بسم الله الرحمن الرحيم
قال الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد رحمه الله تعالى:
الحمد لله الذي ضرب الأمثال للناس، ﴿لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، وصلى الله على أفصح العرب، وسرِّ عبد المطلب، صلى الله عليه وعلى آله، أخيار الأمم، وأنوار الظُّلم. كم مثَلٍ ضُرِبَ، فيه الحجةُ البالغة، والحكمة الواضحة. ثمَّ أنَّ الله تعالى قد أحيا بالأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة وملك الأمة أطال الله بقاه، ونصر لواه - داثر العلوم والآداب، وأقام برأيه ورايته أسواقهما وكانت في يد الكساد بل الذهاب، فهو يُقدِّم على المعرفة،
1 / 21
ويقرِّب على التبصرة، لا كالملوك الذين يقال لهم:
دعِ المكارم لا تنهضْ لبُغيتها ... واقعدْ فإنَّكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي
ومن نِعمِ الله تعالى عليه - أدام الله تعالى النِّعمَ لديه - أن الله قرن ألفاظه بفَصْل المقال، ووشَّحَ كلامَه بضرب الأمثال، وسمعته - أعزَّ اللهُ نصره - يتمتَل كثيرًا بفصوصٍ من شعر المتنبي هي لبُّ اللب، يضعُ فيها الهناءَ موضعَ النُقب. وهذا الشاعر مع تمييزه وبراعته، وتبريزه في صناعته، له في الأمثال خصوصًا مذهبٌ سبق به أمثاله، فأمليت ما صدر عن ديوانه من مَثَلٍ رائعٍ في فنِّه، بارعٍ في معناه ولفظه، ليكون تذكرةً في المجلس العالي، تلحظها العين العالية، وتعيها الأذن الواعية. ثمَّ إنْ أمر - أعلى اللهُ أمرهُ - أمليتُ بمشيئة الله
1 / 22
ما وقع من الأمثالِ في كلِّ شعرٍ جاهليٍّ أو مخضرم أو إسلامي، فما أَجدُ منْ عمل في ذلك من الأدباء كتابًا مقنعًا، أو جمعًا مشبعًا. قَرَنَ اللهُ بالسعادة بأيَّامهِ، والمناجح بأعلامه، إنه فعَّالٌ لما يريد.
قال المتنبي:
فَعُدْ بها لا عدمتُها أبدًا ... خيرُ صلاتِ الكريمِ أعودُها
وقال أيضًا:
صبرًا بني إسحاق عنه تكرُّمًا ... إنَّ العظيمَ على العظيم صبَورُ
يمَّمْتُ شاسعَ دارهم عن نيِّةٍ ... إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ يزورُ
1 / 23
وقال أيضًا:
فموتي في الوغى عيشي لأني ... رأيتُ العيشَ في أرب النفوسِ
أهوِنْ بطول الثواء والتَّلَفِ ... والقيد والسجن يا أبا دُلَفِ
لو كان سُكنايَ فيهِ منقصةً ... لم يكن الدرُّ ساكنَ الصدفِ
غير اختيارٍ قبلتُ برَّكَ بي ... والجوعُ يُرضي الأسُودَ بالجيفِ
وقال أيضًا:
إذا قيل: رِفقًا، قال: للحلم موضعٌ ... وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل
وقال أيضًا:
يفنى الكلامُ ولا يحيطُ بوصفكم ... أيحيطُ ما يفنى بما لا ينفدُ
1 / 24
وقال أيضًا:
يفدي بنيك عُبيد الله حاسدُهم ... بجبهة العَيْر يُفدى حافرُ الفرسِ
وقال أيضًا:
خير الطيور على القصورِ، وشرُّها ... يأوي الخرابَ ويسكنُ الناووسا
وقال أيضًا:
وما الغضبُ الطريف وإْن تقوّى ... بمنتصف من الكرم التلادِ
