طالت لحيتي، وازداد وزني أكثر. قمت بتدريس مادة التفسير لطلبة قسم اللغة العربية للسنة الثانية، وحاولت التغلب على التوتر الدائم بالعمل المتواصل، وبدأت أتعلم استخدام الكمبيوتر الذي وفرته لي الجامعة، واكتشفت به عالم السحر المنظم، أحمله معي في كل مكان، وأصبحت قادرا على إنجاز أبحاثي ودراساتي بصورة أسهل وأسرع. بدأت أشارك في تدريس برنامج في مستوى الماجستير في الفكر الديني والمقارن، مقارنة بين إندونيسيا والعالم العربي ومصر، وبدأت الإشراف على رسالة ماجستير، وأخرى للدكتوراه، لطالبين من إندونيسيا. والمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية تزداد. قام «فريد ليمهاوس» بترجمة مختارات من كتاباتي إلى اللغة الهولندية، نشرت في أمستردام، كان قد عزم عليها حينما كنا في القاهرة. وكذلك الأستاذة «شريفة مجدي» المصرية المقيمة في ألمانيا من عام ستة وسبعين، والحاصلة على دكتوراه في الإسلام السياسي، قامت بترجمة أجزاء من كتاب «نقد الخطاب الديني» إلى الألمانية. وكتب «نافيد كرماني» المقدمة، ونشرتها دار «ديبا» في فرانكفورت.
في إجازة أعياد الميلاد وبداية السنة، سافرت «ابتهال» إلى القاهرة في زيارة، ولم أرد الذهاب. وعملت على دراسة باللغة الإنجليزية عن «الفكر الإسلامي وحقوق الإنسان بين الواقع والمثال»؛ فهناك فجوة دائما بين النصوص، سواء كانت دينية أو دنيوية، والواقع الفعلي كظاهرة إنسانية. وأخذت الفكر الإسلامي كمثال تطبيقي لهذه الظاهرة. والأديان حينما تكرم الإنسان فهي تكرم الإنسان المؤمن بهذا الدين، ويتبع هذا الدين كطريق للخلاص، أما الإنسان غير المؤمن بهذا الدين فإنه يصبح عاصيا، مصيره العذاب الأخروي؛ أي يصبح إنسانا بلا حقوق. والإسلام في نصوصه الأساسية الأصلية يؤكد مفهوم احترام الإنسان؛ من حيث هو إنسان بصرف النظر عن عقيدته أو لونه أو جنسه، لكن حين نتجاوز تلك المبادئ المثالية إلى الحياة الاجتماعية، والممارسات التاريخية في المجتمعات الإسلامية، تجد صورة أخرى لحقوق الإنسان؛ لذلك فالتحليل يتطلب أن ننتقل من النصوص التي تمثل الوحي الإلهي إلى الفكر الإنساني؛ أي إلى الطرائق التي فهم بها الإنسان هذه النصوص.
فتناولت المسألة عند اللاهوتيين المسلمين (علماء الكلام)، وعند الفلاسفة والمتصوفة، ثم الإنسان في الفكر الفقهي، واكتشفت أنه الإنسان غاب كمفهوم اجتماعي في الفكر الإسلامي. والأصولية الإسلامية الحديثة التي اتخذت من مفهوم الحاكمية مقولة استبعدت أي مرجعية أخرى سوى مرجعية العلماء والفقهاء في مجال تنظيم الحياة الإنسانية، لكن للإنصاف فإن الأصولية صارت نزعة كونية لها تجلياتها الدينية والمعرفية والثقافية والأيديولوجية، وهي في مجملها نزعة تحصر مفهوم الإنسان . وعلينا أن نضع على رأس مهامنا بلورة مفهوم الإنسان الذي يكتسب إنسانيته من الانتماء إلى عرق أو جنس أو ثقافة بعينها، أو من انتمائه إلى طبقة بالمعنى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي. وناديت بأهمية فهم الثقافات الأخرى في إطار إنجازاتها وسياقها دون أن نفرض عليها معايير تقييم من ثقافة أخرى ترى نفسها أعلى وأسمى.
