ولدت أختي «آيات»، وبدأ العام الدراسي. دخلت مدرسة الصنائع لدراسة اللاسلكي، كنت صغيرا بين طلابها، يتبارون في الإجرام والتمرد، فحاولت بقدر الإمكان أن أتكيف مع الأمر. قال لي أبي وهو في شدة المرض: «إذا مت وكان عندك امتحان اذهب للامتحان.» لم يمر شهر على ميلاد أختي «آيات»، وبداية دراستي في مدرسة الصنائع، وأنا في الرابعة عشرة مات أبي وهو في الثالثة والأربعين، في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر. أسرة من ستة أطفال، وأم في الخامسة والثلاثين من عمرها ونضارتها، على الرغم من حالات الإنجاب السبع التي مرت بها. سرت وراء جثة أبي ولم تخرج مني دمعة، الناس يحيطون بي ويحثونني على البكاء، لكني لم أبك، ولم تخرج نساء تنوح وراء جثمانه كما أوصانا.
وضعت يدي في يد أمي، وبمساعدة زوج أختي وابن عمي «السيد أبو زيد»، والذي قام بدور الأب الحامي لنا؛ عرفانا بالجميل الذي أسداه أبي له ولأسرته من قبل، فكنت بين الدراسة والمحل. أمي تغيرت حياتها تماما، وأصبحت الخياطة حرفة تتكسب منها، فتتحرك وتخرج في القرية وحدها. العيون تنهبها لشبابها وجمالها، لكنها نذرت نفسها لأبنائها الستة. أصبحت أقلد أبي، أفعل كما كان يفعل بالبيت، ومرة كنت أتحدث إليها، وعلا صوتي وقذفت بالمقص نحوها، فنظرت إلي دون أن تتكلم، وذهبت تجمع حاجاتي في منديل محلاوي، وألقت بها وبي في الشارع، وأغلقت الباب. أعرف أنها ستفتحه بعد قليل وتبكي ساعات، والناس تمر بي وتستفسر حتى اقترب مني الليل، وتجمع الجيران وأبناء القرية، وطرق بعض أفاضلهم الباب وأنا على مقربة أسمع: يا ست أم نصر، يا ست أم نصر. فقالت: «خير اللهم اجعله خير.»
تتحدث في برود وتؤدة. قال الرجل الفاضل: «إيه اللي حصل؟! هو نصر واقف برا ليه كدا والليل قرب؟!» قالت بنفس الهدوء: «مالوش لازمة عندي، لو عاجبك وعايزه خذه، لساه عيل بأكله ورماني بالمقص، هيعمل إيه بعد سنتين تلاتة؟ وعلى العموم عشان خاطرك وخاطر مجيئك، يدخل البيت على شرط واحد.» وذهبت وأحضرت الكرسي الوحيد بالبيت وجلست عليه كملكة ووضعت قدمها، وقالت: «يبوس رجلي أمامكم جميعا.» ولم يكن مني إلا أن ركعت على الركبتين وقبلت قدميها.
4
أتانا ناظر شديد لمدرسة الصنائع، قرر أن يوقف الفوضى، ضرب بيد من حديد على التسيب في المدرسة. كانت غرفة الطعام تخضع لقانون الغاب، الطلبة الأكبر سنا والأقوى يدخلون أولا ويأكلون الأكل كله وباقي الطلبة لا يأخذون شيئا، فجعل لكل طالب رقما وكوبونا، كما أنه حسن في الوجبة. وفي يوم من الأيام قفز بعض الطلبة من فوق سور المدرسة إلى مدرسة الثانوية العامة خلفنا للهروب منها إلى الشارع، كالعادة، وأمسك بهم ناظرها، واتصل به، فقال لناظر مدرسة الثانوي العام: أنت أمسكت بمجرمين قفزوا عبر سور مدرستك، بلغ البوليس.
أتممت الدراسة وحصلت على دبلوم الصنايع قسم لا سلكي، وجاءني التكليف للعمل بوزارة المواصلات السلكية واللاسلكية، وسيكون لي راتب أساعد به في مصاريف البيت ورفع الحمل الكبير عن أمي التي تفني شبابها على ماكينة الخياطة. وزارة المواصلات أدركت أني لم أبلغ الثامنة عشرة بعد، وأمامي تسعة أشهر، فأخبروني أن أعود بعد تسعة أشهر لاستلام العمل؛ فليس هناك درجة وظيفية في الحكومة قبل بلوغ السن. عدت إلى القرية أجرجر الأمل ورائي، لكني وجدت فرصة للعمل بالمصانع الحربية، وتقدمت إلى الاختبار فيها، وبالفعل بدأت العمل بها براتب مناسب. وما إن علمت وزارة المواصلات بذلك حتى أرسلت للمصانع الحربية تخبرها أن عندي تكليفا ويجب ألا أعين. وكأنه يجب علي أن أظل عاطلا حتى يرضوا. وصلت إلى القاهرة، وفي ميدان رمسيس، ظانا أني سأجد شارع رمسيس بسهولة، فلم أعرف في أي اتجاه أسير لأصل إلى الهيئة المصرية العامة لتعمير الصحاري؛ أسأل عن وظيفة هناك وأعود إلى قحافة في نفس اليوم. لم أجد أمامي إلا فتى صغيرا، سألته عن شارع رمسيس، اقترب مني وأمسك بيدي يدلني، وأدركت أن فتى آخر قد تبعني، فتشاجرا، وشعرت بفقد ربع الجنيه الذي أحمله في جيبي، فجريت وراءهما حتى ألقوا بربع الجنيه على الأرض وفرا هاربين. لم أثق في أي أحد، حتى وجدت عسكريا في الميدان وسألته عن الشارع.
