137

ولما دخلت إلى الدار وجدت جوه يبعث الكآبة والحزن، وقادتني الخادمة إلى غرفة الانتظار، وكان أثاثها فخما وأضواء النوافذ تنعكس على قطع البلور في ثريات السقف والأركان، ولكن الغرفة كانت مع هذا تبدو مظلمة، كانت التحف الثمينة منكسة على حواملها، والستائر والأبسطة مقلوبة على وجوهها، والصورة الكبيرة المعلقة في الصدر مجللة بالسواد تظهر رب البيت الراحل كأنه هو الحزين، وجلست أتأمل ما حولي وسبحت في تأمل معنى هذه الحياة وسخف أطماعها ومنافساتها ومصادماتها، فلم أستيقظ من سبحي إلا على شخص منى يشرق كأنه شعاع نور في بكرة الصباح، كانت هي بعينيها اللتين تشبهان زرقة البحر الصافي وقامتها الممشوقة يزيدها لبس السواد رشاقة، وقمت لأحييها، فنظرت إلي شاكرة وفي عينيها دمعة، فتجلدت حتى لا أبكي وغمرني حزن عميق كأني أنا أيضا مفجوع بوالدها، ولكني مع هذا الحزن العميق شعرت كأني سعيد؛ لأني رأيت منى على غير انتظار، ولم أجد كلمة أقولها سوى المجاملة المعتادة: البقية في حياتك يا منى.

فقالت بصوت ضعيف: أشكرك يا سيد.

واندفع الدم إلى وجهي أو هكذا خيل إلي عندما سمعتها تناديني باسمي، وقلت لها: علينا أن نتحمل الصدمة يا منى مهما كانت شديدة، وليس لنا من حيلة إلا أن نتحملها.

فأجابت في هدوء: أعرف أنه ليس لنا من حيلة إلا أن نتحمل الصدمة وقد حاولت جهدي أن أتحملها، ولكن فقد أبي على هذه الصورة كان أكبر من صدمة.

ثم ترددت ورفعت منديلها إلى عينيها.

وأدركت إدراكا عاما ماذا تقصد بقولها إن فقد أبيها على هذه الصورة كان أكبر من صدمة؛ فإن ما سمعته من أمي ومن مصطفى عجوة وحمادة الأصفر كان كافيا لجعل موته في تلك الظروف نكبة شديدة.

وصمتت لحظة ثم استمرت تقول: ليس من الهين علي أن أسمع أقوال القريب والبعيد وهم يتحدثون عن أبي الذي كان يملأ حياتي، والذي كنت لا أرى الدنيا إلا في حدود شخصه، ويؤلمني أن تبدأ معركة كلها مطامع وأكاذيب وسخافة ولم يمض على موته إلا يوم واحد، كل الأحاديث تدور حول ما خلفه أبي من المال، وأما هو فلست أجد أحدا يحس بفقده غيري.

ورفعت منديلها مرة أخرى إلى عينيها.

وقلت لها مجتهدا في إخفاء تأثري: تجلدي يا منى؛ فالحياة تمتحننا بأحزانها، لقد فقدت أبي عندما كنت في مثل سنك وأعرف كيف يكون فقد الأعزاء قاسيا، ولكن فقد الأعزاء وما فيه من الأحزان من سنن الحياة القديمة، وعلينا أن نأخذ من الحياة نصيبنا، لا مفر لنا من مواجهة الحياة على حقيقتها، وأن نستمد من أحزاننا كل ما نستطيع أن تهب لنا.

فقالت منى في توجع: وماذا تستطيع أن تهب الأحزان لنا؟ الفراغ الذي خلا من الوالد العزيز والحقائق البشعة التي تتكشف لنا في الأطماع والأحقاد، وهذه الأحاديث الخبيثة التي لا أظنك سمعتها بعد، وهذه المعركة الحقيرة التي يريدون أن يثيروها في المحاكم حول التركة العزيزة عليهم ولا يبالون فيها أن يمزقوا سمعة أبي ويلوثوها في سبيل المعركة، لست تعرف يا سيد أي نكبة هذه التي ألمت بنا.

Bilinmeyen sayfa