندرك المعنى الحقيقي لبعض الألفاظ المتحذلقة، كالضيق والخذلان واليأس. والأمر - كما سوف نرى - غاية في البساطة.
أولا: ماذا نعني بالضيق؟ يقول الوجوديون على الفور: الإنسان هو الضيق. ومعنى ذلك أن الإنسان الذي يقحم نفسه، والذي لا يدرك أنه ليس الشخص الذي اختار أن يكونه فحسب، وإنما هو كذلك وفي الوقت عينه واضع لقانون يختار به أفراد البشر جميعا كما يختار نفسه، هذا الإنسان لا يسعه أن يفر من الشعور بمسئوليته الشاملة العميقة. وليس من شك في أن هناك أفرادا كثيرين ليس بهم قلق، ولكنا نزعم أنهم يخفون قلقهم، وأنهم يفرون منه. وليس من شك في أن هناك أفرادا كثيرين يعتقدون أنهم حينما يعملون شيئا ما يحسبون أن ما يعملون يهمهم وحدهم، وإن قال لهم قائل: «وماذا لو أن كل شخص آخر صنع صنيعهم؟» هزوا أكتافهم، وأجابوا قائلين: «إن كل شخص آخر لا يصنع هذا الصنيع.» غير أن المرء - في الواقع - ينبغي أن يسأل نفسه هذا السؤال: «ماذا يحدث لو أن كل إنسان نظر إلى الأمور هذه النظرة؟» ولا مفر من هذه الفكرة المزعجة إلا بالخداع. إن الإنسان الذي يكذب ويقدم لنفسه المعاذير بقوله «إن كل إنسان لا يفعل ذلك» رجل غير مرتاح الضمير؛ لأن أداء الكذب يعني إعطاء الكذب قيمة عالمية.
إن الضيق حقيقة واقعة حتى حينما يختفي. وهذا هو الضيق الذي أسماه كركجارد ضيق إبراهيم، وأنتم تعلمون القصة: لقد أمر أحد الملائكة إبراهيم أن يضحي بأحد أبنائه. ولو أن الذي حدث فعلا أن ملكا جاء إلى إبراهيم وقال له «اذبح ابنك يا إبراهيم»، لكان كل شيء على ما يرام، ولكن أي امرئ قد يتعجب سائلا: «هل هو ملك حقا، وهل أنا حقا إبراهيم؟ أي دليل عندي؟»
كانت هناك امرأة عندها هواجس، واعتاد أحد الناس أن يخاطبها بالتليفون ويلقي عليها الأوامر. وسألها طبيبها: «من هذا الذي يتحدث اليوم؟» وأجابت قائلة: «إنه يقول إنه الله.» أي دليل عندها فعلا على أنه هو الله؟ إذا جاءني ملك، فأي دليل هناك على أنه ملك؟ وإن كنت أستمع إلى أصوات، فأي دليل هناك على أنها آتية من الجنة وليست آتية من الجحيم، أو من اللاشعور، أو من حالة مرضية خاصة؟ وأي دليل هناك على أن هذه الأصوات موجهة إلي؟ وأي دليل هناك على أنه قد عهد إلي أن أفرض اختياري وأن أفرض فكرتي عن الإنسان على البشرية كلها؟ إني لن أجد دليلا أو علامة تقنعني بذلك. إذا كان الصوت يناديني فعلي دائما أن أقرر أن هذا هو صوت الملك. وإذا كنت أرى أن مثل هذا العمل عمل طيب، فأنا الذي أختار القول بأنه عمل طيب وليس عملا سيئا.
والآن أقول: إني لست أنا إبراهيم، ولكني - برغم هذا - مضطر في كل لحظة إلى أن أؤدي عملا شبيها بالذي أدى؛ لأن كل شيء يحدث لكل إنسان، وكأن البشرية كلها توجه بصرها إليه وتسترشد بما يفعل. وعلى كل امرئ أن يسأل نفسه: «هل أنا حقا ذلك الرجل الذي يملك الحق في أن يعمل بطريقة تستطيع البشرية أن تسترشد فيها بعملي؟» فإن كان لا يسأل نفسه هذا السؤال فهو يخفي عن نفسه همها.
ولسنا نتعرض هنا لنوع الهم أو الضيق الذي يؤدي إلى السكون، وإلى الكف عن الحركة؛ فالأمر ليس إلا نوعا بسيطا من الهم يألفه كل إنسان تحمل شيئا من المسئولية. ولنضرب لذلك مثلا الضابط الحربي الذي يتحمل مسئولية الهجوم، والذي يجلب الموت لعدد من جنوده. لقد اختار ذلك، وهو وحده أساسا الذي قام بالاختيار. وليس من شك في أن الأوامر تأتيه من سلطة أعلى، ولكنها أوامر عامة جدا، وهو الذي يفسرها، وعلى تفسيره تتوقف حياة عشرة أو أربعة عشر أو عشرين رجلا. وهو إذ يصدر قراره لا يسعه إلا أن يحس شيئا من الهم والضيق، وهو ضيق يعرفه كل قائد، ولا يمنعهم هذا من العمل، بل - على العكس من ذلك - هذا الضيق هو الشرط الأساسي لما يقومون به من عمل؛ لأنه يعني أنهم يواجهون عددا من الاحتمالات، وعندما يختارون واحدا منها يدركون أنه ليس لهذا الاحتمال قيمته إلا لأنه مختار. وسوف نرى أن هذا الضرب من ضروب الضيق، وهو الضرب الذي تصفه الوجودية، أو تفسره - فوق ذلك - مسئولية مباشرة إزاء الأفراد الآخرين الذين يرتبط بهم. وهو ليس حاجزا يفصلنا عن العمل، ولكنه جزء من العمل نفسه.
وعندما نتكلم عن الخذلان، وهو تعبير كان هيدجر مغرما به، إنما نعني أن الله غير موجود، وأنه يتحتم علينا أن نواجه كل ما يترتب على ذلك.
إن الوجودي يعتقد أنه من المؤلم جدا ألا يوجد الله؛ لأن كل احتمال للعثور على قيم في سماء من الأفكار يختفي باختفاء الله؛ وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون هناك خير «سابق» ما دام ليس هناك وعي كامل غير محدود للتفكير فيه. ولم يكتب في أي مكان أن الخير موجود، وأنه يجب علينا أن نكون أمناء، وألا نكذب؛ لأن واقع الأمر هو أننا في مستوى ليس به غير الناس. يقول دستوفسكي: «إذا لم يوجد الله، أمكن كل شيء.» وهذه هي نقطة البداية عينها في الوجودية؛ فالواقع أن كل شيء جائز إذا لم يوجد الله، ويترتب على ذلك شعور الإنسان بالخذلان؛ لأنه لا يجد شيئا بداخله أو بخارجه يتمسك به، وهو لا يستطيع أن يلتمس لنفسه المعاذير.
أما اليأس فمعناه غاية في البساطة، معناه أنا نكتفي بأن نركن إلى ما يتوقف على إرادتنا، أو إلى مجموعة الاحتمالات التي تجعل عملنا ممكنا؛ فعندما نريد شيئا ما نركن دائما إلى الاحتمالات، قد أتوقع قدوم صديق، والصديق قادم بالقطار أو بالترام، وفي هذا افتراض وصول القطار طبقا لموعده، أو أن الترام لن يقفز فوق قضبانه؛ فأنا إذن أقف في مجال الإمكان، ولكن الإمكان لا يركن إليه إلا إلى الحد الذي يتفق فيه عملي مع مجموعة هذه الإمكانيات ولا يتعداه. وفي اللحظة التي تنفك فيها العلاقة الوثيقة بين الإمكانيات التي تقع في اعتباري وبين عملي، يتحتم علي أن أتحلل من هذه الإمكانيات؛ لأنه ليس هناك إله أو نظام يستطيع أن يكيف العالم وإمكانياته طبقا لإرادتي. وعندما قال ديكارت «تغلب على نفسك لا على الدنيا» كان يقصد أساسا إلى نفس هذا المعنى. ⋆ (1-4) الإنسان حرية
إذا كان الوجود حقا يسبق الماهية، فالأمور إذن لا يمكن تفسيرها بالرجوع إلى طبيعة بشرية معينة ثابتة. وبعبارة أخرى ليست هناك حتمية؛ فالإنسان حر والإنسان حرية. ومن ناحية أخرى إذا كان الله غير موجود، فلن نجد القيم أو الوصايا التي نلتفت إليها والتي تقنن سلوكنا؛ ومن ثم فلن يكون وراءنا - في مجال القيم المضيء - معذرة، ولن يكون أمامنا تبرير - نحن وحدنا - بغير معذرة.
وهذه هي الفكرة التي سوف أحاول التعبير عنها حينما أقول إن الإنسان قد حكم عليه بالحرية. أقول حكم عليه؛ لأنه لم يخلق نفسه، ومع ذلك فهو حر من نواح أخرى؛ لأنه بمجرد إلقائه في هذه الدنيا مسئول عن كل عمل يقوم به. ⋆ (1-5) الالتزام والعمل
إذا سلمنا بأن الناس أحرار، وأنهم سوف يقررون في غدهم ما سوف يئول إليه الإنسان، فإني لن أكون على يقين من أن المجاهدين من زملائي سوف يواصلون عملي بعد مماتي لكي يصلوا به إلى أقصى درجة من درجات كماله؛ ففي الغد - بعد مماتي - قد يقرر بعض الناس أن يقيموا الفاشية، وقد يكون الآخرون جبناء مرتبكين إلى حد يجعلهم يمكنون الفئة الأولى مما تريد؛ وعندئذ تكون الفاشية هي الحقيقة الإنسانية - ويا لسوء حظ الإنسان حينئذ!
والواقع أن الأمور سوف تقع كما قرر لها الإنسان أن تقع؛ فهل معنى ذلك أنه ينبغي لي أن أستسلم للكون؟ كلا؛ إذ الواجب علي أولا أن أقحم نفسي، ثم أعمل طبقا للناموس القديم، كما قيل: «لا كسب بغير مغامرة.» وليس معنى ذلك أيضا أنه لا ينبغي لي أن أنتمي إلى حزب، وإنما يعني ألا تكون عندي أوهام، وأن أعمل ما أستطيع. ولأضرب لذلك مثلا؛ هب أني سألت نفسي: «هل الاشتراكية - كما نعرفها - سوف تتحقق في يوم من الأيام؟» إني لا أعرف شيئا عن هذا ، وكل ما أعرفه هو أني سوف أبذل كل ما في وسعي لكي أحققها، ولا أستطيع أن أعتمد على شيء آخر غير هذا، أما السكون فهو موقف أولئك الذين يقولون: «خل غيري يعمل ما لا أستطيع أن أعمله.» والمذهب الذي أدعو إليه نقيض السكون تماما؛ لأنه ينادي ب «أنه ليست هناك حقيقة إلا في العمل»، بل إنه يعدو ذلك لأنه يقول ب «أن الإنسان ليس إلا خطته، وهو لا يوجد إلا بمقدار ما يحقق ذاته؛ وهو لذلك ليس إلا مجموعة أعماله، ليس إلا حياته.»
ونستطيع - طبقا لذلك - أن ندرك لماذا يفزع بعض الناس لهذا المذهب؛ لأن الوسيلة الوحيدة التي يستطيعون أن يحتملوا بها بؤسهم كثيرا ما تكون في حسبانهم. «إن الظروف كانت ضدي، وما كنته وما فعلته لا ينم عن قيمتي الحقيقية. حقا إني لم أحب حبا عظيما، ولم أصادق صداقة كبرى، غير أن ذلك لأني لم ألاق رجلا أو امرأة حقيقا بذلك. والكتب التي ألفتها لم تكن جيدة جدا؛ لأنه لم يتوافر لي الفراغ الكافي. ولم يكن لي أطفال أكرس لهم حياتي لأني لم أعثر على رجل أستطيع أن أقضي حياتي معه؛ ولذا فلا يزال عندي حشد من الميول والاستعدادات والإمكانيات لا يمكن لأحد أن يقدرها من مجرد تسلسل الأمور التي قمت بها، وهي ميول واستعدادات وإمكانيات لم تستخدم برغم حيويتها الشديدة .»
أما الوجودي فلا يرى في الواقع حبا غير ذلك الذي يظهر في شخص المحب ولا يرى نبوغا غير الذي تعبر عنه الأعمال الفنية. إن نبوغ بروست هو مجموع ما أنتجه بروست، ونبوغ راسين هو سلسلة مآسيه. ولا يوجد خارج هذه الدوائر شيء ما. لماذا نقول إن راسين كان بوسعه أن يكتب مأساة أخرى في حين أنه لم يكتبها؟ إن المرء يشتبك في الحياة، ويترك فيها أثره، ولا يقع خارج ذلك شيء ما. وليس من شك في أن هذا الرأي قاس على رجل لم تكن حياته ناجحة، ولكنه - من ناحية أخرى - يحفز الناس على أن يدركوا أن الواقع وحده هو الذي يحسب حسابه، أما الأحلام والآمال وما نتوقع فلا تؤدي بنا إلا إلى أن نعرف الإنسان بالحلم الذي لم يتحقق، والآمال الذي أخفقت، والرجاء الذي خاب. أو بعبارة أخرى، نحن بذلك نعرف الإنسان تعريفا سلبيا ولا نعرفه تعريفا إيجابيا. ومهما يكن من شيء، فإننا عندما نقول «إنك لست إلا حياتك»، فلا يتضمن ذلك أن الفنان لا يحكم عليه إلا على أساس أعماله الفنية، فهناك ألوف الأشياء الأخرى التي تسهم في تكوين مجموعه. إن ما نعنيه هو أن الإنسان ليس إلا سلسلة من الأعمال التي يؤديها، وأنه عبارة عن حصيلة، أو صورة، مجموعة العلاقات التي تكون هذه الأعمال.
هل لي أن أسأل: هل هناك من اتهم فنانا صور صورة ما بأنه لم يرسم وحيه طبقا لقواعد موضوعة من قبل؟ وهل سأل سائل: «أية صورة يجب عليه أن يصورها؟» من الواضح جليا أنه ليست هناك صورة معينة يجب رسمها، وأن الفنان مرتبط برسم صورته، وأن الصورة التي يجب رسمها هي بعينها الصورة التي أداها. ومن الواضح جليا أنه ليست هناك قيم فنية سابقة، وإنما هناك قيم تظهر فيما بعد في الصورة المؤداة، وفي المقابلة بين النتيجة التي انتهى إليها الفنان وما كان في تصميمه. ولا يستطيع أحد أن يقول على أية صورة سيكون الفنان في غده؛ فالصورة لا نحكم عليها إلا بعد رسمها . وما علاقة ذلك بالأخلاق؟ إننا في نفس الموقف الخلاق، إننا لا نقول قط إن العمل الفني عمل اعتباطي، فإننا حينما نتحدث عن لوحة لبيكاسو لا نقصد قط أنها جاءت اعتباطا؛ فنحن ندرك تمام الإدراك أنه كان يصنع بنفسه ما كان عليه في الوقت ذاته الذي كان يصور فيه، وأن مجموعة عمله تتجسد في حياته.
والأمر كذلك على المستوى الخلقي. وما يشترك فيه الفن والأخلاق هو أننا في كلتا الحالتين نخلق ونخترع، ولا نستطيع أن نقرر سلفا ما سوف يؤدي. وأعتقد أني وضحت ذلك توضيحا كافيا جدا حينما ذكرت حالة الطالب الذي جاء لمقابلتي، والذي ربما التجأ إلى كل النظم الأخلاقية، كانتية كانت أو غير ذلك، دون أن يظفر بأي نوع من أنواع الاسترشاد. وقد اضطر إلى أن يضع قانونه بنفسه. ولا يصح أن نقول إن هذا الشاب - الذي أحب شخصا معينا، وسلك إزاءه سلوكا فرديا، وعطف عليه عطفا خاصا باعتباره المصدر الأول لأخلاقه، فاختار لذلك أن يبقى مع أمه، أو ذلك الذي آثر أن يضحي فاختار أن يرحل إلى إنجلترا - لا يصح أن نقول إنه اختار اختيارا اعتباطيا، إنما الإنسان يصنع نفسه، وهو ليس مهيأ على صورة خاصة منذ بدايته. إنه عند اختيار قواعده الأخلاقية يصنع نفسه، والظروف تقهره إلى حد أنه لا يستطيع أن يمتنع عن اختيار مجموعة معينة من قواعد الأخلاق. إننا لا نعرف الإنسان إلا من حيث علاقته بالبيئة؛ ومن ثم فمن العبث أن نتهم بالاعتباط في الاختيار. ⋆ (1-6) الوجودية والإنسانية
يلومونني لأنني أتساءل عما إذا كانت الوجودية إنسانية! فلقد قيل لي: «ولكنك قلت في مسرحيتك «الغثيان» إن الإنسانيين جميعا على خطأ، وسخرت من نوع خاص من الإنسانيين، فلماذا تعود إليها الآن؟» والواقع أن كلمة الإنسانية لها معنيان يختلفان جد الاختلاف؛ فقد يعني بها المرء نظرية تجعل الإنسان غاية وذا قيمة أعلى. والإنسانية بهذا المعنى يمكن أن تلتمس في قصة ككتو «حول العالم في ثمانين ساعة»، حيث يصرح أحد أشخاص القصة - لأنه يطير فوق الجبال في طائرة - «أن الإنسان مخلوق عجيب». ومعنى ذلك أنني أنا الذي لم أصنع الطائرات، سوف أنتفع شخصيا من هذه المخترعات الخاصة، وإني - كإنسان - سوف أعد نفسي شخصيا مسئولا عن أعمال قامت بها حفنة من الرجال، وسوف ينالني شرف ما قاموا به من عمل. ويتضمن ذلك في معناه أننا نعزو إلى الإنسان قيمة على أساس أسمى ما قام به بعض الناس من عمل. وهذه الإنسانية عبث باطل؛ لأنه لا يستطيع أن يصدر حكما عاما كهذا على الإنسان إلا كلب أو حصان، وحتى هذان الحيوانان لم يفعلا ذلك على الأقل فيما أعلم.
ولا يمكن أن نسلم بأن الفرد يمكنه أن يصدر حكما على الإنسان، والوجودية تعفيه من مثل هذا الحكم، والوجودي لن يعتبر الإنسان غاية لأنه دائما في دور التكوين، بل ولا ينبغي لنا أن نعتقد أن هناك جنسا بشريا نستطيع أن نضع له شعائر معينة على طريقة أوجست كومت؛ فشعائر الجنس البشري تنتهي بإنسانية أوجست كومت المنطوية على ذاتها، ونستطيع أن نقول إنها تنتهي إلى الفاشية. وهذا الضرب من الإنسانية نستطيع الاستغناء عنه.
غير أن للإنسانية معنى آخر، وهو أساسا أن الإنسان خارج عن نفسه دائما. وهو في إبرازه لنفسه، وفي فقدانه لنفسه، خارج نفسه، يعمل على وجود الإنسان، وبمتابعته لأهداف تتجاوز شخصه - من ناحية أخرى - يستطيع أن يعيش. ولما كان الإنسان هو هذه الحالة من التجاوز، ولما كان لا يتمسك بالأشياء إلا لأن لها أثرا على هذا التجاوز، فهو في صميمه مركز هذا التجاوز. وليس هناك عالم غير العالم البشري، أو عالم الذاتية البشرية. وهذه العلاقة بين التجاوز - باعتباره عنصرا من العناصر المكونة للإنسان، لا بمعنى أن الله يتجاوز الإنسان، ولكن بمعنى أن الإنسان يتجاوز نفسه - وبين الذاتية، بمعنى أن الإنسان ليس منطويا على نفسه، ولكنه كائن دائما في عالم بشري، هو ما نسميه الإنسانية الوجودية، فهي إنسانية؛ لأنا نذكر الإنسان أنه ليس هناك من يضع القوانين غيره، وأنه في خذلانه سيقرر لنفسه، لا بالنظر إلى نفسه، ولكن ببحثه خارج نفسه عن هدف هو هذا التحرير ذاته، وهذا التحقيق للذات عينه.
ومن هذه الآراء القليلة يتبين أنه ليس هناك أشد تعسفا من الاعتراض الذي وجه إلينا. ليست الوجودية إلا محاولة استخراج كل النتائج التي تترتب على النظرة الإلحادية المتماسكة. ليست الوجودية هي البتة محاولة الزج بالإنسان في غمرة اليأس. أما إذا كان المرء يسمي كل نظرة من نظرات انعدام العقيدة يأسا - كما يفعل المسيحيون - فالكلمة إذن لم تستعمل في معناها الأصلي. ولم تبلغ الوجودية من الإلحاد حدا يقضي عليها لأنها تقول بأن الله غير موجود، وإنما هي تعلن أنه حتى إذا كان الله موجودا، فإن ذلك لا يغير من الأمر شيئا . وهذا هو رأينا. إننا لا نعتقد أن الله موجود، ولكنا نعتقد أن مشكلة وجوده ليست هي بيت القصيد. والوجودية بهذا المعنى متفائلة، فهي مذهب عمل. وإنها لخيانة صريحة من المسيحيين ألا يميزوا بين يأسهم ويأسنا، ثم يقولوا إنا يائسون. ⋆
المصادر ⋆
المقتطفات كلها من كتاب «الوجودية» لجان بول سارتر.
الفصل الحادي عشر
كارل ر. بوبر
(1902م-...)
كارل بوبر أحد رواد فلاسفة العلم في الوقت الحاضر، وكان أصلا عضوا في جامعة فينا الشهيرة التي كانت مصدر إشعاع لمذهب التجريب المنطقي، ولكنه - على خلاف زملائه - أظهر اهتماما شديدا بتاريخ الفلسفة، وبالفلسفة السياسية والأخلاقية. وأشهر ما يعرف به كتابه «المجتمع الحر وخصومه»، وهو كتاب سرعان ما أمسى من الأصول المعاصرة في النظريات السياسية، وفيه يحلل بعض مبادئ إعادة البناء الاشتراكي في ضوء استعراض ناقد لفلسفة السياسة والتاريخ. «إنه يرسم صورة لبعض الصعاب التي تواجهها المدنية التي ترمي إلى الإنسانية والتعقل وإلى المساواة والحرية ... ويحاول - لذلك - أن يعاون على إدراكنا لمعنى الحكم الجماعي، ومغزى الكفاح الدائم ضد هذا الحكم.»
ولد كارل بوبر بالنمسا في عام 1902م، وتلقى علومه في جامعة فينا، واشتغل بالتدريس في إنجلترا، وفي كلية كانتربري الجامعية، بكريستشرتش في زيلندة الجديدة، وبجامعة لندن حيث هو الآن أستاذ للمنطق والطريقة العلمية. وقد حلل في أحد بحوثه الباكرة في الطريقة العلمية الذي نشره تحت عنوان «منطق الكشف العلمي» طرق علم الطبيعة. وقال إن الاختبار الأساسي لمعرفة ما إذا كانت النظرية - أو الحكم - تجريبية عملية هو بتحديد الظروف الطبيعية التي يمكن أن تبطل فيها النظرية أو الحكم.
وبظهور الحكم الجماعي، تنبه بوبر إلى البحث في طرق العلوم الاجتماعية، واهتم بصفة خاصة ببيان الأسباب التي أدت إلى تأخر العلوم الاجتماعية، وأدى به هذا الاهتمام إلى سلسلة من البحوث التي انتهى بها إلى استحالة التنبؤ بالمستقبل، وقد نشر هذه البحوث تحت عنوان «فقر الطريقة التاريخية». والنقطة الأساسية في دعواه هي أننا لا نستطيع أن نتنبأ بالمستقبل؛ لأن التاريخ البشري يتأثر تأثرا شديدا بنمو المعرفة، ولأنه من المستحيل منطقيا أن نتنبأ بنمو المعرفة ذاته، «ومعنى ذلك أنه ينبغي لنا أن ننبذ إمكان وجود «تاريخ نظري»؛ أي وجود علم اجتماعي تاريخي يقابل «علم الطبيعة النظري».»
وقد قرر بوبر - حيثما كانت الحجة منطقية بحتا قبل ذلك - أنه من الضروري أن نرى كيف نشأت المغالطة التاريخية، وانتهى إلى عرض نقدي لأعظم قادة الجنس البشري في مجال الفكر، وبخاصة أفلاطون وماركس، لكي يبين موضع فشلهم. وبعدما قام بذلك نشر بوبر دراسته «المجتمع الحر» الذي يتضمن نبذه للشخصيات التاريخية، والذي يحاول أن يرسم الخطوط العريضة لمبادئ إعادة البناء الاشتراكي الديمقراطي الذي أسماه «الهندسة الاجتماعية المفصلة»، تمييزا لها عن «الهندسة الاجتماعية المثالية».
وفي العبارة التي اختارها بوبر في كلمة الإهداء بأحد كتبه يتبين أن المنطق عنده لا يتنافى مع العقائد العاطفية. يقول في هذه العبارة: «أهدي هذا الكتاب إلى العدد العديد الذي لا يحصى من الرجال والنساء من جميع المذاهب والقوميات والأجناس الذين ماتوا ضحايا للعقيدة الفاشية أو الشيوعية التي تؤمن بالقواعد الصارمة التي تحدد مصير الإنسان.» (1) العقل الناقد
كارل بوبر (1-1) الثورة ضد العقل
كان ماركس من العقليين، فكان يعتقد مع سقراط وكانت في العقل البشري باعتباره أساسا لوحدة البشر. غير أن إيمانه بأن المصلحة الطبقية تتحكم في آرائنا عجل بانهيار هذه العقيدة. وكما أن مذهب هيجل بأن المصالح والتقاليد القومية تتحكم في أفكارنا قد عمل على هدم المذهب، فقد عمل مذهب ماركس على هدم عقيدة العقليين في العقل؛ ومن ثم فإن النظرة العقلية إلى المشكلات الاجتماعية والاقتصادية - بالهجوم عليها من اليمين ومن اليسار - لم تكد تقوى على المقاومة حينما هوجمت في جبهتها من مذهب التنبؤ التاريخي ومذهب اللاعقل المبهم. ومن أجل هذا كان الصراع بين العقل واللاعقل أهم قضية فكرية - بل وربما كان أهم قضية خلقية - في عصرنا الحاضر.
ونستطيع أن نقول إن التعقل هو الموقف الذي يقفه المرء مستعدا للإصغاء للحجج النقدية وللتعلم من التجربة، وهو موقف يقر أساسا ب «أني قد أكون مخطئا، وقد تكون أنت مصيبا، ولو بذلنا الجهد فربما اقتربنا من الحقيقة ». وهو موقف لا يتخلى في يسر عن الأمل في أن الناس بوسيلة كوسيلة المحاجة والملاحظة الدقيقة قد يبلغون درجة من الاتفاق على أكثر المشكلات الهامة. وموجز القول أن الموقف العقلي، أو الموقف الذي ربما أطلقت عليه اسم «المعقولية»، شبيه جدا بالموقف العلمي، وبالعقدة بأنا في البحث وراء الحقيقة نحتاج إلى التعاون، وبأنا بمعونة الجدل قد نحقق شيئا يشبه الموضوعية.
وموقف العقلي الذي ينظر إلى الحجة أكثر مما ينظر إلى صاحبها له أهمية بعيدة المدى؛ فهو يؤدي إلى الإيمان بأنه من الواجب علينا أن نعترف بأن كل من نتبادل معه الرأي هو في صميمه مصدر من مصادر الحجة والمعرفة المعقولة. وهو لذلك يضع الأساس لما يمكن أن نصفه ب «الوحدة العقلية للجنس البشري».
أما النظرية اللاعقلية فيمكن تفصيلها على الأسس الآتية: ربما كان اللاعقلي يعترف بالعقل وبالجدل العلمي أدوات تصلح لأن نخدش بها وجه الأمور، أو وسائل تخدم غاية غير معقولة، إلا أنه يصر على أن «الطبيعة البشرية» ليست في أساسها معقولة. وهو يعتقد أن الإنسان أكثر من حيوان عاقل، وهو كذلك أقل من حيوان عاقل. ولكي نرى أنه أقل من حيوان عاقل يكفي أن ننظر إلى قلة عدد الأفراد القادرين على الجدل. وهذا هو السبب - طبقا لما يراه اللاعقليون - في أن أكثرية الناس يجب أن تعالج دائما بمناشدة عواطفهم وميولهم ، أكثر مما تعالج بمناشدة عقولهم. بيد أن الإنسان هو كذلك أكثر من حيوان عاقل، ما دام كل ما يهم فعلا في حياته يتجاوز العقل، فحتى القلة من العلماء الذين يأخذون العقل والعلم مأخذ الجد إنما يتعلقون بنظرتهم العقلية لأنهم يحبونها؛ ومن ثم ترى أن تكوين الإنسان العاطفي دون عقله - حتى في هذه الحالات النادرة - هو الذي يحدد نظرته. كما أن العالم العظيم - فوق ذلك - إنما يتميز ببداهته وبما لديه من بصيرة صوفية في طبائع الأشياء أكثر مما يتميز بما لديه من قدرة على التعليل والاستدلال. ومن ثم فإن المذهب العقلي لا يستطيع أن يقدم تفسيرا كافيا حتى لنشاط العالم الذي يبدو نشاطا عقليا، ولكن ما دام الميدان العلمي هو أصلح مجال للتفسير العقلي، فلا مناص من أن نتوقع للمذهب العقلي أن يكون أشد فشلا حينما يحاول أن يعالج ميادين النشاط الإنساني الأخرى. ويتابع اللاعقليون حجتهم فيقولون: إن هذا التوقع جد صحيح؛ ولو تركنا جانبا الأوجه الدنيا من الطبيعة البشرية، فقد نرنو إلى أحد الأوجه العليا، إلى أن الإنسان قد يكون خلاقا، وإنما هي تلك القلة الخلاقة من الناس التي تهم في الواقع. إن أولئك الذين يبدعون الآيات الفنية أو الفكرية أو أولئك الذين أسسوا الديانات والدول، هؤلاء الأفراد القلائل الأفذاذ يتيحون لنا أن نرمق عظمة الإنسان الحقيقية. وبالرغم من أن قادة الجنس البشري هؤلاء يعرفون كيف يستخدمون العقل في أغراضهم، فإنهم لم يكونوا قط من رجال العقل، وإنما تمتد جذورهم إلى أعمق من ذلك؛ فالخلق قدرة غامضة لا تنطبق البتة على العقل.
