في دار من هذه الدور وقف الأمير أحمد صباح يوم من أواخر عام 1859، وقف في رواق يطل على بحر الروم وغابة الزيتون المعروفة بصحراء الشويفات، وكانت سفن الصيادين قد خرجت من بيروت للصيد، ونشرت شراعها لنسيم الصبا، وقد هب صباحا من البر إلى البحر قبل اشتداد الهجير، فجازت خلدة وشقت صدر الماء فأرغى وأزبد، ونشرت الغزالة أشعتها على الرمال بين الصحراء والبحر، فعصفرتها وعبثت بما تجمع على أوراق الزيتون من ندى الليل، فطار ضبابا لطيفا كأنفاس المحبين.
وقف الأمير هنيهة يقلب طرفه فيما يراه من جمال الطبيعة، ويستنشق نسيم الصباح، ويصغي إلى تغريد الطيور، وهم بالخروج للصيد، ثم عاد إلى التفكير في كتاب ورد عليه في الليل الفائت من الكولونل روز قنصل إنكلترا في بيروت، وقال في نفسه: لأمر دعاني القنصل إليه، ولا بد من تلبية دعوته. ولم يستغرب دعوة القنصل له وتخصيصه إياه دون أبناء عمه؛ لأنه كان يعتمد عليه بعد أبيه، والكتاب ليس من القنصل نفسه بل من ترجمانه، ثم دخل غرفته وافتقد الكتاب وقرأه ثانية فإذا هو يقول فيه:
الجناب الأكرم والملاذ الأفخم الأمير أحمد أرسلان المحترم دام بقاه
بعد أداء واجب التحية والإكرام، أعرض أن سعادة القنصل أمرني لكي أكتب إليكم أدعوكم إلى دار القنصلية غدا صباحا، للمذاكرة في بعض الشئون الهامة والمرجو تشريفكم في الوقت المعين، وأدام الله بقاءكم.
فقال في نفسه: ما هذه الأمور الهامة يا ترى؟ ولماذا لم يكتب القنصل نفسه إلي بالفرنسوية؟ أويظن أنني أكون آلة في يده كما كان المرحوم والدي؟! تلك أيام مضت ولن تعود، نعم إن إنكلترا وفرنسا ساعدتا دولتنا على الروس في حرب القرم، ولكن تلك المساعدة لا تقضي علينا بالاستعباد، وليس من صواب الرأي أن نجاري خورشيد باشا فيما طلبه، ولكن لا يليق بنا أن نستميت إلى هذا الحد.
ثم نظر إلى ساعته، ونادى مسرورا عبده، وأمره أن يشد على جواده، ولبس ثيابه: بذلة من الجوخ الكحلي، وطماقا مزركشا بالقصب، وتقلد سيفه؛ وهو لجده الأعلى الأمير جمال الدين، قلده به السلطان سليم الفاتح في مدينة دمشق يوم دخلها ظافرا، وتنكب قربينة صنعت لأبيه في بيت شباب، صنعها له أولاد نفاع من فضلات نعال الخيل المطرقة، فجاءت مجوهرة كالسيوف الدمشقية يطلق بها عشرين حواشة معا، فتنطلق منها كالمدفع الرشاش ولا يستطيع إطلاقها إلا من كان ساعده من الحديد مثل ساعده، وألقى على كتفيه برنسا أبيض من نسج دمشق، ثم اعتلى صهوة جواده، ووضع فردين صغيرين في قربوصه؛ وهما هدية لأبيه من إبراهيم باشا، أهداهما إليه قبل واقعة اللجاة، وسار وأمامه عبداه مسرور وسالم، وهما بالعدة الكاملة مع كل منهما يطقان، وزوج طبنجات، وبندقية نظامية إبرهيمية من البنادق التي ألقتها جنود إبراهيم باشا وهي عائدة إلى مصر.
فمر في طريق متعرج بين البيوت والحوانيت، وكانت نساء القرية ذاهبات يستقين وجرارهن على أكتافهن أو رءوسهن، والبراقع مسدولة على وجوههن لا يبين منها إلا عين واحدة يكشفنها لينظرن طريقهن، فلما دنا منهن وقفن كاسرات الطرف هيبة ووقارا، وكذلك كان الرجال يقفون في حوانيتهم، ويضعون أكفهم على صدورهم ويحيونه.
