وأعود فأقول مرة أخرى: إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي أغتبط بها، وأحمد الله عليها ... فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية؛ إذ كنت أومن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين.
وقد اشتغلت بوظائف كثيرة في المديريات، ومصلحة التلغراف، ومصلحة السكة الحديد وديوان الأوقاف، ويلحق بها - أي بهذه الوظائف - عملي في تعلية الخزان؛ لأنه كان بمثابة الوظيفة الحكومية في ذلك الحين.
وأذكر أنني تقدمت للامتحان في «نظارة الحقانية» يوم كان الكاتب المشهور في زمنه «أحمد سمير» رئيسا من الرؤساء الكتابيين فيها، وكان موضوع الامتحان حسابا وترجمة وإنشاء عربيا، سئلنا فيه أن نكتب تاريخ حياتنا؛ فكتبت تاريخ حياتي في الوظائف الحكومية قبلها، ومهدت له بمقدمة عن الوظائف، وما ينبغي لها من الإصلاح، ونظر الأستاذ أحمد سمير في ورق الإنشاء أمامنا، فقال: «يظهر أن خوجة هذا الطالب كان من المجاورين الحناشيص في اللغة العربية ...» ثم أتم القراءة، فقال لي بعد أن دعيت باسمي: «ومن لنا بأنك تبقى عندنا أكثر مما بقيت عند غيرنا ... أنت يا بني تريد إصلاح الوظائف كلها، ونحن مش قدك، والله العظيم!»
فقلت له: «والآن تستطيع أن تعتبر ورقة الطلب ورقة استعفاء، ما دامت هذه طريقتكم في الامتحان.» •••
ولو أنني أردت أن أسجل تجاربي في تلك الوظائف جميعا لما وسعتني المقالات؛ فإنها مما تستوفيه الكتب المطولات.
ولكنني أذكر هنا تجربة أو اثنتين من مهازلها ومآسيها، ويقاس عليها غيرها من هذا الباب، وغير هذا الباب ...
كانت الرسائل تسمى يومئذ «بالإفادات» ...
وكانت «للإفادة» صيغة مقررة مكررة لا تختلف من الديباجة إلى التقفيلة كما كانوا يسمونها، وكان من نماذجها ترتيب الألقاب من «حميتلو» إلى «رفعتلو» إلى «سعادتلو» إلى «عطوفتلو»، بين ملاحظ البوليس وناظر المالية الذي كنا تابعين له في أقسامنا المالية بالمديريات ...
فإذا قلت «صاحب الحمية، أو صاحب العطوفة» بدلا من «حميتلو» أو «عطوفتلو» بطلت الإفادة، ووجبت إعادتها من جديد.
وكذلك تبطل الإفادة إذا ختمتها بعبارة غير عبارة التقفيلة المعهودة، «وهذا ما لزم عرفناكم به أفندم.»
Bilinmeyen sayfa