إن التردد بين العقل واللاعقل قديم جدا. وبالرغم من أن الفلسفة الإغريقية بدأت عملا عقليا، فقد كانت هناك بعض علامات التصوف حتى في بدايتها. ففي الطريقة الإغريقية العقلية في أساسها نلمس ذلك التطلع إلى الوحدة المفقودة والشعور القبلي الذي يعبر عن نفسه في هذه العناصر الصوفية. ونشب الصراع المكشوف لأول مرة في العصور الوسطى بين العقل واللاعقل في صورة التعارض بين مذهب المدرسيين ومذهب الصوفيين (وربما كان مما يثير الاهتمام أن المذهب العقلي ازدهر في الأقاليم الرومانية السابقة، في حين أن الرجال القادمين من البلدان «البربرية» كانوا من المبرزين بين المتصوفين). وفي القرن التاسع عشر حينما كان تيار «المادية» العقلية في الصعود، اضطر اللاعقليون إلى الالتفات إليها، وإلى أن يجادلوها. غير أن التيار قد ارتد، وأمست «الإشارات والرموز ذات الدلالة العميقة» - كما يقول كانت - هي الاتجاه الجديد في هذا العصر. وأنشأ المذهب اللاعقلي المبهم الاتجاه نحو إهمال فكرة وجود كائن منحط عقلي، أو على الأقل الرثاء لهذا الكائن إن وجد (وأخص من أرباب هذا المذهب برجسن وأكثرية الفلاسفة وأصحاب الفكر من الألمان). فهؤلاء يرون أن العقلي - أو «المادي » كما يقولون في أغلب الأحيان - والعالم العقلي خاصة، هو رجل فقير في روحه، يتابع ألوانا من النشاط لا روح فيها، آلية إلى حد كبير، لا يعي البتة مشكلات الحياة والفلسفة التي هي أشد عمقا. ويرد العقليون عادة بنبذ اللاعقل باعتباره عبثا خلوا من كل معنى. ولم يحدث قط أن كان الخلاف على أتمه كما هو الآن. ⋆ (1-2) الإيمان بالعقل
إنني - في هذا الصدد - أنضم إلى جانب العقل بكل جوارحي، حتى إنني حينما أحس أن التعقل قد جاوز حدوده أظل مؤيدا له، مؤمنا بأن المبالغة في هذا الاتجاه لا تؤذي حقا إذا هي قورنت بالمبالغة في الاتجاه الآخر. وفي رأيي أن الطريقة الوحيدة التي يحتمل أن تبرهن بها المبالغة في التعقل أنها ضارة مؤذية هي أنها تميل إلى أن تضعف موقفها بنفسها؛ ومن ثم تسارع برد الفعل من جانب اللاعقليين. وهذا الخطر وحده هو الذي يدفعني إلى بحث مزاعم العقليين المغالين بصورة أدق، فأدعو إلى تعقل متواضع ناقد لنفسه يعترف ببعض الحدود التي يقف عندها؛ ومن ثم فسوف أميز فيما يلي بين موقفين عقليين، أسمي أحدهما «التعقل الناقد»، وأسمي الآخر «التعقل غير الناقد» أو «التعقل الشامل».
ويمكن وصف التعقل غير الناقد أو الشامل بأنه ذلك الموقف الذي يقفه الشخص الذي يقول: «إنني على غير استعداد لأن أقبل أي أمر لا يمكن الدفاع عنه بالحجة أو بالتجربة.» ويمكن أن نعبر عن ذلك أيضا في صورة قاعدة تقول بأن كل فرض لا يمكن أن يؤيد بالحجة أو بالتجربة يجب نبذه والتخلي عنه. ومن اليسير أن نتبين أن هذه القاعدة - قاعدة التعقل غير الناقد - متناقضة لا اتساق فيها؛ لأنها ما دامت بدورها لا تستطيع أن تجد التأييد عن طريق الحجة أو الخبرة، فإنها تتضمن في معناها وجوب نبذها ... فالتعقل غير الناقد هو لذلك غير متماسك من الناحية المنطقية، وما دامت الحجة المنطقية المطلقة يمكن أن تبرهن على ذلك، فالتعقل غير الناقد يمكن أن ينهزم بسلاحه الذي اختاره، وهو الحجة.
تتميز النظرة العقلية بالأهمية التي تعزوها إلى الحجة والتجربة. غير أن المنطقية والتجربة كلتيهما لا تستطيعان أن تقيما القاعدة العقلية؛ لأنه لا يتأثر بهما إلا أولئك الذين هم على استعداد للنظر في الحجة والتجربة، والذين أخذوا - لذلك - بهما من قبل. ومعنى ذلك أن النظرة العقلية يجب أن يؤخذ بها أولا إذا كنا نريد لأية حجة أو تجربة أن تكون ذات أثر؛ ومن ثم فإن النظرة العقلية لا يمكن أن تقوم على أساس الحجة والتجربة (وينفصل هذا الاعتبار كل الانفصال عن هذه المشكلة: هل توجد، أو لا توجد، حجج عقلية مقنعة تؤيد الأخذ بالنظرة العقلية؟) ونستنتج من ذلك أن النظرة العقلية لا يمكن أن تقوم على أساس الحجة أو التجربة، وأن التعقل الشامل أمر لا يمكن الدفاع عنه.
غير أن ذلك يعني أن كل من يأخذ بالنظرة العقلية إنما يفعل ذلك بعدما يتخذ قرارا، أو عقيدة، أو عادة، أو مسلكا، بغير تعليل؛ ومن ثم فإنه لا سند له من العقل. وأيا كان الأمر، فإنا نستطيع أن نصف هذا الموقف بأنه «إيمان بالعقل» لا يستند إلى العقل.
وليس الاختيار الذي نحن بصدده مجرد أمر يتعلق بالفكر أو يتعلق بالذوق، إنما هو قرار أخلاقي؛ لأن اختيارنا بين أن نأخذ بصورة من صور اللاعقل على أية درجة من درجات القوة، وبين أن نأخذ بنظرية التنازل للاعقل بأدنى حد ممكن، وهو ما أسميته «التعقل الناقد» - هذا الاختيار يؤثر أعمق الأثر في موقفنا بأسره إزاء الآخرين وإزاء مشكلات الحياة الاجتماعية. وقد بينا من قبل أن التعقل وثيق الصلة بالاعتقاد في وحدة الجنس البشري. أما اللاعقل الذي لا يخضع لأية قاعدة من قواعد الثبات فقد يتفق مع أي لون من ألوان العقيدة، حتى مع العقيدة في إخاء الإنسان. غير أن إمكان اتفاقه في يسر مع عقيدة مختلفة جد الاختلاف، وبخاصة مع العقيدة الخيالية في وجود هيئة مختارة عندما يقسم الناس إلى قادة ومقودين، إلى سادة بالطبيعة وعبيد بالطبيعة، هذا الإمكان يبين في جلاء أننا عندما نختار بين العقل واللاعقل نصدر ضمنا قرارا أخلاقيا .
إن الحجج لا يمكن أن «تحتم» قرارا أخلاقيا أساسيا، ولا يعني هذا أن اختيارنا لا يمكن أن «يستعين» بأي نوع من أنواع المحاجة، بل على العكس من ذلك، إننا كلما نواجه قرارا أخلاقيا من نوع أكثر تجريدا، يعيننا كثيرا تحليل النتائج التي يحتمل أن تترتب عليها الأمور المتناقضة التي يتحتم علينا أن نختار من بينها؛ لأننا لا نعرف حقا فيم القرار إلا إذا استطعنا أن نشهد بأعيننا هذه النتائج بطريقة حسية عملية، وإلا أصدرنا قرارا أعمى. ⋆
ويبدو لي أن الصراع الذي نشب في القرن التاسع عشر بين العلم والدين قد انتهى أمره؛ فما دام التعقل «غير الناقد» أمرا غير ثابت، فلا يمكن أن تكون المشكلة هي أن تختار بين المعرفة والإيمان، وإنما هي بين لونين من الإيمان. والمشكلة الجديدة هي هذه: ما هو الإيمان الصحيح؟ وما هو الإيمان الباطل؟ وإن ما أردت أن أبينه هو أن الاختيار الذي يواجهنا هو بين الإيمان بالعقل وبأفراد البشر، وبين الإيمان بالمزايا الغامضة عند الإنسان التي توحد بينه وبين المجموع. وهذا الاختيار هو في الوقت عينه اختيار بين نظرة تعترف بوحدة الجنس البشري ونظرة تقسم الناس إلى أصدقاء وأعداء، إلى سادة وعبيد. ⋆ (1-3) نتائج اللاعقل
ولنبحث الآن فيما يترتب على اللاعقل ... إن الرجل الذي يؤمن باللاعقل يصر على أن العواطف والأهواء دون العقل هي المصادر الأساسية للنشاط البشري. فإن رد على ذلك من يؤمن بالعقل بأن من واجبنا - حتى إن صح ذلك - أن نبذل ما في وسعنا لكي نعالج هذه الظاهرة، كما أن من واجبنا أن نجعل العقل يلعب أكبر دور ممكن، أجاب الأول (إن هو تنازل إلى مثل هذا النقاش): إن هذه النظرة غير واقعية إطلاقا؛ لأنها لا تأخذ في اعتبارها ضعف «الطبيعة البشرية» وضعف المواهب العقلية عند أكثر الناس، واعتمادهم الظاهر على العواطف والأهواء.
ويقيني الذي لا يتزعزع أن هذا الاهتمام الزائد - من جانب أولئك الذين لا يؤمنون بالعقل - بالعواطف والأهواء يؤدي في النهاية إلى ما لا أستطيع أن أصفه إلا بالجريمة. وأحد أسباب هذا الرأي هو أن هذه النظرة - التي هي على أحسن الفروض، نظرة استسلام للطبيعة غير العاقلة عند الكائنات البشرية، وعلى أسوأ الفروض نظرة ازدراء إلى العقل البشري - أقول إن أحد أسباب هذا الرأي هو أن هذه النظرة لا بد أن تؤدي إلى مناشدة العنف والقوة الوحشية لتكون الحكم النهائي في أي خلاف؛ لأنه إذا ما نشب خلاف ما، فإن معنى ذلك أن تلك العواطف والأهواء البناءة التي يمكن بمبادئها أن تتغلب على الخلاف، كتبادل الاحترام، والمحبة، والإيمان بقضية مشتركة، إلى غير ذلك، قد أثبتت عجزها عن حل المشكلة. فإن كان الأمر كذلك، فماذا يبقى لغير العقليين سوى مناشدة العواطف والأهواء الأقل بناء، مناشدة الخوف، والبغض، والحسد، والعنف في نهاية الأمر؟ ويعزز هذا الميل كثيرا نظرة أخرى ربما كانت أكثر أهمية، وهي أيضا عندي كامنة في اللاعقل، وأقصد بها تأكيد ما بين الناس من عدم المساواة.
ولا يمكن بطبيعة الحال أن ننكر أن أفراد البشر - ككل شيء آخر في هذه الدنيا - غير متساوين بتاتا من أوجه كثيرة جدا، ولا يمكن أيضا أن نشك في أن عدم المساواة هذا ذو أهمية قصوى، بل هو مطلوب في كثير من الأمور (ومن أحلام هذا العصر الخوف من أن يكون من آثار تقدم الإنتاج الضخم والحكم الجماعي على الإنسان زوال ما بين الناس من فوارق، أو القضاء على فرديتهم). غير أن هذا كله لا يتعلق بمشكلة التساؤل إن كان من واجبنا أن نقرر معاملة الناس - وبخاصة في القضايا السياسية - باعتبارهم متساوين، أو أقرب ما يكونون إلى المساواة، أقصد أن لهم حقوقا متساوية، ومطالب متساوية في المساواة في المعاملة، كما أنه لا علاقة له بموضوع ما إذا كان من واجبنا أن ننشئ نظما سياسية وفقا لذلك. ليست «المساواة أمام القانون» حقيقة، ولكنها مطلب سياسي يقوم على أساس قرار أخلاقي. وهي مستقلة تمام الاستقلال عن النظرية التي تقول ب «أن الناس جميعا يولدون متساوين»، وهي نظرية تحتمل الخطأ. ولست أقصد أن أقول إن اتخاذ هذا الموقف الإنساني - موقف الحياد - هو نتيجة مباشرة لقرار في صالح التعقل. غير أن الميل نحو الحياد وثيق الارتباط بالتعقل، وليس بوسعنا أن ننحيه عن مذهب العقليين، ثم إني لا أقصد أيضا أن أقول إن اللاعقلي لا يستطيع - دون أن يناقض نفسه - أن يقف موقفا يتجه نحو المساواة أو الحياد. وحتى إذا لم يستطع ذلك على أساس من المنطق، فهو ليس مرغما على التزام المنطق. غير أني أود أن أصر على أن اللاعقليين لا يستطيعون أن يتجنبوا الوقوف بجانب الرأي الذي يعارض المساواة. وترتبط هذه الحقيقة باهتمامهم بالعواطف والأهواء؛ لأنا لا نستطيع أن نشعر بنفس الشعور نحو كل إنسان. فنحن جميعا - من الناحية العاطفية - نقسم الناس إلى فئة قريبة منا وفئة أخرى بعيدة عنا. وتقسيم الجنس البشري إلى عدو وصديق هو التقسيم العاطفي الواضح، وهذا التقسيم معترف به في الوصية المسيحية التي تنص على «أن يحب المرء أعداءه»! ولكن حتى أفضل المسيحيين الذي يعيش فعلا طبقا لهذه الوصية (وهؤلاء قلة، كما يتبين من موقف الرجل المسيحي الطيب العادي إزاء «الماديين» و«الملحدين»)، أقول حتى أفضل المسيحيين لا يستطيع أن يحس محبة متساوية نحو جميع البشر. إننا لا نستطيع في الواقع أن نحب «حبا مجردا»، إنما نستطيع أن نحب أولئك الذين نعرفهم فقط. وإذن فحتى مناشدة أفضل عواطفنا، الحب والرأفة، لا يمكن إلا أن تقسم البشر فصائل مختلفة، ويكون ذلك أكثر صدقا إذا نحن ناشدنا العواطف والأهواء التي هي في مرتبة أدنى. إن رد الفعل «الطبيعي» عندنا هو أن نقسم الناس إلى عدو وصديق، إلى أولئك الذين ينتمون إلى قبيلتنا وإلى مجتمعنا العاطفي، وأولئك الذين يقفون خارج القبيلة، إلى مؤمنين وغير مؤمنين، إلى مواطنين وأجانب، إلى زملاء في الطبقة الاجتماعية وأعداء لها، ثم إلى قائد ومقود. ⋆ (1-4) ليس للتاريخ معنى
هل للتاريخ معنى؟
لست أحب أن أتعرض هنا لمشكلة معنى «المعنى»، وأسلم بأن أكثر الناس يعرفون بوضوح كاف ما يقصدون حينما يتحدثون عن «معنى التاريخ» أو «معنى الحياة». وبهذا المعنى، بالمعنى الذي نسأل به عن معنى التاريخ، أجيب بأنه «ليس للتاريخ معنى».
ولكي أبرهن على هذا الرأي، لا بد لي من أن أقول أولا شيئا ما عن «التاريخ» الذي يضمره الناس في عقولهم حينما يتساءلون عما إذا كان له معنى.
ولقد تحدثت حتى الآن أنا نفسي عن «التاريخ» كأنه لا يحتاج إلى تفسير. ولم يعد هذا ممكنا؛ لأني أود أن أوضح أن التاريخ بالمعنى الذي يتحدث به أكثر الناس لا وجود البتة له، وهذا على الأقل أحد الأسباب التي تدعوني إلى أن أقول بأن التاريخ لا معنى له.
كيف وصل أكثر الناس إلى استعمال هذا المصطلح «التاريخ»! إنهم يتعلمونه في المدارس وفي الجامعات، ويقرءون عنه في الكتب، وهم يرون ما تعالجه الكتب التي تحمل اسم «تاريخ العالم» أو «تاريخ الجنس البشري»، فيعتادون أن ينظروا إليه كأنه سلسلة من الوقائع الثابتة إلى حد ما، وهم يعتقدون أن هذه الوقائع هي التي يتألف منها تاريخ الجنس البشري.
غير أن ميدان الحقائق غني «غنى» لا حد له، ولا مناص لنا من الاختيار، فنحن نستطيع - مثلا، طبقا لاهتماماتنا - أن نكتب تاريخا للفن، أو تاريخا للغة، أو تاريخا لعادات الأكل، أو حمى التيفوس (انظر كتاب زنسر «التيفوس والتاريخ»).
1
وليس من شك في أن تاريخ الجنس البشري ليس أحد هذه التواريخ (بل وليس كل هذه التواريخ مجتمعة). أما ما يقصده الناس حينما يتحدثون عن تاريخ الجنس البشري، فهو تاريخ المصريين والبابليين والفرس والمقدونيين والإمبراطورية الرومانية، وما إلى ذلك، حتى يومنا هذا. وبعبارة أخرى: إنهم يتحدثون عن «تاريخ الجنس البشري»، ولكن ما يقصدونه وما تعلموه في المدارس هو تاريخ «النفوذ السياسي».
ليس هناك تاريخ للجنس البشري، إنما هناك تواريخ لأوجه الحياة البشرية بشتى ضروبها. وأحد هذه الأوجه هو تاريخ النفوذ السياسي، ويرتفع ذلك إلى تاريخ العالم. ولكنني أقرر أن في ذلك إساءة إلى أية صورة كريمة عن الجنس البشري. وهي لا تكاد تفضل معالجة تاريخ التزوير أو النهب أو دس السم باعتباره تاريخ الجنس البشري؛ لأن تاريخ النفوذ السياسي ليس إلا تاريخ الإجرام الدولي والقتل الجماعي (ومن الحق أن نذكر أنه يتضمن أيضا بعض المحاولات لقمع هذه الاتجاهات). وهذا هو التاريخ الذي نعلمه في المدارس، وكثير من أكبر المجرمين يقدمون إلى التلاميذ كأنهم من الأبطال.
ولكن هل حقا ليس هناك تاريخ عالمي بمعنى التاريخ المحسوس للجنس البشري؟ يمكن ألا يكون هناك مثل هذا التاريخ. ولا بد أن يكون ذلك هو جواب كل إنساني - فيما أعتقد - وبخاصة من كان مسيحيا. إن التاريخ الملموس للجنس البشري - إن وجد - يجب أن يكون تاريخ الناس جميعا، يجب أن يكون تاريخ كل الآمال البشرية، ومعارك الكفاح، والآلام؛ إذ ليس هناك رجل أكثر أهمية من غيره. ومن الواضح أن هذا التاريخ الملموس لا يمكن تدوينه. ويجب أن نضع الأحكام المجردة، وأن نهمل، وأن نختار، ولكنا بهذا نبلغ التواريخ المتعددة، ومن بين هذه التواريخ تاريخ الإجرام الدولي والقتل الجماعي الذي نشر باعتباره تاريخ الجنس البشري.
ونحن نسأل: لماذا اختير تاريخ النفوذ، ولم يقع الاختيار مثلا على تاريخ الشعر؟! هناك أسباب عدة، من بين هذه الأسباب أن النفوذ يؤثر فينا جميعا، أما الشعر فلا يؤثر إلا في عدد محدود. وسبب آخر هو أن الناس يميلون إلى عبادة القوة. ولكن مما لا شك فيه أن عبادة القوة هي من أسوأ أنواع العبادات البشرية، وهي من بقايا عهد الأسر، وعهد العبودية البشرية. إن عبادة القوة تتولد عن الخوف، وهو إحساس يستحق الازدراء حقا. وسبب ثالث: لماذا جعلنا سياسة القوة هي لب «التاريخ»؟! هو أن أصحاب النفوذ أرادوا أن يعبدوا، وأمكن لهم أن يفرضوا ما أرادوا. وكم من مؤرخ دون التاريخ تحت رقابة قادة الجيوش والحكام المستبدين!
وأنا أعلم أن هذه الآراء سوف تقابل بأشد معارضة، وبخاصة من بعض من يدافعون عن المسيحية؛ لأن الاعتقاد بأن الله يكشف عن نفسه في التاريخ كثيرا ما يعد من العقائد المسيحية، وذلك بالرغم من أن العهد الجديد يكاد يخلو مما يؤيد هذا الرأي، كذلك يعد من العقائد المسيحية أن للتاريخ معنى، وأن معناه هو هدف الإله؛ ومن ثم فإن الاعتقاد في التاريخ يعد عنصرا ضروريا من عناصر الدين. غير أني لا أقر بهذا، وأحتج بأن هذا الرأي ليس إلا عبادة وثنية وخرافة، ليس من وجهة نظر العقليين والإنسانيين فحسب، ولكن من وجهة النظر المسيحية ذاتها.
ولست أنكر أن تفسير التاريخ من وجهة النظر المسيحية له ما يسوغه، كما أن تفسيره من أية زاوية أخرى له أيضا ما يسوغه. ومما لا شك فيه أنه من الواجب - مثلا - أن نؤكد أنا ندين لتأثير المسيحية بقدر كبير من أهدافنا وغايتنا في الغرب، ومن المذهب الإنساني، والحرية، والمساواة. بيد أن النظرة العقلية الوحيدة، والنظرة المسيحية الوحيدة، في الوقت عينه، حتى إلى تاريخ الحرية هي أنا مسئولون عنها بأنفسنا مسئوليتنا عما نصنع بحياتنا، وأنه لا يحكم علينا إلا ضمائرنا، لا نجاحنا في هذه الدنيا. أما النظرية التي تقول بأن الله يظهر نفسه كما يظهر أحكامه في التاريخ، فلا يمكن أن تتميز عن النظرية التي تقول بأن النجاح الدنيوي هو الحكم النهائي والمسوغ الغائي لأعمالنا. ولا يختلف ذلك عن إيماننا بالمذهب الذي يقول بأن التاريخ سوف يحكم؛ أي إن المستقبل قد يكون على صواب، ولا يختلف عما أسميته «حكم المستقبل الأخلاقي». إن اعتقادنا بأن الله يكشف عن نفسه فيما نسميه عادة ب «التاريخ»، في تاريخ الإجرام الدولي والقتل الجماعي، هو في الواقع كفر بالله؛ لأن ما يحدث فعلا داخل حياة الأفراد قلما يتأثر بهذا القول الصبياني القاسي. إن المضمون الحقيقي للتجربة البشرية خلال العصور هو حياة الفرد المنسي المجهول، أحزانه وأفراحه، وآلامه وموته، فإن أمكن للتاريخ أن يروي ذلك، فإني قطعا لن أقول إنه من الكفر بالله أن نرى تأثير الله فيه، ولكن مثل هذا التاريخ لا يوجد ولا يمكن أن يوجد. ⋆ (1-5) نستطيع أن نكسب التاريخ معنى
لقد اعترضت بقولي بأن التاريخ يخلو من المعنى. غير أن هذا الاعتراض لا يعني أن كل ما نستطيع القيام به في هذا الشأن هو أن ننظر مذهولين إلى تاريخ النفوذ السياسي، أو أن ننظر إليه كأنه فكاهة قاسية؛ لأنا نستطيع أن نفسره، بالنظر إلى مشكلات النفوذ السياسي التي نحاول حلها في هذا العصر، نستطيع أن نفسر تاريخ النفوذ السياسي من وجهة نظر كفاحنا في سبيل المجتمع الحر، وفي سبيل حكم العقل، والعدالة، والحرية، والمساواة، وفي سبيل الحد من الإجرام الدولي. وبالرغم من أن التاريخ ليس له غايات، فإنا نستطيع أن نفرض عليه غاياتنا هذه، و«بالرغم من أن التاريخ لا معنى له، فإنا نستطيع أن نكسبه معنى».
إن الطبيعة والتاريخ كليهما لا يستطيعان أن يهديانا إلى ما ينبغي لنا أن نفعله؛ فالوقائع - سواء كانت طبيعية أم تاريخية - لا تستطيع أن تصدر لنا قرارا، ولا تستطيع أن تحتم الغايات التي نختارها، فنحن الذين نحدد للطبيعة والتاريخ الغرض والمعنى. ليس الناس متساوين، ولكنا نستطيع أن نقر الكفاح من أجل المساواة. والمؤسسات البشرية كالدولة لا تقوم على أساس من العقل، ولكنا نستطيع أن نقرر الكفاح في سبيل إقامتها على أساس من العقل. ونحن أنفسنا، ولغتنا العادية، عاطفيون أكثر منا عقليين على وجه الإجمال، ولكنا نستطيع أن نكون أكثر عقلا، ونستطيع أن ندرب أنفسنا على استعمال لغتنا كأداة لا نعبر بها عن أنفسنا (كما يريد لنا المربون الخياليون)، ولكن كأداة للاتصال المعقول، والتاريخ نفسه - أقصد تاريخ النفوذ السياسي بطبيعة الحال، ولا أقصد قصة تقدم الجنس البشري التي لا وجود لها - ليس له غاية ولا معنى، ولكنا نستطيع أن نكسبه هذا وذاك، نستطيع أن نجعله كفاحنا في سبيل المجتمع الحر ضد خصومه (الذين يحتجون دائما - عندما يتورطون - بعواطفهم الإنسانية، طبقا لما نصح به باريتو)، ونستطيع أن نفسر التاريخ وفقا لذلك، ونستطيع أن نقول مثل ذلك في نهاية الأمر عن «معنى الحياة»، ويتوقف علينا أن نقرر ماذا يكون غرضنا في الحياة، وأن نحدد غاياتنا.
وأعتقد أن ثنائية الوقائع والقرارات أساسية؛ فالوقائع كما تحدث لا معنى لها، ولا يمكن أن تكتسب المعنى إلا بما نصدر من قرارات. وليس الاعتقاد في النظرية التاريخية إلا إحدى المحاولات العديدة للتغلب على هذه الثنائية؛ لأن هذه النظرية إنما تتولد عن الخوف، وتخشى أن تؤمن بأن الإنسان يتحمل المسئولية النهائية حتى عن المعايير التي يختارها. بيد أن مثل هذه المحاولة تبدو لي كأنها تمثل أدق تمثيل ما نسميه عادة بالخرافة؛ لأنها تفترض أنا نستطيع أن نحصد دون أن نزرع. إنها تحاول أن تقنعنا أننا إذا تمشينا مع التاريخ واكتفينا بذلك فلا بد أن يسير كل شيء سيرا صحيحا، وأنه ليس هناك ما يدعو إلى إصدار قرار أساسي من جانبنا، إنها تحاول أن تنقل مسئوليتنا إلى التاريخ، وعن طريق ذلك تنقلها إلى القوى الشيطانية التي لا سلطان لنا عليها، إنها تحاول أن تقيم أعمالنا على أساس النوايا الخفية لهذه القوى، التي لا تتكشف لنا إلا في ومضات صوفية غامضة وعن طريق الحدس واللقانة؛ وهي لذلك تضع هذه الأعمال وهذه القرارات على المستوى الخلقي لرجل يستوحي النجوم والأحلام فيختار رقم ورقة اليانصيب الفائزة. إن النظرية التاريخية - كالمقامرة - تتولد عن يأسنا من التعقل والمسئولية في أعمالنا. إنها أمل زائف وإيمان زائف، ومحاولة للاستعاضة عن الأمل والإيمان اللذين يصدران عما لدينا من حماسة خلقية، وعن ازدراء النجاح بإيمان يصدر عن علم زائف، علم زائف عن النجوم، أو عن «الطبيعة البشرية»، أو المصير التاريخي.