وإنَّ الجرحَ يَنْغَر بعد حينٍ ... إذا كان البناءُ على فسادِ
وقال أيضًا:
يجني الغنى لِلِّئامِ لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهُم العُدم
هم لأموالهم ولسنَ لهم ... والعارُ يبقى والجُرح يلتئمُ
1 / 25
وقال أيضًا:
ودهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ ... وإن كانت لهم جُثث ضِخامُ
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدنُ الذهب الرغامُ
خليلُك أنتَ، لا مَنْ قُلتَ خِلّي ... وإن كثر التجمُّل والكلامُ
ولو حيز الحفاظُ بغير عقل ... تجنًّب عنق صيقله الحُسامُ
وشبَهُ الشيء منجذبٌ إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغامُ
ولو لم يرْعَ ألاَّ مستحقٌّ ... لرتبته أسامَهُمُ المسامُ
ولو لم يعلُ إلا ذو محلٍّ ... تعالى الجيش وانحطَّ القتامُ
ومًنْ خبر الغواني فالغواني ... ضياءٌ في بواطنه ظلامُ
وما كلٌّ بمعذورٍ ببخلٍ ... ولا كلٌّ على بُخلٍ يلامُ
تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشقْ يلذّ له الغرامُ
1 / 26
وقبضُ نواله شرفٌ وعزٌ ... وقبضُ نوال بعض القوام ذامُ
أقامتْ في الرقاب له أيادٍ ... هي الأطواقُ والناسُ الحَمامُ
وقال أيضًا:
وما الفضة البيضاءُ والتبرُ واحدٌ ... نفوعان للمُكدي وبينهما صَرف
وقال أيضًا:
وزاركَ بي دون الملوك تحرُّجٌ ... إذا عَنَّ بحرٌ لم يجزْ لي التيممُ
وقال أيضًا:
ولكلِّ عينٍ قرةٌ في قربِهِ ... حتى كأنَّ مغيبه الأقذاءُ
1 / 27
وقال أيضًا:
ولكنَّ حبًّا خامر القلبَ في الصِّبا ... يزيدُ على مرِّ الزمان ويشتدُّ
وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يُستحسن العقدُ
وقال أيضًا:
في سعة الخافقين مضطربٌ ... وفي بلادٍ من أختها بدلُ
أبلغ ما يُطلبُ النجاح به الط ... بعُ وعند التعمق الزّلَلُ
وقال أيضًا:
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يجدْ مُرًا به الماَء الزلالا
وقال أيضًا:
ما كلُّ من طلبَ المعالي نافذًا ... فيها ولا كلُّ الرجال فحولا
1 / 28
وقال أيضًا:
الحبُّ ما منع الكلام الألسنا ... وألذُّ شكوى عاشقٍ ما أعْلَنا
وأنه المشيرَ عليك فيَّ بضلَّةٍ ... والحرُّ ممتَحَنٌ بأولاد الزِّنا
ومكايد السفهاءِ واقعةٌ بهم ... وعداوةُ الشعراء بئس المُقتنى
لُعنت مقارنة اللئيم فإنها ... ضيفٌ يجرُّ من الندامة ضّيفنا
وقال أيضًا:
وأنفس ما للفتى لُبُه ... وذو اللُّبُّ يكره إنفاقه
وقال أيضًا:
لا افتخارٌ إلا لمن لا يُضام ... مدركٍ أو محاربٍ لا ينام
ذلَّ من يغبط الذليلَ بعيشٍ ... ربَّ عيشٍ أخف منه الحِمام
1 / 29
كُلُّ حِلْمٍ أتى بغير اقتدارٍ ... حجَّةٌ لاجئٌ إليها اللئامُ
مَنْ يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه ... ما لجرحٍ بمِّيتٍ ايلامُ
إنَّ بعضًا من القريض هذائٌ ... ليس شيئًا وبعضه أحكامُ
