ثالثًا: نشأة المنظومات العلمية:
إن النظم التعليمي ضاربٌ في القِدم، حيث نجد في حضارة الإغريق وفي حضارة أهل الهند كثيرًا من المعارف المنظومة، فيُعزى مثلًا للعالم الإغريقي اللغوي والرياضي "مترودورس" (حوالي ٥٠٠ بعد الميلاد) أنه اهتم بجمع الجانب الرياضي من المنظومات الإغريقية، كذلك نجد أن حضارة الهند قد اهتمت اهتمامًا كبيرًا بنظم العلوم، ولا أدلَّ على ذلك مما جاء على لسان العالم العربي أبي الريحان محمد بن أحمد البيروتي (توفي ٤٤٣ هـ) في كتابه: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" حيث قال: " وكتبهم في العلوم مع ذلك منظومة بأنواع من الوزن في ذوقهم قد قصدوا بذلك انحفاظها على حالها وتقديرها وسرعة ظهور الفساد فيها عند وقوع الزيادة والنقصان ليسهل حفظها فإنّ تعويلهم عليه دون المكتوب". (١)
ومن هذا يتبين لنا سبق كلٍّ من الحضارتين الإغريقية والهندية إلى نظم العلوم والمعارف، بغية تيسير استظهارها وضبط ألفاظها ومعانيها، إذ النظم -بحكم التزامه بموازين دقيقة- يكون أبعد من التحريف من النص المنثور، لكنَّ المسلمين فاقوا الحضارتين بعطائهم في هذا المضمار.
لأن الإنسان العربي فُطِرَ على حب الشِّعر وتذوقه والتغني به، ولا غرابة في ذلك إذ الإنسان العربي مرهف الحس، ثاقب النظر، صادق التعبير، وكان الشِّعرُ ديوانهم وأنيسهم، يتبادلونه في مجالسهم ونواديهم ويتفاخرون به فيما بينهم، ويعقدون له المسابقات والمناظرات، وسطروا به مآثر الأجداد والآباء، ومثالب الخصوم والأعداء.
ثم تعدَّى الشِّعر بعد ذلك حدود الأحاسيس والمشاعر والانفعالات الإنسانية إلى آفاق أرحب، تكاد تغطي مجمل المعارف الإنسانية برمتها، فخرج القصيد عن موضوعاته التقليدية كالمديح والغزل والعتاب والهجاء والفخر والرثاء، واتجه إلى صياغة شعرية لألوان المعرفة كافة، ولعل كثيرًا من هذا قد قُصد به تيسير الحفظ للأغراض التعليمية، حيث إنها تخلو من عنصري العاطفة والخيال، وهما ركيزتان من الركائز الأساسية التي يقوم عليها الشعر.
فنجد عبر هذا التحول والتطور في ميدان الشعر منظوماتٍ نُظمت في العلوم العقلية كالطب والفلك والرياضيات وغيرها، ومنظومات نُظمت في العلوم الإنسانية كالتاريخ والجغرافيا والملاحة وغيرها، وكذلك علوم اللغة العربية قد نُظمت كالبلاغة والمثلثات اللغوية والنحو والصرف وغيرها، ولكن المنظومات التي نُظمت في العلوم الشرعية قد حازت النصيب الأوفر من النظم العلمي.
_________
(١) تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، لأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي (ت ٤٤٠ هـ)، حيدر آباد الدكن، دائرة المعارف العثمانية (ص ١٤)
1 / 31