الصداقة والعداوة
ما أسلفته لا أذكره على أنه فضائل محمودة، ولا على أنه رذائل مذمومة ... ولكنه صفات حقيقية وكفى.
ومن هذه الصفات الحقيقية التي أعهدها في نفسي أنني لا أميل إلى التوسط في الصداقة ولا في العداوة، فلا أعرف إنسانا نصفه صديق ونصفه عدو، وإنما أعرفه صديقا مائة في المائة، أو عدوا مائة في المائة، ولا تهمني مع ذلك عداوته إذا حفظها لنفسه ... ولكنه إذا تعقبني بها وأبى إلا أن يكشف عنها فهي الحرب التي لا توسط فيها كذلك: إما كاسر وإما مكسور، إلا أن يريحني احتقاره من عناء هذا وذاك ...
ومن هذه الصفات، أنني أمام الألفة أو العادة ضعيف لا أقدم على التبديل إلا بعد عناء طويل.
ومثل من أمثلة ذلك أن البيت الذي أسكنه قد تغير له أربعة من الملاك، وأنا الساكن فيه لا أتغير.
وإنني في مصر الجديدة، ودكان حلاقي في شارع محمد علي إلى الآن؛ لأنني منذ عشرين سنة كنت أسكن هناك.
وإنني كنت أشكو مرض الكلى قبل نيف وعشرين سنة، فأشار علي الطبيب باتباع نظام مخصوص في الطعام يناسب الحالة التي أشكوها، وقد زالت تلك الحالة بعد سنة واحدة، ولكني لا أزال إلى الساعة أجري على النظام الذي ألفته من جرائها، ولا أستطيب أن أعود إلى كل طعام!
ومن هذه الصفات أن الظنون عندي قوية السلطان، وعلة ذلك عندي معالجة التفكير المنطقي في كل شيء، فليس أسهل في المنطق من فتح أبواب الاحتمالات، أما إغلاقها - أو الجزم بنفيها - فلا يكون إلا ببرهان قاطع، والبراهين القاطعة قليل.
ومن هذه الصفات أن التجديد والمحافظة عندي يلتقيان في معظم الأمور، وعلة ذلك على ما أعتقد أنني نشأت بأسوان، وهي أعرق مدينة بين مدن مصر القديمة بموروثاتها التي لا تبلى، وهي في الوقت نفسه مدينة أوروبية في الشتاء، أو كانت كذلك يوم نشأت بها نشأتي الأولى، فأوروبا كلها كانت تتراءى هناك كل شتاء بملاهيها، وأزيائها، وعاداتها، ومؤلفاتها، وفنونها، واختلاف أقوامها.
وأنا أحب الأطفال جدا، وكان في منزلنا جماعة من الأطفال أكبرهم في السادسة من عمره، وهم جميعا أصدقائي، وكثيرا ما يصعدون إلى مسكني يسألونني، ويتحدثون معي ما شاء لهم الحديث.
Bilinmeyen sayfa