كتبت «ابتهال» «صرخة في ذكرى حزينة، فاعل مفعول به»، نشرتها جريدة «الأهالي»، قالت فيها: إن القضية لم تكن شخصية قصد بها «نصر وابتهال»، بل مقدمة لطابور طويل. اقتربت الذكرى السنوية ولا عزاء للسيدات؛ فليس من حقهن القيام بأي فعل. لقد كرم الله المرأة، فحولها جلادونا إلى أداة ووعاء ومفعول به. هكذا أصبحت كامرأة أداة لعقاب «نصر أبو زيد». إنها النتيجة المنطقية لنظرة جلادينا للمرأة. إذا كانت المرأة مجرد أداة للمتعة، فإنها يمكن أن تتحول إلى مجرد أداة للعقاب؛ بحرمان الرجل الذي يقتنيها من أداة للمتعة ... هل نسي هؤلاء أن الصفات التي يلصقونها بكلمة امرأة، كوعاء وأداة ومتعة، تنطبق على أمهاتهم؟ هل هناك من يرضى أن تطلق مثل هذه الألفاظ والعبارات على أمه، ولا أقول على زوجته أو أخته أو ابنته؟ أم نسي هؤلاء أن الأم امرأة، وبفضل كونها امرأة صارت أما؟
طلب مني المحامون أن أوثق في القنصلية المصرية البيان الذي أصدرته العام الماضي في مجلة «روز اليوسف»، بعنوان الحقيقة أو الشهادة؛ ليكون وثيقة رسمية بإسلامي، ففعلت. ونشرت دار مدبولي كتابي التوثيقي للقضية «القول المفيد في قضية أبو زيد». وجمع المركز الثقافي العربي - بجهد مديره الصديق «حسن ياغي» - بعض دراساتي في الأعوام السابقة في كتاب «النص والسلطة والحقيقة»، ذهبت إلى مدينة «هانوفر» في شمال ألمانيا للمشاركة في ندوة تتناول الأدب وحرية الإعلام وحقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية، في مايو سنة ست وتسعين، اشترك فيها باحثون من مصر والمغرب وتونس والأردن وفلسطين وإندونيسيا وبنجلاديش وأمريكا وهولندا وألمانيا. وقدمت ورقة نقدية للفكر الديني التنويري، والعلاقة بين حرية البحث العلمي وحرية الفكر عموما، واستخدام الدين في مواقف سياسية. وفي إحدى جلسات ندوة «لغة الشعر ونصوص القانون» بدأت كاتبة من بنجلاديش اسمها «تسليمة نسرين» تقرأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقرة فقرة، وتقارن بين كل مادة من مواده وبين ما جاء في القرآن وفي الأحاديث؛ فحق العمل من حقوق الإنسان، والإسلام يمنع النساء من العمل والتعليم. وإذا كان الغرب يفرق بين الأصوليين والإسلام، فهي تعتبرهما شيئا واحدا. وختمت كلمتها بقراءة عدد من قصائدها بالإنجليزية وقصيدة بلغة بلادها. فطلبت التعقيب وقلت لها: «لا يستطيع أحد أن يتهمني بأنني ضد حريتك؛ لأنني شخصيا مضطهد بسبب حرية الرأي، وأنا الوحيد القادر على أن أقول لك إن ما ذكرته خطأ. لقد تعاملت مع نص إعلان حقوق الإنسان باعتباره نصا مقدسا بل أكثر قداسة من القرآن، فلماذا لم تنتقدي مثلا التطبيق المنحاز من الغرب لمبادئ حقوق الإنسان؟ فهل من المعقول أن «هنتنجتون» يتكلم عن الإسلام باعتباره حضارة وهو القائل بصراع الحضارات، بينما تتكلمين أنت عن الإسلام باعتباره تخلفا، ناسية أن الإسلام أنتج حضارة استمرت لعدة قرون؟ ووضعت النصوص وتفسيرها في سلة واحدة. وليس من المناسب أن ننسج خطابنا ليرضى الغرب عنا. أما القصيدة التي أعجبتني من قصائدك فهي تلك التي لم أفهمها.»
