فعرض المحامون أمري على المحكمة وحولته المحكمة إلى النيابة، ودرسته النيابة مع وزارة الداخلية ومصلحة السجون، وتقرر بعد البحث الطويل نقلي إلى المستشفى، وإقامتي هناك في غرفة عالية تشرف على ميدان واسع وحديقة فسيحة، وتتصل بالداخلين والخارجين أثناء النهار، ويتردد عليها الأطباء والموكلون بالخدمة الطبية من الصباح إلى الصباح.
فرج من الله، وأمنية عسيرة التحقيق تمهدت بعد جهد جهيد!
فصعدت إلى المستشفى وأنا أعتقد أن الخطر الأكبر قد زال أو هان، ولكني لم ألبث هناك ساعة حتى شعرت أن الزنزانة المغلقة أهون ألف مرة من هذا المكان الذي أصغي فيه إلى أنين المرضى، وشكاية المصابين والموجعين، ثم غالبت نفسي ساعة فساعة، حتى بلغت الطاقة مداها ولما يطلع الفجر من الليلة الأولى، وإذا بي أنهض من سريري وأنادي حارس الليل ليوقظ ضابط السجن ويعود بي إلى الزنزانة من حيث أتيت، ولتفعل النزلة الحنجرية وعواقبها الوخيمة ما بدا لها أن تفعل.
أنا أعلم من نفسي هذا، وأعلم أن الرحمة المفرطة باب من أبواب العذاب في حياتي منذ النشأة الأولى، وأعلم ما أعلم عن تلك العواطف التي يتحدث بها بعض الفضوليين ولا يعرفون منها غير التصنع والتمثيل، وتدميع العيون، وتبليل المناديل، ثم أسمع جبلا من هذه الجبال البشرية يذكر الرحمة وما إليها، كأنها حلية لا يزين الله بها إلا أمثاله، ولا يعطل الله منها إلا أمثال عباس العقاد ... فماذا يكون حكمي بعد هذا على آراء الناس في الناس؟!
لن يكون إلا قلة اعتداد برأي من الآراء يحسبونها الكبرياء وليست هي الكبرياء، ولكنها موقف من لا يبالي أن يعتقد من يشاء ما يشاء.
كرامة الأدب والأدباء
إلا أن الناس معذورون بعض العذر في شبهة الكبرياء هذه، وإن كانوا لا يطالبون أنفسهم بأقل مجهود في تصحيح هذه الشبهات.
فقد أراد الله - وله الحمد - أن يخلقني على الرغم مني متحديا «تحديا خصوصيا» لكل تقليد من التقاليد السخيفة التي كانت ولا تزال شائعة في البلاد المصرية والبلاد الشرقية على العموم.
أنا أطلب الكرامة من طريق الأدب والثقافة، وأعتبر الأدب والثقافة رسالة مقدسة يحق لصاحبها أن يصان شرفه بين أعلى الطبقات الاجتماعية، بل بين أرفع المقامات الإنسانية بغير استثناء.
أفي ذلك عار؟! أفي ذلك موجب للحقد والضغينة؟!
Bilinmeyen sayfa