وأعود فأكرر إن النظرية التاريخية ليست فقط مما لا يمكن الدفاع عنه بالعقل، إنما هي كذلك في صراع مع أي دين يبشر بأهمية الضمير؛ لأن مثل هذا الدين لا بد أن يتفق مع نظرة العقل إلى التاريخ حين يؤكد مسئوليتنا الكبرى عن أعمالنا، وعن صداها في مجرى التاريخ. حقا إننا في حاجة إلى الأمل. والعمل والعيش بغير أمل يتجاوزان ما لدينا من قدرة. ولكنا لسنا في حاجة إلى «أكثر» من ذلك، وينبغي ألا نعطي أكثر من ذلك. إننا لسنا في حاجة إلى اليقين، وينبغي ألا يكون الدين خاصة عوضا عن الأحلام وعن التمنيات، ولا ينبغي له أن يكون شبيها بحيازة ورقة اليانصيب، أو حيازة بوليصة التأمين في شركة من شركاته. إن عنصر النظرية التاريخية في الدين هو عنصر من عناصر الوثنية والخرافة.
وهذا الاهتمام الزائد بثنائية الوقائع والقرارات يحدد أيضا موقفنا إزاء فكرة «التقدم» وما إليها. إذا اعتقدنا أن التاريخ يتقدم، أو أن تقدمنا أمر محتوم، فنحن إذن نرتكب نفس الخطأ الذي يرتكبه أولئك الذين يعتقدون أن للتاريخ معنى يمكن الكشف عنه فيه، وليست بنا حاجة إلى أن نكسبه إياه؛ لأن التقدم معناه السير نحو غاية من الغايات، نحو غاية موجودة بالنسبة إلينا ككائنات بشرية. و«التاريخ» لا يستطيع أن يفعل ذلك، إنما هو نحن - أفراد البشر - الذين نستطيع أن نفعله، نستطيع أن نفعله بدفاعنا عن تلك المؤسسات الديمقراطية التي تتوقف عليها الحرية، ومعها التقدم وتعزيزنا لها، ونستطيع أن نجيد هذا العمل إذا ازداد وعينا بأن التقدم يتوقف علينا، وعلى يقظتنا، وعلى جهودنا، وعلى وضوح تصورنا لغاياتنا، وعلى اختيارها على أساس من الواقع.
وبدلا من أن نقف موقف المتنبئين يجب علينا أن نصنع مصيرنا بأنفسنا، يجب علينا أن نتعلم صنع الأشياء كأحسن ما نستطيع، وأن نتنبه إلى أخطائنا. وإذا ما نحن تخلينا عن الفكرة التي تقول بأن تاريخ النفوذ سوف يحكم علينا، وإذا ما نحن تخلينا عن القلق الذي يساورنا إن كان التاريخ سيسوغ أعمالنا أو يدينها، إذا نحن تخلينا عن ذلك، فربما نجحنا ذات يوم في إخضاع النفوذ لسلطاننا. بهذه الطريقة قد نسوغ التاريخ نفسه بدورنا ، وهو في أمس الحاجة إلى مثل هذا التسويغ.
المصادر ⋆
كل المقتطفات في هذا الفصل مقتبسة من كتاب «المجتمع الحر وخصومه»، تأليف ك. ر. بوبر.
الفصل الثاني عشر
برتراند رسل
(1872م-...)
لبرتراند رسل تأثير يكاد يكون ساحرا في عالم الفلسفة الإنجليزية الأمريكية امتد إلى نصف قرن من الزمان. ويرجع ذلك، إلى حد ما، إلى قدرته على أن يكتب كالملك الكريم، ولكنه الملك الذي يجرؤ - بالرغم من ذلك - على أن يستعير النكتة اللاذعة من المصادر الشيطانية، كما يرجع ذلك إلى حد أكبر إلى إضافته الضخمة إلى الفلسفة الرياضية في كتابه المشهور «مبادئ الرياضة» الذي يقع في ثلاثة مجلدات، وهو الكتاب الذي ألفه مع نوث ألفرد هوايتهد. وبظهور هذه المجلدات فيما بين عامي 1910 و1913م اكتسب رسل الشهرة التي جلبت له القراء لمؤلفاته التالية. وهذه المؤلفات التي واصل فيها اهتمامه بالرياضة والمنطق الرمزي، كانت تجول في ميادين نظرية المعرفة، والفلسفة الاجتماعية. ومن الحقائق العجيبة الصادقة عن هذا الفيلسوف الخفيف الروح الذكي اللامع أنه في الوقت الذي يدرس فيه زملاؤه في العلم وخريجو الجامعات كتبه دراسة دقيقة، نجد فيه الطبعات الرخيصة من كتبه التي أعيد طبعها في موضوعات مثل الزواج والتربية والأخلاق مودعة إلى جوار شطائر الطعام في حقائب الغداء التي يحملها العمال؛ لكي يلتهموها مسرورين في الوقت الذي يلتهمون فيه هذه الشطائر. وفي منتصف الثلاثينيات من هذا القرن حينما تقرر أن يلقي رسل إحدى محاضراته العامة في نيويورك في «معبد مكة» توقفت حركة المرور حول الأبنية المجاورة لهذا المكان عندما أقبل جمهور ضخم من المستمعين ليستمتعوا بموكب من مواكب العلم اللامع البراق.
وفي عام 1950م أصبح لورد رسل الفيلسوف الثالث الذي ظفر بجائزة نوبل في الأدب «اعترافا بمؤلفاته الهامة المتعددة الجوانب، التي ظهر فيها دائما مدافعا عن الإنسانية وحرية الفكر». وتشير هذه العبارة إشارة دقيقة إلى عنصر أساسي في كتابات رسل الفلسفية غير الفنية، منذ العهد الباكر الذي نشر فيه مقاله المشهور «عبادة الرجل الحر» في إذاعته من محطة الإذاعة البريطانية في مناسبة عيد ميلاده الثمانين، وإلى كتبه في الموضوعات الأخلاقية والسياسية التي ما فتئت تتدفق من سن قلمه؛ لأن رسل قد يخطئ كثيرا في بعض ما يفترض من آراء، وقد يشتبك في جدل عاصف عنيد مدفوعا بحماسة التأثر السياسي، إلا أنه قد تمكن في جميع الحالات من تذكير الناس بتقاليد المدنية والعدالة التي يتميز بها الروح الحر في الحضارة الغربية من عهد بركليز حتى يومنا هذا.
وبأسلوبه الذي لا يحاكى كتب رسل عن حياته يقول: «ماتت أمي ولم أبلغ من العمر عامين، ومات أبي وأنا في الثالثة من عمري، فتربيت في بيت جدي، لورد جون رسل، الذي أصبح فيما بعد إيرل رسل، ولم أكد أسمع شيئا عن والدي، اللورد والليدي آمبرلي، وكل ما ترامى إلي كان من الضآلة بحيث أحسست إحساسا غامضا بوجود سر غامض، ولم أتعرف إلى الخطوط الرئيسية في حياة أبوي وآرائهما إلا عندما بلغت الحادية والعشرين من عمري. عندئذ تبين لي - في شيء من الحيرة - أني مررت بنفس المراحل العقلية والعاطفية تقريبا التي مر بها أبي.» وما يشير إليه رسل هنا خاصة هو أن أباه - طبقا للتقاليد العائلية - كان يرجى له أن يشتغل بالحياة السياسية، ولكن معتقداته المتحررة وميوله التي لا يرعى فيها المألوف كانت لا تتفق والنجاح السياسي، وكان أبواه صديقين وتلميذين لجون ستيوارت مل، وقد رفضت كلاهما أن يساير الحشمة التي كان يتطلبها الفضلاء في عهد فيكتوريا. ويستطرد رسل قائلا: «وأراد أبي لي ولأخي أن ننشأ على التفكير الحر، وعين اثنين من أحرار الفكر ليتوليا أمرنا، إلا أن محكمة تشانسري - نزولا على ما طلب أجدادنا - أهملت الوصية، وتهيأت لي نشأة مسيحية أستمتع بما فيها من فوائد.» وقد يكون في هذا التعليق الأخير سخرية بمعنى من المعاني؛ إذ إننا نجد رسل يصدر في شبابه نشرة تحت عنوان: «لماذا أنا لست مسيحيا؟» وبمعنى آخر، كان تقدير الحياة، والحب، والتسامح، والنزاهة الخلقية التي نعتقد أنها من ثمار هذه التربية، من القضايا التي خدمها رسل خلال حياته العملية كلها.
كان إنتاج رسل العقلي ضخما جدا، وجانب من ثبت مؤلفاته ومقالاته ينيف على أربعين صفحة مطبوعة. وهناك ما لا يقل عن خمسين كتابا من هذا الإنتاج العلمي الضخم تمثل أهم مؤلفات رسل، وكثير منا يعرف هذه الكتب معرفة الأصدقاء القدامى المألوفين: مشكلات الفلاسفة (1912م)، معرفتنا بالعالم الخارجي (1914م)، التصوف والمنطق ومقالات أخرى (1918م)، الطريق إلى الحرية (1918م)، مقدمة للفلسفة الرياضية (1919م)، تطبيق البلشفية ونظريتها (1920م)، تحليل العقل (1921م)، تحليل المادة (1927م)، مقالات في الشك (1928م)، الزواج والأخلاق (1929م)، النظرة العلمية (1931م)، التربية والنظام الاجتماعي (1932م)، الحرية والنظام، من 1814م إلى 1914م، (1934م)، السلطان: تحليل اجتماعي جديد (1938م)، بحث في الصدق والمعنى (1940م)، تاريخ الفلسفة الغربية (1945م)، آمال جديدة في عالم متطور (1951م)، والمجتمع البشري في الأخلاق والسياسة (1955م). وقد تشمل هذه القائمة غير ذلك من الكتب .
وإذا كان رسل في هذه الرحلة العقلية التي كان الذهن فيها قويا والبصر ثاقبا لا يتقلب في رأيه، بل ولا يتناقض، ولا يتنكر لما آمن به، ولا يؤمن بما تنكر له، إذا كان رسل لا يفعل ذلك لثارت في نفوسنا الدهشة والعجب. والمحاضرات العلمية التي تلقى في موقف رسل من الفلسفة تعاني دائما من بسط الموضوع في نفس الوقت الذي قد يكون رسل منكبا فيه على تأليف كتاب يهدم فيه موقفه السابق. ونسوق هنا مرة أخرى تعليقا لرسل يلائم هذه الصفة فيه، قال: «إنني لا أخجل البتة من تغيير آرائي. أي عالم طبيعي كان نشطا في عام 1900م يحلم بالفخر بأن آرائه لم تتغير في نصف القرن الماضي ... ولكن الفلسفة في عقول الكثيرين تتشابه مع الدين أكثر مما تتشابه مع العلم، وعالم الدين ينطق بالحق الأبدي، والمذاهب باقية كما هي منذ «مجلس نيقوه»؛ فحيثما لا يعرف المرء شيئا، فليس هناك ما يدعو إلى تغيير الرأي.»
كان رسل جادا في اهتمامه بالتاريخ والسياسة، وإن كان يتصف فيهما بالتقلب والتناقض نفسيهما اللذين نلمسهما في فلسفته للمعرفة. كان رسل من دعاة السلم في الحرب العالمية الأولى، ولبث في السجن من أجل ذلك ستة أشهر، وكان وسيطا قبل الحرب العالمي حينما شهد ظهور الحكم الدكتاتوري المستبد، ثم أمسى في السنوات القلائل الماضية قائدا من قواد الحملة العالمية التي تستهدف تحريم صناعة القنابل الهيدروجينية في أية دولة ما عدا الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، مع إرغام الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على تحريم الأسلحة النووية وتحطيمها تحت رقابة دولية. وقد قال رسل في أحد بياناته إنه لو أرغم على أن يختار بين شيوعية العالم وإبادة الجنس البشري في حرب نووية، اختار الأولى. وصاحب هذا البيان بنصيحة خطرة قال فيها إن الاتحاد السوفيتي إذا لم يوافق على رقابة نزع السلاح، فواجب الديمقراطية البريطانية والأمريكية أن تبدأ بالتخلي عن الأسلحة النووية من جانبها. ودار عقب ذلك جدل بين رسل وسدني هوك على صفحات «القائد الجديد» في عام 1958م، وهو جدل لا يزال من أقيم المناقشات في قيم الحرية المنشودة والبقاء المطلوب في الأدب المعاصر. (1) التعقل الفلسفي في عالم متغير
برتراند رسل (1-1) أسباب الحيرة في عصرنا الحاضر
إن الإحساس السائد في عصرنا الحاضر هو الشعور بالحيرة العاجزة؛ فنحن نرى أنفسنا سائرين نحو حرب يكاد لا يرغب فيها أحد من الناس، وهي حرب - كما نعلم - لا بد أن تنتهي بالكارثة على الأكثرية العظمى من الناس. ولكنا نحدق في الخطر دون أن نعلم ماذا نصنع لكي نتفاداه، كالأرانب التي تقف مذهولة أمام الحية، نتبادل الحديث عن القصص المفزعة للقنابل الذرية والقنابل الهيدروجينية، وعن إبادة المدن، والحشود الروسية، والمجاعة والوحشية في كل مكان. ولكن بالرغم من أن العقل يهدينا إلى وجوب الفزع من مثل هذا المصير، فإن هناك جانبا في نفوسنا يستمتع به، فلا نجد العزيمة الثابتة لتفادي الكارثة، كما أن هناك هوة سحيقة في نفوسنا تفصل بين الجانب العاقل والجانب غير العاقل. وقد يهجع الجانب غير العاقل في أوقات الهدوء خلال النهار ولا يتيقظ إلا في الليل. أما في أوقات مثل هذا الوقت فقد يغزو هذا الجانب ساعة اليقظة أيضا، ويفتر كل تفكير عاقل وينفصل عن الإرادة. وعندئذ ترتكز حياتنا على فرض حاد كالصراط المستقيم. إن اشتعلت الحرب كانت طريقة من طرق الحياة معقولة، وإن لم تشتعل كانت طريقة أخرى من طرق الحياة معقولة كذلك. وهذا الوجود الفرضي مقلق للضمير غير محتمل للغالبية العظمى من الناس، فنراهم في حياتهم العملية يتخذون أحد الغرضين، دون الإيمان التام به، فالشاب الذي يجد التربية المدرسية مملة يقول لنفسه: «فيم الاهتمام؟ فسوف أقتل في إحدى المعارك في وقت قريب.»
وبعض الآباء يتشكك في قيمة التضحية التي تتطلبها تربية الأبناء، ما دام الأرجح أن عبثها سوف يثبت. وأولئك الذين يملكون لحسن حظهم مالا وافرا يميلون إلى إنفاقه في حياة صاخبة، ما داموا يتنبئون بأزمة طاحنة تنخفض فيها قيمة العملة حتى تصبح عديمة القيمة. وبهذه الطريقة يقف الشك عقبة تصد الدافع إلى كل جهد شاق، ويولد شعورا بمرح اليائس نحسبه خطأ لذة حقيقية، يظهر في العالم الخارجي وينقلب بغضا لأولئك الذين نظنهم السبب فيه. وعن طريق هذا البغض يقربنا هذا الشك يوما بعد يوم من الكارثة التي نخشاها، وكأن مصيرا محزنا يحيق بمختلف الأمم، وكأن الآلهة التي أسأنا إليها تعميها، كما كانت تعمي الأشخاص في المسرحية اليونانية. وبهذا الغموض العقلي الذي يخيم على الأمم فيوقعها في الارتباك والحيرة، نراها تسير نحو الهوة وهي تتخيل أنها تبتعد عنها.
1
إن في استعمال القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية خطرا جديدا، خطرا ليس جديدا في نوعه فقط، ولكنه أعظم من أي خطر سبق في أية حرب سالفة؛ فنحن لا نعرف تماما ماذا عسى أن تكون آثار إطلاق تيارات ضخمة من النشاط الإشعاعي. هناك من يعتقدون أنه قد يؤدي بنا إلى إبادة الحياة كلها فوق هذا الكوكب، ومن هؤلاء أينشتين. فإذا لم يكن هذا، فقد تتحول مساحات شاسعة خصبة من الأراضي إلى أراض قاحلة لا تسكن، فيمحى من الوجود سكان كثير من البلاد. ولا أقول بأن ذلك سوف يحدث إذا استخدم النشاط الذري في الحرب، فليس هناك حتى اليوم من يعرف أهذا سوف يقع أم لا يقع، غير أن خطر وقوعه ماثل أمامنا، ولات ساعة مندم إن هو وقع.
في فن الحرب ذبذبة بين قوة الهجوم وقوة الدفاع. والعصور السعيدة هي تلك التي يقوى فيها الدفاع، والعصور التعسة هي تلك التي يتغلب فيها الهجوم. وفي عصرنا العلمي خطر دائم بأن يكتسب الهجوم في أية لحظة من اللحظات الغلبة القاصمة حقا؛ فالحرب البكتيريولوجية - على سبيل المثال - قد تبيد العدو، ولكنها قد تبيد في الوقت عينه البادئين بها. وازدياد المهارة العلمية يجعل الحرب خطرة في جملتها، حتى إن كانت أقل فتكا في أية لحظة من اللحظات.
والحرب الحديثة - بغض النظر عن شدة فتكها - أسوأ في كثير من الوجوه من أكثر الحروب التي نشبت في سالف الأزمان. وبالنظر إلى إنتاج العمل المتزايد، فمن المحتمل أن نستغني عن جانب أكبر من السكان ليختص في تبادل القتال، كما أن تفكك الحياة اليومية أشد في العالم الحديث عما كان عليه في أكثر الحروب التي نشبت في سالف الزمان. وقد جعل الخوف من القنبلة الذرية سكنى المدن الكبيرة أمرا غير معقول ... أما في الحروب المسلية المطمئنة التي وقعت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فكان المحاربون أساسا هم الذين يتعرضون للآلام. أما هذه الآلام فيتزايد وقعها اليوم على المدنيين. وقد بلغت من العمر عتيا، ولكن أذكر ذلك الوقت الذي كانت فيه الحرب التي تصيب النساء والأطفال أمرا لا يقع في الحسبان. غير أن هذا العصر السعيد قد مضى وفات.
لكل هذه الأسباب كانت الحرب اليوم أشد خطرا مما كانت عليه فيما سلف. ولقد بات تحريم الحرب أمرا لا مفر منه إذا أردنا لحياة المدينة أن تبقى، بل إذا أردنا لأي نوع من أنواع الحياة أن يبقى. ولقد بلغ هذا الأمر من الخطر حدا يحتم علينا ألا نتقاعس عن الأخذ بصور التفكير السياسي الجديد أو عن إدراك المشكلات الجديدة التي كان بالإمكان تجاهلها فيما سلف دون التعرض في النهاية لكارثة من الكوارث، وإن لم يكن دون تعرض للجزاء. (1-2) الحكومة العالمية
قد نتجنب الحرب بالعلاج المؤقت، أو بالحلول الطارئة والدبلوماسية الذكية لوقت ما، ولكن خطرها يظل محلقا فوق رءوسنا. وما دام نظامنا السياسي قائما كما هو، فيكاد يكون من المؤكد أن الحروب العظمى سوف تقع بين الحين والحين. ولا مفر من حدوث ذلك ما دامت هناك دول مختلفة لكل منها سيادتها، ولكل منها قواتها المسلحة، ولكل منها حكمها المطلق فيما يختص بحقوقها في أي نزاع ينشب. وليس هناك سوى طريق واحد يمكن أن يأمن به العالم من الحرب، وذلك هو إنشاء سلطة عالمية واحدة، تحتكر لنفسها جميع الأسلحة الخطرة.
وإذا أردنا للحكومة العالمية أن تمنع وقوع الحروب الخطرة، فلا بد لها من امتلاك قدر معين من القوة. لا بد لها - أولا وقبل كل شيء - من احتكار كل أسلحة الحرب العظمى، ولا بد لها من قدر كاف من القوات المسلحة لاستخدام هذه الأسلحة، ولا بد من اتخاذ أية خطوات ضرورية لكي تضمن أن تكون القوات المسلحة في جميع الظروف موالية للحكومة المركزية. ومن واجب الحكومة العالمية أن تضع قواعد معينة تتبعها في استخدام قواتها المسلحة، وأهم هذه القواعد هو أن تخضع كل دولة في نزاع مع غيرها لقرار الحكومة العالمية، وأي استخدام للقوة من جانب أية دولة من الدول ضد غيرها يجعل من هذه الدولة عدوا للناس، ولا بد أن ينزل بها العقاب من القوات المسلحة التابعة للحكومة العالمية. هذه هي القوى الضرورية إذا أردنا أن يكون حفظ السلام أمرا ممكنا، فإن سلمنا بذلك، تتابعت بعدئذ غيرها من السلطات. عندئذ تظهر الحاجة إلى هيئات تتولى السلطات القضائية والتشريعية. وسوف تنمو هذه السلطات بطبيعة الحال إذا تحققت الشروط الحربية. أما الأمر الحيوي الشاق فهو وضع قوة لا تقاوم في أيدي السلطة المركزية.
وقد تكون الحكومة المركزية ديمقراطية أو دكتاتورية، وقد تنشأ عن رضا أو عنوة، وقد تكون هي الحكومة الوطنية لدولة انتصرت في غزو عالمي، أو قد تكون سلطة يكون فيها لكل دولة - أو بالتالي لكل كائن بشري - حقوق متساوية. وأعتقد من جانبي أن هذه الحكومة إذا أنشئت سوف تقوم على أساس من الرضا في بعض البقاع، وعلى أساس من الإرغام في البعض الآخر، فقد تنشب حرب عالمية بين مجموعتين من الأمم، فتنزع المجموعة الظافرة السلاح من المجموعة المنهزمة، ثم تشرع في حكم العالم عن طريق توحيد المؤسسات التي تطورت خلال الحرب. وبانطفاء جذوة الخصومة الحربية تنضم المجموعة المنهزمة تدريجا إلى النظام الجديد. ولست أعتقد أن الجنس البشري يملك من الدهاء السياسي أو من القدرة على التسامح المتبادل ما يمكنه من إنشاء حكومة عالمية على أساس من الرضا وحده. ومن أجل هذا أعتقد أن عنصر القوة مطلوب في إنشاء هذه الحكومة وفي الإبقاء عليها خلال السنوات الأولى من وجودها.
ولكن بالرغم من أن القوة قد تكون ضرورية في أول الأمر في بعض بقاع الأرض، فإنه لن يكون هناك استقرار ولن يكون بالإمكان إنشاء نظام حر ديمقراطي إلا إذا توقفت بعض أسباب النزاع الكبرى عن فاعليتها. ولا يدور بخلدي أسباب النزاع اليومية العادية التي تتميز بها الحرب الباردة في الوقت الحاضر، بل ولا يدور بخلدي ذبذبة سياسة القوة. ولكن ما يرد إلى ذهني هو تلك الأمور التي ينشب بسببها صدام حقيقي - في الظروف الراهنة - بين مصالح جزء من العالم ومصالح الجزء الآخر، ترد إلى ذهني تلك الأمور التي تبلغ من الأهمية ما يجعل كل جانب يؤثر القتال على الإذعان. ولنضرب لذلك مثلا: هل يبقى جنوب شرق آسيا مزدحما بالسكان؟ أو هل تتنازل أستراليا وأمريكا الجنوبية عن أن تكون موطنا للرجل الأبيض وحده؟ أمثلة هذه الأسباب للنزاع العسيرة حقا تدور حول ثلاث مشكلات: السكان، والعنصر، والمذهب.
2
والنتيجة التي تسوقنا إليها الحقائق الواقعة، هي أن الحروب العظمى قد لا يمكن تفاديها حتى تنشأ الحكومة العالمية، إلا أن الحكومة العالمية لا يمكن أن تستقر حتى يكون لكل بلد هام عدد ثابت من السكان بقدر الإمكان. وحيث إن ذلك أبعد ما يكون عن الأمر الواقع في الوقت الحاضر، فقد تبدو النتيجة التي وصلنا إليها مدعاة لليأس. غير أن لهذه النتيجة وجها آخر لا يدعو البتة إلى فقدان الأمل؛ فقد كان أكثر الأطفال في الأيام السالفة يموتون في حداثتهم، وكانت نسبة الوفيات بين الكبار مرتفعة جدا، وكانت الغالبية العظمى من السكان في كل بلد تتحمل الفقر المدقع. أما في الوقت الحاضر فقد أفلحت بعض الأمم في حفظ حياة الأغلبية الساحقة من الأطفال، كما أفلحت في تخفيض نسبة الوفيات من الكبار إلى حد كبير، كما كادت تفلح في إبعاد شبح الفقر المدقع. وما كان ذلك ليمكن إطلاقا لولا هبوط نسبة المواليد، وتستطيع أن تبلغ نفس هذا المستوى من رفاهية العيش بعض الأمم الأخرى التي ما زال ينتشر فيها المرض والفقر المدقع أنها لو اتبعت نفس الوسائل، ومن ثم فإن هناك أملا جديدا للجنس البشري، ولا يمكن تحقيق هذا الأمل إلا إذا فهمنا أسباب الشرور القائمة، ولكنه الأمل الذي يحتاج إلى تأكيد؛ فالإنسان الحديث سيد مصيره، وإنما يعاني ما يعاني لأنه غبي أو شرير، ولا يعانيه لأنه أمر الطبيعة، فالسعادة محققة له لو سلك السبل التي تهيأت له.
3 (1-3) قيمة الذكاء
إن كراهية الذكاء أحد الأخطار العظمى في العالم الحديث؛ لأن كل تقدم جديد في الوسائل الفنية العملية يصاحبه ازدياد الحاجة إلى الذكاء؛ فتقدم الوسائل الفنية في الصناعة يتوقف على المخترعين، والتقدم في الحروب يتوقف على علماء الطبيعة المختصين في الذرة الذين ما كان لأحد منهم أن يظفر بالاحترام «الجدي» لمعاصريه. والحكمة في الشئون الدولية تتطلب معرفة الجغرافيا، والتعرف إلى عادات الأمم المختلفة، والقدرة على رؤية صورة الدنيا من وجهة نظر أخرى غير وجهة نظر الرائي، ولا يمكن تحصيل أية صفة من هذه الصفات بغير ذكاء. وما برحت الديمقراطيات الكبرى في عصرنا الحاضر تميل إلى الاعتقاد بأن الرجل الغبي أقرب إلى الإخلاص من الرجل الذكي. ويستغل ساستنا هذا الميل بتظاهرهم بغباء أشد مما أعطتهم الطبيعة.
وهذا الخوف العام من الذكاء هو أحد الأخطار الكبرى في عصرنا الحاضر، وهو - كغيره من الميول الأخرى التي تحدثت عنها - من الأمور التي يجب أن تعالجها المدارس قبل غيرها؛ فلو أن المعلمين والسلطات التربوية كانوا أشد إدراكا لنوع الشخص الذي يحتاج إليه العالم الحديث، لاستطاعوا خلال جيل واحد أن يكونوا الرأي الذي يقلب وجه الأرض، ولكن مثلهم الأعلى في الشخصية لا يزال عتيقا؛ فهم أشد ما يكونون إعجابا بالصفات التي تكسب صاحبها القيادة في عصابة لصوص. وإن قلت إن التجارة شيء آخر غير القرصنة، قالوا إنك لين وأعلنوا ضلالك. ويرجع ذلك كله إلى قوة الآراء العسكرية التي انحدرت إلينا من الأزمنة السحيقة. وأعيد القول هنا بأن هذه الآراء كانت تتلاءم مع عصر لم يكن فيه مفر من القحط، ولكنها لا تنطبق على العصر الذي نعيش فيه، حيث إن القحط أينما وجد إنما يرجع إلى غباء الإنسان ولا يرجع إلى أي شيء آخر. وبالرغم من أن هذه هي الحقيقة، فإن أكثرنا لا يزال يؤثر حكم الهوى على حكم العقل؛ فنحن نحب أن تثار عواطفنا، ونحب أن نستحسن ونستهجن، ونحب أن نعجب وأن نبغض، نحب أن نرى الأشياء إما سوداء وإما بيضاء. وجهازنا العقلي كله يتلاءم مع تحريضنا على الاندفاع إلى القتال مرددين صيحات الحرب الهمجية.
فإن أنت نظرت إلى تطبيق مثل هذه العقلية على أعمال البنوك الدولية، فلن تدهش للتدهور الذي سببته حينما كانت لها السيادة دون قيد، ولن تدهش لاعتقاد النازيين أن التدهور يمكن أن يحد لو أمكن إبادة عدد كاف من اليهود، ولن تدهش لما يعتقده الروس أنا سوف نصبح جميعا من الأغنياء لو أمكن تصفية الرجال الأغنياء. وما كان لمثل هذه الأخطاء أن تقع من قوم الذكاء عندهم قادر على أن يسيطر على الهوى، وما كان لمثل هذه الأخطاء أن تقع من قوم يدركون أن اختلاف المصالح باختلاف المجموعات البشرية إنما يرجع إلى الأهواء التي لا تخضع للعقل، ولا يرجع إلى أية حقيقة طبيعية.
