إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ، المعتزلة قالوا يد الله تعني قدرة الله. وهذا تبسيط للمعنى فظيع. الآية تقول :
إن الذين يبايعونك . هنا مهم تحديد الخطاب، المخاطب هنا محمد، لكن المخاطبين المباشرين الذين بايعوه، والبيعة بوضع يد على يد؛ فلا تستطيع أن تفصلها باعتبارها القدرة تكون سخرية من المبايعين، لكن اليد التي تبايع ليست يدا تمارس سلطة بل يد تتعاون؛ فالاستعارة هنا لا يمكنك أن تحلها بأنها معنى مجرد لاهوتي. الغنى هنا هو غنى الموقف والمخاطب الأول؛ لأنه كانت أول مرة بعد معاناة الرسول في مكة يجد أنصارا يبايعونه على أن يحموه بحياتهم قبل أن يهاجر. لا يمكن أن تفسر هنا بمعنى القدرة فقط، وإلا يكون معنى فقيرا جدا. - بالنسبة لفكرتك أو مشروعك عن تفسير القرآن ومقارباتك الماضية؛ فقد أصلت فكريا من ناحية المنهج وطريقة التناول، لكن المقاربة للكتاب ككل، للنسيج ككل في عمل متكامل؟ - أنا أعتقد أن هناك تحديا في المقاربة، ومتوقع أن أصل للحل من خلال الممارسة نفسها. عندنا بنيتان للقرآن: البنية التاريخية - حسب النزول في التاريخ - وبنية المصحف. ولا أستطيع أن أفضل بنية على الأخرى في عمل كبير للتفسير، لماذا؟ لأن القرآن الذي أثر في الحياة وشكل الثقافات الإسلامية عبر القرون هو القرآن بالشكل والترتيب المكتوب في المصحف، فلا تستطيع أن تهمل هذا التراكم التاريخي وتقول سأرجع للظاهرة القرآنية فقط. الرجوع للظاهرة القرآنية مهم، لكن القضية هي كيف تدرس الظاهرة القرآنية في بعديها التاريخي والآني. هذا هو التحدي؛ أن أحاول بيان الجزئيات، لكن في نفس الوقت أضع هذا الجزء من الخطاب في سياق الكل القرآني، وهذا هو التحدي الذي لا أستطيع حله، لكن متوقع من خلال عملي في التفسير نفسه أن أصل لحلول فيه. وبهذا الشكل نقارب حل مشكلة التاريخي والكلي، التجزيئي والكلي؛ لأنه في النهاية القرآن فيه رؤية للعالم، لكنها رؤية لا تستطيع أن تصل إليها من خلال بعد واحد من البعدين؛ لا بد أن تربط البعدين بعضهما ببعض. إذا نظرت فقط للبعد التاريخي فلن تصل إلى رؤية للعالم، ستصل لرؤى للعالم. وإذا نظرت إلى البعد الكلي فقط ستصل إلى رؤية للعالم إلى حد كبير عامة، وإلى حد كبير أيديولوجيتك متدخلة فيها. أنا مدرك حجم التحدي، لكن على الأقل أكون عملت خطوة، فتحت الباب لنقاشات. دع جانبا من سيرفض تماما وسيقول هذا كفر، أو من يقبل تماما. أنت تحتاج إلى من سيأخذ هذا مأخذ الجد، لا القبول المطلق ولا الرفض المطلق، كما أخذ المسلمون الأوائل تحديات المسيحيين مأخذ الجد؛ وبالتالي انخرطوا في إنتاج معرفة، فيه تحديات كثيرة في الدراسات الإسلامية والقرآنية، نحن الباحثين المسلمين نخاف أن نقترب منها، وأنا أرى أن هذا الخوف تعبير عن انعدام الثقة في النفس، والخوف من الخطأ، وكلاهما لا يجعلك فاعلا. وقد حان الأوان ألا نترك المجال لغيرنا ونظل نتفرج فقط؛ نرفض أو نقبل. لقد حان الأوان أن ننخرط في إنتاج معرفة خاصة بالتراث الذي ننتمي إليه، ومن حقنا أن نفهمه وأن نناقشه وننقده ونعدله ... إلخ. مشروع التفسير سيكون مركبا جدا، سآخذ القارئ في رحلة قراءة للقرآن في سياقه التاريخي وفي بنيته الحالية في الدلالات التي يشعها. - جهودك النقدية - وأنا كقارئ لست متخصصا في علم تحليل الخطاب (وتمهل «جمال» في الكلام) - مجرد مقدمة، لكن التفسير سيجعلك تركز الأفكار. - أنت عندك حق، دا كلام «مظبوط»، وهو أنه طول الوقت وكأننا نعمل «وصفة» للطبخ. أطبخ «بقى». نعم أنا تكلمت عن المنهج والمقدمات، نص وخطاب، كلها لا بأس بها، لكن خذ المفهوم الذي وصلت إليه وقدم للقارئ وجبة. وأنا حاسس أني أقدر أعمل هذا، لكن لن يكون عملا كاملا، لكن على الأقل أستطيع وضع الخطوط العريضة، وعندي إجابات كثيرة لكل الآيات الإشكالية التي وقف عندها المفسرون. أنا أرى لها حلولا لو طبقنا منهج تحليل الخطاب. وهذا ليس تبسيطا، والقرآن ليس كتابا في اللاهوت، اللاهوت في القرآن على درجة من الغموض عالية جدا لذيذة جدا؛ ولهذا أصبحت أحتفي بالغموض. فكيف لك أن تتخيل إلها لا يتكلم ولا يغضب ولا يحب، وليس له يد يرعى بها ولا يبطش؟ هل يمكن تخيل إله تخيلا مجردا؟ المحرك الأول مثلا عند «أرسطو»، أو «العقل الفعال» عند الفلاسفة، هذا إله لا يصلح للإيمان، إنه إله يصلح للتفكير. القرآن يقدم إلها للتفكير وإلها للإيمان بالطريقة التي أدركها المتصوفة؛ ف «ابن عربي» حينما يقف عند «ليس كمثله شيء» يقول: هي آية تنفي التشبيه لكن بها تشبيه، إنه جعله شيئا وليس ككل الأشياء. إدراك المتصوف هذه الدرجة العالية من الغموض والاختلاط واحتفاؤه بها، هو ما يميزه. إنه عالم من الغموض. هذا ما أود عمله وبلغة سهلة طبعا ليس بها الأسس النظرية. وأكتب من غير عجمة المصطلحات. أصبحت الأمور واضحة في ذهني.
حل علي التعب، فلاحظ جمال هذا، وقال مشيرا إلى جهاز التسجيل الديجيتال الصغير في يده يمكننا أن نأتي لك بجهاز كهذا، وكل محاضرة أو لقاء صحفي أو تليفزيوني تسجله وترسله لي كملف على النت لتكوين أرشيف صوتي لأفكاري، ووعدته بإرسال نسخة من تسجيلات «شريفة مجدي ونافيد كرماني» عندي، بصوتي عن حياتي، وتسجيلات مناقشات الماجستير والدكتوراه. وعرض علي أنه سينشئ مدونة على النت باسم «رواق نصر أبو زيد».
15
أعمل بطاقة كبيرة، ولكن الكتابة لا تسعفني، ظهرت على شاشات التليفزيون بمصر والفضائيات العربية، ونشرت مجلة «الديمقراطية» بالقاهرة مقالتي عن «الفزع من التأويل العصري للإسلام»، في عدد شتاء ألفين وثمانية. وقررت أن أصرف النظر عن التدريس بجامعة «كولومبيا»، وأقبل التعاون مع جمعيات في إندونيسيا، وأقدم دورة تدريبية لمدة ستة أسابيع لمجموعة كبيرة من طلبة الدكتوراه عن الدراسات القرآنية بالتعاون مع جمعيات هولندية. وشاركني العزيز د. «علي مبروك» الذي عانى مشكلة منع ترقيته ثلاث مرات بقسم الفلسفة في جامعتي الحبيبة. كانت الدورة ستة أسابيع من المتعة والعصف الذهني، خصوصا حواراتي أنا و«علي»، خصصنا كل يوم لعلم من علوم القرآن وعلم الكلام والفلسفة. محاضراتي وحواراتي الخصبة في المساء مع «علي» وقد اقتربنا بعضنا من بعض أكثر، وتجددت فكرة عمل شيء مشترك عن «الشافعي». وبعد الدورة أخذت أنا و«ابتهال» يومين إجازة في سحر الجزر الإندونيسية.