3
بعد صدور حكم محكمة الاستئناف بالتفريق بين «نصر أبو زيد» وزوجته بدعوى ارتداده، تقدم فريق من المحامين عنهما بطعنين، 478 و481، وقدمت النيابة العامة طعنا في الحكم إلى محكمة النقض، رقم 475 لسنة 65 قضائية، يوم الثامن من أغسطس سنة خمس وتسعين، طالبت فيه بقبول الطعن شكلا، وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه. وتم إعلان المطعون ضدهم؛ المحامي «صميدة عبد الصمد» وآخرين، الذين صدر حكم الاستئناف لصالحهم يوم الثلاثين من أغسطس، فقدموا دفاعا يوم الحادي عشر من سبتمبر، وطلبوا فيه رفض الطعن. ورأت غرفة المشورة بمحكمة النقض أن الطعون جديرة بالنظر، فحددت لنظرها جلسة الثاني والعشرين من أبريل سنة ست وتسعين، أمام الدائرة المدنية والتجارية والأحوال الشخصية برئاسة المستشار «محمد مصباح شرابية»، وعضوية «فتحي محمود يوسف وسعيد غريان وحسين السيد متولي وعبد الحميد الحلفاوي».
أرسل المحامي العام الأول لنيابة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية - المستشار «محمود عبد العال عبد الرسول» - خطابا إلى فضيلة المفتي «محمد سيد طنطاوي»، في الخامس من شهر مارس سنة ست وتسعين، يطلب الإفادة عن الرأي الشرعي في مذكرتين؛ فجاء رد المفتي في السادس من مارس: «حيث إنه لم يحدث أثناء نظر الدعوى أو الاستئناف أن الدكتور «نصر أبو زيد» الذي حكم بالتفريق بينه وبين زوجته، نوقش في مؤلفاته أو معتقداته شخصيا في التهم الموجهة إليه، فإن الفقهاء اتفقوا على أنه يجب قبل الحكم بالتفريق بين إنسان مسلم وزوجته أن يناقش هذا الإنسان مناقشة دينية دقيقة ومتصلة في معتقداته ومؤلفاته وجميع ما صدر عنه أو اتهم به؛ لاحتمال رجوعه عما صدر عنه أو اتهم به، أو لاحتمال أن ما قاله يقبل التأويل الصحيح ولو من بعض الوجوه ... ونظرا لخطورة الحكم بالتفريق بين مسلم وزوجته، نرى أنه لا يكفي صدور الحكم لمجرد قراءة ما كتبه، بل لا بد من إنذاره أكثر من مرة بوجوب حضوره أمام الهيئات القضائية المختصة لمناقشته فيما اتهم به مناقشة علمية متأنية ومفصلة يشترك فيها جميع الأطراف الذين تهمهم أمثال هذه القضايا الخطيرة التي هي قضايا حياة أو موت.»
عقدت جلسة المحكمة في الثاني والعشرين من أبريل سنة ست وتسعين، ودافع عن «نصر أبو زيد وابتهال يونس» المحامون: مكتب «منى ذو الفقار» وزوجها «علي الشلقاني»، و«أحمد الخواجة»، و«عبد العزيز محمد» ود. «عبد المنعم الشرقاوي». وقررت المحكمة حجز القضية للحكم في الرابع والعشرين من يونيو. وكان لحكم الردة تأثير على مستوى العالم في العام الماضي، فسعت الحكومة إلى تغيير في قانون الإجراءات. بالقانون 81 لسنة 96، والذي أقر في الثاني والعشرين من مايو سنة ست وتسعين في مادته الثالثة؛ يقضى بإلزام جميع المحاكم ومحكمة النقض أن تحيل من تلقاء نفسها ودون رسوم ما يكون لديها من مسائل الأحوال الشخصية على وجه الحسبة، والتي لم يصدر فيها أي حكم، إلى النيابة العامة المختصة وفقا لأحكام هذا القانون، وذلك بالحالة التي تكون عليها الدعوى، وتقضي من تلقاء نفسها واحتراما للنظام العام، بعدم قبول أي دعوى لا يكون لصاحبها مصلحة شخصية مباشرة فيها، وقائمة يقرها القانون ما دام لم يصدر فيها حكم بات. ونظم القانون مسألة الحسبة، وأن تكون عن طريق النيابة العامة. فتقدم دفاع «نصر أبو زيد» بطلب إلى المحكمة في الثاني والعشرين من مايو بفتح باب المرافعة بعد صدور القانون، لكن المحكمة مدت الأجل للحكم إلى الخامس من أغسطس، ورفضت إعادة فتح الباب لمرافعة الدفاع.
