دام الاحتفال ثلاث ساعات كأنها ثلاث دقائق، والموسيقى تعزف والجنود تهتف والمدافع تقصف، وأهالي بيروت ينظرون مدهوشين، يزحم بعضهم بعضا ولا يتنفسون الهواء إلا من فوق رءوسهم!
ثلاث ساعات دام الاحتفال، سبقتها ثلاث ساعات ازدحمت فيها الجماهير، وتلتها ثلاث ساعات حتى انحل عقدهم وانفض جمعهم، النهار كله من الضحى إلى الأصيل والناس مزدحمون لا طعام ولا شراب، بل بعضهم جاء قبل الشمس ولم يستطع أن يعود إلا بعد مغيبها، ولولا باعة الكعك وسقاة السوس لضاقت النفوس من الجوع والعطش، أما كبراء القوم فقدم لهم أفخر أنواع الطعام والشراب.
ولكن هل كان الوالي أطيب نفسا من ساقي السوس؟! وهل كانت زوجة الجنرال أطلق وجها من بياعة اللبن؟! هل كان أحد من المجتمعين في الدائرة الوسطى من الحكام والقواد والأحبار والتجار والشرفاء والأغنياء الذين أكلوا حلواء باريس وشربوا خمر شمبانيا؛ هل كان أحد منهم أنعم بالا من المزدحمين حول تلك الدائرة من أهالي بيروت والقرى المجاورة؟! قال أحد الفضلاء: إن في كل متر مربع من أكواخ الفقراء فرحا وسرورا أضعاف أضعاف ما في كل متر مربع من قصور الأغنياء. إيطاليا أفقر ممالك أوروبا، ولكنك لا تجد غناء وطربا في مملكة أخرى كما تجد فيها ! وإسبانيا تتلوها في الفقر، ولكن سكانها يرقصون ويطربون أكثر من سكان إنكلترا وفرنسا!
والذين شاهدوا ذلك الاحتفال من أهالي بيروت وضواحيها، حسبوا أن الجنود الفرنسوية احتلت سورية ولن تخرج منها، فتمت أمنية فرنسا التي تمنتها من زمن حروب الصليب وأمنية فريق كبير من سكان سورية، ومضت الشهور والجنود تزيد توددا إلى الأهالي، والأهالي لا يجدون سببا للشكوى، بل لم يجدوا إلا كل ما يستحق الشكر، إذ كثرت الأموال وراجت الأعمال وشيدت المباني الفخيمة في بيروت، وساعدت العساكر أهالي لبنان في بناء بيوتهم المحروقة.
كان مارون ونقولا التاجران قد اشتريا بساتين كثيرة في سقي بيروت وأراضي فسيحة في المدينة، فربحا ربحا وافرا بارتفاق أثمانها وبغلاء سعر الحرير، ولم يكن نصيب غنطوس السمسار وعبد الله الوكيل قليلا، ورأى الخواجه بخور والخواجه شمعون أن ابتياع الأملاك أربح من تديين النقود، فعضا أصابعهما ندامة على فوات الفرص، وبادرا إلى مشترى ما يمكن مشتراه من الأراضي التي قرب ساحة السمك؛ إذا بلغهما أن المدينة ستمتد من تلك الجهة.
واجتمع جماعة من الوجوه في بيت كبير من كبراء بيروت، وكان الشيخ درويش أبو فخر معهم أتى من غير دعوة شأن كل فضولي، ودار البحث على الأحوال الحاضرة بعدما قتل فؤاد باشا والي دمشق وكثيرين من المأمورين والضباط واعتقل والي بيروت. فقال واحد من الحضور: إن الإفرنج رشوا الوزير حتى فعل هذا الفعل المنكر. وقال آخر: بل، إنه فعل ذلك بأوامر من إسطانبول لكي يسكت دول أوروبا. وكان بين الحضور رجل دمشقي أتى حديثا من دمشق وشهد ما حدث فيها، فقال لهم: إن الوزير لم يفعل عشر معشار ما يطلب منه، فأنا قد شاهدت كل ما حدث في الشام، ولولا لطف المولى وشهامة الأمير عبد القادر ما أبقوا أحدا، والعملية مدبرة من إسطانبول، اعترفنا بذلك أو لم نعترف، ولا أقول إن القصد قتل هذا المقدار من الأهالي، بل إيقاظ الفتنة لكي تتداخل دول أوروبا على ما قال لي أحد العارفين بدخائل الأمر، والظاهر أن أصحابنا لا يهمهم خربت الدنيا أو عمرت إذا كان لهم غرض سياسي.
فقال له آخر: وما هو هذا الغرض السياسي؟ هل يريدون أن يسلموا البلاد للإفرنج؟! قبحهم الله وقبح سياستهم! فإنها كلها نفاق بنفاق.
وقال الشيخ درويش: الحق في يد الشيخ مصطفى، فإني أنا سمعت الوالي يقول لمشايخ الدروز إنه يساعدهم ويحميهم، ولما زارني في رمضان الماضي قال لي: يا أبا فخر يجب أن تجتهد وتستميل الأمير أحمد رسلان. فعملت كل واسطة معه، والمسألة مدبرة كما قال الشيخ مصطفى، ولكن ما عمره خطر ببالي أنها تطلع في الآخر من رأس الوالي ويلقى كل اللوم عليه.
فقال الشيخ مصطفى: حبسوه يومين على عيون الناس وبعدها يفرج عنه.
فقال الشيخ درويش: ولكن والي الشام قتلوه.
Bilinmeyen sayfa