كان عام ألفين وثمانية حافلا، فدعيت لإلقاء محاضرة الربيع من مؤسسة «المورد » في بيروت والقاهرة، وألقيت أول محاضرة كبيرة عامة لي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بعد تعذر إيجاد قاعة للمحاضرة. كانت الجموع حاشدة، واخترت موضوع «الفن وخطاب التحريم»؛ خطاب التحريم ليس الديني فقط، بل التحريم بكل أنواعه السياسي والاجتماعي والديني، ولماذا يجابه هذا الخطاب الفن؟ ودعتني مكتبة الإسكندرية لألقي أربع محاضرات كباحث مقيم. وبالفعل ألقيت المحاضرات بداية من السابع عشر من ديسمبر حتى اليوم الثلاثين، ضمنتها أربع مراحل من تفكيري في الظاهرة القرآنية؛ فمن تأويل المتكلمين في المحاضرة الأولى إلى تأويل البلاغيين والتأويل الصوفي، وكان الأمر يحتاج إلى محاضرة خامسة عن جهودي لدراسة التفاسير في العصر الحديث. وفي المحاضرة الأخيرة أشركت الجمهور في همومي وفي مطبخي الفكري الذي أعيش فيه، من النص إلى الخطاب. ثم محاضرة في الجمعية الفلسفية في آخر يوم من زيارتي، وكانت عن الجدل اللاهوتي الإسلامي المسيحي ودوره في نشأة علم الكلام، أو اللاهوت الإسلامي.
دعيت من جامعة «نوتردام» الأمريكية أن ألقي محاضرة الافتتاح لمؤتمر عن «السياق التاريخي للقرآن» في أبريل ألفين وتسعة. والسؤال: لماذا لم يرتب القرآن في المصحف حسب ترتيب النزول تاريخيا؟ وقد تأملت ترتيب القرآن حسب النزول، فوجدته سيصبح وكأنه عملية تأريخ لحياة النبي محمد والمسلمين الأوائل، فهل كان الترتيب الموجود الآن هو محاولة للاختلاف عن ترتيب الإنجيل؟ ربما. وأيضا لماذا سمي «مصحف» ولم يسم «كتاب»؟ على الرغم من وصف القرآن لذاته مرات أنه «كتاب»؟ وعلى الرغم من وعي المفكرين المسلمين الأوائل للمسألة التاريخية في اجتهادهم، خصوصا الفقهاء، لتحديد الناسخ والمنسوخ؛ لكي تستنتج أحكام تضبط حياة المسلمين من القرآن، لكني ركزت على القرآن في ترتيبه الحالي؛ ترتيب التلاوة. والسؤال الذي يشغلني منذ محاضرة كرسي «ابن رشد» عام ألفين وأربعة هو: هل القرآن يحتوي على رؤية للعالم أم لا؟ وإن كان، فما عناصر هذه الرؤية للعالم؟ فعرضت لرؤية المتكلمين، أو اللاهوتيين المسلمين، للرؤية القرآنية للعالم. وعرضت لرؤية العالم التي حاول استخراجها الفقهاء وعلماء أصول الفقه من القرآن، من تقسيم القرآن إلى ناسخ ومنسوخ، ثم سعوا - بدءا من «الغزالي» - للوصول إلى مقاصد كلية للشريعة، والتي لخصها الشاطبي في خمسة، وأتصور أنها متصلة بالحدود، فهل الرؤية التي يقدمها الفقهاء يمكن أن تكون الرؤية القرآنية للعالم؟ وعرضت لرؤية الفلاسفة من خلال «ابن رشد». و«ابن رشد» يحتاج إلى دراسة متعمقة، خصوصا دراسة التأويلية عنده، وذلك في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وأهمية الغموض ودور عدم اليقين في فهمه، وفي الرؤية التي يقدمها عن الرؤية القرآنية للعالم. واللغة ذاتها تنتقل عبر التاريخ من خلال الغموض؛ فالنص الواضح تماما في عصر يسجن في مرحلته التاريخية. ثم الرؤية الصوفية التي تتعامل مع الظاهر والباطن للحقيقة، والحقيقة كالماء، لا شكل ولا لون لها، وتأخذ لون وشكل الكوب. والإشكال أن كلا منهم أخذ بعدا من أبعاد القرآن، ونحن نحتاج إلى الأبعاد جميعها في رؤية متعددة الأبعاد. وإجابتي عن السؤال هي: نعم ولا؛ فالقرآن يحتوي على رؤية للعالم، ولا يحتوي في نفس الوقت؛ فهو يحتوي على رؤية ليست بالمعنى الفلسفي، بل هي رؤية للعالم تتشكل حسب المجتمع المسلم، مثل الماء حينما يحتويه الإناء.