يوم الإثنين الخامس من أغسطس، قدمت حكمها بتأييد حكم التفريق وبرفض الطعون فيه، مستندة إلى أنه لا توجد في القانون المصري «قاعدة قانونية خاصة تمنع أو تقيد من إقامة دعوى الحسبة في وقت رفع الدعوى»، وحتى القانون الجديد الذي أدخل نظم إجراءات دعوى الحسبة «مما يعد إقرارا من المشرع بوجودها»، وإن كان القانون الجديد يتطلب أن يكون رافع الدعوى ذا مصلحة، فإنه وقت رفع الدعوى كان صاحب مصلحة في القانون القديم؛ «فقد رفعت الدعوى وصدر حكم نهائي فيها قبل صدور القانون ... فأحكام هذا القانون الجديد لا تنطبق على الدعوى ...» وكانت قد حجزت للحكم قبل القانون المذكور؛ ولذا فإنه لا مبرر للاستجابة له. «الطعن بالنقض لا تنتقل به الدعوى برمتها إلى محكمة النقض، وما يعرض عليها ليست الخصومة التي كانت أمام محكمة الموضوع، بل ينصب الطعن على محاكمة الحكم الذي صدر»، و«لمحكمة الموضوع السلطة التامة في فهم الواقع وتقدير الأدلة، ومنها المستندات المقدمة فيها، والموازنة بينها، وترجيح ما تطمئن إليه منها وتراه متفقا مع واقع الحال في الدعوى». وحكم الاستئناف بالتفريق قدم، مما ورد بأبحاثه التي لم ينكر صدورها عنه، أن ما عناه بالنصوص على النحو الذي ذكره بها؛ نصوص القرآن والسنة النبوية، وأن آراءه التي ضمنها مؤلفاته وأحصى الحكم بعضا منها هي من الكفر الصريح الذي يخرجه من الملة، بما يعد معه مرتدا عن الدين الإسلامي، ويوجب التفرقة بينه وبين زوجه ... ما دام قد ألم بآرائه التي انطوت عليها مؤلفاته عن بصر وبصيرة، ولا على الحكم إذا لم يأخذ بتقرير مجلس أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة، وتقرير مجلس قسم اللغة العربية بها؛ إذ لم يتعرضا لما حوته مؤلفاته من آراء تعد مساسا لأصول العقيدة الإسلامية ... إن النص لا يعدو أن يكون جدلا فيما لمحكمة الموضوع من سلطة فهم الواقع في الدعوى وتقدير الأدلة، وهو ما لا يجوز إثارته أمام هذه المحكمة. «إن حد الردة لم يكن معروضا على محكمة الموضوع، واقتصر الحكم على التفريق بينهما باعتبار أن ذلك من الآثار المترتبة على الردة؛ ومن ثم فإن ما أثير في هذا السبيل ليس له محل من قضاء الحكم؛ ومن ثم فإنه يكون غير مقبول.» ورفضت المحكمة الطعون الثلاثة، وألزمت الطاعنين بالمصروفات، وثلاثين جنيها مقابل أتعاب المحاماة .
Bilinmeyen sayfa