ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (النحل: 89).
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة: 3).
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله (الشورى: 10).
في الآيات الثلاث الأولى تشير إلى الوجود الفعلي الشخصي للرسول عليه الصلاة والسلام، يحكم بعد استماعه لكل الأطراف بوصفه قاضيا وحاكما. وهو ما ليس حاصلا الآن، وما بين يدي المسلم نصوص تحتاج للفهم بإعمال العقل والاجتهاد. والانصياع والخضوع الذي يتكلم عنه د. «بلتاجي» في تفسيره يرتبط بوجود الرسول حاكما وقاضيا في شئون العقيدة والدين، وقد خالفه الصحابة في شئون الدنيا في أكثر من مناسبة. والآيات التالية حينما تشير إلى تبيان كل شيء ليست بالمعنى الحرفي، بل هي إشارة إلى كل شيء يخص العقيدة الإسلامية، ولا تمتد إلى ما وراء ذلك من معارف طبيعية واجتماعية حصلتها خبرة البشر في تسيير شئون حياتهم، وهي نفس الدلالة في الآية رقم خمسة. والآية السادسة
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله
لا يكشف السياق إلا عن دلالة الاختلاف بين المسلمين وغيرهم؛ أن هذا الاختلاف مردود إلى حكم الله تعالى يوم القيامة؛ وذلك بالنظر إلى الآيتين السابقتين لها في السورة.
مفهوم سلطة النصوص بشموليتها لكل الوقائع هو تأويل بشري للآيات، يؤدي إلى إلغاء تلك المناطق الدنيوية التي تركها الإسلام للخبرة والتجربة والعقل الإنساني، ومفهوم الشمولية هذا يفضي إلى القول بالحاكمية، وتحكيم الفهم الحرفي للنصوص في كل مجالات حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ويعتمد على تأويله لآيات الحكم الثلاث، في سورة المائدة، بانتزاعها من سياقها، ويضفي عليها دلالات لا تقولها؛ وذلك من أجل إخفاء سلطتهم التي يسعون لفرضها من وراء تأويلاتهم للنصوص. وهي السلطة التي أناقشها وأدعو للتحرر منها، وليس التحرر من النصوص، كما يحاول أن يصور المغرضون. وكيف تفهم النصوص بدون العقل واجتهاده في الفهم والقراءة؟ وهذا ما يحاربه دعاة السلطة والسيطرة والهيمنة باسم الدين والعقيدة. «إنهم يقدسون الماضي تقديسا أعمى، وينفرون من أية محاولة لإعادة اكتشاف هذا الماضي.»
12
الكثير من الناس يتصور أن ما في أذهاننا يتطابق مع الواقع العيني، وكلما كان ما في الذهن قديما اكتسب لقدمه قداسة. والكارثة أن المثقفين والمتخصصين يفكرون بنفس الطريقة. وهذا ناتج عن تصور لطبيعة اللغة قد عفا عليه الزمن؛ تصور أن «العلاقة بين اللفظ والمعنى الذي يدل عليه علاقة تطابق». فنقول «المرض الخبيث» تحاشيا لذكر اسم المرض ذاته؛ اتقاء لشره حتى بعدم استحضار اسمه. وقد صاغ الكثير من المفكرين المسلمين القدماء مفهوما عن اللغة بوصفها نظاما من العلامات، فيشير شيخ البلاغيين العرب والمسلمين «عبد القاهر الجرجاني» أنه ليس هناك علاقة ضرورية بين اللفظ «ضرب» وحادث الضرب ذاته، بل اللفظ مجرد علامة على الفعل، وكان يمكن أن تدل علامة لفظية أخرى لو توافق عليها الناس؛ أي إنها علاقة اصطلاح مباشرة بين اللفظ والمعنى، أو الاسم والمسمى.
إلى أن أضاف عالم اللغة السويسري «ألفريد دي سوسير» (1272ه/1857م-1330ه/1913م) فقال: إن اللفظ سواء كان مكتوبا أو منطوقا، دال على صورة سمعية. بدليل أننا نتحدث إلى أنفسنا بدون إصدار أصوات أو قراءة كلمات. والمدلول أو المعنى لا يشير إلى شيء في الواقع الخارجي، بل يشير إلى تصور ذهني؛ فمدلول العنقاء لا يشير إلى شيء في الواقع الخارجي، إنما هو مجرد تصور ذهني. ويصل «دي سوسير» إلى أن «العلامة اللغوية عبارة عن وحدة نفسية مزدوجة يترابط فيها العنصران (الصورة السمعية والمفهوم) ارتباطا وثيقا، بحيث يتطلب وجود أحدهما وجود الثاني.» هذا التصور أنهى إلى الأبد التصور الكلاسيكي عن علاقة اللغة بالعالم كتعبير مباشر عن هذا العالم؛ فاللغة لا تعبر عن العالم الموضوعي، بل يعاد إنتاج هذا العالم من خلال التصورات والمفاهيم الذهنية القارة في وعي الجماعة ولاوعيها؛ فحين نقول «مات الخليفة الأول أبو بكر الصديق» هي جملة تشير إلى واقعة في العالم خارج اللغة ، لكن قوانين اللغة تكشف عدم التماثل؛ فالجملة تقول إن الفعل «مات» والفاعل هو «أبو بكر الصديق»، وهذا ليس صحيحا في الواقع؛ فأبو بكر، رحمه الله، لم يفعل فعل موته، ونحويا الفاعل هو كلمة «الخليفة»، وهي وفي الواقع الخارجي وصف للشخص، وكلمة «أبو بكر» هي بدل من كلمة الخليفة.
Bilinmeyen sayfa