ودخل حمادة الأصفر مبتسما وعيناه تلمعان لمعانا شديدا، ولكنه كان شخصا آخر غير الذي عرفته، كان يلبس ثوبا صوفيا نظيفا فاخرا مما يسميه أهل دمنهور بال «بنش»، ويبدو من فتحة صدره «قفطان» من الحرير، وتتدلى من كتفه «كوفية» ذات شراريب طويلة، وعلى رأسه طربوش نظيف، وفي يده منشة من الشعر الأسود ذات مقبض من العاج.
ولم أشك في أن هذا المظهر الأنيق ثمرة للسرقة التي أعرفها، ولم يجبني على صيحتي إلا بتلك الابتسامة الجامدة، وذهب إلى أقرب كرسي فجلس عليه هادئا كأنه يقول لي: «لست أعبأ بك.» فكدت أنفجر من الغيظ، ودفعت الكرسي الذي أنا عليه إلى الوراء، وقمت واقفا وقلت في حنق: من أذن لك أن تدخل عندي؟
فقال بصوت هادئ: هذا لقاء الضيف يا سيد أفندي؟ يا أخي لست شحاذا حتى تطردني هكذا، أهذا جزائي لأني حضرت إلى القاهرة في الدرجة الأولى لأبحث عنك، وكل يوم جنيه أجرة تاكسي أدور في كل مكان، ثم أذهب إلى غرفتك فأبقى في انتظارك إلى نصف الليل، ثم أنام على الكنبة بدون غطاء؟ الحمد لله لأني لا أريد منك الإحسان يا سي سيد، الدنيا يا أخي ساقية والقواديس العالية تفرغ والتحتانية تملأ، قل للساعي يحضر لي قهوة.
وصفق ليطلب القهوة.
فقلت له متمالكا نفسي: ألست تخجل من مقابلتي؟
فقال في جرأة وقحة: كل هذا من أجل المائة جنيه؟ هذه هي يا سيدي.
وأخرج ظرفا فوضعه أمامي على المكتب، فتهيجت وقلت: أرجو أن تذهب من هنا، أنت لا تستحق أن أجادلك.
فقال غاضبا : والله لولا أني أحترمك ... يا سلام يا سيد أفندي!
ودخل الساعي فوضع الفنجان أمامه وخرج، وأتاح لي فرصة قصيرة للتفكير في هذا الوغد، وأحسن الطرق في صرفه عني بغير أن أفسد على نفسي هدوءها منذ الصباح.
وقلت له: اسمع يا حمادة، لا أرى داعيا لهذا الحديث، ولست أملك وقتي فأرجو أن ينتهي هذا الموقف بسلام، أنت تعرف ماذا كان شعوري نحوك من قبل وماذا يكون شعوري الآن بعد أن حدث منك ما حدث. أنت رجل؟ أنت إنسان؟ ... لا داعي لكثرة الكلام؛ لأني لا أرى فيه فائدة، ليس بيننا ما يدعو للعتاب ولا للمناقشة، وليس يخفى علي أنك ما شاء الله أصبحت في نعمة عظيمة، فتفضل في طريقك أنت من هنا وأنا من هناك ولا أظن أحدنا في حاجة إلى لقاء الآخر فيما بعد.
Bilinmeyen sayfa