إن العالم يواجه كارثة مقبلة، وهو يتساءل في حيرة: لماذا لم يلوح في الأفق مجال للنجاة من مصير مؤسف لا يرغب فيه إنسان؟ والسبب الرئيسي هو أننا لم نهيئ عقولنا لوسائلنا الفنية، وما زلنا نسمح لأنفسنا بطرق للتفكير والإحساس كانت تتلاءم مع عصر أشد بساطة في وسائله الفنية. فإن أردنا أن نحيا حياة سعيدة بالوسائل الفنية الحديثة - ويمكن للوسائل الفنية الحديثة أن ترفعنا إلى مستوى من السعادة أعلى بكثير مما كان في الإمكان سابقا - إن أردنا ذلك فلا مناص لنا من نبذ بعض الآراء والاستعاضة عنها بغيرها، فنستعيض بالمساواة عن حب السيطرة، ونستعيض بالعدالة عن حب الانتصار، ونستعيض بالذكاء عن الأعمال الوحشية، ونستعيض بالتعاون عن المنافسة. ويجب أن نتعلم النظر إلى الجنس البشري كأسرة واحدة، وننمي مصالحنا المشتركة باستخدام مصادر الثروة الطبيعية استخداما ذكيا، ونسير مجتمعين نحو الرفاهية، لا منفردين نحو الموت والدمار. إن التغير العقلي المطلوب شاق عسير، ولا يتم بين عشية وضحاها، ولكن إذا أدرك المربون الحاجة إليه، وإذا نشأ الصغار كمواطنين في هذا العالم، لا كمواطنين في عالم من المقاتلين الذين يعيشون على النهب والسلب، وهو عالم انقضى عهده وفات، أمكن تحقيق التغير المنشود خلال جيل واحد، وأمكن أن نأمل في إنقاذ جانب على الأقل من الجنس البشري من الهلاك العالمي الذي يهددنا به السعي وراء تحقيق آراء بائدة.
4 (1-4) الصراع بين الغرب والعالم السوفيتي
هناك أسباب قوية تدفعنا إلى الخوف من أن تمر الحضارة الغربية - إن لم يكن العالم بأسره - في المستقبل القريب، على الأرجح، بفترة من الآلام والأحزان والمصائب، فترة قد ننسى فيها الأشياء التي نحاول الاحتفاظ بها وسط المرارة والفقر والفوضى، إذا نحن لم نحرص على تذكر هذه الأشياء. فإن أردنا أن ننجو من هذا العهد المظلم بنفوس سليمة، فلا بد لنا من أن نتحلى بالشجاعة والأمل والإيمان الذي لا يتزعزع. وجدير بنا قبل أن يدهمنا الخطر أن نستجمع أفكارنا، ونبعث آمالنا، وأن نبث في قلوبنا إيمانا قويا ثابتا في مثلنا العليا.
هناك صورتان عن الحياة البشرية مختلفتان جد الاختلاف تتصارعان في سبيل السيطرة على العالم. ففي الغرب نرى عظمة الإنسان في الحياة الفردية، فالمجتمع العظيم عندنا مجتمع يتألف من أفراد، سعداء، متحررين، خلاقين، بمقدار ما يستطيع الإنسان ذلك. ونحن لا نعتقد أن الأفراد يجب أن يتشابهوا، إنما نحن نتصور المجتمع كالفرقة «الجوقة» الموسيقية التي يلعب فيها كل عازف دورا مختلفا ويضرب على آلة مختلفة، ولكن التعاون يحدث من الوعي بغرض مشترك. إننا نعتقد أن لكل فرد الحق في الاعتزاز بنفسه بالقدر المناسب، ويجب أن يكون له ضميره الشخصي وأهدافه الشخصية، التي يملك الحرية في إنمائها، اللهم إلا إذا ثبت أنها تلحق الأذى بالآخرين. ونحن نعلق أهمية كبرى على تخفيف الآلام والفقر، وعلى زيادة المعرفة وإنتاج الفن والجمال. والدولة عندنا سبب من أسباب الراحة، وليست شيئا معبودا.
أما الحكومة الروسية، فلديها صورة أخرى عن أهداف الحياة؛ فالفرد عندها غير ذي أهمية، ويمكن التصرف فيه. والمهم هو الدولة التي ينظر إليها كشيء يكاد يكون مقدسا، ولها رفاهيتها الذاتية، وهي رفاهية لا تنحصر في رفاهية المواطنين. وهذا الرأي الذي استمده ماركس من هيجل يتعارض في أساسه مع الأخلاق المسيحية، التي يؤمن بها في الغرب أحرار الفكر كما يؤمن بها المسيحيون، وليس للكرامة الإنسانية في العالم السوفيتي أية قيمة، وهناك يعد من الحق ومن الملائم أن يكون الناس عبيدا أذلاء، يطأطئون الرءوس أمام أولئك النفر الذين تتجسد فيهم عظمة الدولة، ويكادون يكونون أنصاف آلهة. وحينما يخدع المرء أعز أصدقائه ويكون سببا في الزج به في غياهب الفزع المبهم في معسكر من معسكرات العمل في سيبريا، عقوبة له على زلة من الزلات انزلق فيها في لحظة، وحينما يكون الطالب سببا في الحكم بالإعدام على والديه، نتيجة للتعاليم التي تلقاها من معلمه، وحينما يقدم إلى المحاكمة رجل ذو شجاعة نادرة بعد جهاده في كفاح الرذيلة، ثم يدان، ويضطر إلى أن يقر في ذلة وخنوع أنه كان آثما حينما عارض السلطة «الإلهية» لأصحاب النفوذ، حينما يحدث ذلك، فإن الخداع والاعتراف بالإثم لا يسببان أي إحساس بالعار لمن اقترف الذنب؛ لأنه إنما أن يعمل في خدمة الإله الذي يقدسه.
هذه هي الصورة التي ينبغي لنا أن نكافح ضدها، وهي صورة - في رأيي ورأي أكثر أولئك الذين يقدرون ما يمثله الغرب من عقائد - تسلب الحياة، إن هي سادت، كل ما يكسبها قيمتها، ولا تترك فيها سوى مجموعة مجندة من الحيوانات الذليلة. ولا أستطيع أن أتصور قضية أضخم أو أعمق من هذه نكافح من أجلها. أما إذا أردنا أن نحقق النصر - لا في ميدان القتال وحده، ولكن في قلوب الناس كذلك وفي النظم التي يؤيدونها - فلا بد أن يكون تفكيرنا واضحا فيما نقيم له وزنا، ويتحتم علينا - كما فعل بوثيس - أن نعزز شجاعتنا ضد ما يحيق بنا من أسباب الشدة والضيق.
وإن كانت روسيا لا تقدر الفرد حق قدره، فهناك في الغرب من يبالغ - في غير حق - في انفصال الأفراد كل عن الآخر. إن الذات الفردية ينبغي ألا تنحصر داخل جدران من الجرانيت، بل يجب أن تكون أطرافها شفافة تنم عما تحتها. إنما الخطوة الأولى نحو الحكمة - بل ونحو الأخلاق الكريمة - هي أن نفتح النوافذ للذات على مصاريعها بقدر ما نستطيع. إن أكثر الناس يجدون قليلا من الصعوبة في إدخال أبنائهم في دائرة رغباتهم، وهم يستطيعون ذلك بدرجة أقل مع أصدقائهم، وإزاء وطنهم إن ألم به خطر. وكثير جدا من الناس يحس أن ما يؤذي بلدهم يؤذيهم. عرفت في عام 1940م بعض الفرنسيين الذين يعيشون في أمريكا عيشة رغدة يتألمون لسقوط فرنسا كما يتألمون لو بترت سيقانهم. غير أنه لا يكفي أن نتوسع في دائرة عطفنا حتى تشمل وطننا، ولو أردنا للعالم سلاما وجب علينا أن نتعلم كيف نشمل الجنس البشري بأسره بنفس العطف الذي نحسه اليوم إزاء مواطنينا. وإن أردنا أن نحتفظ بالهدوء والسكينة في الأوقات العصيبة، عاوننا على ذلك كثيرا أن تشتمل المعارف التي تحتويها عقولنا على العصور الماضية والمستقبلة.
قل من الأشياء ما يطهر تصورنا للقيم مثل ما يطهره تأملنا في ارتفاع الإنسان التدريجي من بداياته الغامضة الشاقة إلى عظمته الراهنة. عند ظهور الإنسان في أول أمره ... كان نوعا نادرا من السهل اصطياده؛ إذ لم تكن له سرعة الغزال، ولا خفة القرد، عاجزا عن الدفاع عن نفسه ضد الوحوش الضارية، لا يحميه فراء دافئ من البرد والمطر، يعيش عيشة غير مستقرة على الطعام الذي يجمعه، ليس عنده سلاح أو حيوان أليف، ولا يعرف الزراعة.
ولكن الميزة الوحيدة التي كانت لديه، وهي الذكاء، كفلت له الأمن في نهاية الأمر، فتعلم استخدام النار، واستخدام القوس والنشاب، واللغة، والحيوان الأليف، ثم تعلم الزراعة أخيرا، وتعلم أن يتعاون في جماعات، وأن يبني القصور والأهرام الشاهقة، وأن يكتشف العالم من جميع الجهات، وأخيرا تعلم كيف يواجه الفقر والمرض، ودرس النجوم، واخترع الهندسة، وتعلم كيف يستعيض بالآلات عن العضلات في العمل الضروري، وبعض من نواحي التقدم هذه حديث جدا، ولا يزال مقصورا على الأمم الغربية.
ونحن أبناء العالم الغربي - حينما واجهتنا الشيوعية بنقدها المعادي - وقفنا موقف المتواضع المدافع أكثر مما ينبغي. إن طرائق التطور، خلال العصور الطويلة منذ بداية الحياة كما كررنا من قبل، استلزمت الآلام القاسية، والنضال المستمر في سبيل لقمة العيش، بل والموت جوعا - في نهاية الأمر - في أكثر الحالات. هذا هو ناموس مملكة الحيوان، وقد بقي هو ناموس الكائنات البشرية كذلك حتى القرن الحاضر، ثم اكتشفت بعض الأمم في نهاية الأمر كيف تتخلص من الفقر المدقع، وكيف تتخلص من الألم والأسى والإسراف في المواليد التي لا فائدة منها التي يحكم عليها بالموت قبل النضج، وكيف تستعيض بالعقل والحرص عن استهتار الطبيعة الأعمى.
والأمم التي قامت بهذا الاستكشاف هي الوصية على مستقبل البشرية، ويجب أن تكون لديها الشجاعة في طريقتها الجديدة في الحياة، ولا تسمح لنفسها أن تقف مذهولة في حيرة مما تذيعه الأمم شبه المتمدنة من شعارات. ومن حقنا أن نستمسك بالآمال المعقولة، والتي يمكن أن تفصل وأن تعرض في إحصاءات. وإذا نحن رضينا لأنفسنا أن نفقد هذه الآمال في سبيل أحلام غير معقولة، كنا خائنين للجنس البشري.
5
ولقد حقق العالم الغربي - إلى حد كبير إن لم يكن إلى كل حد - طريقة للحياة لها بعض المزايا المستحدثة في تاريخ البشرية، فاستطاع أن يتخلص من الفقر تقريبا، وهبط بالأمراض والموت إلى حد كان يعتبر خياليا منذ مائة عام، ونشر التعليم بين الناس جميعا، وحقق درجة جديدة كل الجدة من التوفيق بين الحرية والنظام. وهذه أمور لا تأمل آسيا في بلوغها إذا هي تعجلت استقلالها. ولما أدركنا في الغرب الفقر الشنيع في جنوب شرقي آسيا، واقتنعنا بأن هذا الفقر سلاح دعاية في أيدي الروس، بدأنا نفكر لأول مرة في ضرورة القيام بعمل ما لرفع مستوى الحياة في هذه الأقاليم. غير أن عادات الناس هناك ومعتقداتنا في أعينهم تجعل هذا الواجب في الوقت الحاضر أمرا لا رجاء فيه، وكل زيادة في الإنتاج - بدلا من أن ترفع مستوى الحياة - سرعان ما تبتلعها زيادة السكان. وأهل الشرق لا يعرفون كيف يتفادون ذلك، والمتعصبون من الغربيين يصرفون أولئك الذين يدركون المشكلة عن نشر المعرفة اللازمة. ما أيسر أن تنتشر مساوئ الغرب: القلق، والروح العسكرية، والغضب، واعتقادنا الجازم في الآلة. أما أفضل ما في الغرب - روح البحث الحر، وإدراك الظروف التي تؤدي إلى الرفاهية العامة، والتحرر من الخرافة - فإن الدول القوية في الغرب تصرف الشرق عن التحلي به. وما دامت هذه الحالة قائمة، فسوف يبقى أهل الشرق على حافة الفقر والعوز، وكلما زادوا قوة زادوا تخريبا من جراء الحقد والحسد، وستكون لهم روسيا - بطبيعة الحال - عونا في هذا، ما لم - أو حتى - تنهزم روسيا أو تتحرر.
6 (1-5) القواعد الخلقية للسعادة
تحدثت حتى الآن عن الأمور التي تحير الجماهير، ولكن ليست هذه الأمور وحدها هي التي تزعج العقول في الغرب؛ فلم يعد للمذاهب التقليدية في العقائد ولم يعد للنواميس التقليدية للأخلاق والسلوك سلطانها الذي كان لها من قبل. وكثيرا ما يقع الرجال والنساء في شك حقيقي مما هو حق ومما هو باطل، بل حتى في شك من أن الحق والباطل شيء فوق الخرافات القديمة. وعندما يحاولون أن يروا لأنفسهم رأيا في هذه الأمور، يجدون مشقة كبرى لا يطيقونها، فلا يستطيعون الكشف عن أي غرض واضح يسعون نحوه، أو أي مبدأ واضح يهتدون بهداه. وقد تكون لدى المجتمعات المستقرة مبادئ تبدو للبعيد سخيفة باطلة ، ولكن ما دامت المجتمعات مستقرة فإن مبادئها تفي بالغرض وفاء ذاتيا. ونعني أنها تكون مقبولة من كل امرئ تقريبا دون تساؤل، وأنها تجعل قواعد السلوك واضحة محددة وضوح قواعد النظم والنغم. بيد أن الحياة الحديثة في الغرب لا تشبع البتة في شيء قواعد النظم والنغم، وإنما هي أشبه شيء بالشعر المرسل الذي لا يميزه عن النثر إلا الشاعر. وهناك مجموعتان كبيرتان من العقائد أمام الرجل الحديث عندما يكون منهوك القوى الروحية، وأقصد نظام روما ونظام موسكو، وكلاهما لا يخلق مجالا للعقل الحر، وهو فخر الرجل في الغرب وسبب عذابه في آن واحد، وهو مصدر العذاب بسبب الآلام المتزايدة. إن الرجل الحر - إذا اكتمل نموه - كان مليئا بالسرور والنشاط والصحة العقلية، ولكنه يعاني في الوقت ذاته الآلام.
إن العالم - لا في الحياة العامة وحدها، ولكن في الحياة الخاصة كذلك - بحاجة إلى طرق للتفكير والشعور تتلاءم مع ما نعرف، ومع ما نستطيع أن نعتقد فيه، وما نشعر أننا مرغمون على عدم الإيمان به. وهناك طرائق للشعور تقليدية لها كل ما للرأي القديم الموزون من كرامة، ولكنها في الوقت عينه لا تتلاءم مع العالم الذي نعيش فيه، الذي جعلت فيه الوسائل الفنية الحديثة بعض الفضائل الجديدة ضرورية وبعض الفضائل القديمة غير ضرورية. إن أنبياء اليهود - عندما أطاحت بهم الأمم المعادية، وعزموا على ألا يبتلع الغزاة الكفار شعبهم - ابتدعوا مذهبا قاسيا الفكرة الأساسية فيه هي الخطيئة؛ فالكفار يخطئون دائما في كل ما يفعلون، ولكن اليهود - بكل أسف - كانوا مهيئين لأن يقعوا في الخطيئة هم أنفسهم. وعندما فعلوا ذلك انهزموا في المعركة، كان عليهم أن يذرفوا الدمع عند مياه بابليون. وهذا هو النمط الذي استمد منه رجال الأخلاق وحيهم من ذلك الحين، فصور الرجل الفاضل بأنه رجل بالرغم من إحاطته دائما بأسباب الإغراء، وبالرغم من تحريضه بشدة على ارتكاب الذنوب، يفلح - بقوة إرادته التي تكاد تكون فوق القدرة البشرية - في السير على الطريق الضيق المستقيم، ملتفتا في الوقت عينه بازدراء عن يمينه وشماله إلى تلك الكائنات الدنيا التي تلكأت لتلتقط ما يعترض طريقها من أزهار. والفضيلة بهذه الصورة شاقة، سلبية، قاحلة، مجدبة، وهي متزمتة متشككة في السعادة، وهي مدفوعة إلى الاقتناع بأن دوافعنا الطبيعية سيئة، وأن المجتمع لا يمكن أن يتماسك إلا عن طريق النواهي الصارمة. ولست أريد أن أزعم أن المجتمع يحتفظ بتماسكه إذا ارتكب الناس جرائم القتل والسرقة، وإنما أريد أن أقول إن نوع الرجل الذي أحب أن أراه في هذا العالم رجل ليس لديه دافع إلى القتل، ولا يمتنع عنه لتحريمه، وإنما يمتنع عنه لأن أفكاره ومشاعره تباعد بينه وبين دوافع التخريب، وكأن فكرة الذنب كلها قد اندثرت فيما يتعلق على الأقل بالتفكير والشعور الواعي. وأكثر الناس لم يفكر في أي نظام آخر من نظم الأخلاق، وربما لم ينبذ من الوجهة النظرية النظام القديم. غير أن هذا النظام القديم قد فقد سلطانه عليهم؛ فهم لا يقتلون ولا يسرقون عادة؛ لأنه ليس من مصلحتهم أن يفعلوا ذلك، ولكن موقفهم يختلف عن ذلك إزاء «الوصية السابعة»، وهم في الواقع لا يحبون أن يسايروا النمط القديم. والرجل العادي يحمد الله على أنه ليس مثل هذا المتزمت، ويتصور أنه بسلوكه العادي يدرك فحوى ما جاء في الوصية، ولا يطرأ على ذهنه أن شعوره بالسمو هو موضع الملامة، وأنه سواء أكان هذا الشعور من جانب الرجل العادي أم الرجل المتزمت، فإن ذلك من التفصيلات التي ليست لها أدنى أهمية.
وأود أن أقنع أولئك الذين ماتت في نفوسهم الأخلاق التقليدية، والذين يحسون الحاجة في الوقت عينه إلى غرض جدي يسمو على اللذة الوقتية، أود أن أقنعهم أن هناك طريقة للتفكير والشعور لا تشق على أولئك الذين لم ينشئوا على نقيضها، وهي ليست طريقة كبح النفس وإنكار الذات وإدانتها؛ فالحياة الطيبة - كما أتصورها - حياة سعيدة. ولست أقصد أن الرجل الطيب رجل سعيد، وإنما أقصد أن الرجل السعيد لا بد أن يكون طيبا. إن البؤس عميق الجذور في نفوس أكثر الناس؛ فكم من الناس - كما نعرف جميعا - يسير في حياته متظاهرا بالسرور، وهو مع ذلك دائم السعي وراء التخدير سواء بالخمر أو بغيرها من الوسائل. أما الرجل الطيب فلا يحب التخدير، ولا يحسد جاره فيمقته، وهو يستطيع أن يعيش بدوافعه الطبيعية كالطفل؛ لأن السعادة تجعل دوافعه مثمرة غير مدمرة. وكم من رجل وامرأة يتخيلان نفسيهما متحررين من أصفاد النواميس القديمة، ولكنهما في الواقع لم يتحررا إلا في الطبقات العليا من عقولهم، وتحت هذه الطبقات يختفي الإحساس بالذنب قابعا كالحيوان المفترس في انتظار لحظات الضعف أو عدم الانتباه، ويزمجر بأصوات الغضب الصاخبة التي تطفو على السطح في صور غريبة شائهة، أمثال هؤلاء الناس يخسرون الدنيا والآخرة.
فالإحساس بالذنب يجعل السعادة الحقيقية بالنسبة إليهم مستحيلة، ولكن التخلي بوعي عن نواميس السلوك القديمة يجعلهم يتصرفون دائما بطرق تملأ بطن الوحش القديم المختفي بالغذاء. ولا يمكن أن يكون أسلوب الحياة ناجحا ما دام مجرد اقتناع بالعقل. وإنما يجب أن يكون الإحساس بالأسلوب عميقا، والاعتقاد فيه عميقا، سائدا حتى في الأحلام. ولست أعتقد أن أفضل نوع من أنواع الحياة ممكن التحقيق في يومنا هذا لأولئك الذين لا يزالون - تحت مستوى الوعي - يحملون عبء الذنب. ومن الواضح أن هناك أمورا لا يحسن أداؤها، غير أني لا أعتقد أن أحسن وسيلة لتفادي أداء أمثال هذه الأمور هو أن نصمها بالذنب، وأن نصورها لأنفسنا جذابة تكاد تستحيل مقاومتها؛ ولذا فإني أحب أن أقدم للعالم شيئا إذا كان لا يجوز أن نسميه بالناموس الخلقي - على الأقل بالمعنى المقبول للكلمة فيما مضى - فهو بالرغم من ذلك شيء ينقذ الناس من الحيرة الخلقية ومن وخز الضمير وإدانة الآخرين. وما أريد أن أضعه محل الناموس الخلقي بالمعنى القديم هو تشجيع جميع الدوافع الخلاقة البعيدة المدى وإتاحة الفرصة لها. أود أن أبذل كل جهدي لتحرير الناس من الخوف، ولا أعني الخوف الذي نعيه وحده، ولكني أعني كذلك المخاوف القديمة البدائية الحبيسة التي جئنا بها من الغابة، وأود أن أوضح - وذلك ليس بمجرد الفرض العقلي، ولكن كموضوع يؤمن به القلب من تلقاء نفسه - أننا لا نحقق السعادة لأنفسنا بإنزال الألم بالآخرين، وإنما السعادة والطريق إليها تتوقف على الانسجام مع غيرنا من الناس. وحينما لا يكون ذلك كله صادرا من أعماق القلب وليس مفهوما بالعقل فحسب، عندئذ يمكن أن يعيش المرء بطريقة تجلب السعادة لنا ولغيرنا على السواء. وإذا أمكن للناس أن يفكروا ويشعروا بهذه الطريقة، تبددت مشكلاتهم الشخصية، كما تبددت أيضا كل مشكلات السياسة العالمية، حتى أكثرها تعقيدا وأشدها صعوبة. عندئذ يتكشف جمال الطبيعة وتتضح معالم الطريق بغتة، كما يحدث عندما ينقشع الضباب من قمة الجبل. لقد بات من الضروري أن نفتح نوافذ قلوبنا وعقولنا لنتيح للشياطين الحبيسة أن تخرج، ونسمح لجمال الدنيا أن يستولي على النفوس.
7 (1-6) الحب وقوة النفس
إذا كانت الأيام مظلمة أمامنا، فيجب أن نذكر وهي ماثلة أمام أعيننا مسير الإنسان البطيء الذي كانت تعترضه في الماضي الكوارث والتخلف، ولكنه يواصل دائما حركته نحو التقدم. وقد نصح اسبينوزا - الذي كان من أحكم الناس، والذي عاش حياة متفقة مع حكمته - نصح الناس أن ينظروا إلى الحوادث الجارية «من زاوية الخلود». وأولئك الذين يستطيعون أن يتعلموا ذلك سوف يجدون الحاضر الأليم أكثر في نفوسهم احتمالا منه لو تغيرت زاوية النظر. إنهم يرونه برهة «عابرة»، يرونه مشكلة تحل، وقناة تعبر. إن الطفل الصغير الذي يجرح نفسه يبكي كأن الدنيا ليس فيها غير الأحزان؛ لأن عقله ينحصر في الحاضر. أما الرجل الذي تعلم الحكمة من اسبينوزا فيستطيع النظر إلى حياته حتى لو كانت كلها آلاما باعتبارها لحظة عابرة في حياة الإنسانية. والجنس البشري نفسه من بدايته الغامضة حتى نهايته المجهولة ليس إلا حادثا ضئيلا في حياة الكون.
إننا لا نعرف ما قد يكون حادثا في مكان آخر غير الكون، ولكن ليس من المحتمل ألا يحتوي الكون شيئا أفضل من أنفسنا. وبازدياد الحكمة تكتسب أفكارنا مجالا أفسح في المكان والزمان. إن الطفل يعيش في لحظته، والصبي في يومه، والرجل الغرزي في عامه، والرجل الذي يعي التاريخ يعيش في حقبته. ولا يريد اسبينوزا أن نعيش في اللحظة أو اليوم أو العام أو الحقبة، وإنما يريدنا أن نعيش في الأبدية. وأولئك الذين يتدربون على ذلك سوف يجدون أنه يزيل صفة الهلع من سوء الحظ، ويحول دون الاتجاه نحو الجنون الذي يجيء مع الكوارث الملمة. ولقد قضى اسبينوزا آخر يوم من أيام حياته يروي لضيوفه أبهج القصص، وكتب يقول: «إن الرجل الحر يفكر في الموت أقل مما يفكر في أي أمر آخر، وحكمته تأمل في الحياة لا في الموت.» ولقد قام بتنفيذ هذا المبدأ حينما أقبل عليه الموت.
ولست أعني أن الرجل الذي يتحرر من عسف الجهالة يخلو من العواطف، كلا؛ فهو على العكس من ذلك يحس الصداقة وفعل الخير والرأفة على مستوى أعلى من الرجل الذي لم يحرر نفسه من الهموم، ولن تقف ذاته حائلا بينه وبين بقية البشر، ولكنه سوف يحس كما أحس بوذا أنه لن يكون كامل السعادة ما دام هناك فرد بائس، وسوف يحس الألم - وهو ألم واسع وأكثر انتشارا من ألم المحب لذاته - ولكنه لن يجد هذا الألم مما لا يمكن احتماله، ولن يدفعه الألم إلى اختراع قصص خرافية مطمئنة تؤكد له أن آلام الآخرين وهمية، ولن يفقد الاتزان والتحكم في النفس، وسوف يردد قول ملتون:
العقل مكتف بذاته.
يجعل من النعيم جحيما، ومن الجحيم نعيما.
وسوف يذكر - فوق كل ذلك - أن كل جيل مسئول أمام الأجيال المقبلة عن الكنوز العقلية والخلقية التي جمعها الإنسان خلال العصور الماضية. حينما جن جنون الملك لير التقى بإدجار الذي تظاهر بالجنون، ولم يرتد سوى خرقة يتستر بها، وتجري الحكمة على لسان لير حينما يقول: «إذا جن جنون المرء فلا يعدو أن يكون حيوانا مسكينا، عاريا، بادي الساقين مثلما تبدو لي.»
وهذا بعض الحق فقط، أما بعضه الآخر فيجري على لسان هاملت حين يقول: «ما أعجب صنع الإنسان! وما أنبله في عقله! وما أعظم قدراته التي لا تحد! إنه يدعو إلى الإعجاب والدهشة في صورته وفي حركته! ما أشبهه بالملاك وهو يعمل! وما أشبهه بالإله وهو يفكر!»
والرجل السوفيتي - وهو يزحف على ركبتيه ليخدع أصدقاءه وأسرته ويقودهم إلى مجزرة بطيئة - ليس البتة جديرا بكلمة هاملت، وإن كان بالإمكان أن يكون الإنسان جديرا بها، ويستطيع كل منا أن يكون قمينا بها؛ ففي إمكان كل منا أن يوسع من أفق عقله، وأن يطلق خياله، وأن ينشر محبته وفعله للخير. وإنما تتطلع البشرية في نهاية الأمر إلى أولئك الذين يفعلون ذلك؛ فالشرق يقدس بوذا، والغرب يقدس المسيح، وكلاهما بشر بالمحبة باعتبارها سر الحكمة. وكانت حياة المسيح على الأرض معاصرة لحياة الإمبراطور تيبريس الذي قضى حياته في أعمال القسوة والاستهتار الشنيع، وكان تيبريس يتمتع بمظاهر العظمة والنفوذ، ترتعد فرائص الملايين إذا أومأ برأسه، ولا يذكره اليوم غير المؤرخين.
إن أولئك الذين يعيشون عيشة نبيلة - حتى إن كانوا يعيشون في عهدهم مغمورين - لا يخشون أن تذهب حياتهم هباء؛ فإن ضياء يشع من حياتهم نورا يهدي إلى الطريق أصحابهم وجيرانهم، وربما كان ذلك إلى عصور طويلة مقبلة. كم من رجل أقابل اليوم ممن يحس بوقع العجز شديد على نفسه، ويشعر بأنه ليس هناك في متسع المجتمعات الحديثة شيء ذو أهمية يستطيع الفرد أن يؤديه. وهذا خطأ؛ لأن الفرد إذا امتلأ قلبه بمحبة الناس، واتصف ببعد النظر، وبالشجاعة والصبر، يستطيع أن يفعل الشيء الكثير.
وبمرور العصور الجيولوجية يتضح لنا أنه لم تنقض إلا برهة منذ ظهر الجنس البشري، ولم تمر سوى طرفة عين منذ اخترع الإنسان فنون الحضارة. ولا يحتمل أن يبيد الجنس البشري نفسه تماما بالرغم مما يشعر به بعض الناس من مخاوف. وما دام الإنسان موجودا، فنحن على يقين من أنه سوف ينجو عاجلا أو آجلا مهما كان ما يقاسيه في فترة ما، ومهما انطفأ ما لديه من بريق، وربما نجا وهو أكثر قدرة وأشد قوة بعد فترة من فترات الركود العقلي؛ فالكون فسيح، وليس الناس سوى ذرات دقيقة فوق كوكب عديم الأهمية. ولكنا كلما أدركنا صغارنا وعجزنا إزاء قوى الكون، ازددنا إعجابا بما أنجزه الإنسان.
ويجب أن يشتد إيماننا بما يستطيع الإنسان أن يؤديه. وبهذه العقيدة نستطيع أن نحتمل المتاعب اليسيرة التي يعانيها هذا العصر المضطرب الذي نعيش فيه. ما أعظم الحكمة التي يجب أن نتعلمها، وإذا كنا لا نتعلمها إلا عن طريق المحن، فيجب أن نحاول احتمال المحن بكل ما لدينا من جلد. أما إذا استطعنا اكتساب الحكمة عاجلا، فقد لا تصبح للمحنة ضرورة، وقد يمسي مستقبل الإنسان أسعد من أي وقت مضى من حياته.
إن عصرنا بحاجة إلى بعض الأشياء يكتسبها، وبعضها الآخر يتجنبه؛ فهو بحاجة إلى الرأفة وإلى الميل في سعادة الإنسان، وهو بحاجة إلى حب المعرفة، وإلى العزم على الحذر من أثر الأساطير الخلابة، وهو - فوق كل شيء - بحاجة إلى الأمل الباسل وإلى الدافع إلى الابتداع والخلق. أما ما يجب عليه أن يتحاشاه، وما أدى به إلى حافة الهوية، فهو القسوة، والحسد، والجشع، والمنافسة ، والبحث عن العقائد الذاتية التي لا تتفق مع العقل، وما يسميه أتباع فرويد بالرغبة في الموت.
8
ولب الموضوع شيء غاية في البساطة ومعروف من قديم الزمان، وقد بلغ من البساطة ما يكاد يجعلني أخجل من ذكره، خشية من بسمة السخرية التي يقابل كلماتي بها الحكماء الساخرون. وهذا الشيء - وأرجو أن تقبلوا عذري في ذكره - هو المحبة، المحبة المسيحية، أو الرحمة؛ فإن أحسست بها كان لديك دافع إلى البقاء، ومرشد إلى العمل، وسبب للشجاعة، وضرورة ملحة إلى الأمانة العقلية. إن أحسست بالمحبة امتلكت كل ما يحتاج إليه أي امرئ من الدين، وقد لا تجد السعادة، إلا أنك لن تعرف ذلك اليأس القاتل الذي يحسه أولئك الذين تخلو حياتهم من الهدف والغرض؛ لأن هناك دائما شيئا تستطيع أن تؤديه لتخفف من عبء البؤس البشري الثقيل.
9 (1-7) التعقل الفلسفي
كنت آمل في شبابي أن أجد في الفلسفة ما يشبعني من الناحية الدينية ... وكنت دائما شديد الرغبة في أن أجد تبريرا للعواطف التي تثيرها بعض الأشياء التي كانت تبدو منفصلة عن الحياة البشرية، وتستحق الشعور بالرهبة. ويحضرني في هذا الصدد أشياء غاية في الوضوح، كالسماء ذات النجوم، والبحر العاصف على الشاطئ الصخري. ويحضرني من ناحية أخرى اتساع عالم العلوم، سواء في الزمان والمكان، إذا قورن بحياة الإنسان. ويحضرني أيضا بناء الحقيقة غير الشخصية، وبخاصة تلك الحقيقة التي لا تكتفي بوصف العالم الذي وجد بالمصادفة كالحقيقة الرياضية مثلا. إن أولئك الذين يحاولون أن يجعلوا من الإنسانية دينا لا يعترف بشيء أعظم من الإنسان لا يشبعون عواطفي، ولكني - برغم ذلك - لا أستطيع أن أصدق أن هناك شيئا - في العالم كما نعرفه - بوسعي أن أجعل له قيمة خارج الكائنات البشرية، وخارج الحيوان بدرجة أقل بكثير. إن السماء ذات النجوم ليست لها روعة إلا بمقدار ما لها من أثر في الإنسان المدرك، والإعجاب بالكون لضخامته سخف وصغار، والحق المجرد غير البشري وهم من الأوهام. وهكذا ترى أن عقلي يساير الإنسانيين، في حين أن عواطفي تثور عليهم بعنف وشدة. و «عزاء الفلسفة» في هذا الصدد لا يشفي غلتي.
أما في الأمور التي يشتد إمعانها في التجريد العقلي، فقد وجد - على نقيض ذلك - في الفلسفة اقتناع نفساني بقدر ما يتوقع أي إنسان عاقل. كم موضوع حيرني في شبابي لغموض كل ما كان يقال عنه، أصبح اليوم سهل الخضوع لطرائق في البحث دقيقة، تجعل نوع التقدم الذي ألفناه في العلوم ممكنا. وحيثما تكن المعرفة الدقيقة مستحيلة التحقيق، فمن الممكن أحيانا التدليل على عدم إمكان التحقيق، وبالإمكان عادة صياغة فروض دقيقة متعددة، كلها يتفق مع الدليل القائم. إن أولئك الفلاسفة الذين اتبعوا الطرق المستمدة من التحليل المنطقي يستطيعون أن يتبادلوا الجدل، لا بالطريقة القديمة غير الهادفة، ولكن بالتعاون، بحيث يستطيع الجانبان أن يلتقيا بالنسبة إلى النتيجة.
10
إنهم يعترفون صراحة بأن العقل البشري يعجز عن إيجاد إجابات حازمة عن كثير من المسائل ذات الأهمية القصوى للإنسان، ولكنهم يرفضون الاقتناع بأن هناك وسيلة للمعرفة «أسمى» نستطيع أن نكشف بها عن الحقائق التي تخفى على العلم وعلى العقل، وقد كان جزاؤهم على هذا الرفض اكتشافهم أن كثيرا من المسائل - التي كانت فيما مضى تختفي في غموض الميتافيزيقا - يمكن أن يجاب عنها في دقة وبوسائل موضوعية لا تستعين بشيء من استعداد الفيلسوف سوى رغبته في الفهم والإدراك. خذ هذه المشكلات مثلا: ما هو العدد؟ ما هو المكان وما هو الزمان؟ ما هو العقل وما هي المادة؟ ولست أزعم أننا نستطيع على الفور أن نعطي إجابات حاسمة عن كل هذه المشكلات القديمة، ولكن أزعم أننا قد اكتشفنا طريقة نستطيع بها - كما استطعنا في العلم - أن نقترب من الحقيقة شيئا فشيئا، طريقة كل خطوة جديدة فيها تنبني على الخطوة السابقة، ولا تقوم على أساس نبذ كل ما سبق.
إن من بين قوى التوحيد القليلة وسط هذا المعمعان الذي تصطرع فيه الحماسات الصدق العلمي، وأعني به اعتياد إقامة عقائدنا على الملاحظة والاستنتاج المجرد من المؤثرات الذاتية، والخالي من الأهواء الموضعية والمزاجية بقدر ما يستطيع الكائن البشري. والإصرار على إدخال هذه المزية في الفلسفة، وابتداع وسيلة قوية يمكن أن تكون بها مثمرة، هما من أهم مزايا المدرسة الفلسفية التي أنتمي إليها، ويمكن أن تمتد عادة تحري الصدق الدقيق التي يكتسبها المرء بممارسة هذه الطريقة الفلسفية إلى مجال النشاط البشري كله، بحيث يترتب على ذلك - حيث طبقت هذه الطريقة - التخفيف من التعصب مع ازدياد القدرة على التعاطف وتبادل الفهم والإدراك. والفلسفة عندما تتخلى عن جانب من مزاعمها اليقينية التقليدية لا تكف عن الإيحاء والتوجيه نحو أسلوب من أساليب الحياة.
11
وقد استحدث هذا كله في أثناء حياتي، هذا التوسع في مجال العقل حتى يشمل ميادين جديدة شيء أقدره قدرا عظيما. إن التعقل الفلسفي قد يختنق بصدمات الحرب وفي غمرة خرافات الاضطهادات الجديدة، ولكني آمل ألا نفقده كلية، أو إلى ما ينيف على بضعة قرون. ولقد كانت حياتي الفلسفية من هذه الناحية حياة سعيدة.
12
المصادر
أكثر هذه المقتطفات لبرتراند رسل مقتبس من كتابه الحديث «آمال جديدة في عالم متغير»، وبقية المقتطفات مقتبسة من كتابه «أثر العلم في المجتمع»، وكتاب «فلسفة برتراند رسل»، وكتاب «تاريخ الفلسفة الغربية».
1
من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
2
من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
3
من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
4
من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
5
من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
6
من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
7
من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
8
من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
9
من كتاب «أثر العلم في المجتمع».
10
من كتاب «فلسفة برتراند رسل».
11
من كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية».
12
من كتاب «فلسفة برتراند رسل».
الفصل الثالث عشر
سدني هوك
(1902م-...)
يخطئ الطالب اللامع الذي لا يتخصص في الفلسفة إذا هو أقبل على فصل دراسي يلقي فيه الأستاذ هوك إحدى محاضراته؛ لأن الأرجح أن يتحول هذا الطالب إلى دراسة الفلسفة قبل أن يدق الناقوس الذي يؤذن بانتهاء المحاضرة.
سدني هوك - وهو أحد الفلاسفة الطبيعيين في الولايات المتحدة - لديه موهبة يحسد عليها في عرض الرأي عرضا مؤثرا، فهو يجمع في إلقائه بين التحليل الواضح المتفقه في العلم، والفكاهة، والبصر بنفوس الناس. وهذه الصفات العديدة قلما تتوافر في المزاج الفلسفي.
ولد سدني هوك في نيويورك في العشرين من ديسمبر عام 1902م، وقضى طفولته في بروكلن حيث التحق بالمدارس العامة المحلية، وفي كلية المدينة بنيويورك درس الفلسفة مع موريس رفائيل كوهين، ثم التحق بمدرسة المتخرجين في جامعة كولمبيا عام 1923م حيث ترك فيه جون ديوي أثرا لا يمحى. وفي عام 1924م أصبح هوك دارسا جامعيا. وفي عام 1926-1927م منح إحدى الزمالات الجامعية في الفلسفة التي يتطلع إليها الكثيرون. وفي نهاية هذا العام حصل على درجة الدكتوراه، وفي العام التالي ظفر بزمالة جونجهيم التي تخول له الدراسة في برلين وميونيخ ومعهد ماركس إنجلز بموسكو. وبعد عودته إلى الولايات المتحدة بدأ في علاقاته التعليمية التي دامت أمدا طويلا مع جامعة نيويورك، حيث دخلها كمعلم للفلسفة بكل ميدان واشنطون عام 1927م، وأصبح مساعد أستاذ في عام 1932م، وأستاذا زميلا ورئيسا للقسم في عام 1933م، وظل أستاذا لبضع سنين بعد ذلك. وفي عام 1947م عينته مدرسة المتخرجين بجامعة نيويورك رئيسا لقسم الفلسفة، وفي عام 1948م رئيسا لقسم الفلسفة وعلم النفس، وبقي سنوات عدة يؤدي هذا العمل، محاضرا لجموع كبيرة من المستمعين بالمدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي في الفلسفة المعاصرة وعلم الأخلاق والفلسفة الاجتماعية.
إن حياة سدني هوك العملية نشيطة نشاطا غير مألوف، متنوعة في اهتماماتها. كتب كثيرا من الكتب والمقالات الهامة في الفلسفة، ونظريات التربية، والنقد الاجتماعي، وفلسفة التاريخ، وسياسة الديمقراطية. وظهر اهتمامه مبكرا بهيجل وماركس في كتابين أصدرهما؛ الأول بعنوان «نحو إدراك كارل ماركس» في عام 1933م الذي قيل إنه «خير عرض لفلسفة كارل ماركس الاجتماعية باللغة الإنجليزية»، والثاني تحت عنوان «من هيجل إلى ماركس» في عام 1936م. ولكن اهتمام هوك بالماركسية كان يخلي السبيل فيما بعد عام 1930م لاهتمام أشد عمقا بالدراسات القديمة في المذهب البراجمي الأمريكي، وبخاصة بالمذهب العملي الذي بشر به ديوي، وانعقدت أواصر صداقة وثيقة بين الفيلسوف المسن والزميل الشاب، واشترك هوك في العمل مع ديوي اشتراكا مباشرا في كثير من مخطوطاته في هذه السنوات وما تلاها. وفي عام 1939م حينما أقبل ديوي على الثمانين من عمره، نشر هو كتابه «عرض لآراء جون ديوي»، الذي ما برح حتى اليوم أحسن عرض لأفكار ديوي الأساسية، وظهرت له مجموعة مقالات في الفلسفة السياسية عام 1940م عالج فيها «العقل، والأساطير الاجتماعية، والديمقراطية»، كما ظهر له في عام 1943م «بطل التاريخ» الذي نال به هوك وسام بتلر الفضي في عام 1945م من جامعة كولمبيا، ووصفت براءة الوسام الكتاب بأنه «جهد هام في المحاولات الأخيرة لتفسير التاريخ من وجهة المذهب الطبيعي الأمريكي والمذهب التجريبي». والكتاب الهام الذي أخرجه هوك بعد ذلك هو «التربية لإنسان العصر الحديث» عام 1946م، وهو دفاع ملهم الفلسفة التربوية الحرة في أمريكا في عصر بلغت فيه القمة تجارة «الكتب العظيمة» وبروجرام كلية سنت جون.
وقد اتجه هوك بجهوده نحو التبشير بحيوية الحرية التي يعارض بها الشيوعية، وفي هذا أصدر أخيرا كتابين؛ أحدهما «زندقة لا مؤامرة» في عام 1953م، وهو دراسة للحرية الثقافية في الولايات المتحدة عالج فيها مذهب الحرية ليخرج منه بنقد الشيوعية نقدا لاذعا؛ والآخر كتاب «الرأي العام والتعديل الخامس» في عام 1957م، وهو دراسة لمادة «اتهام النفس» في القانون، كتبت، كما قال المؤلف، من وجهة نظر «مذهب الحرية الذي لم يدخله تعديل، وهو المذهب الذي يعترف بتفوق الأخلاق على القانون وتركيز التفكير في الأخلاق». وبعد سنوات عدة قضاها هوك في الكتابة والتبشير بالمبادئ الأساسية للتفكير والبحث المستقل، رأى الحاجة إلى تكوين مؤسسة للدفاع عن الحرية العقلية ضد الخداع الذي لا ينقطع والاعتداء الواقع على الديمقراطية الذي يصدر عن أوكار الشيوعية والأركان التي تعطف عليها، فتأسست لجنة الحرية الثقافية، وكان أول رئيس لها سدني هوك، ولهذه اللجنة الآن تسع «جماعات وطنية» تابعة للجنة الأمريكية. (1) المذهب الطبيعي والديمقراطية
سدني هوك (1-1) فتور الحماسة
في الفصل الثالث الشهير من كتاب «أربع مراحل في الديانة الإغريقية» يقول جلبرت مري: «إن الفترة التي تقع بين عام 300ق.م. والقرن الأول المسيحي تتميز ب «فتور الحماسة»، وقد تبين هذا الفتور في ظهور الزهد والتصوف، أو التشاؤم بمعنى من معانيه، يتميز بفقدان الثقة بالنفس، والأمل في هذه الحياة، والإيمان بالجهود البشرية المألوفة، يتميز باليأس من الأناة في البحث، والحاجة إلى وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه، كما يتميز بعدم المبالاة برفاهية الدولة، والارتداد عن دين الله.»
ولو تصفحنا الاتجاهات الثقافية في عصرنا الحاضر لتبين فيها دلائل كثيرة تشير إلى فتور جديد في الحماسة في المدنية الغربية؛ من ذلك إحياء العقيدة في فساد الطبيعة البشرية من قديم الزمان، والتنبؤ بانهيار الثقافة الغربية، بغض النظر عمن يكسب الحرب أو السلام، والبحث عن قيم تتجاوز اهتمام الإنسان، وتقديس «الزعيم» إلى درجة العبادة، وازدراء كل البرامج والفلسفات الاجتماعية، نظرا لفشل بعضها فشلا واضحا، والهجوم العنيف على حب الدنيا، والمناداة بتنمية الطهارة الروحية، والاهتمام بالألغاز أكثر من الاهتمام بالمشكلات، والاعتقاد بأن الأساطير والألغاز هي من أساليب المعرفة. وليس هذا إلا بعض الدلائل الثانوية على الفتور الجديد في حماسة الإنسان.
أما الدليل الأول على الفتور الجديد في الحماسة فينحصر في النظرة التي تصاحب كل الحركات والآراء التي ذكرناها آنفا، وكثير غيرها كذلك. وهو يتبين في فقدان الثقة في الطريقة العلمية كما يتبين في البحث بمختلف الصور عن «المعرفة» و«الحق»، بوسيلة تختلف كل الاختلاف عن تلك الوسائل التي ينتهجها البحث العلمي. وكثيرا ما تكون هذه الحقائق المختلفة الفذة - دون اعتبار كبير لمراعاة المنطق - «أسمى» من تنوع العلم الذي يبهر الأبصار ومما يكتسبه الإنسان بالحس السليم. وكثيرا ما نخفي عدم الثقة في الطريقة العلمية بقولنا إن العلم - بطبيعته - له نوع من الصحة في ميدانه الخاص ومجاله المعين، وإن مزاعم الفلسفة العلمية وحدها - المذهب الطبيعي، والمذهب التجريبي، والمذهب الوضعي - هي التي توضع موضع النقد. وبالرغم من ذلك، فإن أمثال هؤلاء النقاد لا يتجهون نحو الطرائق الفعلية للبحث العلمي بغية تصحيح هذه العبارة أو تلك من الفلسفة العلمية، إنما يتجهون نحو طريقة أخرى تمدنا بمعرفة ما يجاوز قدرة الطريقة العلمية، وهم يزعمون بين الحين والحين في جرأة وشجاعة أن طريقتهم التي يبشرون بها تمدنا بمعرفة أكمل وأصح حتى عن الموضوعات التي تعالجها العلوم. أي بيان في ذلك أبلغ مما تتضمنه عبارة رينولد نيبور التي يقول فيها «إن العلم الذي ينحصر في العلم لا يمكن أن يتصف بالدقة العلمية»؟!
وفقدان الثقة في الطريقة العلمية يتحول إلى عداوة صريحة كلما طالبت إحدى الحقائق «الخاصة» المتميزة بإعفائها من المعايير الموضوعة لحماية العقل من الأوهام. وهذه الدعاوى بطلب الإعفاء تتخذ لها صورا عديدة، وهي قلما تكون مباشرة علنية، وإنما هي في العادة تتخذ صور النتائج الحتمية ل «نظريات» المعرفة الخاصة، أو للحياة، أو للتجربة. وهناك من يفسر العلم والمعرفة المتقطعة عموما بأنها مجرد طريقة لتثبيت ما نعرفه من قبل بالفعل، معرفة أكيدة وإن تكن غامضة، بوسائل أخرى من الاختبار والتجربة. وإذا كانت وسائل البحث العلمي لا تؤدي إلى هذا التثبيت، فلا بد أن تكون خاطئة، ولا بد من إيجاد وسيلة أخرى تؤكد صحة الحكمة البدائية وتنقلها إلى عقولنا. ويزعم آخرون أن الطريقة العلمية لا تمدنا إلا بحقائق جزئية، لا تقل فيها صفة الجزئية بإخضاعها لفحص علمي أدق، وإنما تقل بضمها إلى نظام ديني أو ميتافيزيقي. وهناك من يصرح علنا بأن من البديهيات أن كل تجربة وكل شعور أو عاطفة إنما يعبر مباشرة عن حقيقة لا يمكن أن تكفل صحتها التجربة أو الاستدلال، بل وليست في حاجة إلى هذه الكفالة.
وهذه بصراحة مداخل إلى الاستهتار الذهني والخلقي. وربما كان أدق من ذلك أن نقول إنه مما يحملنا إلى أبعد من هذه المداخل أن نؤمن بأن كل طريقة من طرق التجربة تمدنا بمعرفة مباشرة معتمدة؛ لأن هذه النظرة غالبا ما تكون دفاعا عن غموض مقصود؛ إذ إنها تبدأ بافتراض أن كل خبرة تعطينا معرفة معتمدة بالعالم الموضوعي، بدلا من أن تعطينا مادة للحكم عليها، وهي تجعل من أمعائنا وسائل للمعرفة، وتبرر كل هوى عاطفي بزعمها أننا لو أحسسنا إزاء شيء ما إحساسا فيه من العمق الكفاية، فلا بد أن تعلن مشاعرنا عن بعض الحق المتعلق بالشيء الذي أثار هذا الشعور، فيكون هذا الحق مشروعا مشروعية الحكم الذي نصدره ونكشف به عن أصل الشعور الذي أحسسناه في لحظة من لحظات الانحراف الشخصي. أوليست هذه هي الحالة التي يقتنع فيها كل متعصب يسعى وراء الزندقة وكل متحمس يهذي أن المشاعر والرؤى والأهواء التي تثور في نفسه تعبر عن الحقيقة؟ وليس هتلر هو الوحيد الذي يرى أن الدلائل تعد عرضية إذا لم يرفضها المرء باعتبارها أمورا أخطأها الداء. وإذا كان صوت الشعور لا يخطئ، فكل خلاف يكون دعوة إلى القتال، وكل عقل مختل يستطيع أن يزعم لنفسه النبوة. إننا لسنا بحاجة إلى حماية الطريقة العلمية النقدية دفاعا عن أنفسنا ضد أولئك الذين يقفون عند حافة الخلل العقلي فحسب؛ لأن كل مصلحة خاصة في الحياة الاجتماعية، وكل مزية لا تقاوم على أساس المساواة، وكل «حقيقة» تصدر باعتبارها حقيقة وطنية أو طبقية أو عنصرية، تنكر قدرة البحث العلمي على تقويم ما تدعيه هذه القدرة، بل إن أشخاصنا العادية لا تخلو من الميل إلى أن تحسب غزارة الشعور أو الإيمان الذي نعتنق به العقائد دليلا على صحتها لا شك فيه.
وهناك من يرى أن ما يكشف عنه الشعور والبداهة والعاطفة لا بد أن يتفق وقوانين الاستدلال العلمي. غير أن هذا الرأي لا يمكن أن يقبل؛ لأنه عبارة عن حكم شرعي اعتباطي بشأن الرؤى التي يمكن قبولها والتي لا يمكن قبولها، وأيها يجوز أن يوجد وأيها لا يجوز. والشكوى قائمة من أن مثل هذا الرأي يقفر مصادر الخيال، ويقضي على الرؤى التي لا يكون بغيرها نمو أو معرفة جديدة، ولا تؤدي على الأكثر إلا إلى عبث أخرق بالقوانين والطرائق. ومثل هذا التفسير - فيما يتعلق بمشاهدة الرؤى واكتساب الحقائق الجديدة - يدعو إلى السخرية الشديدة. أما النقطة الأساسية - حينما تنشأ مشكلة المعرفة والحق - فهي: هل شهد أحدنا رؤيا؟ أو هل كان فريسة للوهم؟ وإذا لم نشأ أن نسأل بهذه الصيغة، قلنا: هل يرى الواحد منا رؤيا يوثق بها، أو رؤيا لا يوثق بها؟ إن بعض الناس يزعمون أنهم يرون أشياء نعرف أنها غير موجودة. وإذا كانت المشاهدة تؤدي إلى العقيدة، فمن الجائز أن يخدع الناس دائما.
ولكن المطالبة بالدليل من الناحية العقلية لا تدعو إلى شلل رواد الحق الذين يدركون لمحات مما لم يحلم به أحد حتى آنئذ؛ لأن العلوم ذاتها لا تتطلب إثباتا كاملا أو دقيقا للفرض منذ البداية، وإنما تتطلب من الإثبات ما يكفي لمواصلة البحث. وتاريخ العلم دليل كاف على أن دقة طريقته لا تحول البتة دون اكتشاف الحقائق الجديدة، بل إنها عون إيجابي على اكتسابها. أما عن الحكم على ما هو «موجود» أو على ما يمكن أن يوجد، فليس في الطريقة العلمية ما «يحرم» وجود أي شيء. إنما الطريقة العلمية لا تهتم إلا بتبعة الأقوال التي تزعم وجود شيء ما. إنها لا تسخر من الذهول الصوفي الذي يصيب المرء من فرط السرور، بل إنها تكتفي بإنكار ما يدعيه التصوف من معرفة تأملية لا يقوم على صحتها دليل سوى حدوث الغيبوبة.
إن الطريقة العلمية لا تستلزم أية نظرية ميتافيزيقية للوجود ، ولا تستلزم قطعا أية مادية ميتافيزيقية، ومهاجمة الطريقة العلمي - لكي يكون المرء حرا في الإيمان بأي صوت يناديه - هي في الحقيقة فرار من المسئولية. وهذه هي الصفة السائدة من صفات فتور الحماسة.
1 (1-2) المذهب الطبيعي والديني
بغض النظر عن تنوع المذاهب الخاصة التي نادى بها الطبيعيون من عهد ديموقريطس حتى ديوي، فإن ما يوحد بينها جميعا هو قبول الطريقة العلمية قبولا تاما باعتبارها الطريقة الوحيدة التي يعتمد عليها لبلوغ الحقائق التي تتعلق بعالم الطبيعة، والمجتمع، والإنسان. ويمكن بسهولة أن نعلل الخلاف بين الطبيعيين في تاريخ الفكر مما يأتي: (1) التصورات التاريخية المختلفة لأي الميادين وأي المشكلات تخضع للمعالجة العلمية. (2) التهذيب الذي حدث تدريجا في وسائل البحث ذاتها. وكل ما بينهم من أسباب الخلاف يمكن أن يزول من حيث المبدأ بالرجوع إلى «الطريقة» التي يدينون لها جميعا بالولاء المشترك، اللهم إلا فيما يتعلق بتلك الفوارق في المزاج التي تؤدي إلى الاهتمام باتجاه دون الآخر أو إلى اختيار منحى دون منحى ، وهو ما لا يزعم أحد من الطبيعيين أنه طريق مؤد إلى الحقيقة؛ فالقاسم المشترك الأعظم إذن بين كل المذاهب الطبيعية التاريخية ليس في مجموعة من المذاهب المعينة بمقدار ما هو في طريقة التجريب العقلي أو العلمي.
والمذهب الطبيعي يتعارض مع جميع مذاهب ما وراء الطبيعة، لا لأنه يستبعد مقدما ما يمكن وجوده وما لا يمكن، ولكن لأنه لم يوجد دليل معقول يؤيد العقيدة في الكليات والقوى التي يعزى إليها النظر إلى ما وراء الطبيعة؛ فالطبيعيون ينكرون وجود الله والخلود والأرواح التي لا تسكن الأجساد، والأغراض والإرادات الكونية - كما كانت تفهمها دائما الديانات النظامية الكبرى - لنفس الأسباب العامة التي من أجلها ينكرون وجود الجنيات والعفاريت والأشباح. وهناك - من غير شك - تصورات أخرى عن الإله، والطبيعيون مستعدون - من حيث المبدأ - أن يفكروا فيما تدعيه من صحة الوجود، وما دامت لا تتناقض في معناها، وكل ما يتطلبونه أن يبلغ التصور من التحديد ما يجعل بالإمكان أن نرتب عليه الشروط التي تعين أوجه الصورة؛ الكيفية، والزمان، والمكان ؛ الذي يقوم فيه بعمله الإله المزعوم. ومما يعيب أكثر التصورات عن الإله التي تختلف عن التصورات التقليدية هو أنها إما أن تكون أغمض من أن يفهم أي إنسان ما تعنيه هذه التصورات، أو تعرف شيئا يدخل في خبرة الإنسان مع وجود تعبير سابق يلائمه كل الملاءمة.
