فأصبح السؤال: كيف نخرج من هذه الأزمة؟ السؤال إذا لاحظت موجود من سنة تسعين في كتابي «مفهوم النص»؛ أي: كيف نخرج من التأويلات الأيديولوجية للدين؟ فعملي استمر في مجالين؛ مجال تحليل تاريخ التفسير ودراسة إنجازات عصر النهضة وإخفاقاته في العصر الحديث، والوصول إلى اقتراح حلول؛ هذه الحلول فيما يرتبط بالقرآن هي: ما أزعمه أن القرآن ليس نصا، إنما هو مجموعة من الخطابات. وهذا مهم جدا حتى نفهم الإمكانات والاختلافات فيه. قاطعني قائلا: «ممكن نقف وقفة هنا عند ما هو الفرق بين نص وخطاب؟» فقلت: النص نسق متكامل لغوي، له بناء ومؤلف هو الذي بنى النص وأعاد النظر فيه ليجعله خاليا من الاختلافات والتناقضات؛ فأدرس المؤلف وأدرس النص نفسه، وأبحث عما يسمى القارئ الضمني في النص. الخطاب أكثر تعقيدا من النص، طبعا كل مشكلات النص توجد في الخطاب، لكن ليست كل مشكلات الخطاب توجد في النص. الخطاب فيه متحدث وليس مؤلفا، ومخاطب، والمخاطب ممكن أن يكون مخاطبا مباشرا، ومخاطبا غير مباشر. وهناك أيضا نوع (نمط - مود). الجملة الواحدة خطابيا ممكن يكون لها معان كثيرة، كما قال أهل البلاغة؛ لأنهم كانوا يتكلمون عن الخطاب الشفوي. التنغيم يعطي معاني مختلفة؛ فمثلا: تأكل حاجة حلوة فتقول «الله»؛ هذه لها معنى، إنك تكون غضبان وتقول «الله» (بحدة) هنا لها معنى ثان، مع أن الكلمة واحدة في النص، الخطاب يعمل تنغيمات؛ هذه التنغيمات تخلق «مود».
القرآن به أنواع من الخطابات حينما أتعامل معه كنص، لا تلاحظ هذه الخطابات في أماكن معينة من التفسير الكلاسيكي. كان فيه وعي جزئي بهذا بأن الأمر في آية من الآيات ليس أمرا وإنما تهديد، والاستفهام في آية ليس استفهاما وإنما استفهام بلاغي؛ يعني إنكارا. ولكن هذا كان على مستوى الجملة. إنجازات علم البلاغة العربية على مستوى الجملة، وليس على مستوى أوسع؛ مستوى الخطاب. علم تحليل الخطاب يساعدنا في توسيع هذه المجالات، فنسأل: من المخاطب ومن المخاطب المباشر والمخاطب الضمني؟ ومن المتكلم؟ وما مود الخطاب ونوعه؟ هل هو تهديد أو وعيد، أم سجال؟ هل هو تأييد أم رفض، أو هو خطاب ابتهالي مثل آيات سورة «الفاتحة»؟ وأين يبدأ الخطاب وأين ينتهي؟ وبعد ذلك نعمل أدوات تحليل النصوص على الوحدات الخطابية؛ وبهذا نخرج من دائرة التأويل والتأويل المضاد؛ لأن النظر إلى القرآن كنص له مركز، فنسعى إلى تحديد مركزية النص، فهل مركز النص القتل والجهاد والحدود، أم إن مركزية النص في الصبر والتسامح وتقبل الآخر؟ فمنذ تقسيم المتكلمين أو اللاهوتيين المسلمين القرآن إلى محكم ومتشابه، أي واضح وغامض، وتقسيمات الفقهاء إلى ناسخ ومنسوخ، في محاولة لرفع التوتر الذي يتصورونه داخل القرآن بين التنزيه الكامل للذات الإلهية، «ليس كمثله شيء»، وبين التشبيه «يد الله فوق أيديهم»، وحولنا الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية إلى صراعات نحاربها على أرضية القرآن. ولا سبيل للخروج من هذا الضيق إلا بالنظر إلى القرآن على أنه مجموعة من الخطابات، وهنا فلكل خطاب مركزيته.