وسار من تحت كفر شيما والحدث إلى الشياح والناس ينظرون إليه شزرا؛ لأن قلوبهم كانت موغرة بالأحقاد، ومر في حراج بيروت، وكان الهجير قد اشتد وعلا صوت الصراصير، فوقف هنيهة في ظل صنوبرة كبيرة مما بقي من الصنوبر الذي غرسه الأمير فخر الدين المعني، وهي منتصبة بين الأشجار التي غرسها إبراهيم باشا كالجبار بين الأطفال، حتى إذا كثر رفس الجواد من كثرة الذباب استأنف السير ومر في طريق الميدان فالباشورة.
وعرف أصحاب الحوانيت أنه من أمراء الجبل من قيافته وعدته، لكنهم لم ينهضوا للسلام عليه لاعتقادهم أن أهالي لبنان فلاحون كلهم حتى أمراؤهم، ولو كانوا من نسل الملوك، ولا هو بادأهم بالسلام أنفة وعتوا، ودار من عند السور «عصور»، وصعد في طريق المصيطبة إلى بيت الكولونل روز قنصل الإنكليز الجنرال، فبادر إليه قواسان كانا واقفين عند الباب، وأمسكا بركاب جواده، فنزل عنه ونفح كلا منهما بريال، ودخل غرفة كبيرة، كواها تطل على حديقة غناء، نسقت فيها أشجار البرتقال والتفاح والرمان، وأنواع الورد والياسمين، وكانت الغرفة مفروشة بالبسط الفارسية، وفيها مقاعد مكسوة بالحرير المطرز من نسج دير القمر، ومكتب كبير من خشب الجوز مطعم بعرق اللولؤ من عمل دمشق، وكراسي إنكليزية كبيرة مكسوة بالجلد البني، أمامها موائد صغيرة، فلاقاه القنصل إلى الباب ورحب به، ثم أتي بالقهوة ودار الحديث بينهما على شئون الجبل وثورة الخواطر فيه، فشكا الأمير من أن نصارى المتن والعرقوب وزحلة ودير القمر قد أكثروا من ابتياع الأسلحة، ولا عمل لهم إلا سبك الرصاص ولف الفشك، فلا عجب إذا فعل دروز الشوفين فعلهم. قال: ويبلغني أن كسروان كلها متحفزة للثورة، وأن يوسف بك كرم قابل قنصل فرنسا، فشد القنصل أزره، وأكد له أن فرنسا لا تتخلى عن الموارنة بوجه من الوجوه. فقال القنصل: ولكن بلغني أن خورشيد باشا قال لكم مثل ما قال قنصل فرنسا ليوسف بك. فقال الأمير: أما أنا فلم أقابل خورشيد باشا. فقال القنصل: نعم لم تقابله أنت، ولكن قابله جماعة من بيت عماد وبيت نكد، ومضى اثنان منهم إلى خلوات البياضة لهذا الغرض، وقد استدعيتك الآن لكي أحذرك من عواقب الثورة، فإنه إذا استفحل الخطب فلا يبعد أن تحتل بلادكم دولة أجنبية، وهذا لا نرضاه لكم ولا للدولة العثمانية، وأمس كان عندي سعيد بك فأخبرته بما أخبرتك به الآن، وليس الخوف من عقالكم بل الخوف من جهالكم، وأنا أعلم شدة طاعتهم للعقال، ولكن ما كل وقت يكون العقال على يقظة من أمرهم.
وطالت المذاكرة نحو ساعتين، حتى إذا حان وقت الغداء دعا القنصل الأمير للغداء معه، وتغدى معهما شاب إنكليزي اسمه السر هنري بدمونت في غرفة مجاورة لغرفة الاستقبال، وجلسوا بعد الغداء يدخنون التبغ ويشربون القهوة، ويتكلمون في مصالح الجبل، وتاريخ أمرائه، وسبب الخلاف بين اليزبكية والجانبلاطية، وبين النصارى والدروز، إلى غير ذلك مما يهتم به قناصل الإنكليز خاصة، وكان كلامهم بالفرنسوية، وقد سر السر هنري بحديث الأمير أحمد، وطلب إليه أن يسمح له بزيارته في داره بالشويفات. فقال: حبا وكرامة، وإن سمحت فإني آتي بنفسي وأذهب بك. فقال السر هنري: إني لا أكلفك إلى ذلك، وسأزورك بعد غد مع أحد قواسة القنصلية. ثم استأذن الأمير أحمد في الانصراف، فودعه الكولونل روز والسر هنري بدمونت إلى باب القنصلية.
Bilinmeyen sayfa