كتبت شكاوى للوزارة وللسيد الوزير أطلب أن يرحموني أو يتركوا رحمة ربنا تنزل، حتى صدر قرار السيد الوزير بأن أعين بيومية مؤقتة، أربعة وعشرين قرشا ، حتى أبلغ الثامنة عشرة وأحصل على الدرجة الوظيفية في ميزانية الوزارة. فتعلمت ألا أسكت وإلا ضاع حقي. في فبراير «واحد وستين» تم تعييني وتدريبي في القاهرة، فذهبت للسكن مع بعض أبناء قحافة السابقين الساكنين أمام قسم بوليس العباسية، بالقرب من «باب الشعرية». كانوا أكبر مني سنا، أعطوني أحقر غرفة في المسكن، وبدأ استغلالهم لي؛ يكلفونني بأشياء لأنني الأصغر. وعملي كان ليلا. وبدأت أدرك عالم القمار والانحلال الأخلاقي الذي يعيشون فيه. كانوا يتجنبون إدخالي في دائرتهم حتى لا أفسد على حسب رأيهم، وحتى لا تغضب منهم أسرتي. كنت آخذ الترام أو التروللي باص للذهاب إلى العمل، في مبنى وزارة الداخلية بوسط البلد. وقت فراغ كبير لقلة العمل بالليل، شعور فظيع بالوحدة في هذه المدينة الكبيرة. أخرج قرب العمل إلى ميدان التحرير بنافورته الجميلة وشاشات التليفزيون الجديد المنصوبة في الميدان.
5
كان العمل في شرطة نجدة مدينة المحلة الكبرى بعد انتهاء فترة التدريب في القاهرة براتب ستة جنيهات وأربعين قرشا؛ موظفا تابعا لوزارة المواصلات، وانتدبت للعمل فني لا سلكي بوزارة الداخلية. أعود في ساعات متأخرة من الليل؛ ثلاثين كيلومترا إلى قحافة. ففكرت في انتقال الأسرة إلى المحلة حتى أستطيع أن أتابع دراسة إخوتي. وكان الأمر صعبا على أمي، حيث زبائنها ومعارفها، فانتقلت الأسرة وبقيت هي بالقرية حتى أقنعها أحد أقاربنا بحاجة الأسرة إليها في المدينة، فانتقلت إلى السكن في المحلة.
تجدد حلمي، فتعرفت إلى المجموعة الأدبية بقصر ثقافة المحلة، والذي انتقل إلى أحد قصور أعيان ما قبل الثورة؛ مجموعة من المهتمين بالأدب والفكر، نلتقي مرة في الأسبوع؛ منا ذو الميول الدينية الإخوانية مثل «زكريا التوابتي»، يكتب القصة القصيرة، يسكن في شقة أمام سور شركة مصر للغزل والنسيج، وقد فاز بجائزة نادي القصة القصيرة. شجع ذلك «سعيد الكفراوي»، ابن قرية كفر حجازي الذي طالما ذهبنا إلى منزلهم العامر فيرعانا والده بأطيب الطعام من خيرات أطيانه، دخل «سعيد» عالم القصة القصيرة. و«محمد صالح» ابن قرية «منية شنتنا عياش» مهتم بالشعر، متمرد على كل شيء ، أغتاظ من طريقة تعبيره وملامح وجهه وغمزات عينيه حين يتكلم، حتى تعودت عليه. وأصغرنا سنا «جار النبي الحلو»، دخل عالم القصة القصيرة ومن بعدها الرواية، وخله الوفي المنسي قنديل. و«محمد فريد أبو سعدة» يكتب الشعر، في بداياته كان متأثرا بشعر «أمل دنقل»، حتى وجد صوته الخاص. و«أحمد الحوتي» الشاعر، وهو من أوائل من نشروا من مجموعتنا. أما أكبر مجموعتنا سنا فكان «أحمد عسر». وحينما انضم إلى مجموعتنا «جابر عصفور» وهو طالب في كلية الآداب، والذي كان شديد النقد، و«أحمد» يضيق بنقده، و«جابر» لا يبالي؛ متأثرا بالأفكار اليسارية التي يتناولها في الجامعة واهتمامه بعالم النقد الأدبي. و«الأزهري رمضان جميل» الخبير بكتب التراث، وكاتب القصة القصيرة. وكانت قصته «موت عامل نسيج يدوي» جذبت نظر محرر صفحة أدباء الأقاليم بجريدة الجمهورية فنشرها.
Bilinmeyen sayfa