161

قلت: هو ما قالوه قديما، وأصابوا فيه أكثر مما أرادوا، فالبلاغة هي «مراعاة مقتضى الحال» ... ولقد كنت بليغا في إشارتك هذه ... فلك عندي من المكافأة عليها مائدة غير مائدة أفلاطون، وأشباه مائدة أفلاطون!

وعدنا نستطيب القماقم والأرصاد بعد هنيهة، ولكن على أن نتركها بسلام فلا نطلقها فرادى ولا جماعات، وحسبنا منها العناوين والرفوف.

ثم راح يجول ببصره جولة الطائر فيما يعبره وهو يقول: ما أصغر نصيب القصص من هذه الرفوف!

قلت: نعم ... وإنه لو نقص بعد هذا لما أحسست نقصه؛ لأنني - ولا أكتمك الحق - لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول.

قال: كيف؟! ... أليس في الرواة والقصاصين عبقريون نابهون كالعبقريين النابهين في الشعر، وسائر فنون الآداب؟!

قلت: بلى ... ولكن الثمار العبقرية طبقات على كل حال، وقد يكون الراوية أخصب قريحة وأنفذ بديهة من الشاعر، أو الناثر البليغ، ولكن الرواية تظل بعد هذا في مرتبة دون مرتبة الشعر، ودون مرتبة النقد، أو البيان المنثور ... والمثل هنا أقرب إلى الإيضاح من سوق القضية بغير تمثيل: إن الحديقة التي تنبت التفاح لا يلزم أن تكون في خصبها ووفرة ثمراتها أوفى من الحديقة التي تنبت الجميز أو الكراث، ولكن الجميز أو الكراث لا يفضلان التفاح وإن نبتا في أرض أخصب من الأرض التي تنبته وتزكيه. •••

ونحن نقرأ القصص التي تجود بها قرائح العباقرة من أمثال ديكنز، وتولستوي، ودستيفسكي، وبورجيه، وبروست، وبيراندلو، فنؤمن بتلك العبقريات التي لا تجارى في هذا المضمار، ولكن إيماننا بها لا يلزمنا أن نضع القصة في الذروة العليا من أبواب الآداب ، ولا يمنعنا أن نقدم عليها غيرها في التقدير والتمييز.

قال: وما المقياس الذي نرتب به هذه الرتب يا ترى؟

قلت: لعله مقاييس شتى لا مقياس واحد، ولعل الناس يختلفون فيها كاختلافهم في كل شيء يرجع إلى المشرب والتعبير، غير أنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهما الأداة بالقياس إلى المحصول، ثم الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون.

فكلما قلت الأداة وزاد المحصول ارتفعت طبقة الفن والأدب، وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف.

Bilinmeyen sayfa