الفصل الحادي عشر
المشكل الجديد
ركب الأمير أحمد وركب معه ثلاثة من رجاله وهم بالسلاح الكامل؛ لأن النزول إلى بيروت لم يعد مأمون العاقبة تماما، ولما وصلوا إلى الغدير اضطروا أن يصعدوا إلى مخاضته؛ لأن الماء كان غزيرا فيه على أثر الأمطار الكثيرة التي وقعت في الشهر الماضي، ووصلوا إلى بيت الكولونل روز نحو الساعة العاشرة صباحا ، ودخل الأمير أحمد إلى مكتب الكولونل، وأما رجاله فدخلوا غرفة في الدار الخارجية، وكان الكولونل في انتظاره ومعه السر هنري بدمونت فرحبا به، وكان البرد شديدا مع أن الجو كان صافيا والشمس مشرقة، وقد أوقد الكولونل نارا كبيرة في موقد حديدي دفئت بها الغرفة، ولما استقر المقام بالأمير قال له الكولونل: بلغني أن أبناء عمك وجمهور المشايخ عازمون على مقاومة القوة بالقوة، وهم على تمام الاستعداد، وأن دروز وادي التيم متحفزون مثلكم، وقد كاتبتم دروز حوران وعربها وكلهم قلب واحد معكم.
فقال الأمير: لا يمكننا أن نخفي استعدادنا، ولكن غرضنا محصور في الدفاع، فإذا اعتدوا علينا اضطررنا أن ندافع عن أنفسنا.
الكولونل :
إن كلمة الاعتداء كلمة مبهمة غير محدودة، فغدا يتهارش كلبان أو يتخاصم رجلان أو يقتل زيات في أحد الخانات، فتقوم القيامة ويدعي كل فريق أنه اعتدي عليه، وما دامت القلوب ملآنة فلا بد من إفراغها، وقد كنت أظن أن كلامي لك في السنة الماضية أقنعك بالعدول عن هذه الخطة، وجعلك تقنع أبناء عمك بالعدول عنها، فلا أرى حتى الآن إلا تفاقم الشر والتحفز للقتال وتوالي الاجتماعات في كل خلوة والانصياع لمشورة الوالي، فقل لأبناء عمك إن مساعدتنا لهم تصل إلى حد محدود، ودفاعنا عنهم لا يجدي نفعا إلا إذا كان الحق في جانبهم، فإن الحق هو الذي يقوينا على الدفاع.
الأمير :
كن على ثقة يا سعادة القنصل أننا لا نكون البادئين، وأنا معكم في أن كلمة الاعتداء غير محدودة المعنى، ولكني أؤكد لسعادتكم أننا غير عازمين أن نلجأ إلى القوة إلا إذا طفح الكيل، فإذا قتلوا منا واحدا هنا وواحدا هناك واعتدوا علينا في جهات مختلفة، فمهما توقى خاصتنا وبذلوا من الجهد في تسكين العامة، فالعامة لا تستكن ولا تسكت، ومحال على أحد الفريقين أن يمنع الشر إذا أراده الفريق الآخر؛ لأن الفريق الذي يريده يتذرع إليه بكل وسيلة، فلماذا لا يجتمع القناصل كلهم ويوجبون على النصارى أن يكفوا عن الابتداء بالشر؟
فتنهد الكولونل ونظر إلى صورة معلقة أمامه على الحائط تمثل ملكة الإنكليز والإمبراطور نبوليون الثالث واقف أمامها يقبل يدها، فقال في نفسه: ما أبعد الظواهر عن البواطن! وكيف يركب أهل السياسة كل مركب خشن في سبيل الوصول إلى مقاصدهم! وكان قد بلغه اجتماع المطارنة والمشايخ في دار البطريرك، فإن قواس القنصلاتو سمع الترجمان يتكلم مع المطران وهما راجعان على الخطة التي قر القرار عليها، وكان قواس قنصلاتو إنكلترا نسيبا له فأخبره بما سمع، وهذا أخبر الترجمان، واتصل الخبر بالقنصل فرآه معقولا ومنطبقا على ما أتاه الخبر به من وزارة الخارجية بناء على ما وصلها من السفارة في باريس، فاستدعى الأمير أحمد لكي يحذره، وكان يعلم أن الوالي يحرض الدروز، وإذا سمعت كلام الفريقين لا تجد عليهما ممسكا ولا تقطع بأن الشر ينتج عنه، وأي لوم على من يقول لك «كن على حذر واعلم أني لا أتركك إذا رأيت عدوك اعتدى عليك»، أو يقول لك «استعد لخصمك، ولكنك إذا رأيته اعتدى عليك، فلا تقابل القوة بالقوة فتضعف حجتك وتمنع صديقك من مساعدتك، بل استمت لخصمك قليلا فيأتي الصديق لمعونتك وتكون الغلبة أتم»؟! القولان سياسيان محكمان، وأغراض أهل السياسة لا تنال بأقل منهما.
هذه الخواطر خطرت كلها على بال الكولونل في تلك اللحظة التي كان ينظر فيها إلى الصورة، فإن الأفكار أسرع من الكهربائية في حركتها، وهي مثل صورة كبيرة تمثل معركة من معارك القتال أو حادثة من حوادث التاريخ تلمحها لمحة واحدة، فتتجلى لك تلك الواقعة أو الحادثة بملابساتها الكثيرة في لحظة من الزمان.
Bilinmeyen sayfa