2
وإحياء الدين في العصر الحاضر لا يرجع إلى كشف حجج جديدة، أو دلائل جديدة تبرهن على وجود عنصر وراء الطبيعة، ولا يرجع إلى تحليل أشد عمقا لمنطق العقيدة الدينية. ويتضح من ذلك أن رجال الفكر أكثر انجذابا إلى علوم الدين الصوفية منهم إلى علوم الدين العقلية، وإلى مبدأ الذاتية منهم إلى مبدأ الموضوعية، وإلى ما يروى عما كان يعانيه أوغسطين من تجارب أليمة منهم إلى الحجج الواضحة - وإن تكن معيبة - التي كان يسوقها أكويناس. والقدر الضئيل من الأدلة التي يقحمها رجال الفكر يستمدونها من الشعور، الشعور بالرهبة والسمو، وبالقداسة وضعف الإنسان، وهو شعور يفسر تفسيرا عقائديا بأنه إشارة إلى الألوهية، وبافتراضهم أن هناك حقائق عن طبائع الأشياء، يدركها المرء إدراكا غامضا في كل تجربة غزيرة - بافتراضهم هذا - يقللون من شأن العقل. إن البعث الديني في عصرنا هو في حقيقته جزء من حركة لا عقلية أشمل في الفكر الحديث.
ذلك لأن الإله الذي يبحث عنه رجال الفكر هؤلاء ليس هو علم اللاهوت بمقدار ما هو تسويغ لوجود الله نظرا لانتشار الشر فوق الأرض، وليس مجرد الحق، أو الحق أولا وقبل كل شيء، إنما هو تسويغ واطمئنان.
وفي هذا نجد أقوى مصادر العقيدة الدينية وأكثرها دواما، لا لرجال الفكر هؤلاء فحسب، ولكن لأكثر الناس، وبخاصة في أوقات الأزمات الاجتماعية وكذلك في فترات الأزمات الشخصية. والمذهب الطبيعي - كفلسفة - يكفي لسد جميع حاجات الإدراك المشروعة دون أن يستسلم إلى الغرور بأن الذكاء البشري على كل شيء قدير، وأن جميع المشكلات يمكن أن تحل، ولكن بإدراكه حقيقة الشر والأمور المفزعة التي تمر بخبرة الإنسان، وبقبوله فكرة محدودية الإنسان ومحدودية كل مخلوق وكل قوة، وبرفضه قبول تلك الجهود الساذجة أو العويصة التي تبذل في سبيل تصوير نظام الكون في صورة خلقية، إنه بذلك يعجز عن تقديم ذلك الاطمئنان الذي لا بد منه لرقاق العقول إذا أرادوا أن يكون وجودهم محتملا ذا معنى. وليس ذلك لأن صاحب العقيدة تنقصه الصلابة العقلية التي تدعو إلى إدراك الشر، ولكنه إن أراد ألا يختنق بهذا الشر حتى الممات - كما حدث لإيفان كرامازوف - فلا مناص له من أن يثلم حده القاطع، وأن يتعلم الاعتقاد - على غير أسس عقلية - أنه يؤدي غرضا «أسمى» لا يراه.
والمذهب الطبيعي الذي يقوم على أساس العقل - مهما يكن حصيفا - يدرك أن هناك، بالإضافة إلى الآلام التي تصدر عن عدم المساواة الاجتماعية، تجارب كبرى من خيبة الأمل والحزن والخسران ليس بوسع الإنسان الحساس أن يتفاداها. ويمكن في خير المجتمعات أن يقهر الموت، ولكن المأساة لا تقهر. وليس الرجل الفقير هو الذي سوف يلازمنا دائما، إنما هو «الإنسان السفلي». إن المعرفة العلمية تضاعف القوى البشرية في نفس الوقت الذي تبصرنا فيه بالقلقلة الأساسية في الوجود البشري. وإني أرى - على نقيض ما يرى برتراند رسل - أن نمو العلم لا يؤدي إلى الضلال الديني، أو إلى نقص في التواضع العقلي. لماذا تصبح الدنيا أقل مدعاة للعجب أو أقل إثارة للرهبة، إذا استطعنا ذات يوم أن نثب من كوكب إلى كوكب، أو إذا استطعنا تركيب الخلية الأولى، أو أزلنا الظلام عن عقول المجانين؟
إن المذهب الطبيعي حينما يجيء في حينه لن يكون مثاليا كفيلا بالسعادة لجميع البشر؛ فهو يدرك أن المعرفة والحكمة لا تضمنان الرفاهية، وأنهما لا تستطيعان أن تقللا من آلام الضعاف والمقبوحين والمحرومين من المحبة والصداقة، أو لعلهما لا تستطيعان البتة ذلك. والمذهب الطبيعي لا يستطيع أن يعد بالضمان الشامل، حتى حين يدرك حاجات أولئك الذين يسعون إلى تحقيقه.
ويرى ماكس وبر في مكان ما أن الديانات الكبرى هي تفسيرات للدنيا تحاول أن تجد في الآلام التي ليس لها داع في حياة الإنسان معنى. وإذا كان هذا الرأي لا يحل المشكلة كلها، إلا أني أعتقد أنه يعبر عن شيء لا بد منه في نظر الشخص المتدين، الذي لا بد أن يكون للألم عنده معنى، وأن عمل الخير لن يمنى قط بالهزيمة في النهاية. حقا إن بعض الطبيعيين كانوا متفائلين تفاؤلا سطحيا، وهو شيء من السهل علاجه في ضوء المزيد من المعرفة، غير أن التهمة ليست البتة في موضعها، ومنشؤها أصحاب العقائد الدينية الذين أدت بهم نزعاتهم العاطفية إلى قبول التفاؤل على أوسع نطاق يمكن تصوره.
ومن الطبيعيين من يخالفون زملاءهم؛ لأن بهم ميلا نحو العقائد التقليدية الرقيقة، فهم يأخذون على فلسفة المذهب الطبيعي «فتور الحماسة»؛ لأنه لا يكفي لتحليل عزلة رجل الفكر في العصر الحديث ومشكلاته الخلقية. وضعف الحجة في هذه النظرة يبدو حينما نفكر في أن المذهب الطبيعي الفلسفي لم يبتعد حتى الآن عن فجاجة المادية الناقصة كما هو اليوم. وهذه النظرة لا تفسر لنا لماذا يبدي الرجل المفكر في العصر الحديث الذي يبحث عن الخلاص عزوفا شديدا عن محاولة التفسير العلمي في التاريخ وعلم النفس، ولماذا لا يستعيض عنه بزيادة الإمعان في النظريات العلمية، وإنما يستعيض عنه بالمبالغة في الأساطير، كما تدل على ذلك حماسته لتوينبي؛ فسخطه عاطفي وليس عقليا. أما النقاد الذين يحنون إلى رقة السلوك فيتطلعون إلى المذهب الطبيعي ليمدهم بإيمان يعيشون به يتكافأ مع الإيمان الديني. وذلك بعينه ما لا يستطيع المذهب الطبيعي أن يفعله إذا هو أخلص لوقائع التجربة. إن هؤلاء ينسون أن الإيمان الديني لا يمكن أن ينفصل عن العقيدة الدينية أو اليقين الثابت، ولا يمكن في النهاية أن ينفصل عن قضية الحق، وإلا عبثنا عبثا شديدا بموضوع الأخلاق وموضوع الجمال، أو بحثنا في الموضوع بمصطلحات دينية.
إن فلسفة فورباخ الدينية التي ترى سر اللاهوت في الأنثروبولوجيا الفلسفية، هذه الفلسفة إذا طهرت مما يشوبها من عاطفية، وجدنا فيها بصيرة نافذة. وإن ما فعله ماركس لم يكن إنكار هذه البصيرة، وإنما أراد أن يبين أن الحاجات العاطفية التي تعتبر الدين تعبيرا عنها ومشبعا لها في آن واحد لا يمكن أن تنفصل عن أصلها الثقافي، ولكنه بالغ في الرأي حتى بات على أيدي أولئك الذين يتصورون أنفسهم أتباعا له سخرية مضحكة.
وما دام الدين متحررا من صوره التي تخضع للنظم ولأصحاب السلطان، وما دام لا يتصور إلا على أسس شخصية، وما دامت المبالغة في الاعتقاد فيه مصدرا من مصادر المتعة البريئة، وما دام طريقة نتغلب بها على العزلة في هذا الكون، وما دام تدريبا على العيش مع ما فيه من آلام وشرور وإلا كان العيش غير محتمل ولا علاج له، وما دام ذلك الذي يؤدي عمل الوهم الضروري للحياة أو عمل الأسطورة الشعرية لا يعرض باعتباره حقيقة عامة يعمى عن وجودها البشر، وما دام الدين لا يشل الرغبة والإرادة للكفاح ضد عذابات الخبرة التي لا ضرورة لها؛ ما دام الدين كذلك، فيبدو لي أنه يقع في دائرة يمكن أن نكف فيها عن النقد العقلي. وبهذا المعنى يبرر المرء لنفسه دينه بالطريقة التي يبرر بها لنفسه حبه. ولكن لماذا يريد أن يجعل منه ثقافة عامة؟ ولماذا نطلب إليه أن يبرهن على أن محبوبته هي أجمل المخلوقات في هذه الدنيا؟ وبالرغم من ذلك فلا يزال من الحق أن الدين - باعتباره مجموعة من العقائد المدركة - فرض تأملي درجة الاحتمال فيه ضعيفة إلى أقصى الحدود.
3 (1-3) فلسفة الديمقراطية
حقا إن أثمن ما في تجارب الإنسان يتعرض للتهديد - في المأزق الحاضر - على مستوى عالمي، لا من جانب الديانات المتسلطة التي قاست العذاب مما لاقته من آلام على أيدي ما ينافسها من العقائد الدنيوية، ولكن من جانب التوسع المريع في الاستالينية وما يصدر عنها من إرهاب شامل مطلق. وإن ما نريده شعارا لنا هو الحرية وليس الخلاص. وقد يختار المرء الخلاص لروحه ويخسر الدنيا في سبيل هذا الخلاص، كما أن ما يراه أحد الناس خلاصا يراه غيره خرافة. ومن المؤكد أن نخسر المعركة في سبيل عالم ديمقراطي إذا سمحنا للبابا أن يتزعم حربا صليبية ضد البلشفية. إن كفاح العقل الخالي من الأصفاد ضد الأرثوذكسية المنظمة يجب أن يستمر بالرغم من أن المذاهب الأرثوذكسية المتصارعة تجد نفسها - بسبب اهتمامها بتحررها الديني - متحالفة في الوقت الحاضر ضد أرثوذكسية أعلى لا تحتمل معارضة، حتى إن كانت عن طريق الصمت.
وكما أن قيادة الكفاح الدولي ضد الاستالينية باسم الرأسمالية قاتل، مع العلم بأن اتفاقها مع الرأسمالية المحتضرة أيسر لها من اتفاقها مع الاشتراكية الديمقراطية، فكذلك الأمر مع شعارات ديانات الغرب الإقليمية التي لا تقبلها أكثرية البشر. أما ما يوحد بين المسيحيين وغير المسيحيين على السواء في كفاح مشترك في سبيل الحرية، فهو فلسفة الديمقراطية التي يجمع عليها كل الناس.
4
وبالديمقراطية كطريقة من طرق الحياة نعني طريقة لتنظيم العلاقات الإنسانية تتجسد فيها مجموعة معينة من المثل الخلقية. إننا جميعا على علم ببعض المواقف التي نقول فيها إن الديمقراطية السياسية قد هتكت مثلها التي تنادي بها. وكلما وجهنا نقدا إلى دول قائمة تسير وفقا للتعريف السياسي للديمقراطية على أساس أنها ليست ديمقراطية بالقدر الكافي، وكلما قلنا إن الديمقراطية الأثينية كانت مقصورة على الأحرار من الرجال وحدهم، أو إنها في بعض أجزاء أمريكا الجنوبية مقصورة على البيض وحدهم، أو إنها في بعض البلدان مقصورة على الرجال وحدهم، كلما قلنا ذلك كنا بمثابة من يستحث قيام مبدأ ديمقراطي أشمل نتقيد به ونحتكم إليه عندما نصدر أحكاما مقارنة. وهذا المبدأ من المبادئ الخلقية.
ما هذا المبدأ الذي تتمثل فيه الديمقراطية المثالية؟ إنه مبدأ المساواة، المساواة لا في المركز الاجتماعي ولا في النشأة، ولكنها المساواة في الفرص، وفي الوظائف الملائمة، وفي المشاركة الاجتماعية (لماذا نعامل الأفراد ذوي المواهب والاستعدادات المتفاوتة كأنهم أشخاص لهم حقوق متساوية في الاعتبار والرعاية المناسبة؟) لن أقدم في الإجابة على هذا السؤال بحثا شاملا، ويكفيني أن أذكر الأسباب دون التوسع في الحاجات الملموسة للوضع الاجتماعي التي تسعى الديمقراطية إلى سدها والطرق الدستورية التي يجب أن تسدها وفقا لها. (1)
إن هذه الطريقة من طرق معاملة الأفراد أكثر نجاحا من أية طريقة أخرى من حيث إثارتها للحد الأقصى من الحد التلقائي الخلاق من جانب جميع أعضاء المجتمع. وإذا ما نحن طبقنا هذه الطريقة تطبيقا صحيحا، قدمنا لكل فرد في المجتمع سندا، واستنبطنا منه أقصى ما يمكن من ولاء معقول. (2)
هذه الطريقة توسع أفق تجاربنا؛ لأنها تمكننا من اكتساب النظر الثاقب في حاجات الآخرين ودوافعهم وآمالهم؛ فإن معرفتنا بالطريقة التي تسير بها الحياة في مجالات أخرى من الخبرة حافز لخيالنا ومدرب له في آن واحد، وفي معاونتنا غيرنا على النمو نعاون أنفسنا أيضا على النمو. (3)
إن رغبتنا في إدراك وجهة نظر رجل آخر دون أن يتحتم علينا الاستسلام له يجعل من الأرجح أن تلتقي وجهات النظر المختلفة، وتسوي ما بينها من خلاف، وتتعلم كيف تتعايش في سلام. إن المجتمع الديمقراطي لا يمكن أن يخلو من النضال في عالم توجد فيه دائما أسباب لعدم المساواة. غير أن القواعد الخلقية لهذا المجتمع - إذا ما طبقت تطبيقا معقولا - تجعل من الأرجح الحد من هذا النضال، أو تحوله إلى صور أقل ضررا من الناحية الاجتماعية مما يحدث لو أنا أنكرنا مبدأ المساواة. والنتيجة أن يقل التزلف، ويقل الخوف، ويقل التضارب في المجتمع الذي تسوده المساواة عما يحدث في المجتمع الذي يسوده عدم المساواة. (4)
إننا حينما نتعهد قدرات كل فرد من الأفراد حتى تبلغ أقصى ما تستطيع أن تحققه، نقتسم على أحسن صورة ممكنة ما لدينا من كنوز الحق والجمال، ونكتشف أبعادا جديدة في هذين المجالين. وكيف يعترض - دون تناقض - أي شخص وهب حياته لقيم العلوم والفنون على سياسة ترفع إلى الحد الأقصى إمكان اكتشاف الحق العلمي والمعاني الفنية، ونشرها على أوسع نطاق؟ (5)
إن تقدير ما لدى كل فرد من الأفراد من إمكانيات يؤدي إلى التخفيف من قسوة الإنسان على الإنسان، وبخاصة حينما تكون القسوة نتيجة للتعامي عن حاجات الآخرين أو الجهل بها. والمجتمع الذي يقوم على أسس ديمقراطية لا يقسو إلا حيثما يفشل في العيش طبقا لمثله. أما المجتمع الذي يخضع للحكم الدكتاتوري فهو في كل الظروف لا يحس الحاجات الشخصية لأعضاء الطبقة المنبوذة التي يقع عليها سخط الحاكم، بل ولا يحس حاجات أكثرية الشعب المبعدين عن مناقشة السياسة العامة وتشكيلها. وليست هناك وسيلة لتحديد هذه الحاجات الشخصية - في أحسن الظروف - سوى تفسير الحاكم المستبد وخبرائه الذين يعملون باعتقاد جازم بأنهم يعرفون مصالح شعبهم أكثر مما يعرفها أفراد الشعب نفسه. أما في أسوأ الظروف فالدكتاتور لا يزعم أنه يعبر عن رعاياه فحسب، بل إنه يحس أيضا ويفكر - بطريقة غامضة - نيابة عنهم. وأعتقد أن الديمقراطية في العالم الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، بالرغم من قصورها الشديد الذي عانت منه - وهو قصور من وجهة نظر مثلها العليا - أعتقد اعتقادا جازما وبالدليل القاطع أن الحياة الاجتماعية إجمالا في ظل هذه الديمقراطية - وقد تأثرت هذه الحياة بالسياسة - قد ظهر فيها من القسوة أقل مما ظهر في الحياة الاجتماعية في أية فترة تاريخية أخرى. (6)
إن معقولية النتائج، حينما تختلف وجهات النظر والمصالح، تتوقف على درجة التشاور المتبادل والاتصال الفكري الحر بين من بيدهم الأمر من أفراد. والطريقة الديمقراطية في الحياة تجعل بالإمكان قيام أشكال مختلفة من تبادل المشورة والاتصال على أوسع نطاق ممكن.
5 (1-4) الوظيفة الخلقية للذكاء
إذا كان الخير يعرف من حيث علاقته بالحاجات البشرية أو المصالح البشرية (أو من حيث الإيثار، أو الرغبة، أو الاطمئنان) - أو، بعبارة أخرى، إذا كنا نتصور أن طبيعة الأخلاق لها أية علاقة بالطبيعة البشرية - إذا كان ذلك كذلك، فإن كل حكم عن الخير والأفضل - في أي موقف من المواقف - له معنى وصفي، ويمكن تقديره من حيث المبدأ بالإشارة إلى الحاجات أو المصالح المتعلقة به. وطبيعة الطبيعة البشرية - وبالأخص وجود مصالح مشتركة في خبرة مشتركة، أو إمكان وجود مثل هذه المصالح المشتركة - تكون في كل موقف من المواقف ذات علاقة ملموسة. وإن ما يزعم جون ديوي من وجود «اتفاق نفساني في الطبائع البشرية، فيما يتعلق ب «الحاجات» الأساسية ... وفي بعض الظروف التي لا بد من مقابلتها لكي يتحتم الإبقاء على أية صورة من صور الاجتماع البشري ...» أمر خاضع للتجربة، معرفته عسيرة وإن لم تشق على الفحص والدراسة . وما دمنا نعلم أن الناس لا يدرون دائما أين تكون مصلحتهم، وأن مصلحتهم (أو نظرتهم) كثيرا ما تتغير في ضوء معرفتهم بأسبابها ونتائجها. وما دام الذكاء كذلك طبيعيا عند الإنسان، فإنا في مواطن الصراع نستخدم الطريقة العقلية للبت في أوجه الخلاف، وذلك ببحثنا عن مصلحة أشمل تمكننا إما من العيش مع ما بيننا من فوارق، وإما من الحد منها، وإما التجاوز عنها؛ وبذلك نحول نزاعنا على القيم إلى خلافات بشأنها يمكن التوفيق بينها. وهذه هي الوظيفة الخلقية البناءة للذكاء، ولكي يكون لها أثر يجب أن نتخذ لها صورة من صور النظم العامة - في التربية، والاقتصاد، والسياسة.
إن كل من ينظر إلى التاريخ نظرة هادئة لا يمكن أن يميل إلى القول بأن كل ما بين أفراد البشر من خلاف يجب أن يستسلم للاتفاق بتأثير العقل، أو أنا يمكن أن نكون على يقين من أن الناس بينهم من أوجه الشبه ما يمكنهم من خلق الوسائل التي تجعلهم أشد اتفاقا ، أو على قدر من التشابه يمكنهم من الاتفاق على قدر من التسامح في الخلاف. إن العزوف عن استخدام الذكاء حيث يمكن استخدامه لا يتناقض مع القول بأنه لو استخدم لأمكن - بل لتحتم أحيانا - الكشف عن بعض المصالح المشتركة المعينة.
ومن المهم - على أية حال - أن نشير إلى أنه من السهل أن نبالغ في الفوارق بين الناس التي لا يمكن التوفيق بينها، وأن نحول - بالحكم النظري - المناسبات التي يقع فيها الخلاف إلى خلافات نهائية في النظر إلى القيم لا يمكن أن يوجد لها حل، فإن أكثر ما بين الناس من فوارق يتعلق بالأهداف الموقوتة التي يركزون فيها اتجاههم، سواء أكانت هذه الأهداف بعيدة أم قريبة، ولا تتعلق بالقيم البعيدة التي يؤمنون بها جميعا، والتي يقر أكثر الناس في الثقافة الغربية - على الأقل - باتفاقهم بشأنها، إلى الحد الذي يجعل فرانكو يتحدث عن «أخوة البشر تحت رعاية الله»، ويجعل استالين يتحدث عن «الحرية ...»
إن وجود الذكاء عند الإنسان أمر واقع في طبيعته بمقدار ما هو كذلك من حيث الحاجات والرغبات التي يسعى إلى إشباعها. وما دام إشباع هذه الحاجات بدرجة ناجحة يتوقف على معرفة جميع أنواع الظروف والنتائج، فليست هناك إذن مشكلة قائمة بشأن تبرير استخدام الذكاء بقدر ما عند كل فرد منه؛ فاهتمامه باستخدام الذكاء أمر له فيه مصلحة طبيعية؛ لأن ازدهار جميع المصالح الأخرى يتوقف عليه.
وإذا تدبرنا الطبيعة الاجتماعية للذات البشرية، ونجاح الطرق التجريبية في العلوم الطبيعية، وما يكلفنا إياه غيرها من الطرق التي تتبع في بحث شئون الناس دون جدوى، سرنا شوطا بعيدا في تسويغ استخدام الذكاء في فض ما بين المجموعات والطبقات من «نزاع».
6 (1-5) معنى التحرير في الوقت الحاضر
إن ما يجعل تحليل معنى التحرير أكثر من أن يكون تدريبا علميا هو ما تتحدانا به الحركة الشيوعية، التي تستثير الحريات التي تسود في المجتمع المتحرر لكي تقضي عليها. وقد تقدمت اقتراحات كثيرة لحل هذه المشكلة، وكل هذه المقترحات لا بد لها من أن تواجه هذا السؤال: هل تطبق أو تراعي مبادئ التحرر ذاتها بغير تناقض عن التوصية بالوسائل التي تتبع للقضاء على الشيوعية؟
لأن نتحدث عما ليس بالتحرر أيسر لنا من أن نتحدث عما هو التحرر. ليس التحرر والاعتقاد في مبدأ «دع الأمور تجري في أعنتها»، أو مبدأ المشروعات الحرة في الاقتصاد بمعنى واحد، وليس التحرر هو التوفيق في كل أمر من الأمور، وليس هو تلك الفكرة المطمئنة التي تقول بأنه من الممكن دائما إيجاد الحل الوسط.
ويترتب على ذلك أن التحرر وإن يكن بطبيعته مسالما، إلا أنه لا يسلك مسلك السلام، فهو لا يجعل من «التعقل العذب» وثنا يعبد في حالة الاعتداء، وهو يدرك أن التهدئة قد تكون أشد إثارة للصراع المسلح من استعراض القوة استعراضا حكيما مشروعا دليلا على القدرة على المقاومة. وتاريخ علاقات الحلفاء مع هتلر دليل قاطع مع ذلك.
ولا يمكن أخيرا أن نفهم التحرر على أنه الاعتقاد التقليدي في بعض الحقوق المعينة المطلقة التي لا يمكن التخلي عنها؛ لأن كل حق من هذه الحقوق إنما يقوم في الواقع في حدود نتائجه بالنسبة إلى المجتمع، وهو لذلك يخضع للتعديل. إن حقا من الحقوق قد يحد من حق آخر، والحكم النهائي في هذا الصراع القائم بين الحقوق يصدر في الضوء الذي ينعكس من الموقف كله، أو من تلك المجموعة من الحريات التي نؤثرها عقلا، والتي قد يستتبع وجودها الانتقاص المؤقت من إحدى الحريات. وإذا قلنا إنا لا نستطيع أن نحتفظ بحرياتنا بالتضحية بها فلن يكون ذلك إلا من قبيل الفصاحة الجوفاء؛ لأن إحدى الحريات المعينة لا بد أن يضحى بها أحيانا للاحتفاظ بالحريات الأخرى.
إن أشمل وأوفى تعريف في تعبير إيجابي لمعنى التحرر، من عهد سقراط حتى جون ديوي، توحي به تلك الكلمات المأثورة لهولمز التي يقول فيها إن التحرر هو الاعتقاد «في حرية الاتجار بالأفكار؛ فمعيار الصدق في الرأي هو قدرته على الرواج في منافسة السوق». وليس هذا برنامجا للعمل، وليس نظرية فلسفية عن الحق، وإنما هو نظرة - أو مزاج عقلي - إزاء كل برنامج . وقد يختلف دعاة الحرية فيما بينهم على كل شيء غير هذا، ولكنهم جميعا يؤمنون بذلك؛ فهو عقيدة تميز الثقافة المتحررة من الثقافة التحكمية، وكل عمل يقيد حرية الأفكار في نموها أو ذيوعها عمل ينافي الحرية.
وهناك على الأقل افتراضان سابقان لهذه العقيدة في سوق الآراء الحرة:
الأول: هو أن التعبير الحر عن الأفكار وإذاعتها قد يوأد كلما شكلت الآثار المحتملة لهذا التعبير وهذه الأفكار خطرا واضحا مؤكدا على السلام العام أو أمن البلاد. وهذا تطبيق خاص للمبدأ الذي يقول بأن الحق لا يكون مطلقا إذا عرض للخطر حقوق أخرى لها ما له من صحة، أو أكثر مما له. وهذا أمر شائع في شئون الناس العادية؛ فحق البحث مباح، ولكنه لا يكون كذلك إذا كان يؤدي بالباحث إلى أن يجري في الكائن البشري تجربة ليعلم منها إلى أي مدى يستطيع هذا الكائن أن يعيش بعد تعذيبه. وحق الكلام ثمين، ولكنه ليس كذلك حينما يعصف بسمعة شخص باتهامه تهمة يشهر به فيها. والصدق مقدس، ولكن الشخص الذي يبوح به، وهو يعلم أنه سوف يستخدم في تدمير بلاده، خائن لوطنه.
والافتراض الثاني في عقيدة التحرر في سوق الآراء الحرة: هو أن يكون التنافس على أسس نزيهة صريحة؛ لأنه ما لم تكن هناك قواعد معينة للتنافس النزيه، شبيهة بتلك القواعد التي تتبع في ميادين التجربة والبحث الأخرى، فإن حرية الاختيار تمسي وهما من الأوهام؛ لأن الأسهم إذا ارتفعت قيمتها في السوق بعملية شراء مفتعلة، أو بالقوة أو بالخداع، فإن سعرها لا يدل البتة على حقيقتها. وإذا كانت القدرة على مقاومة المنافسة النزيهة ليست شرطا كافيا لضمان الصدق، فهي على الأقل شرط ضروري. وليست المبادئ «التي تستوجب الموت» من وجهة نظر المتحرر هي ما يخشاه؛ لأن إيمانه بالعقل يبلغ حدا يجعله على وثوق من أن أكثر الناس - عند تبادل الآراء تبادلا حرا نزيها - يختارون الحياة ولا يختارون الموت، وإنهم إذا اختاروا الموت فإنهم يستحقون ما ينتهي إليه مصيرهم، أما ما يخشاه المتحرر فهو الإفساد المنظم لسوق الآراء الحرة بضروب من النشاط تجعل الاختيار المعقول مستحيلا. إن ما يخشاه في عبارة موجزة هو التآمر وليس الزندقة.
والقصور في إدراك الفرق بين الزندقة والتآمر يقضي على الحضارة المتحررة؛ لأن النتيجة التي تترتب على ترادفهما إما أن تكون القضاء على النفس إذا عوقبت بالزندقة باعتبارها تآمرا، وإما الموت على أيدي الأعداء إذا تسامحنا مع المؤامرة واعتبرناها من قبيل الزندقة.
الزندقة مجموعة من الأفكار أو الآراء غير الشائعة التي تتعلق بموضوعات ذات أهمية قصوى للمجتمع. وحق التصريح علنا بالزندقة على أي شكل من الأشكال، وفي أي موضوع من الموضوعات، عنصر هام من عناصر المجتمع الحر. والرجل الحر مستعد للدفاع عن الزنديق المخلص مهما اختلف هذا الزنديق في رأيه عن الرأي الذي يعارضه. ويكفي الزنديق أن يدفع ثمن عدم شعبيته التي لا يجد عنها محيصا. وكل منا زنديق في بعض النواحي، ولكن المجتمع الحر لا يستطيع أن يفرض معتقدات رسمية بذاتها، تستتبع معارضتها فقدان الحرية أو الحياة.
أما المؤامرة فتتميز عن الزندقة بأنها حركة سرية أو باطنية تسعى إلى تحقيق أغراضها، لا بالطرق السياسية أو التربوية العادية، ولكن بالعمل استثناء من القواعد المشروعة. والمؤامرة لا يمكن أن تحتمل في المجتمع الحر دون أن يختل منطق التفكير؛ لأنها تهدم الشروط الضرورية لكي تتنافس المذاهب تنافسا حرا في سبيل انتشارها، ولأنها - عندما تفلح - تحطم كل زنديق أو منشق بغير رحمة.