وقال أيضًا:
وربَّما فارق الإنسانُ مهجتَهُ ... يوم الوغى غيرَ قالٍ خشيةَ العارِ
وقال أيضًا:
أفاضلُ الناسِ أغراض لذا الزمنِ ... يخلو من الهمِّ أخلاهم من الفطنِ
فقرُ الجهول بلا عقلٍ إلى أدبٍ ... فقر الحمار بلا رأسٍ إلى رَسَنِ
لا يعجبنَّ مضيمًا حسنُ بزَّتهِ ... وهل يروقُ دفينًا جودةُ الكفنِ
1 / 30
وقال أيضًا:
إلى مثل ما كان الفتى يرجع الفتى ... يعود كما أُبدي ويُكري كما أرمى
وقال أيضًا:
انعم ولذّ فللأُمور أواخرٌ ... أبدًا كما كانتْ لهنَّ أوائلُ
وإذا أتتك مذمَّتي من ناقصٍ ... فهي الشهادةُ لي بأني كامل
وقال أيضًا:
في الناس أمثلةٌ تدور حياتها ... كمماتها ومماتُها كحياتها
وقال أيضًا:
ومَنْ ينفق الساعات في جمعِ مالهِ ... مخافةَ فقرٍ فالذي فَعَلَ الفقرُ
ولا ينفع الإمكانُ لولا سخاؤه ... وهل نافعٌ لولا الأكفُّ القنا السمرُ
1 / 31
وقال أيضًا:
ضروبُ الناس عشّاقٌ ضروبا ... فاعذرُهُمْ أشَفُّهُمُ حبيبا
وقال أيضًا:
ومن نكد الدنيا على الحُرِّ أن يرى ... عدوًا له ما من صداقته بُدُّ
وأُكْبِرُ نفسي عن جزاءٍ بغيبةٍ ... وكلُّ اغتيابٍ جهدُ مَنْ لا له جهدُ
فما في سجاياكم منازعة العلى ... ولا في طباع التربة المسك والندُّ
وقال أيضًا:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعتْ في الحلم طرقُ المظالمِ
وقال أيضًا:
إذا لم تكنْ نفسُ النسيب كأصله ... فماذا الذي تُغني كرامُ المناسبِ
1 / 32
وقال أيضًا:
لو كان يمكنني سفرتُ عن الصبا ... فالشيبُ من قبل الأوان تلثُّمُ
والهمُّ يخترم الجسيمَ نحافةً ... ويشيب ناصيةَ الصبيِّ ويهرمُ
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
والناسُ قد نبذوا الحفاظ فمطلقٌ ... ينسى الذي يُولى وعافٍ يندمُ
لا تخدعنَّك من عدوِّك دمعةٌ ... وارحمْ شبابك من عدوٍّ ترحمُ
لا يسلمُ الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يُراق على جوانبه الدمُ
يؤذي القليلُ من اللئام بطبعه ... مَنْ لا يقلُّ كمن يقلُّ ويلؤمُ
والظلمُ من شيم النفوس فإنْ تجدْ ... ذا عفَّةٍ فلعلَّةٍ لا يظلم
1 / 33
ومن البليَّة عذلُ مَنْ لا يرعوي ... عن غيِّه وخطابُ مَنْ لا يفهم
والذلُّ يظهر في الذليل مودَّةً ... وأوَدُّ منه لمن يَودُّ الأرقم
ومن العداوة ما ينالُكَ نفعُهُ ... ومن الصداقة ما يضرُّ ويؤلم
أفعالُ مَنْ تلدُ الكرامُ كريمةٌ ... وفعالُ مَنْ تلد الأعاجمُ أعجم
وقال أيضًا:
ولكنَّ الغيوثَ إذا توالتْ ... بأرضِ مسافرٍ كرهَ الغماما
وقال أيضًا:
فطعمُ الموت في أمرٍ حقيرٍ ... كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ
يرى الجبناءُ أنَّ العجز فخرٌ ... وتلك خديعةُ الطبع اللئيمِ
1 / 34
وكل شجاعةٍ في المرء تغني ... ولا مثلَ الشجاعة في الحكيمِ
وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا ... وآفتُهُ من الفهم السقيمِ
