الزمن الذي حدثت فيه حوادث هذه الرواية سبق بقرون كلها ظلم وجور وإرهاق، تلتها فترة صغيرة ساد فيها الأمن الفترة التي استتب فيها الأمر للأمير بشير الشهابي المعروف بالكبير، ثم لإبراهيم باشا ابن محمد علي باشا عزيز مصر، في هذه الفترة عاد الناس إلى زراعتهم وتجارتهم فنقبوا أراضي الساحل وزرعوا فيها التوت، وربوا دود الحرير وبعثوا به إلى فرنسا، فتدفقت عليهم ميازيب النضار.
رجل واحد من أهالي عمشيت لا من الأمراء ولا من المشايخ كسب من تجارة الحرير ما استطاع أن يوفي به الأموال الأميرية عن بلاد البترون وبلاد جبيل وبلاد الفتوح دفعة واحدة. هذا الرجل، واسمه ميخائيل طوبيا، أقام في عمشيت قريته، وجعل يشتري الحرير من أهالي البلاد المجاورة ويرسله إلى مرسيليا وبلغ من علو همته أنه كان يملي على خمسة من الكتاب في وقت واحد كأنه نبوليون الأول، ولا يستطيع الإنسان أن يدبر الأعمال الكبيرة إلا إذا كان كبير الهمة.
واقتنى غيره قوافل من الجمال أو البغال لنقل بضائع المشرق الأقصى من العراق إلى دمشق، ومنها إلى ساحل بيروت، وحمل بضائع أوروبا إلى داخلية البلاد لنقلها إلى المشرق الأقصى، فلا تمر بك ليلة إلا وتسمع غناء المكارين يحدون لجمالهم، وأجراس بغالهم تحيي ظلمة الليل وتطرب آذان النيام، فتتدفق ينابيع النضار على جانب كبير من السكان، خلة جرى عليها أهالي الشام من عهد الفينيقيين، واستمروا عليها أكثر من ثلاثة آلاف عام، يسعدون بها آونة ويشقون أخرى، والدهر في الناس قلب.
وكان أمراء لبنان قد ذاقوا لذة الراحة بعد طول الكفاح، وباروا الفلاحين وسبقوهم في زرع التوت وتربية دود الحرير، فصارت مزارعهم في البقاع تأتيهم بما يحتاجون إليه من الحبوب، وحراجهم في الجبل تسوم فيها قطعانهم ومواشيهم، وبساتينهم في الساحل يربى فيها الدود ويعصر منها الزيت، فتمتعوا برفاه العيش، وظهر ذلك في أعراسهم ومآتمهم.
وكانت الأميرة صفا مخطوبة للأمير قاسم من أمراء الحدث، وجاء الوقت المعين للاحتفال بزفافها إليه، فجاءها التجار والصاغة من بيروت بالأطالس، والمقصبات الحلبية، والحلى المختلفة من عقود، وقلائد، وخواتم، وأساور، وأقراط، وضفائر مرصعة باللؤلؤ، والماس والياقوت. وأهدى العريس إليها هدايا فاخرة من أنسجة دمشق ودير القمر ومصوغات بيروت وصيداء.
وجاء اليوم الموعود للخروج بموكب العروس من كفر شيما إلى الحدث، وهو يوم أحد قبل الصوم الكبير، وكانت الأميرة جلنار أم الأمير قاسم تخاف أن يكون يوم العرس يوما مطيرا، فنذرت لمار أنطونيوس أنه إذا كان اليوم صحوا تصنع له إكليلا من الذهب وتعلق أمامه قنديلا من الفضة، وعلم المطران بنذرها فلما انحبس المطر من أول الأسبوع وغابت الشمس يوم السبت تحيط بها غيوم حمراء، خاف أن يأتي الأمر على غير ما يود، ولكن أصبح الصباح يوم الأحد ولا غيم في السماء ولا ضباب في الجو، وفاضت أشعة الغزالة على ربى لبنان وانتشرت على ساحل بيروت:
وفاخر بحر الروم لون سمائه
وسارت جواريه عليها المطارف
وسالت على الكثبان غدران عسجد
من الشمس فيها الظل غرثان وارف
Bilinmeyen sayfa