189

وتركتها ذاهبة إلى الخيمة في حنق: ووقفت «ردمويا» وحدها تحت السماء تنظر إلى نجم الشعرى وتحدث نفسها قائلة: ليس هو نمرادا.

هكذا كانت ردمويا تتحدث؛ لأنها تعرف قيمة حياتها، ولا تريد أن تضيعها، قضت شهرا تحرق البخور لنجم الشعرى ليهديها حتى لا تخطو خطوة حمقاء لأنها ليست مثلنا تتخبط مع الأهواء الزائفة في أخطر موقف في حياتها، فأين هي من منى التي تقول لي: «لم أفكر في أمر هذه الخطبة؟»

ومتى تفكر إذن؟ أم هي تريد أن تهب قلبها كما يوهب العبد؟

وتمنيت لو استطعت أن أكتب في يوم من الأيام قصة مثل «ردمويا» لأعلم الناس مسئولية المرأة في اختيارها؟ ولكن ماذا صنعت «ردمويا»؟ أين هي القصة؟ أوه! كان في وسع الأخت مرسيديا أن تتركها هنا بدلا من جعلي أنتظر حتى تأتي إلي في الساعة الثامنة من الصباح.

هكذا بقيت أحدث نفسي وأنا مغمض العينين، ولا أدري متى دخل النوم إليهما.

الفصل السابع والعشرون

أصبح عالمي بعد قليل محصورا في ذلك المستشفى وأهله؛ الأخت مرسيديا واللواء مجاهد والدكتور عوض الله أفندي، وكانت زيارات أهلي وأصدقائي تقطع رتابة تلك الحياة الهادئة التي بلغت مبلغ الركود، وتدخل إلى وحشتي شعاعا من الأنس، فكنت أنتظرها في تلهف وأتخذ من كل منها ذخيرة أتصبر بها حتى تحين الزيارة التالية، ومن عجيب الطبع البشري أننا نقبل ما تحتمه علينا الظروف، ونلائم بين أنفسنا وبين الأحوال التي نتقلب فيها، ولو لم تكن فينا هذه المقدرة على الانطباع بالظروف المتغيرة لما استطاع كثير منا أن يطيقوا حياتهم إذا تغيرت أحوالهم من اليسر إلى العسر أو من الغنى إلى الفقر أو من الجاه إلى الخمول، ولولا هذا الطبع لما استطاع إنسان أن يعيش يوما واحدا إذا فقد الحرية وهي الهبة الأولى التي تميز الحياة الإنسانية، وتجعل لها معنى، الطير والوحش إذا حبست وحيل بينها وبين حرية الفلوات والفضاء لا تطيق صبرا على الأسر، وقد تنتحر أو ترفض الطعام والشراب حتى تموت، ولكن الناس يتمسكون بالحياة وإن كانت في سجن مظلم تحت أطباق الأرض، وقد عجبت كثيرا وأنا في سجن الاستئناف من فتى كان محكوما عليه بالإعدام ولم يبق من عمره إلا أن تنظر محكمة النقض في أمره، ولكنه كان يأكل ويشرب ويضحك ويهرج، ولا يكاد من يراه يحسبه مهموما بشيء، ولو أنه خير بين الموت وبين البقاء في سجنه طوال حياته لما تردد في اختيار السجن مع كل ما فيه من ضيق وعذاب وألم لا يقاس به ألم الإعدام في لحظة قصيرة.

ومهما يكن من الأمر فقد استقر بي المقام في حجرتي المنعزلة في المستشفى أترقب زيارات أهلي وأصدقائي كما يترقب الطفل صباح العيد، وقد صار الناس جميعا في نظري أعزاء والذين كانوا أعزاء من قبل أصبحت حولهم هالة من الحنين تشبه القدسية، وأما أهل عالمي المحدود فقد أصبحت لكل منهم عندي شخصية خاصة به، ومكانة لا يملؤها سواه.

وقد جاءني الشيخ مصطفى حسنين ذات يوم، فلم أتمالك عيني من الدمع عندما عانقني وهو يبكي، هكذا نحن معاشر البشر نقيس الأشخاص والأشياء والأمور بمقاييس متقلبة تختلف مع أهوائنا ومع مشاعر الساعة التي نكون فيها.

وكان حمادة من أكثر أصحابي ترددا على زيارتي ومن أشدهم عناية بأمري، فلا يكاد يخلو يوم من زيارة يؤنسني بها وحده أو مع غيره، وكان قلبي يتوجع كلما تذكرت أن منى لم تسأل عني، أما سألت يوما عن أختي منيرة؟ أما عرفت أنها سافرت مع أمي إلى القاهرة لتكونا قريبتين مني؟ وهل يمكن أن يخفى خبر سجني عنها مع أن الأخبار تنتقل في دمنهور مثل تردد الصدى في الوادي الضيق؟

Bilinmeyen sayfa