نعطي مثالا يوضح؛ فمثلا الآية السادسة عشرة من سورة «الإسراء»:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، خصوم المعتزلة من الجبريين قالوا إن الله هو الذي يتصرف في كل شيء، فإذا أراد أن يهلك قرية فهو الذي يأمر المترفين أن يفسقوا فيدمرها. وهنا واضح معنى القدرية الحتمية. المعتزلة طبعا ارتبكوا كثيرا، فقالوا إن «أمر» هنا، ليست من «أمر يأمر»، إنما «أمر» يعني أكثر عددهم، وبكثرة المترفين يفسقون. لكنهم بهذا لم يحلوا المشكلة؛ لأن ربنا هو الذي أكثر عددهم. وهناك من قال: «أمرنا» أي جعلناهم أمراء. في النهاية، الله هو الذي جعلهم أمراء. لكن انظر للآية؛ فالمخاطب الضمني هم مشركو مكة، وذلك في استخدام كلمة «قرية»، و«مود» الخطاب تهديد، ولا يمكن أن يؤخذ أنه يطرح قضية لاهوتية عقدية عن قدرة الله، بل هو تهديد لأهل مكة في السجال الدائر مع دعوة النبي محمد. وعن تعدد الأصوات في القرآن، فالصوت المقدس موجود أحيانا بصيغة المفرد،
إنني أنا الله لا إله إلا أنا ، وموجود بصيغة الجمع، وفي معظم الأحيان بصيغة الغائب، وموجود بصيغة المخاطب في الابتهالات، وضمير المتكلم موجود في القرآن. إذن أنا عندي نص هنا متعدد الأصوات؛ صوت المجتمع موجود ليس كنوع من الاقتباس، ولكن كنوع من إعادة الإنتاج. كل اتهامات المشركين وأهل الكتاب التي قالوها ضد محمد موجودة في القرآن. هذا معناه أن هذه البنية بنية خطاب.
السؤال هنا: ألا يجب أن نعود إلى الظاهرة المتداولة؟ الظاهرة التي يسميها «محمد أركون» الظاهرة القرآنية ظاهرة شفاهية، ظاهرة مكونة من خطابات في سياقات مختلفة لمخاطبين مختلفين، ليس فقط المخاطب من مكة والمدينة ، لكن حتى داخل مكة في أكثر من مخاطبين، وداخل المدينة فيه أكثر من مخاطبين، ردود أفعال المخاطبين منعكسة في النص. كل هذه الحيوية نفقدها إذا نظرنا للقرآن كنص. أعتقد أن التعامل مع القرآن كخطاب سيكشف درجة عالية من الغنى والخصوبة مفتقدة في التعامل مع القرآن كنص، وسيحرر القرآن من كثير من المعاني التي فرضت عليه طوال تاريخ التفسير من خلال صراعات سياسية واجتماعية بين الجماعات الإسلامية المختلفة؛ فكشف المعنى في سياقه التاريخي؛ وبالتالي يمكن الوصول إلى: هل هذا المعنى في سياقه التاريخي قادر على مخاطبة العصر الذي نعيش فيه؟ وإلى أي حد؟ أي: ما الصلة بين المعنى التاريخي وبين المغزى المعاصر؟ ولا تترك المسألة لمزاج المفسر؛ أي إخضاع القرآن للأيديولوجيا طوال تاريخنا الفكري.
هذا ليس تجزيئا للقرآن، البعض يتصور أنك تحول القرآن إلى أشلاء. الدراسة هنا تجزيء من أجل التحليل. لا تستطيع أن تحلل نصا إلا إذا جزأته إلى أجزائه الطبيعية. المفسر القديم فرق ما بين المكي والمدني، وبين الناسخ والمنسوخ. من حقي كباحث حديث أني أرجع إلى هذا السياق بغرض الدراسة، لكني لا أقول يا إخوان رتبوا القرآن كما كان منزلا، إن محاولات ترتيب سور القرآن محاولات مشروعة للدراسة وليس للتلاوة في المساجد، لكن التمييز بين دراسة القرآن وتلاوة القرآن - للأسف الشديد - ليس مدركا في الوعي العام. هذا ما حصل خلال هذه السنوات. - في دراستك التي كتبتها سنة اثنتين وتسعين وصلت إلى أن خطاب النهضة مسكون بالآخر الغربي، أنت أقمت الإحدى عشرة سنة الأخيرة في الغرب؛ فكيف نظرتك أنت للغرب كباحث بعد خمس عشرة سنة؟ - من البداية تفكك مفهوم الغرب، لا توجد حاجة اسمها الغرب تقدر تصدر عليه أحكاما، فيه أوروبا وأمريكا الشمالية، داخل أوروبا الغرب السياسي أم الغرب الثقافي، ليس كتلة واحدة. نفس الأمر بالنسبة للإسلام؛ المسلمون يتشاركون في مجموعة من العقائد والشعائر وراء ذلك، المسلمون شعوب وثقافات مختلفة وجنسيات وأعراق مختلفة. نفس الخطأ الذي يرتكبه بعض المفكرين في الغرب عندما يتكلمون عن العالم الإسلامي باعتباره كتلة واحدة . المسألة ليست غربا وشرقا أكثر مما هي عقلية نقدية أم لا. إدراك هذا التنوع والتعدد فيما يسمى الآخر أولا. ثانيا: الآخر ليس خارج الأنا تماما. فلم قلت إن مشروع النهضة مسكون بالآخر. لولا الآخر ما كان تفكير في النهضة أصلا. الآخر هو المرآة التي أنظر فيها فتدرك الأنا عيوبها، حتى وهو يهاجمني وأهاجمه لا توجد الأنا في فراغ؛ فلولا الفكر اليوناني والهندي والإيراني والمصري والفكر القديم كله، ما كنا لنستطيع أن نتكلم عن حضارة إسلامية ولا فلسفة إسلامية، ولولا الفلسفة الإسلامية فما كنا لنقدر أن نتكلم عن النهضة في أوروبا. الفكر الإنساني في حركته التاريخية حضارة تموت، وما يتبقى منها يتسرب في الحضارة التي ترثها. الآن نعيش في حضارة واحدة وفيها ثقافات؛ أي ثقافة معزولة تموت.
السؤال الذي يشغلني جدا: هل يمكن أن نعمل مصالحة بين العقلانية والتدين، أو بين العلمانية والروحانية بشكل عام؟ هذه الأسئلة ناتجة من انخراطي في التدريس والاحتكاك برؤى العالم المختلفة من خلال الجامعة؛ جامعة الإنسانيات. إن الرؤى المختلفة للعالم - سواء لثقافات يهودية أو مسيحية أو إسلامية، أو نتكلم عن «الهيومانيزم»، أو عن الثقافات الهندية البوذية أو الكونفوشيوسية ... إلخ داخل هذه الثقافات على تعددها واختلافها - هو إيمان أو بعد أعلى وأرقى في علاقة الإنسان بالكون والعالم الذي يعيش فيه؛ فالوعي بالجريمة التي ارتكبها الإنسان في حق البيئة، وإلى أي حد سيؤثر على الإنسان نفسه. إدراك أن الإنسان ليس سيد الكون، وإنما هو جزء من العالم؛ هذا في جوهره فكر ديني، ليس بالمعنى اللاهوتي ولا بالمعنى المؤسساتي، وإنما هو أن الإنسان ليس وحيدا في هذا العالم، وتربطه وشائج عميقة جدا بما هو وراء المنظور تأخذ أشكالا متعددة. الفن شكل من أشكال التواصل مع هذا المنظور. الشكل الفني محاولة للوصول إلى وحدة العالم والإنسان؛ فمثلا المجاز في الشعر؛ فالمجاز يربط عالم الإنسان بعالم الحيوان وعالم الطبيعة؛ فحينما نقول إن «واحدة مثل القمر» احتجت إلى شيء طبيعي من أجل الكلام عن الجمال. دا إدراك لصلة بين الكائنات. روح ما تربط هذا العالم، وكلما أدرك الإنسان هذا الترابط أصبح إنسانا أرقى، وكلما ينكر هذا الترابط ويتصور أنه سيد العالم والمتحكم فيه أو عبد فيه وأشياء أخرى تتحكم فيه تقل مرتبة إنسانيته. الإنسان يكتسب إنسانيته كلما أدرك هذه الروابط. هذا ما يمكن أن نسميه الروحانية، وهي جذر الأديان. والإنسان بطبيعته من حقه أن يعيش في عالم مأنوس، وليس في عالم عدم. هنا العقلانية المتشددة التي أسميتها العرجاء، وأحيانا أسميتها الليبرالية العوراء؛ لأنها تستبعد اتجاهات داخلها؛ فمفاهيم حداثية مثل العقلانية والليبرالية يمكن أن تتحول إلى أديان بالمعنى السلبي لكلمة دين؛ أي تتحول إلى دوجما. المسألة هي الصلح بين العقلانية والدينية، بين العلمانية والإيمانية؛ فالعلمانية التي تستبعد الروحانية هي بالضبط مثل الروحانية التي تستبعد العلمانية.
