وبينما هو في حيرة ولا حيرة الضب، حانت منه التفاتة، فرأى القزم الذي رآه في كفر شيما لما التقي بالأميرة سلمى وأمها على عين الماء بين كفر شيما والشويفات، ورآه القزم فعرفه وجعل يناديه قائلا: يا خواجه يا قنصل. فهش له السر هنري وأخذ بيده، وكادت الدموع تهطل من عينيه لما قابل الحالة التي رآه فيها أولا، وهو يكاد يكون في مجالس أنس الملوك، والحالة الحاضرة والناس مرتمون على الأرض كالأنعام، وأطفالهم يبكون، ويتخاطفون كسر الخبز، وكأنه كان يرى ألف رقيب عليه، فطلب من الترجمان أن يقول للقزم ليأتي معه إلى دار القنصلية ويقص عليه ما حدث لهم، فقال له الترجمان: إن القنصل يدعوك للذهاب معه إلى دار القنصلية. فقال: حبا وكرامة. وكان القواسة قد أحضروا له فرسا وللترجمان فرسا آخر، فركبا وعادا إلى دار القنصلية، وعاد القواسة بالقزم إليها.
وجعل الترجمان يسأله عن الأمراء واحدا واحدا إلى أن وصل إلى اسم الأمير عباس، فقال: إن الأمير عباسا تخاصم مع الوالي؛ فإن الوالي طلب منه أن يوافق الدروز ويكون معهم لأنه مسلم، فرفض ذلك وذهب بزوجته وأولاده إلى أبناء عمه أمراء حاصبيا منذ أربعة أيام. ثم التفت إلى السر هنري، وقال له: والأميرة سلمى معهم. ففهم السر هنري اسم سلمى، واستفهم من الترجمان عما قاله، فترجمه له، فأظلم الضياء في عينيه، ولم ينتبه الترجمان لذلك، ولكن القزم انتبه له وقال: إني رأيت الأميرة سلمى يوم ارتحلوا، وكانت تشير على أبيها أن ينزلوا إلى بيروت ، وتؤكد له أن قنصل الإنكليز يحميهم، وهو مصر على الذهاب إلى حاصبيا ووادي التيم، ولما فرغت حيلتها جعلت تبكي وتتوسل إلى أمها لكي تقنع أباها بالنزول إلى بيروت أو بالذهاب إلى الشويفات إلى بيت خالتها؛ لأن الأمير أحمد أرسل يدعوهم إليه، ولكن الأمير عباسا رجل عنيد لا يسمع رأي أحد.
ثم قال القزم للترجمان: قل للقنصل إن الأميرة سلمى تحبه وكانت تريد أن تنزل إلى بيروت لأجله. فأبى الترجمان أن يترجم هذا الكلام للسر هنري، لكن السر هنري طلب منه أن يترجمه له فترجمه له فتضاحك، وقال: قل له من أين عرفت ذلك؟ فقال: أجبه أن العصفورة أخبرتني، وأنا وإن كنت صغير الجسم لكن عمري أربعون سنة، وأنا أضحك الناس وأضحك عليهم؛ لأني أعرف ضمائرهم وأقرأ أفكارهم في وجوههم وحركاتهم، فإننا لما كنا على النجمة ورأيته واقفا أمامها، قرأت في عينيها وعينيه رسائل الحب بينهما، وقل له إن الأميرة سلمى في حاصبيا الآن، ولا أمان عليها هناك؛ لأن أمراء حاصبيا مع النصارى، ولا بد ما تدور الدائرة عليهم، وليس لهم هناك مدينة يلجئون إليها مثل بيروت، فإن كان يحبها حقيقة فليبذل جهده في إنقاذها.
ثم نظر إلى السر هنري، وجعل يكلمه بالإشارات، ففهم السر هنري بعض مراده وزاد انشغال باله، وقال في نفسه: إن هذا الرجل المشوه الخلقة أذكى فؤادا من أكثر الذين رأيتهم في حياتي. فطيب خاطره وأخرج من جيبه قبضة من النقود الفضية وأعطاه إياها، وعرض عليه أن يبقى في القنصلية وينام مع الخدم إذا أراد، فقبل ذلك شاكرا، وصار دأبه التردد على النازحين إلى بيروت والمجيء بأخبارهم، فكان من أفضل المخبرين وأذكاهم فؤادا وأكثرهم تدقيقا وأصوبهم رأيا.
وكان السر هنري يسمع ما يأتي به من الأخبار، وهو يفكر في الأميرة سلمى وما يحتمل أن يصيبها في حاصبيا إذا وقع بها ما يخشى وقوعه، أو إذا لجأ بها أبوها إلى عرب البادية فتاهوا في القفار وغزا بعضهم بعضا وأخذت سبية، وقد يراها أمير من أمرائهم فيتزوج بها رغما عنها ، وراجع ما كتبه قنصل صيداء عما بلغه من أخبار حاصبيا، فوجد أن الفتنة ابتدأت فيها، ولا أمان على الأمراء الشهابيين الذين هناك ولو كانوا مسلمين، ولكن الحول والطول في تلك الجهات للست نائفة أخت الشيخ سعيد جنبلاط، فعزم أن يكتب إليها لكي تحمي الأمير عباسا وعائلته، ولكنه عاد وتذكر ما قاله له القزم وهو أن الأمير عباسا عنيد، ولا يرضى أن يحتمي بأحد من الدروز، فرأى أن لا فائدة من الكتابة.
ولا أشد على المرء من أن يرى نفسه مغلول اليدين لدى أمر يسهل عليه عمله ولكن لا سبيل له إليه، فلو جاء الأمير عباس إلى بيروت لكانت حمايته وحماية كل الذين يلوذون به من أسهل الأمور على السر هنري، ولو كان الوالي ضده، ولكنه اختار الذهاب إلى مكان في داخلية البلاد دون الوصول إليه خرط القتاد.
وكانت هذه الأفكار تتردد في بال السر هنري وهو يتناول عشاءه، ولحظ الكولونل اضطرابه، فظن أن ذلك ناشئ عما شاهده ذلك اليوم مما ينفجع له المرء، فلم يشأ أن يسأله عنه، ثم استطرد الحديث إلى أحوال اللاجئين إلى بيروت، فتكلم السر هنري كلاما مجملا دل على أنه كان مشغول البال بأمر آخر.
الفصل التاسع عشر
النار ولا العار
ومن يخش أطراف الرماح فإننا
Bilinmeyen sayfa