ومذهب التحرير في القرن العشرين لا بد أن يشتد أزره؛ لأنه يشتغل بالنضال في جبهات كثيرة متنوعة. يجب أن يدافع عن سوق الآراء الحرة ضد المؤمنين بالعنصرية، والمحترفين للوطنية، والمدافعين عن الحالة الراهنة الذين يودون أن يجمدوا عدم التكافؤ القائم في الفرص والقوى الاقتصادية بخنق حرية النقد. ولا بد أيضا من حماية مذهب التحرير من عملاء الاستبداد الشيوعي والمدافعين عنه، الذين بدلا من أن يدافعوا بنزاهة عن زندقتهم، يلجئون إلى وسائل تآمرية تقوم بها جمعيات سرية، وغير ذلك من حيل الطابور الخامس.
ومذهب التحرر الواقعي يدرك أن البقاء يقتضينا أن نجد حلا لمشكلات شاقة كثيرة، كما يدرك أنها لا يمكن أن تحل إلا عن طريق العقل، لا عن طريق الفصاحة وحجة العقيدة. إن الخطر الأكبر الذي يهددنا ليس هو الخوف من الأفكار، وإنما هو «انعدام» الأفكار، وأقصد الأفكار الخاصة، التي تعالج المشكلات الملموسة على الفور، وهي مشكلات بلغت من التعقيد حدا لا يستطيع الزعم بإيجاد حلول لها جميعا إلا الجاهلون.
ومذهب التحرر - أخيرا - لا يتصور الحياة في مجرد البقاء وفي السلام بأي ثمن، وإنما يتصورها في ضوء الآراء والمثل التي لا يمكن أن تتحقق بدونها حياة جديرة بالإنسان.
7 (1-6) عقيدة الطبيعي
من الحق بغير شك أن الموطن الكوني للإنسان يحد من قوته إن لم يحد من أحلامه؛ فهو مصدر دائم لتذكيره بقصوره إزاء صعوبة انقياد الأشياء وصفة الزوال في كل ما يبني. ولكن من الحق أيضا أن قصور الإنسان هو مصدر فرصة، وهو شرط ضروري لكل عمل يؤديه. ومن هذا الحق وذاك لا نستطيع أن نستنتج أن الطبيعة كفيلة بمثل الإنسان العليا، أو هي على الأقل ليست كفيلة بمثله الديمقراطية، ولكنها أيضا ليست عدوا للمثل الإنسانية، إنما أصدقاء الإنسان وأعداؤه هم غيره من بني الإنسان؛ فالديمقراطية لا تحتاج إلى تعضيد كوني سوى «فرصة» فعل الخير. وهذه الفرصة تتوافر لها؛ لأن الإنسان جزء من الطبيعة. وليس من المعقول أن نتطلب أكثر من ذلك، حتى إن كان يستحق الطلب. والطريقة التي يعمل بها الإنسان وفقا لما لديه من فرص دليل آخر على ما في الوجود من إمكانيات موضوعية وقدرة على التجديد. والرجل الديمقراطي العاقل يواجه مخلصا إمكانيات الوجود، وغيبياته، وما ظهر منه، وتقلباته، وهو يواجه ذلك بمقدار صلته بمجرى الأمور، وهو رجل متحرر من الجنون الخيالي الذي يسعى إلى نبذ حقائق العلم، ومن تلك العقيدة العجيبة التي تؤمن بأن الطبيعة جمهورية ديمقراطية، وهي عقيدة لا يمكن قبولها إلا باعتبارها خيالا شعريا. إنه يقبل الدنيا كما يصفها العلم، وهو يستخدم معرفته بالدنيا لكي يزيد من سلطان الإنسان على الأشياء، ويحد من سلطانه على الإنسان، ولكي يقوي الزمالة بين الأشخاص الأحرار المتساوين الذين يجاهدون في سبيل قيام مجتمع أسعد وأعدل.
8
المصادر
المقتطفات التي اخترناها هنا لسدني هوك مقتبسة من كتابه «زندقة لا مؤامرة»، ومن مقالاته «المذهب الطبيعي والديمقراطية» في كتبه «المذهب الطبيعي وروح الإنسان»، ومن مقاله «المستحب والعاطفي في أخلاق ديوي» في كتابه «جون ديوي: فيلسوف العلم والحرية»، ومن مقاله «الدين ورجال الفكر» في «مجلة الحزبي».
1
من كتاب «المذهب الطبيعي وروح الإنسان».
2
من كتاب «المذهب الطبيعي وروح الإنسان».
3
من كتاب من مقاله ب «مجلة الحزبي».
4
من كتاب من مقاله ب «مجلة الحزبي».
5
من كتابه «المذهب الطبيعي وروح الإنسان».
6
من كتابه «جون يوي: فيلسوف العلم والحرية».
7
من كتابه «زندقة لا مؤامرة».
8
من كتابه «المذهب الطبيعي وروح الإنسان».
الفصل الرابع عشر
كارل ياسبرز
(1883م-...)
كان ياسبرز أحد مؤسسي الوجودية الألمانية، تلقى تعليما مهنيا في الطب، وقضى حياة عملية ناجحة في العلاج النفساني، ثم انصرف إلى الفلسفة حتى أمسى أستاذ الفلسفة الأول في ألمانيا. وفي عام 1937م فصل من وظيفة الأستاذية بجامعة هيدلبرج على أيدي النازيين؛ لأن زوجته كانت يهودية، ولما حرم من التدريس ومن النشر عاش متقاعدا عن العمل فيما بين عامي 1937 و1945م عندما وصل جيش الاحتلال الأمريكي وحرر آل ياسبرز فعلا من خضوعهم للتهديد الدائم بالقضاء على حياتهم، الذي كانوا يعيشون في ظله، وبعدئذ سعت إليه السلطات الأمريكية سعيا حثيثا تطلب منه المشورة، وسرعان ما أعيد تعيينه بهيدلبرج مديرا للجامعة، وأصبح منذ عام 1948م أستاذا للفلسفة بجامعة بازل في سويسرا.
وفي عام 1950م أعلن ياسبرز أنه يؤثر أن يعد فيلسوفا عقليا على أن يعد «فيلسوفا وجوديا»؛ لأن واجب الفلسفة في عصرنا هو أن يؤيد قضية العقل ضد اللاعقل، وكل صنوف التعصب ونظم الفكر التحكمية التي تفترض نفسها نظما «نهائية»، وكان ياسبرز دائما يؤمن بأن الوجودية تعتمد على إدراك أن وجودنا الصحيح يقوم على أساس شيء آخر يتجاوزه، وهو جهاد بشري خاص بالإنسان ويجاوز حدوده، كما يؤمن بأن العقل يتمم طبيعة هذا الجهاد؛ فنحن على حد تعبير ياسبرز «نعلم أننا جميعا تحت رحمة الحوادث التي لا تخضع لسلطاننا، ولكن في حدود هذا المصير الذي يتحتم علينا أن نخضع له، يريد الإنسان أن يحاول - برغم ذلك - بما لديه من قدرة على إصدار القرارات أن يحيا حياة قوامها العقل، وأن يمارس الذاتية والمعنى بمعونة العقل.» ويعترف ياسبرز أن العقل كان دائما موجودا كقيمة من القيم في كل كتاباته الأولى، غير أن ما دفعه إلى تفصيل الكلام فيه، بل إلى تمجيده، هو «حقائق الاشتراكية الوطنية في ألمانيا». بيد أن ياسبرز مستعد أيضا للاعتراف بأن إيمانه هو دعامة تفكيره، وهو إيمان إنجيلي - وإن لم يكن كنسيا - في منشئه الميتافيزقي.
وقد أخرج ياسبرز قدرا كبيرا من الصحائف المكتوبة، وأنفق سنوات تقاعده في التأمل والكتابة، كتب يقول: «حينما سألني صديق شاب في عام 1938م: «لماذا تكتب؟ فلن ينشر لك بأية حال من الأحوال، وسوف تحرق كل مخطوطاتك في يوم من الأيام!» أجبته مداعبا: «إن الإنسان لا يدري ماذا عساه يحدث، وأنا أستمتع بالكتابة، وإن ما أفكر فيه يزداد وضوحا في أثناء الكتابة. وأخيرا، لا أحب إذا ما انقلب الحكم ذات يوم أن أقف خالي الوفاض.»
وأول مؤلفاته، الذي طبع الطبعة الأولى في عام 1913م، وأعيد طبعه بعد مراجعته في عام 1919م، وهو مؤلف في علم النفس، يشير إلى التحول في مركز اهتمامه من علم النفس إلى الفلسفة، ويصف الآراء والنظرات العالمية التي تقع في حدودها الحياة العقلية للفرد، كما يصف الإطارات العقلية التي تمثل «ما هو نهائي وكامل في الإنسان، من الناحية الذاتية كخبرة من الخبرات وقدرة وعقيدة، ومن الناحية الموضوعية كعالم مركب من الأشياء.» وأكثر مؤلفاته اتباعا لطريقة موحدة كتابه «الفلسفة» الذي أخرجه في ثلاثة مجلدات، ونشر في ألمانيا في عام 1932م. وفي عام 1947م ظهرت له دراسة ضخمة للمنطق الوجودي. غير أن صيت ياسبرز يتسع ذيوعه في أوساط قراء الإنجليزية من مقالاته الفلسفية ذات المجال الفسيح، مثل «الوجودية والإنسانية»، و«العقل واللاعقل في زماننا»، و«المجال الدائم للفلسفة»، و«منشأ التاريخ وأهدافه».
وقد ولد كارل ياسبرز في أولدنبرج بألمانيا في الثالث والعشرين من شهر فبراير من عام 1883م من أسرة «متحررة محافظة» من الطبقة العليا، والآن وهو في منتصف سبعينياته نراه يتدبر في «الشيخوخة»، يقول: «عندما يبلغ المفكر سن الشيخوخة يكون شعوره ببلوغ النهاية أقل منه في أي وقت مضى. قال «كانت»: إذا ما تقدمت شوطا بعيدا واضحا بحيث لا نستطيع حقا أن نبدأ من جديد، وجب علينا أن ننسحب ونترك الأمر في أيدي الناشئين ... غير أن قوة العقل الممتدة لا تنحصر في دائرة الحياة البيولوجية. وقد تسيطر على المرء حالة عقلية - تتناقض مع سن الشيخوخة - تجعل البصر يمتد إلى آفاق جديدة بفضل ما لدى المرء من تجارب روحية».» (1) إنسانية جديدة
كارل ياسبرز (1-1) عصر تغير أساسي
كلنا يعلم أن عصرنا قد غير مجرى التاريخ تغييرا أساسيا أكثر مما فعل أي عصر آخر مما نعرف، وهو يكاد يشبه العصر المجهول الذي أشعلت فيه جذوة النار الأولى، والذي اخترعت فيه الآلات، والذي أنشئت فيه أقدم الدول. أما ما استحدث من وقائع فهو التكنولوجيا الحديثة وما ترتب عليها من وسائل العمل عند الإنسان وفي المجتمع، ووحدة الكرة الأرضية التي خلقتها وسائل الاتصال الحديثة، والتي جعلت الأرض أصغر من الدائرة الأرضية - مثلا - التي عرفها الرومان، والحد الأصغر المطلق الذي يتمثل في ضآلة الكوكب الذي نعيش عليه، والتناقض القائم بين الحرية والعمل المثمر، والشخصية والجمهرة والنظام العالمي والحكومات المستقلة، والأهمية القصوى لازدياد السكان، الذي تحول من أمم إلى جماهير تستطيع في الظاهر أن تدرك التطورات وأن تسهم فيها، في حين أنها قد تحولت في الواقع إلى رقيق مستغل، وانهيار كل المثل العليا في النظام القديم، والحاجة إلى إيجاد نظام إنساني جديد ينقذنا من تفاقم الفوضى، والتشكك في كل القيم التقليدية، التي يجب أن تثبت على صحتها أو أن تتغير، ثم في الموقف السياسي الملموس، الذي تتحكم فيه القوى العالمية، والولايات المتحدة وروسيا، وقارة أوروبية ممزقة من داخلها، يتضاءل حجمها فيزداد ابتعادها عن إدراك وجودها، ويقظة الجماهير الضخمة في آسيا، وهي في طريقها إلى أن تكون عوامل فعالة في القوى السياسية.
وقد سار بنا مجرى الأمور من عصر بورجوازي يتوافر فيه الرضا والتقدم والتربية، ويشير إلى ماض تاريخي دليلا على أنه حقق الأمن، إلى عصر حروب مدمرة، والموت الجماعي والقتل الجماعي (مصحوبا بجهل لا ينفد من الجماهير الجديدة)، عصر يقوى فيه الإحساس بالخطر إلى درجة مزعجة، عصر تتبدد فيه الإنسانية، ويسود فيه الانحلال والفوضى كل أمر من الأمور فيما يبدو.
فهل كل ذلك ثورة روحية؟ أو هل هو عملية خارجية لا مناص منها، مصدرها التكنولوجيا وما ترتب عليها من نتائج؟ هل هو كارثة وأمر ضخم محتمل لا تتضح بعد معالمه، وشيء يقتصر على الهدم حتى يتيقظ الإنسان ويصبح قادرا على مقابلته، حتى يتبين له أنه وسط ظروف وجوده الجديدة كل الجدة ولا ينكر هذه الظروف على غير وعي منه؟
وصورة المستقبل أكثر اهتزازا وأشد غموضا، ولكنها ربما كانت مبشرة ومثبطة في آن واحد أكثر من أي وقت مضى. وإذا كنت أدرك واجب الإنسانية، لا فيما يتعلق بحاجات الوجود المباشرة، ولكن فيما يتعلق بالحق الأبدي، فلا مندوحة لي عن البحث فيما يتصل بموقف الفلسفة. ماذا ينبغي للفلسفة أن تفعله في الموقف العالمي الراهن؟
إن مذهب العدم يتخذ في الواقع صورا متعددة؛ فمن الناس من يتخلى عن كل أمر باطني، ولم يعد لأي شيء عندهم قيمة، يتخبطون في عالم المصادفة بين لحظة وأخرى، يموتون بغير مبالاة ويقتلون بغير مبالاة، ولكنهم فيما يبدو يعيشون في صور ذهنية عددية تخدر أعصابهم، وفي عصبية للرأي عمياء يتنقلون بها من أمر إلى أمر، تدفعهم عواطف بدائية غير معقولة غلابة ولكنها سريعة الزوال، وينساقون في نهاية الأمر بدافع غريزي نحو متعة اللحظة التي هم فيها.
وإذا نحن استرقنا السمع إلى الألفاظ التي تخرج من الأفواه وسط هذا الخضم بدت لنا كأنها استعداد للموت مستور. وقد جعلت تربية الجماهير الناس عميانا بغير فكر، جديرين بأي شيء في غيبوبة أذهانهم، حتى أمسوا في نهاية الأمر يقبلون الموت والقتل، وبات الموت الجماعي في الحرب الآلية أمرا عاديا.
غير أن أشد الفلسفات وضوحا يستهدف كذلك تمكين الإنسان من مجابهة الموت. إن الفلسفة تسعى إلى إيجاد قاعدة لا يكون الموت على أساسها - بالتأكيد - مقبولا من الناحية العقلية، وإنما يكون محتملا في معمعان الآلام، لا في شيء من عدم المبالاة باللذة أو الألم، ولكن في ثبات الراغب الواثق.
1 (1-2) الرسالة الراهنة للفلسفة
الرأي العام السائد ينظر إلى الفلسفة باعتبارها على الأقل نافلة من النوافل؛ لأنه يرى أن الفلسفة تعمى عن الحاضر وقواه وحركاته، وهو يتساءل: ما فائدة الفلسفة؟ إن الفلسفة لا تعين؛ فقد كان أفلاطون عاجزا عن معونة الإغريق، ولم ينقذهم من التردي إلى أسفل، بل لقد عاون في الواقع على انهيارهم.
وكل استنكار للفلسفة يصدر عن شيء خارج عن الفلسفة، أما عن مضمون إيمان معين قد تعرضه الفلسفة للخطر، أو عن أهداف عملية لا تجدي فيها الفلسفة أو عن مذهب العدم الذي ينبذ كل شيء؛ ومن ثم فهو ينبذ الفلسفة باعتبارها عديمة القيمة.
غير أن في الجهد الفلسفي شيئا لا يراه كل أولئك الذين ينبذون الفلسفة. في الفلسفة يعيد الإنسان الكشف عن مصدره الأول. والفلسفة - بهذا المعنى - مطلقة لا تهدف إلى غرض، ولا يمكن تبريرها عن طريق شيء آخر، أو على أساس المنفعة لأي غرض من الأغراض. إنها ليست دعامة نستند إليها، أو قشة نتمسك بها. ولا يستطيع إنسان ما أن يطوع الفلسفة له، أو أن يتخذها وسيلة من الوسائل.
وأنا أجد الشجاعة لأن أقرر أن الفلسفة لا يمكن أن تتوقف ما دام الإنسان حيا؛ فالفلسفة تؤيد الأمل في إدراك معنى الحياة الذي يتجاوز كل الأغراض الدنيوية، وهي تبرز المعنى الذي ضم كل هذه الأغراض، وبمعنى ما تنفذ في الحياة لكي تؤدي هذا المعنى بالواقع الفعلي، وهي لن تحط من شأن الإنسان أو من شأن فرد ما إلى مستوى الآلة المجردة.
وهدف الفلسفة هو أن تحقق في كل الأزمان «استقلال» الإنسان كفرد، وهو يكتسب هذا الاستقلال بإيجاد علاقة بينه وبين الوجود الذي لا شك فيه، وهو يكتسب استقلال كل شيء يقع في هذه الدنيا بعمق ارتباطه بما يجاوز الطبيعة. وما وجده لاوتسي في تاو وجده سقراط في الرسالة المقدسة وفي المعرفة، ووجده أرميا في يهوه الذي كشف عن نفسه له، وهو ما عرفه بوثيس وبرونو واسبينوزا، وذلك هو ما أكسبهم صفة الاستقلال. وهذا الاستقلال الفلسفي ينبغي ألا يختلط بالتحكم الشديد الذي يوحي به الاستهتار بالأمور أو بالطاقة الحيوية التي تتحدى الموت.
ومهمة الفلسفة تتسم دائما بهذا «التناقض». إن الاستقلال يلتمس في البعد عن العالم، وفي نبذه واعتزاله، أو يلتمس في الدنيا ذاتها، وفي خلالها والإسهام فيها، ولكن دون الخضوع لها؛ ومن ثم فإن الفيلسوف الذي لا يحب لنفسه الحرية إلا إذا توافرت لغيره، ولا يحب لنفسه الحياة إلا باتصاله بغيره من الناس، هذا الفيلسوف ينطبق عليه ما أطلقه رجل أحمق على كونفوشيوس من أنه «الرجل الذي يعرف أن الأمر مستحيل، ولكنه برغم ذلك يسعى إليه»، وهي حقيقة تنطبق على المعرفة المحدودة التي تجعل من ظواهرها شيئا مطلقا، ولكنها حقيقة لا تزعزع حقيقة أخرى، هي حقيقة الإيمان الفلسفي، التي هي أبعد منها غورا.
إن الفلسفة تخاطب الفرد. وفي كل عالم، وكل موقف، يرد الاجتهاد الفلسفي الفرد إلى نفسه؛ لأن الفرد الذي يكون نفسه - ويستطيع أن يبرهن على ذاته في عزلته - هو وحده الذي يستطيع حقا أن يشرع في الاتصال بغيره.
فهل نستطيع الآن - في حدود هذه الواجبات الثابتة للفلسفة التي صورتها - أن نقول شيئا عن مهمتها الراهنة؟
سمعنا أن الإيمان بالعقل أشرف على نهايته، ويقال إن الخطوة الواسعة التي خطاها القرن العشرون هي الابتعاد عن المنطق، أو عن الفكرة التي تقول بوجود نظام عالمي. وبعض الناس يهلك عندما يدرك أن الحياة بذلك قد تحررت، وبعضهم ينحي باللائمة على هذا الخداع الأكبر للعقل، هذه الكارثة لا بد أن تؤدي إلى انهيار البشرية.
ويمكن أن يقال في هذا الصدد إن الخطوة المذكورة تنطوي على شيء من الصدق؛ لأنها قضت على الثقة الذاتية في عقل تخلت عنه الحكمة، وكشفت القناع عن توهمنا وجود انسجام عالمي، وأنهت اعتمادنا على حكم القانون، وعلى القانون ذاته. وقد كانت هذه الألفاظ رنانة تخفي وراءها تفاهة الحياة التي كشف عنها التحليل النفساني. وهذه الحركة التي عمادها العلاج النفساني اتسعت رقعتها حتى تحولت إلى شبه فلسفة تستمد جانبا من حقيقتها من علاقتها بعصر فاسد واعتمادها عليه.
وبعدما يزول كل هذا الزبد، تبقى الجذور عارية. والجذور هي المصدر الأول الذي نمونا منه، والذي نسيناه في شبكة الآراء والعادات والصيغ الأيديولوجية.
وواجبنا اليوم أن نلتمس في الوجود نفسه أساسا جديدا للعقل. هذا هو الواجب العاجل في الموقف الروحي الذي عرفه كركجارد ونيتشه وباسكال ودستويفسكي.
وتحقيقه لا يمكن أن ينحصر في العودة إلى ما كان، إنما الظاهر أنه ينطوي اليوم على العناصر الآتية: (1)
أننا نلتمس هدوء العقل باحتفاظنا باليقظة الدائمة. (2)
أننا ننتقل من حالة الإيمان بالعدم إلى تمثيل تقاليدنا القديمة. (3)
أننا نبحث عن العلوم الخالصة من الشوائب كمقدمة لصدق الفلسفة التي نقوم بوضعها. (4)
أن العقل يصبح رغبة في الاتصال لا حد لها.
2 (1-3) هدوء العقل
هدوء العقل هو الهدف من التفكير الفلسفي.
إننا نحب أن نكون على يقين - وسط هذا الانهيار العظيم - مما يتبقى لنا؛ لأنه هو الشيء الدائم. إننا نتدبر نشأتنا الأولى عند الملمات، وعندما يهددنا خطر الموت نبحث عن فكرة تثبت عزائمنا.
وتستطيع الفلسفة حتى في عصرنا هذا أن تمدنا بما أدرك بارمنيدز حينما بنى معبدا للإله شكرا له على هدوء العقل الذي جاءه عن طريق الفلسفة، ولكنا نملك اليوم قدرا كبيرا من الرضا والاطمئنان.
ومن الحقائق المؤلمة اليوم - بالرغم من كل ما يحيط بنا من انقلاب وتدهور - أننا ما زلنا في خطر العيش والتفكير كأن شيئا هاما في الواقع لم يحدث، وكأن كارثة كبرى قد أزعجت حياتنا الطيبة نحن الضحايا المساكين وحسب، ولكن كأن الحياة يمكن الآن أن تستمر على الأسلوب القديم كأن شيئا لم يحدث. وسواء أحسسنا اليوم بالخوف أم بالعجز أم بالغضب، فنحن نتهم غيرنا. وكل من يشعر هذا الشعور لا يزال في الشباك التي لا تجعل في الإمكان سوى هدوء عقلي خداع، وهذا الهدوء ينبغي أن يتحول إلى انعدام الهدوء؛ لأن الخطر الأكبر هو أن ما حدث قد يمر باعتباره ليس إلا كارثة عظمى، دون أن يحدث لنا نحن البشر شيء باعتبارنا بشرا، دون أن نسمع صوتا أبعد عن حدود أنفسنا، ودون أن نبلغ نفاذ البصيرة أو أن نعمل طبقا لهذا النفاذ. والهبوط الشديد في وضوح الإدراك يدفعنا عندئذ إلى التدهور نحو وجود ضيق الحدود.
3 (1-4) من مذهب العدم إلى التقاليد القديمة
إذا أبينا لنفوسنا رضاها، فمعنى ذلك أن مذهب العدم أمر حقيقي ممكن الوقوع في حدود خبرتنا. إننا ندرك انهيار المعايير الصحيحة، وندرك كيف يكون العالم مقلقلا حينما لا يدعو إلى تماسكه إيمان أو وعي جماعي. وقل من الناس من اجتاز هذه التجربة حتى في عهد نيتشه، وبعضهم مر بها منذ عام 1933م، وبعضهم مر بها بعد ذلك، أما اليوم فقلما نجد رجلا مفكرا لم يمر بها، وربما كنا اليوم نقترب من النقطة التي نكون عندها على استعداد لأن نستمع إلى الرسالة التي تحملها إلينا جميع العهود التاريخية التي تدهورت فيها الثقافة ونداء المفكرين في هذه العهود. إن مذهب العدم - كحركة ذهنية وخبرة تاريخية - يصبح تحولا إلى تمثيل أشد عمقا للتقاليد التاريخية. ولم يكن مذهب العدم من عهد قديم هو الطريق المؤدية إلى النشأة الأولى فحسب - ومذهب العدم قديم قدم الفلسفة - وإنما هو كذلك المحك الذي يبرهن على قيمة الحقيقة.
كان في الفلسفة منذ البداية شيء لا يمكن أن يعوض بغيره؛ فهي دائما وسط كل ما يحدث من تغير في الظروف البشرية، وفيما تتطلبه الحياة العملية، وخلال كل تقدم في العلوم، وكل تطور في طرق التفكير وأساليبه، تهتم بإدراك الحقيقة الأبدية الوحيدة في ظل الظروف الجديدة، مع اتباع طرق جديدة، ربما كانت أشد احتمالا في إمكان التوضيح.
ومن واجبنا اليوم وسط مذهب العدم المتطرف أن نثبت هذه الحقيقة مرة أخرى، ويفترض ذلك سلفا أن نتمثل تقاليدنا، ولا يكفي أن نعرفها ظاهرا، وأن نكتفي بالتأمل فيها، وإنما ينبغي لنا أن نستحوذ عليها في الباطن باعتبارها ملكا لنا.
ولكي نحقق هذا الهدف، يجب أن تنبذ الفلسفة أمورا عدة، منها فكرة التقدم، التي تجوز في العلوم وفي وسائل الفلسفة. إن المؤمنين بهذه الفكرة اعتقدوا باطلا أن ما يأتي مؤخرا لا بد أن يتمم ما يأتي مقدما باعتباره أقل شأنا ومجرد خطوة نحو التقدم، وباعتباره ذا قيمة تاريخية فحسب. وبهذا التصور نخطئ فنحسب الجديد باعتباره جديدا هو الحق. وباكتشاف هذا الأمر المستحدث يحس المرء أنه على قمة التاريخ. وقد كانت هذه هي النظرة الأساسية لكثير من الفلاسفة في القرون الغابرة، فكم من مرة اعتقدوا فيها أنهم تجاوزوا حدود الماضي كلها عن طريق شيء جديد كل الجدة، وإن الوقت - بذلك - قد آن في النهاية لبداية الفلسفة الحقيقية.
إذا نحن نزعنا أنفسنا عن الأساس التاريخي في سبيل شيء جديد، وإذا نحن استخدمنا التاريخ كمحجر نستمد منه المادة التي نشكلها في صورة تتفق وما نهوى، إذا نحن فعلنا ذلك كنا على الطريق التي تؤدي إلى ظلام العقيدة في العدم، ولكن ... مذهب العدم - بالجهد الشاق - فسوف يردنا إلى الحق الموثوق في صحته.
لقد انبثقت من العدم طريقة أساسية جديدة تهدينا إلى أن ننظر نظرة أخرى إلى تاريخ الفلسفة. إن ثلاثة آلاف عام من تاريخ الفلسفة تصبح كأنها حاضر واحد؛ فالمذاهب الفلسفية المتعددة تحوي في طياتها الحقيقة الوحيدة. وقد كان هيجل أول من جاهد في سبيل إدراك وحدة هذه الفكرة، غير أنه ما برح ينظر إلى كل أمر سبق كأنه مرحلة تمهيدية وحق جزئي يؤدي إلى فلسفته الخاصة، ولكن الأمر الأساسي هو أن نتمثل ما بلغته الفلسفة في كل عصر من العصور، وذلك بأن نبقى دائما على اتصال متجدد بالأعمال العظيمة التي قام بها الماضي، وأن ننظر إليها كأمر واقع لا كأمر تجاوزه الإنسان.
وإذا نحن نجحنا في إيجاد اتصال ودي بكل التفكير الفلسفي، عرفنا أن صورة الفلسفة الحاضرة قد انبثقت أيضا من المصدر الأول، وعرفنا أن التقاليد العالمية لا غنى لنا عنها، فهي الذاكرة التي بغيرها نهبط إلى التفاهة المطلقة للخطة المجردة التي ليس لها مستقبل ولا ماض. وفي وجودنا المؤقت الزائل نعرف واقعية الحقيقة الأساسية وملازمتها لكل حقيقة أخرى، نعرف «الفلسفة الدائمة» التي تمحو الزمان في جميع الأزمان.
