ولا بدع إذا كان منهم جماعة في بغداد كالذين جاءوا مع بهزاد، وهم من وجهاء القوم وأصحاب الثروة والنفوذ، وفي نفوسهم أشياء على الخلفاء كقتل أبي مسلم وجعفر البرمكي وغيرهما. وكانوا يتحدثون بذلك سرا وينتظرون تبدل الأحوال وآمالهم عالقة بالمأمون إذا تولى الخلافة، ولم يكونوا يعلمون أن الأمين قد خلعه؛ فلما أنبأهم بهزاد بذلك ثارت الغيرة في نفوسهم وتحمسوا ونهض أحدهم وقال: «إننا على ما أقسمنا عليه، لا ندخر مالا ولا رجالا، ولكن لا بد لنا من التؤدة.»
فقال: «ذلك ما عزمنا عليه، فأقيموا أنتم على أعمالكم حتى تأتي الساعة، وأنا أعرف أماكنكم فكونوا على استعداد، وقد آن لنا أن ننصرف، وهذا آخر اجتماع لنا على هذه الصورة. وسنجتمع في غير كلفة أو حذر قريبا إن شاء الله!»
فنهض رفاقه وأخذوا يتأهبون للخروج، فالتفوا بعباءاتهم وهموا بالانصراف، وتناول بهزاد عباءته فالتف بها وانطفأ السراج وتركه في مكانه وخرج. فلما أظلم الطاق لم تعد ميمونة تستطيع ضبط نفسها والصبر على التستر فهمت بأن تنادي بهزاد، فأمسكت جدتها بيدها وطلبت إليها أن تصمت ريثما يتفرق القوم، ونهضت وأشارت إليها أن تتبعها بخفة وهدوء، فأطاعتها ومشت وركبتاها تتلاطمان ولا تكادان تحملانها، وكذلك اصطكت أسنانها كأنها أصيبت بتشنج.
ولم تتوسطا الطاق حتى رأتا القوم قد امتطوا خيولهم بعد أن صافحوا بهزاد وودعوه وانصرفوا، وبقي هو وحده فاتجه إلى مربط جواده ليركبه، ولكنه سمع وقع خطوات تتبعه، فالتفت فرأى شبحين بلباس النساء، فاتجه إليهما بهدوء ورباطة جأش وقال: «من أرى؟»
فركضت ميمونة نحوه وأمسكت بذراعه وصاحت: «أنا ميمونة، وهذه جدتي عبادة.»
فشعر بهزاد برعدتها فتجلد وقال: «وما الذي جاء بكما إلى هذا المكان؟»
فقالت عبادة: «جئنا للبحث عنك؛ فقد بلبلت خاطرنا بغيابك، وقد أصيبت مولاتنا بنت المأمون بحمى ولا تقبل آسيا غيرك، فلما أبطأت لم نر أحدا أولى منا بالبحث عنك؛ لأننا نعرف منزلك وطرقك.»
فأطرق وهو ممسك لجام الفرس بيده والصندوق باليد الأخرى ثم قال: «وما الذي جاء بكما إلى هذا المكان بالذات؟ وكيف عرفتما أني أجيء إليه؟»
فقالت ميمونة: «قد ساقتنا إليه العناية، والحديث في ذلك يطول، وأنت الآن في حاجة إلى الراحة ونحن كذلك.»
فقال: «هلم إلى المنزل.» ثم التفت إلى عبادة وقال: «أظنك أكثرنا تعبا فاركبي الفرس ونحن نمشي بجانبه.»
Bilinmeyen sayfa