ولكنْ تأخذ الآذانُ منه ... على قدر القرائح والفهومِ
وقال أيضًا:
كلامُ أكثرِ مَنْ تلقى ومنظرُه ... ممّا يشقُّ على الآذان والحَدَقِ
ألْف هذا الهواء أوْقَعَ في الأن ... فُسِ أنَّ الحِمامَ مُرُّ المذاقِ
والأسى قبل فرقة الروح عجزٌ ... والأسى لا يكون بعد الفراقِ
1 / 35
والغنى في يد اللئيم قبيحٌ ... قَدْرَ قُبّحِ الكريم في الإملاقِ
وقال أيضًا:
ومِن قبلِ النطاح وقبلِ يأني ... تبينُ لك النعاجُ من الكباشِ
وقال أيضًا:
ويُظهِرُ الجهلَ بي وأعرفُهُ ... والدرُّ دُرٌّ برغم مَنْ جَهلهْ
فصرتُ كالسيف حامدًا يَدَهُ ... ما يحمد السيفُ كلَّ مَنْ حمْلَهْ
وقال أيضًا:
وفاؤكما كالرَّبْعِ أشجاه طاسُمهْ ... بأنْ تسعدا والدمع أشفاه ساجمُهْ
وقد يتزيَّا بالهوى غيرُ أهلهِ ... ويصطحب الإنسانُ مَنْ لا يلائمُهْ
قفي تَغْرمِ الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانيةٍ والمتلفُ الشيَء غارمُهْ
1 / 36
وما خضب الناسُ البياضَ لأنه ... قبيحٌ ولكنْ أحسنُ الشَّعْر فاحمهْ
وما كلُّ سيفٍ يقطع الهامَ حدُّه ... وتقطع لزباتِ الزمانِ مكارمُهْ
وقال أيضًا:
وإذا كانت النفوسُ كبارًا ... تعبتْ في مرادِها الأجسام
فكثيرٌ من الشجاع التوقّي ... وكثيرٌ من البليغ السلام
وقال أيضًا:
ولو جاز الخلود خلدتَ فردًا ... ولكنْ ليس للدنيا خليلُ
وقال أيضًا:
ومنْ لم يعشق الدنيا قديمًا؟ ... ولكنْ لا سبيلَ إلى الوصالِ
1 / 37
نصيبك في حياتك من حبيبٍ ... نصيبك في منامك من خيالِ
ولو كان النساءُ كمن فقدنْا ... لفُضِّلَت النساء على الرجالِ
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
فإن تَفُقِ الأنامَ وأنت منهم ... فإنَّ المسكَ بعضُ دم الغزالِ
وقال أيضًا:
إلامَ طماعيةُ العاذلِ ... ولا رأي في الحبِّ للعاقلِ
يُراد من القلب نسيانُكُمْ ... وتأبى الطباعُ على الناقلِ
خذوا ما أتاكم به واغنموا ... فإنَّ الغنيمة في العاجلِ
1 / 38
وقال أيضًا:
أعلى الممالكِ ما يُبنى على الأسَل ... والطعنُ عند محبِّيهنَّ كالقُبلِ
ولا يُجيُر عليه الدهرُ بغيته ... ولا تُحَصِّنُ درعٌ مهجةَ البطلِ
بذي الغباوةِ من إنشادِها ضررٌ ... كما تضرُّ رياحُ الورد بالجعلِ
وقال أيضًا:
إذا ما تأمَّلْتَ الزمانَ وصرفَهُ ... تيقنت أن الموتَ ضربٌ من القتلِ
هل المحبوب إلا تعلَّةٌ ... وهل خَلْوة الحسناء إلا أذى البعلِ
وما الدهر أهلٌ أنْ يؤمَّلَ عنده ... حياةٌ وأن يُشتاق فيه إلى النسلِ
1 / 39
وقال أيضًا:
وربما قالت العيون وقد ... يصدق فيها ويكذب النَّظَرُ
أعاذك الله من سهامِهِمُ ... ومخطئٌ مَنْ رَمِيُّهُ القَمَرُ
وقال أيضًا:
وإذا وكلتَ إلى كريمٍ رأيَهُ ... في الجود بان مذيقه من محضِهِ
إن الرياح إذا عمدنَ لناظرٍ ... أغناهُ مُقبلُها عن استعجالِهِ
دون الحلاوة في الزمان مرارةٌ ... لا تُخْتطى إلا على أهوالهِ
1 / 40