176

ولم أجد ضرورة لسؤاله عن قصده فسرت وراءه قائلا في نفسي: «هذا شيء طبيعي لأني لا يمكن أن أقضي الليلة كلها هنا.»

وسار بي حتى وقف عند باب غرفة أخرى على بعد نحو خمس خطوات، وفتحها قائلا: تفضل هنا!

وظننت طبعا أنها غرفة أعدت لنومي، فدخلتها مرتاحا ولم أفطن إلى أن الرجل سيغلق الباب ورائي بهذه السرعة، وما كاد الباب يغلق حتى رأيت أني في غرفة مظلمة ضيقة لا تزيد سعتها على مترين في ثلاثة، وسقفها لا يعلو أكثر من ثلاثة أمتار، وكانت حجرة قذرة الجدران والأرض، عارية ليس فيها شيء سوى كرسي نصف محطم وبرش قذر ونافذة صغيرة لا أستطيع أن أصل إليها إلا إذا مددت طرف يدي. «وماذا أفعل هنا؟» هكذا قلت في سري وقلبي يتمزق من الغيظ ، وحاولت أن أجلس على الكرسي لأفكر فيما ينبغي أن أصنع، ولكنه كاد ينهار بي فقمت غاضبا، وقلت في نفسي: «هل أعود إلى الحماقة التي ارتكبتها في دمنهور عندما سجنت في الجحر المظلم فأقوم إلى الباب لأدقه بيدي ورجلي ورأسي كأنني مجنون؟» كانت الغرفة الأخرى على الأقل تؤنسني بنافذتها المطلة على الطريق، وأستطيع أن أجلس على المكتب الذي فيها، وشعرت بلسعة في أسفل ساقي فملت لأتحسس موضعها، فلمست يدي شيئا حسبته برغوثا فرفعته إلى كفي في حذر خوف أن يهرب مني، فإذا هي قملة طويلة تعجب كيف تصل إلى مثل هذا الحجم، ورميت بها بعيدا في اشمئزاز، وأخذت أخبط الباب في عنف، ولكني شعرت بلسعة أخرى فكدت أفقد صوابي، وخيل إلي أن البرش الذي هناك عش عامر بالقمل، وشعرت كأن بدني كله يلسعني، وكأن في كل قيراط منه دبيب قملة، وفزع الشرطي على ما يظهر من الدق العنيف ففتح الباب واستقبلني قائلا: ما لك يا أفندي؟

وكان كل همي أن أنفذ من الباب، فاندفعت خارجا وقلت بعد أن صرت في الممر: أهذه غرفة تعذيب من صنف جديد؟

وعند ذلك تبينت أن الشرطي كان صاحبي، وقد جاء يحمل في يديه أوراقا ملفوفة.

فقلت له وأنا أكثر هدوءا: أهذه غرفة نوم يا أخي؟ ادخل إليها دقيقة واحدة لتعرف أنها عش قمل.

فقال في سذاجة: الحاضر يا سيدي، وأين تنام إذن؟

فلم أملك نفسي من الضحك مع شدة غيظي وقلت له: شكرا لك على كرمك وأرجوك ألا تفكر في أمر نومي، سأقضي الليل واقفا في الغرفة الأخرى، ويمكنني أن أنام فوق المكتب إذا شئت، خل هذه الغرفة لضيف آخر يحتاج إليها.

والظاهر أن الفكاهة أعجبته فضحك قائلا: أمرك يا سيدي.

وأخذني من ذراعي إلى الغرفة التي كنت فيها قائلا: رغيف إفرنجي وجبن رومي وخيار أخضر، الكل ستة قروش.

Bilinmeyen sayfa