4 (1-5) العلم الحديث والفلسفة
العلم الحديث هو المقدمة المنطقية للتكنولوجيا التي تقلب حياتنا من أساسها. غير أن آثار هذا العلم تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير؛ فهذا العلم يمثل نقطة تحول بعيد الغور في تاريخ البشرية، ولكنه على خلاف مع التكنولوجيا لا يعرف معرفة كاملة إلا لنفر قليل من الناس، بل وأقل من هذا النفر من يسهم فيه مساهمة فعالة، في حين أن الكتل البشرية تسير في حياتها على أساس الصور الفكرية التي سبقت العلم، وتستخدم نتائج العلم كما كانت الشعوب البدائية فيما سبق ترتدي القبعات الأوروبية وملابس السهرة وعقود الزينة.
إنما هو العصر الحديث - بعد المحاولات الساذجة التي قام بها أفراد في العهود القديمة، والإغريق بخاصة - منذ نهاية العصور الوسطى، الذي طبق أولا البحث المطلق الحقيقي - مصحوبا بنقد ذاتي إلى أبعد الحدود - على كل ما يحدث، وكل ما يمكن أن يحدث في هذا العالم.
العلم يسير على نهج منطقي، وهو يفترض قبوله في كل أرجاء الأرض؛ ومن ثم فهو يلقى في الواقع موافقة إجماعية، ما دامت الحال كذلك. والعلم يدرك وسائله إدراكا ناقدا، وهو يحقق كل ما يشمله في كل وقت من الأوقات وبطريقة منظمة، وهو لا ينتهي أبدا، وإنما يعيش في حالة من التقدم هدفها غير منظور. كل ما يظهر في هذه الدنيا يجعله العلم موضوعا له، إنه يشحذ وعينا بالموجود ويزيده وضوحا، وهو يمدنا بالمقدمات التي تؤدي إلى تحقيق الأهداف التي لا يحددها تحقيقا علميا، تلك الأهداف التي تصبح بدورها موضوع بحثه.
العلم حالة ضرورية سابقة للفلسفة. غير أن الموقف الروحي الذي نشأ نتيجة للعلم قد ألقى على الفلسفة أعباء ثقيلة جديدة. ولم تكن العهود السابقة كعهدنا في مثل هذا الوعي الواضح بثقل هذه الأعباء. (1)
يجب أن يكون العلم «بحتا» مطلقا؛ لأنه عند الممارسة العملية والتفكير المتوسط تشوبه أقوال ونظرات لا تمت إلى العلم بصلة. وقد حقق أفراد من العلماء العلم البحت الدقيق عند تطبيقه على دائرة الموجودات كلها، ولكن حياتنا الروحية لا تزال - على وجه الإجمال - بعيدة عنه. (2)
يجب أن تتعرض العقائد الخرافية في العلم لوضح النهار؛ ففي عصرنا الذي يتميز بالتشكك وعدم الاستقرار، اتجه الناس نحو العلم وظنوه أساسا ثابتا، ووضعوا ثقتهم فيما أسموه نتائج البحث العلمي، وأخضعوا أنفسهم خضوعا أعمى لمن افترضوا أنهم خبراء، واعتقدوا أن الدنيا ككل يمكن أن تنتظم بالتخطيط العلمي، وتوقعوا من العلم أن يمدهم بأهداف الحياة - وهو ما لا يطيقه العلم بتاتا - وتوقعوا معرفة الوجود ككل، وهو ما يخرج عن دائرة العلم.(3) (3)
وينبغي أن يعاد توضيح الفلسفة ذاتها بطريقة منطقية منظمة؛ فهي العلم بالمعنى الناضج الثابت للتفكير المنطقي، ولكنها ليست العلم بالمعنى الحديث البحت، وهو البحث في الأشياء بحثا يؤدي إلى المعرفة العالمية الصحيحة القاطعة، التي يراها كل الناس على صورة واحدة.
إن ما قال به ديكارت من الانطباق الخاطئ بين العلم والفلسفة - وهو صورة ذهنية قاطعة تساير روح هذه القرون الأخيرة - جعل العلم معرفة يفترض فيها الشمول، كما حطم الفلسفة ذاتها.
إن نقاء الفلسفة يجب أن يكتسب اليوم بمسايرته لنقاء العلم. إنهما شيئان لا ينفصلان، ولكنهما ليسا شيئا واحدا؛ فليست الفلسفة علما خاصا يسير مع العلوم الخاصة الأخرى! وليست الفلسفة علما يتوج غيره من العلوم وينشأ عنها، وليست الفلسفة علما يضع الأساس لغيره من العلوم التي نحصلها بالبناء على هذا الأساس.
الفلسفة مرتبطة بالعلم، وتفكر في الوسط الذي تفكر فيه العلوم الأخرى. وبغير نقاء الحقيقة العلمية لا يمكن بلوغ الحقيقة الفلسفية.
للعلم دولته الخاصة، وهو يسترشد بالآراء الفلسفية التي تنمو في جميع العلوم، وإن تكن هذه الآراء ذاتها لا يمكن تسويغها تسويغا علميا.
إن أملنا الحديث في وعي الحق لم يصبح ممكنا إلا على أساس علوم القرن الماضي، ولكن هذا الأمل لم يتحقق بعد. والعمل المطلوب لتحقيقه هو من بين الحاجات العاجلة جدا للخطة التاريخية الحاضرة.
يجب أن يتضافر البحث العلمي مع الفلسفة لهدايتنا إلى الطريق التي تؤدي إلى الحق الأصيل، فيقفا معا في وجه انحلال العلم إلى تخصصات لا رابطة بينها، وفي وجه الخرافة العلمية عند الجماهير، وفي وجه السطحية التي جلبها إلى الفلسفة الخلط بين العلم والفلسفة.
5 (1-6) الإيمان بالاتصال الذي لا يحد
لقد نشأ بين الناس نوع من التماسك قلما جعل الاتصال بالآخرين حالة خاصة، ودام هذا التماسك حتى العصر الحاضر، وذلك بفضل صحة مبدأ عام تخلل الحياة اليومية كلها، صحة لا شك فيها. واستطاع الناس أن يقنعوا أنفسهم بقولهم: إننا نستطيع أن نصلي معا، ولكنا لا نستطيع أن نتكلم معا. أما اليوم ونحن نستطيع حتى أن نصلي معا، فقد أمسينا في النهاية على علم تام بأن الإنسانية تتضمن نوعا من الاتصال لم يحتفظ به الإنسان.
إن الوجود الظاهر يتفتت بتعدد مصادر الإيمان، وتعدد الصور التاريخية لمجتمعاتنا، حيث لكل منها أساسه الخاص به. وأما الشيء الوحيد الذي نشترك فيه اشتراكا كليا، فهو العلم والتكنولوجيا كما يتمثلان في ضروب الإدراك العامة. وحتى العلم والتكنولوجيا لا يتوحدان إلا في وعي عالمي معنوي. أما من الناحية العملية فهما أسلحة فتاكة ووسائل للاتصال في آن واحد.
كل شيء حقيقي لدى الإنسان تاريخي، ولكن العقيدة في التاريخ تعني أيضا تعدد التواريخ؛ ومن ثم كانت الفروض الأساسية للاتصال الحقيقي هي ما يأتي: (1)
أن يهتم المرء بما هو مختلف في التاريخ، دون أن يكون كاذبا بالنسبة لتاريخه الخاص. (2)
أن يكشف عن نسبية الحقيقة العلمية، مع علمه التام بصحة ما تزعمه هذه الحقيقة. (3)
أن يتخلى عن الإيمان بعقيدة لا تسمح بوجود العقائد الأخرى؛ بسبب ما يعني ذلك من تمزيق الاتصال، وذلك على ألا يفقد المرء إطلاق أساسه الخاص. (4)
أن يقوم بالكفاح الذي لا مفرح منه ضد ما يختلف من حيث التاريخ، على أن يسمو بالمعركة إلى مستوى المحبة، والاتصال عن طريق الحق الذي ينمو حينما يشترك الناس في العمل، ولا يعملون أفرادا مجردين. (5)
أن نوجه أنفسنا نحو الأعماق التي لا تتكشف إلا بالانقسام إلى تواريخ متعددة، والتي أنتمي إلى واحد منها، ولكنها جميعا تهمني، وكلها مجتمعا يرشدني إلى ذلك المصدر.
إن الإيمان الفلسفي لا ينفصل عن الاستعداد الكامل للاتصال؛ لأن الحق المعتمد لا ينشأ إلا عندما تلتقي العقائد لدى «الشمول المطلق»؛ ومن ثم كان من الحق أن المؤمنين وحدهم هم الذين يستطيعون تحقيق الاتصال. وانعدام الحق، من ناحية أخرى، يصدر عن جمود مضمون الإيمان الذي يكتفي بأن يصدر مضمون إيمان آخر؛ ومن ثم كان من المستحيل أن تتحدث إلى المتعصبين. إن الإيمان الفلسفي يرى في كل اضطرار إلى قطع الموصول وفي كل رغبة فيه حاجزا سميكا.
ولقد قيل إن هذا الإيمان الفلسفي بالاتصال أمر خيالي. ويزعم ناقدو هذا المذهب أن الناس ليسوا كذلك، فهم يندفعون بعواطفهم وبحبهم للسلطة وبمصالحهم العملية المتضاربة. ويكاد الاتصال يفشل دائما، وهو يفشل بكل تأكيد عند الجماهير. وخير حل - وفقا لهذه النظرية - أن نخضع الناس للتقاليد والقوانين التي تعمل على إخفاء الشر والفوضى الشاملة ، اللذين لا يعملان على الاتصال. بيد أن أحسن وسيلة لتحطيم البشر هي أن تتطلب منه أكثر مما ينبغي.
وردا على ذلك نقول: (1)
ليس الناس كما نراهم، وهم أنفسهم مشكلة وعبء، وكل الأحكام العامة التي تتعلق بهم تقول أكثر مما نستطيع أن نعرف. (2)
إن الاتصال بكل صوره جزء من الإنسان كإنسان في أعماق وجوده، إلى حد أنه يجب أن يبقى دائما ممكنا، وليس بوسع المرء قط أن يعرف إلى أي مدى سوف يبلغ هذا الاتصال. (3)
إن إرادة الاتصال الذي لا يقف عند حد ليست برنامجا، ولكنها ماهية الإيمان الفلسفي ذاتها، ومنها تنبثق أهداف الاتصال الخاصة ووسائله في جميع مستوياته. (4)
إن الاستعداد للاتصال استعدادا لا يقف عند حد ليس نتيجة لأية معرفة، إنما هو قرار باتباع طريق إنساني. إن فكرة الاتصال ليست خيالية، وإنما هي من الإيمان. وكل امرئ تواجهه هذه المشكلة: هل هو يجاهد في سبيل الاتصال؟ وهل هو يؤمن به إيمانا ليس كإيمانه بشيء من العالم الآخر، ولكن كإيمانه بأمر واقعي واقعية مطلقة؟ هل هو يعتقد في قدرتنا على أن نعيش معا حقا، وعلى أن نتحادث، وأن نجد طريقنا إلى الحق عن طريق هذه المعية، وبذلك نمسي في النهاية أنفسنا على صورة أصيلة.
6 (1-7) الحاضر باعتباره نقطة التحول في العصور التاريخية
توجد في الوقت الحاضر لأول مرة وحدة حقيقية بين الناس، يدل عليها أنه لا يمكن أن يقع شيء أساسي في أي مكان لا يهم جميع الناس. والثورة التكنولوجية - في هذا الصدد - التي قام بها الأوروبيون بالعلم والاكتشاف ليست سوى الأساس المادي والسبب العاجل للكارثة الروحية.
ومن هذه الخبرة في موقفنا التاريخي بوصفه نقطة التحول في العصور التاريخية، يرتد الطرف المرة تلو الأخرى. وعندما تساءلنا: هل حدثت مثل هذه التغيرات الأساسية من قبل؟ أجبنا بأننا لا نعرف شيئا عن عصر بروميثيوس عندما تملك الإنسان دنياه عن طريق آلاته وعن طريق النار والكلام. ولكن نقطة التحول الكبرى في غضون التاريخ هي «العصر المحوري»
7 ؛ أي الفترة التي تقع حوالي عام 500ق.م. في العملية الروحية التي حدثت بين عامي 800 و200ق.م. هنا نلتقي بأعمق خط فاصل في التاريخ؛ فالإنسان - كما نعرفه اليوم - ظهر إلى الوجود.
إن أكثر الحوادث بعدا عن المألوف تتركز في هذه الفترة، إذ كان كونفوشيوس ولاوتسي يعيشان في الصين، وظهرت إلى الوجود كل مدارس الفلسفة الصينية، بما فيها مدرسة موتي وشوانج تسي وليه تسو وكثير غير هؤلاء، وأخرجت الهند أوبانشاد وبوذا، وكما حدث في الصين وقعت كل سلسلة الاحتمالات الفلسفية حتى الشك، والمادية، والسفسطة، والعدم. وفي إيران بشر زرادشت بفكرة التحدي في العالم التي تتخذ صورة النضال بين الخير والشر. وفي فلسطين ظهر الأنبياء، من إليشع وأرميا حتى أشعيا الذي ورد ذكره في سفر التثنية. وشهدت اليونان ظهور هومر، ومن الفلاسفة برامينيدس وهرقليطس وأفلاطون، وكتاب المأساة، وثيوسيديد وأرشميدس. وكل ما تدل عليه هذه الأسماء تطور خلال هذه القرون القلائل في آن واحد تقريبا في الصين والهند والغرب، دون أن يعلم أي إقليم من هذه الأقاليم بغيره.
وما استجد في هذا العصر، في أركان الدنيا الثلاثة، هو أن الإنسان أصبح واعيا بالوجود ككل، وبنفسه، وبقدراته المحدودة، فهو يحس بما في العالم من رعب وبعجزه إزاء ذلك، وهو يوجه إلى نفسه أسئلة أساسية، وهو يواجه الفضاء فيجاهد في سبيل التحرر والخلاص. وبإدراكه حدوده إدراكا واعيا يضع لنفسه أسمى الأهداف. إنه يمارس الإطلاق في أعماق ذاتية وفي جلاء ما يسمو عن العقل.
8
وإذا كنا اليوم قد دخلنا في طور تحول أساسي جديد في الإنسانية، فليس ذلك تكرارا لما حدث في العصر المحوري، وإنما هو حدث يختلف عنه من جذوره.
فمن «الظاهر» أولا نجد أن عصرنا هذا - عصر التكنولوجيا - ليس عالميا نسبيا فحسب، كتلك الحوادث التي جرت في تلك العوالم المستقلة الثلاثة في وقت واحد في «العصر المحوري»، وإنما هو عصر عالمي مطلق؛ لأنه كوكبي. ليس عصرا تسير فيه الأمور على اتصال متبادل في معناها، وعلى انفصال في واقعها، إنه كل واحد، الاتصال فيه متبادل باستمرار، وهو يحدث اليوم بوعي عالمي، ولا مناص له من أن ينتهي إلى قرار مختلف بشأن الإنسانية عن ذلك القرار الذي بلغه الإنسان في العصور الماضية. فبينما كل عهود التغير الأساسي السابقة محلية، عرضة للاستكمال بحوادث أخرى، في أماكن أخرى، وفي عوالم أخرى، إلى حد أنها لو أخفقت بقي احتمال جواز خلاص الإنسان بحركات أخرى، على حين كان ذلك في الماضي، فإن ما يحدث اليوم قاطع بات؛ إذ لم يعد شيء خارجا عنه.
أما في «الباطن» فهناك شيء يختلف اختلافا بينا جدا عن «العصر المحوري». الكمال فيما مضى، والنقص في الحاضر. وإذا كنا ندرك نقطة التحول، فنحن نعلم أننا ما زلنا في المرحلة التحضيرية. العصر الحاضر عصر إعادة التشكيل حقا في الشئون التكنولوجية والسياسية، ولم يبلغ بعد أن يكون عصر خلق روحاني دائم. ونستطيع بحق أن نشبه أنفسنا - بما لدينا من مكتشفات علمية ضخمة ومخترعات تكنولوجية - بعصر اختراع الآلات والأسلحة، عصر استخدام الحيوانات الأليفة والخيل لأول مرة؛ فنحن بذلك أشبه منا بعصر كنفشيوس وبوذا وسقراط. ويتبين من الميل الحالي، الذي تطرد شدته، إلى الرجوع بأبصارنا نحو نشأتنا، أننا نعالج واجبا ثقيلا هو واجب إعادة بناء البشرية من أصولها، وأننا نحس المشكلة الكبرى، مشكلة الطريقة التي نستطيع بها - بإيمان - أن نصبح كائنات بشرية بصفة خاصة. لا بد مرة أخرى من إظهار الجوف العميق الذي منه خرجنا، ولا بد من إظهار الحقيقة الخاصة التي اختفت وراء حجاب المركبات الثقافية الثانوية، ووراء الأساليب اللفظية، والتقاليد والنظم. وفي غضون هذه العملية، عملية فهم أنفسنا عن طريق معرفة مأتانا، ربما برهنت مرة أخرى صفحة «العصر المحوري» العظيم للبشرية على أنها من دواعي الاطمئنان الأساسية.
9 (1-8) احتمالات المستقبل: إمبراطورية عالمية أم نظام عالمي؟
كل الظواهر في الحاضر تتخذ صورة المعركة التمهيدية نحو نقطة الانطلاق إلى المعركة النهائية في سبيل نظام كوكبي. إن السياسة العالمية المعاصرة تبحث عن قاعدة للتسوية النهائية، وهل تتحقق بالوسائل الحربية أو السلمية. وإلى أن نبلغ ذلك فكل الظروف وكل علاقات الدول موقوت.
والمشكلة هي: بأية وسيلة نبلغ وحدة النظام العالمي؟ قد نبلغها عن طريق القوة اليائسة، كما كان بالإمكان تحقيق وحدة ألمانيا ب «الحديد والدم» كما جاء على لسان بسمارك، وقد نبلغها عن طريق نظام ينشأ بالمفاوضة عن تبادل الفهم الناضج بنفس الطريقة التي التمست بها ولايات شمالي أمريكا طريقها إلى الوحدة في القرن الثامن عشر، على حساب التنازل عن جانب أساسي من جوانب سيادتها الخاصة في سبيل سيادة المجموع.
ويكون شكل النظام في الحالة الأولى هو السلام الثابت الذي يفرضه حكم الاستبداد، وشكله في الحالة الثانية هو مجتمع سلمي يضم الجميع، وعرضة للتغير في إطار من التطور والإصلاح الذي ترسمه الديمقراطية الدائمة. ونستطيع أن نختصر هذين الاحتمالين إلى طرفين بسيطين متناقضين، فيصبح الخيار بين الطريق إلى الإمبراطورية العالمية أو الطريق إلى النظام العالمي.
الإمبراطورية العالمية: هذه هي السلام العالمي على يد دولة واحدة، تفرض إرادتها على الجميع من نقطة واحدة فوق الأرض، وهي تحتفظ بكيانها باستخدامها القوة، وهي تستخدم الإرهاب والتخطيط الشامل لصب الجماهير في قالب واحد بعد إزالة الفوارق بينها. ويرغم الجميع على الأخذ بوجهة نظر عالمية واحدة، تحددها خطوط عريضة مبسطة تنتشر عن طريق الدعاية، وتضطر الرقابة وتوجيه النشاط الروحي هذه الدعاية إلى أن تلعب دورها في الخطة الراهنة التي قد يتناولها التعديل في أية لحظة من اللحظات.
النظام العالمي: هذه هي الوحدة دون استخدام أية قوة في التوحيد سوى تلك التي نقبلها بقرار مشترك بعد المفاوضة. ويمكن تبديل النظم المتفق عليها بقرارات أخرى تسير وفقا للطريق الثابت المشروع. وقد قبل الجميع سيادة هذه الطريقة وسيادة قرارات الغالبية، وهي تضمن الحقوق المشتركة بين الجميع، التي تحمي كذلك أولئك الذين تتكون منهم الأقلية في الوقت الحاضر. وهذه الحقوق تبقى نظاما بشريا يتبع في كل حركة وفي رد النفوس إلى الصواب.
والنظام العالمي، مع إلغاء السيادة المطلقة، يعني إلغاء الفكرة القديمة عن «الدولة» في سبيل إسعاد البشرية. ولن تكون النتيجة حكومة عالمية (فتلك معناها إمبراطورية عالمية)، وإنما تكون النتيجة نظاما يعاد تأسيسه دائما بالتفاوض وإصدار القرارات، نظاما من دول تحكم نفسها داخل مساحات مشروعة محددة، نظاما فدراليا شاملا.
10 (1-9) إيمان المستقبل
إذا قيل إنه من غير المحتمل أن ينمو نظام عالمي دون وحدة في الإيمان، فإني أجد في نفسي الشجاعة على أن أقول غير هذا؛ فإن شيوع نظام عالمي في جميع بقاع الأرض إجباري للجميع (نظام يتباين مع الإمبراطورية العالمية)، لا يكمن تحقيقه إلا إذا بقيت مضامين الإيمان المتعددة حرة في اتصالها التاريخي، دون وحدة في الهدف، أو في مضمون مذهبي يقبله جميع الناس. إن العنصر المشترك في الإيمان كله من حيث علاقته بالنظام العالمي يمكن ألا يعدو رغبة كل إنسان في تنظيم أسس الوجود، في مجتمع عالمي يجد فيه مجالا للتطور بالوسائل الروحية السلمية.
إن فينا نقصا، شيئا يشبه الانتظار، ويشبه الاستعداد. والفلسفة ناقصة، ويجب عليها أن تدرك هذه الحقيقة، إذا هي شاءت ألا تهبط إلى مستوى المغالطة. إننا نهيم في ظلام المستقبل، على حذر من أعداء الحقيقة، عاجزين عن التخلي عن تفكيرنا الشخصي، طاعة لمعرفة تفرض علينا. ولكنا فوق هذا وذاك مستعدون إلى الإصغاء والرؤية عندما تنير طريق الحياة مرة أخرى الأفكار العميقة والرموز التي تحقق الأغراض.
والتفلسف يؤدي في غضون ذلك واجبا أساسيا على أية حال من الأحوال، فإن مما يجدينا نفعا من الناحية الفكرية أن نقاوم السخافات والمغالطات والانحرافات، وادعاء الملكية الكاملة للحق التاريخي، والتعصب الأعمى. الفلسفة تقودنا على طول الطريق إلى النقطة التي تكتسب فيها المحبة عمقها بالاتصال الحقيقي. وعندئذ - بهذه المحبة، وعن طريق نجاح الاتصال - تتكشف الحقيقة التي تربط بيننا جميعا لأولئك الذين يباعد بينهم اختلاف نشأتهم التاريخية.
إن الأفراد اليوم حقائق محسة. ومن يريد أن يعيش في مجتمع من كائنات بشرية لكل منها كيانها، مجتمع غير مغلق وغير منظم ولا يخضع لإمكان التنظيم، من يريد أن يعيش فيما كان يسمى ب «الكنيسة» غير المنظورة، إنما يعيش في الواقع اليوم كفرد يتحالف مع غيره من الأفراد المنتشرين فوق سطح الأرض، وهو تحالف يقوى على احتمال كل الكوارث ويعيش رغما عنها، وهو نوع من اعتماد الفرد على غيره اعتمادا لا يرتبط بميثاق أو بأمر معين، إنه يعيش في حالة من عدم الاكتفاء الكامل، ولكنه عدم اكتفاء جماعي، وهو يسعى في عناد مع غيره إلى طريق الصواب في هذه الدنيا لا خارجا عنها. هؤلاء الأفراد يتقابلون ويتبادلون المشورة والتشجيع، إنهم ينبذون هذا التأليف الحديث بين المضمون الفذ للإيمان وممارسة الواقعية التي تدعو إلى مذهب العدم؛ فهم يعلمون أن الواجب الملقى على عاتق الإنسان هو أن يحقق في هذه الدنيا ما يمكن للإنسان، كما يدركون أن هذا الممكن ليس فريدا منعزلا، بل إن من واجب كل فرد أن يعلم أين يقف ولأي غرض يعمل، وكأن كل فرد قد لقي من الرب تكليفا بالعمل والعيش من أجل الانطلاق الذي لا حد له، ومن أجل العقل المعتمد، والحق والمحبة والإخلاص، دون الالتجاء إلى القوة التي تميزت بها الدول والأديان التي يتحتم علينا العيش في ظلها، والتي نحب أن نقف في وجه ما تتصف به من عدم الاكتفاء.
11 (1-10) أي شيء بعد ذلك له قيمة حقيقية؟
أي شيء إذن ضروري إذا كان من الجائز أن تكون نهاية كل شيء نحبه وشيكة الوقوع؟ ما هي المعايير ما برحت لها قيمتها إذا كانت نهاية كل شيء تقترب منا؟
يبدو لنا أنه دون كرامة الإنسان أن يتردد بين خوف هدام - خوف يشمل كل ضرب من ضروب النشاط - وبين انسياق أعشى ننسى فيه أنفسنا، انسياق تستمر فيه عادات التفكير القديمة، انسياق له يعد فيه الحب هو الباعث على الحياة الفكرية، ولكنها حياة فكرية مضمونها الوحيد انشغال بغير هدف وبغير تفكير، حيث يؤدي العمل من أجل العمل فحسب، بغض النظر عن الهدف الذي يخدمه في نهاية الأمر.
وواجب العقل في وجه هذا الخطر الذي يهددنا هو أن يحتمل التوتر، وأن يؤدي ما هو ضروري، فيخضع حياته اليومية للمعايير المستنيرة، وأن يواصل بغير ملل نشاطا لا يكون ممكنا بالضرورة إلا على أساس بعيد المدى. ولا يدري أحد أهو يؤدي إلى النجاح، أم إن الإخفاق هو معناه الحقيقي ونهايته المحققة ؟ غير أن «العقل» لن يفقد الأمل في موقف لا يبشر بالرجاء فيما يبدو. إن كل من يعمل في عالم العقل لا بد أن يقول لنفسه: ما دمت حيا وسط الأحداث المزعجة، فأنا مصمم على أن أكون مستعدا بقدر ما أستطيع. إنني أحاول أن أبني حياة من النشاط الباطني تسير نحو هدف حددته عبقريتي الممتازة، هدف ليس واضحا كل الوضوح، ولكنه واضح من حيث الخطوة التي يجب اتخاذها اليوم في ظل ظروف الحياة الواقعية.
من واجبنا أن نملأ الوقت الحاضر بمضمون ما؛ فالوقت لم يعط لنا لكي نهمله، ولن يكون للمستقبل معنى إلا بحاضر نعيشه عيشة كاملة. إن المستقبل يصبح ممكنا - دون قصد منا - إذا ما قام كل فرد منا بأداء كل ما يستطيع في حاضره.
أما إذا كانت حقائق الحياة البشرية التي يمكن لنا معرفتها بحثنا على أن نشك في «العقل»، فخليق بنا أن نقول إذا نحن أخذنا معيارنا من هذه الحقائق: إن من المعجزات أن تواصل الفلسفة سيرها خلال التاريخ، وإنها لم تختف كلية منذ ظهورها للعيان في أول أمرها ، ومن المعجزات أن تكون في «العقل» الذي يتحقق المرة تلو الأخرى في صورة الحرية قدرة على الاحتفاظ بنفسه. وإذا كان الأمر كذلك فالعقل إذن يشبه السر المفضوح الذي يمكن لكل امرئ أن يعرفه في أي وقت من الأوقات، وهو الفضاء الهادئ الذي يمكن لكل امرئ أن يلجه من خلال تفكيره الخاص.
12
المصادر
اخترنا هذه المقتطفات لكارل ياسبرز من ثلاثة كتب صدرت حديثا، هي: «المجال الدائم للفلسفة»، «نشأة التاريخ والهدف منه»، «العقل واللاعقل في العصر الحاضر».
1
من فصل بعنوان «فلسفة المستقبل» في كتاب «المجال الدائم للفلسفة».
2
من فصل بعنوان «فلسفة المستقبل» في كتاب «المجال الدائم للفلسفة».
3
من فصل بعنوان «فلسفة المستقبل» في كتاب «المجال الدائم للفلسفة».
4
من فصل بعنوان «فلسفة المستقبل» في كتاب «المجال الدائم للفلسفة».
5
من فصل بعنوان «فلسفة المستقبل» في كتاب «المجال الدائم للفلسفة».
6
من فصل بعنوان «فلسفة المستقبل» في كتاب «المجال الدائم للفلسفة».
7
من فصل بعنوان «موقف العالم في الوقت الحاضر» في كتاب «نشأة التاريخ والهدف منه».
8
من فصل بعنوان «موقف العالم في الوقت الحاضر» في كتاب «نشأة التاريخ والهدف منه».
9
من فصل بعنوان «موقف العالم في الوقت الحاضر» في كتاب «نشأة التاريخ والهدف منه».
10
من فصل بعنوان «موقف العالم في الوقت الحاضر» في كتاب «نشأة التاريخ والهدف منه».
11
من فصل بعنوان «موقف العالم في الوقت الحاضر» في كتاب «نشأة التاريخ والهدف منه».
12
من كتاب «العقل واللاعقل في العصر الحاضر».
Bilinmeyen sayfa