مشغول بهذه القضية جدا جدا، ورائدي فيها «ابن رشد». أنا في وقت من الأوقات كتبت عن «ابن رشد» أنه تلفيقي. وبعض الناس قالوا عنه إنه كان نصابا. لكن «ابن رشد» كان له ثلاث مسئوليات؛ فيلسوف وطبيب وقاض، وهذه ثلاث مهام صعبة جدا. القاضي يحكم في مصائر الناس، والطبيب يعالج أجسادهم، والفيلسوف يحاول أن ينظر لهذا كله. مسئولية باهظة، غير أن تكون فيلسوفا فقط أو قاضيا أو طبيبا فقط. وهذا أرجعني إلى مسئولية المفكر. فتح باب الحوار مع الإنسان العادي يشغلني جدا، جدا الآن. في مناسبات كثيرة أقول حاجات يبدو أنها تجرح شعور المؤمن العادي، وليس عندي أية نية أن أجرح شعوره. أنا أريد فتح أفقه من خلال إيمانه وليس من خارج الإيمان؛ فالإيمان انفتاح وليس انغلاقا؛ انفتاح الإنسان على عوالم خارجه. حين يؤمن الإنسان فهو لا يؤمن بشيء داخله فقط، ولكن داخله وخارجه. هذا كله أجري فيه حوارات مع تلاميذي وهم ليسوا مسلمين، وهو حوار مثمر جدا، جدا. فهذا سؤال لا يهم المسلمين فقط، ولكن يهم العالم كله؛ فالعقلانية الأوروبية في فترة من الفترات كانت نوعا من البتر ضد الكنيسة، ضد الغيبيات، ضد الدين؛ وضعت الدين كله في سلة الغيبيات ، ووضعت الغيبيات كلها في سلة الأوهام والأساطير. الآن نحن نعود إلى أن الأسطورة ليست أوهاما وخرافات، بل هي تعبير رمزي عن وعي. كل هذا ينعكس على قراءتي للقرآن؛ فهي ليست قراءة مغلقة، بل قراءة مفتوحة.
الفكر يحاول باستمرار أن يسمو بالواقع، لكن الواقع أحيانا يجذب المفكر إلى الأرض، وهذا التوتر هو نفس التوتر بين العقل والايمان. الإنسان الواضح تماما هو ذو «روبوت»؛ الغموض جزء من نسيج الوعي. لا بد أحيانا أن نحتفل بالغموض. الإيمان بالغيب هو إيمان بأن هناك أسئلة ليس عندك إجابة واضحة تماما عليها، فتتركها في الغموض أو تحاول أن تبحث عنها، كونك في هذا الغموض هذا هو الإيمان. كلنا سنموت، الموت شيء مجهول ومظلم، ولكنك تعيش هذا المجهول أو تتوقعه، أو تتعايش مع احتمال أنه سيزورك ذات يوم ويطرق بابك. وعظمة الإنسان أنه عايش هذه الحالة. الملحد يريح نفسه حتى يصل إلى الوضوح فيقطع على نفسه حالة الغنى الغامضة هذه. المؤمن المنغلق أيضا يفتح على نفسه باب الخرافة. أنا رأيي أن الإيمان الحقيقي هو الذي يعيش حالة الغموض هذه ويحتفي بها. العلم يحاول أن يحل كل هذه المشاكل، لكن يظل العلم كلما يتقدم يترك مساحة المجهول أوسع. هنا الإيمان والمعرفة معا ليسوا متناقضين. وعلى المستوى الشخصي، هذا ما يجعلني أحتفي جدا بالفن وأستمع إلى الموسيقى وأزور المتاحف؛ لأن هذا جزء من إمكانية الفن أن يجيب لك عن بعض الغموض أو يعمق لك بعض أوجهه. وعندما تقرأ القرآن تستمتع بالخطاب القرآني، وتدخل إلى عوالم يفتحها بشعريته وغموضه أكثر مما تحاول أن تفسر هذا الغموض. وكنت في شبابي من المتحمسين إلى إزالة هذا الغموض، كما فعل المعتزلة، لكني أقول لا، مهمتي كمفسر أن أكشف للقارئ غنى هذه الاستعارات أكثر من أن أقول له هذه معناها كذا وليس كذا؛ لأن الحقيقة ليس لها معنى واحد، بل لها أكثر من معنى؛ فالآية العاشرة من سورة «الفتح»:
Bilinmeyen sayfa