وانخرطت في دراسة هذه الرؤى للوصول إلى رؤية العالم في القرآن، واستكملت الحوار في الندوة التي أقامتها لي جمعية «ألوان» الثقافية بنيويورك؛ فمصدر تاريخية القرآن هو علوم القرآن المرتبطة بالتاريخ، من المكي والمدني والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ... إلخ، ومن اللغة؛ فاللغة كائن حي يتأثر ويؤثر في التاريخ. والفرق بين دراسة المسلمين للقرآن ودراسة الغربيين للقرآن أن المسلمين، على الرغم من إدراكهم للتركيب والبنية والتاريخ، إلا أن مركز جهودهم كان استخراج المعنى؛ معنى الحياة، والمعنى من القرآن الذي يضبط حياة المسلمين، لكن جهود الغربيين لدراسة القرآن كانت بدافع محاولة استيضاح الغامض من الإنجيل بالعودة لدراسة اللغات السامية، وكانت العربية اللغة الحية من هذه اللغات. وفي محاولة تعلم اللغة العربية كانت دراسة القرآن حتى القرنين الثامن والتاسع عشر، وقيام المستشرق الألماني «تيودور نولدكه» (1250ه/1836م-1347ه/1930م)، عن تاريخ القرآن في محاولة للوصول إلى الأصول التوراتية والإنجيلية للقرآن. وفي العقد الأخير بدأ الاهتمام في الغرب بالدراسات السياقية للقرآن. وكل هذا الاهتمام ركز على البنية والشكل والتكوين التاريخي للقرآن. فهل يحتوي القرآن على رؤية للعالم؟ هذا هو السؤال الذي يملك علي حياتي.
التقيت «فكري أندراوس» و«جمال» الذي بدأ يكتب محاضراتي العربية المسجلة، وأصبح رواق «نصر أبو زيد» الذي يضع عليه كتاباتي وأخباري ملتقى لمهتمين بأفكاري. كتبت مقالة بالإنجليزية نشرت في مايو، على أن تصرفات «طالبان» وقانونهم ليس قانونا قرآنيا بقدر ما هي تقاليد قبلية. وألقيت في هولندا محاضرة لجمعية من العراقيين المهاجرين إلى هولندا عن الفكر الإسلامي الذي دخلنا به إلى القرن السادس عشر الميلادي وطبيعته ومكوناته. أصبح حلم حياتي قريب المنال؛ حلم وجود مؤسسة في العالم الإسلامي تكون مدرسة ومعهدا لدراسة القرآن؛ فكل جامعاتنا الإسلامية على طول وعرض العالم الإسلامي، هي مدارس لتعليم الدين وللوعظ، وليست للدراسة والبحث في القرآن؛ فبالتعاون مع مؤسسة نهضة العلماء التي يرأسها «عبد الرحمن وحيد» رئيس إندونيسيا السابق، ومؤسسة الليبرالية للجميع، سننشئ هذا المعهد العلمي، وسأتولى الإدارة الفكرية والبحثية فيه بالتعاون مع «علي مبروك»، وجهوده الكبيرة في دراسة العقيدة. وأتى مدير المؤسسة إلى القاهرة، وجلسنا في جلسات عمل طويلة نضع الأسس الفكرية والأكاديمية للمعهد العالمي للدراسات القرآنية، الذي سيكون مجلس أمنائه من باحثين من كل العالم الإسلامي، من العالم العربي ومن إيران وجنوب شرق آسيا، وسنبدأ الدورة الأكاديمية الجديدة في إندونيسيا هذا الصيف مع أربعين من حاملي رسائل الدكتوراه في الدراسات الإسلامية.
طلبت من «جابر عصفور» أن نجمع كل المحلاوية بزوجاتنا وأولادهم، وكان لقاء جميلا استعدنا فيه ذكريات شبابنا الجميلة ومناكفاتنا الفكرية. كتبت مجموعة من المقالات للمجلة الإلكترونية «الأوان»، بدأت نشرها في الخامس والعشرين من أكتوبر من البدايات إلى تحليل الخطاب، ومن العقل إلى النقل، وشعار النهضة وشعارات الأزمة؛ ثم كتبت عن علاقة المثقف بالسلطة. وكان عندي محاضرتان سوف ألقيهما بالكويت في ديسمبر ألفين وتسعة، ودبت مشكلة لا لزوم لها، ورضخت الحكومة لضغوط السلفيين في مجلس الأمة الكويتي، وتعرضت لقلة ذوق بإعادتي من مطار الكويت بعد وصولي؛ فمن سعوا لمنعي من الدخول يعيشون في العصور الوسطى، فعدت إلى القاهرة، وألقيت المحاضرة نفسها للمجتمعين ولمن انضم إليهم بسبب الضجة بالتليفون، وسمع الناس المحاضرة، بل وخرجت إلى الإعلام وعلقت على ما جرى داخل مقر نقابة الصحفيين المصرية، وكتبت تعليقا على ما حدث نشر في «الأوان»، وفي كل وسائل الإعلام.
Bilinmeyen sayfa