ولما مرت هذه الهزة التي اعترضتني أخذت أفكر في المستقبل ووجدته كما كان ولم يفدني النجاح شيئا في إزالة الغيوم التي كانت تلفه من كل جانب، فهل أستطيع أن ألتحق بالجامعة؟ وكيف أحصل على رزقي ورزق أهلي؟ وما فائدة النجاح إذا لم ألتحق بالجامعة؟ فهل أقنع بهذه الشهادة على أنها حلية تزين صدري عند ذهابي إلى الأسواق مع حمادة لنشتري القطن من الفلاحين المساكين؟ ومهما يكن من الأمر فإني قضيت ما بقي من شهور الصيف في القراءة والكتابة، وأقبل شهر أكتوبر فذكرني بالأسواق وحمادة الأصفر، وما تكلفنا به ظروف الحياة من تحمل ما نكره في سبيل العيش. لم أشعر بأن التجارة طريقي في الحياة، ولولا حاجتي إلى الرزق لما رضيت أن أعود إلى الأسواق أبدا، وهل كنت أنا الذي أشتغل بالتجارة حقا؟ لم يكن لي منها سوى أن أذهب مع حمادة وأحمل النقود في جيبي لأدفع أثمان الأقطان منها. كنت في مبدأ لأمر أحسب أنها مغامرة مثيرة فوجدت أنها بالنسبة إلي لا تزيد على سخرة من أجل القوت.
وفي صباح يوم من الأيام نزلت من منزلي لا أدري أين أذهب، فاتجهت نحو شاطئ الترعة لأملأ صدري من هواء الخريف.
وسمعت في الطريق صوتا يناديني من ورائي وكان صوتا أعرفه، وتبسمت بالرغم من ضيقي عندما رأيت أمامي محمد الشرنوبي زميلي القديم الذي كنا نسميه «الفلاح» فيما بيننا.
وقال لي بابتسامته العريضة: أين أنت يا شيخ؟
فقلت: وأين أنت يا أيها الفلاح.
فقال: في الغيط طبعا، كما أنك في السوق.
فقلت باسما: ومن قال لك؟
فقال: وهل يجهل أحد «تجارة الأمانة»؟ تعال بالله معي ونجني من هؤلاء التجار الذين يريدون سرقتي.
وقلت مبادرا: تحت أمرك يا حاج شرنوبي.
وقلت في نفسي: «هذا شيء آخر. لا بأس أن أذهب مع صاحبي هذا لأشتري ما عنده، فهذا خير من الجلوس على جوانب الطرق، ولكن ما أدراني لعل القطن الذي عنده رديء، وهو يبحث عن تاجر ساذج ليبيعه له.»
Bilinmeyen sayfa