كان أهل بغداد غافلين عما جرى، فأصبحوا في اليوم التالي وإذا بالمنادين يطوفون بالأسواق ينعون الرشيد ويترحمون عليه ويعلنون خلافة الأمين. واهتم الهاشميون ورجال الدولة بأخذ البيعة على عادتهم.
وبكر سعدون في الصباح التالي (19 جمادى الآخرة سنة 193ه) إلى دار الشرطة، فرحب به ابن ماهان وأركبه في حاشيته ليشهد الاحتفال بالبيعة. حتى إذا وصلوا إلى قصر الخلد ترجلوا ودخلوا في جملة الداخلين بين تزاحم الأجناد والأعيان. ولما أتوا دار العامة أذن لهم فدخلوا وسعدون وسلمان بجانب ابن ماهان.
وحضر البيعة شيوخ بني هاشم الذين كانوا في بغداد، والقواد وأكابر رجال الدولة، حتى غصت بهم الدار. وجلس الأمين على سرير الخلافة وكان قد بلغ الثالثة والعشرين من عمره وتخشن عضله واسترسلت لحيته واستطال عارضاه وبانت رجولته. وكان طويل القامة قوي العضل يلقى الأسد فلا يبالي، وكان مع ذلك جميل الصورة أبيض اللون صغير العينين أقنى الأنف سبط الشعر، وفي وجهه أثر الجدري. وكانوا قد ألبسوه حلة الخلافة فجعلوا العمامة المرصعة على رأسه والبردة على كتفه، وقد جاءه بها رجاء الخادم من عند أخيه صالح من طوس، وجاءه أيضا بقضيب الخلافة والخاتم، فتختم بالخاتم وحمل القضيب بيده فازداد جلالا وجمالا، والناس جلوس بين يديه: بنو هاشم على الكراسي، وسائر الناس على الوسائد أو على البساط وبعضهم وقوف. والكل منصتون مطرقون حزنا على الرشيد وإجلالا للأمين.
وكان أول من تقدم للأمين سلام صاحب البريد، فإنه أقبل فعزاه في أبيه وهنأه بالخلافة، ثم تقدم بنو هاشم فعزوه وبايعوه، ووكل سليمان بن المنصور شيخ بني هاشم بأخذ البيعة من القواد وكبار رجال الدولة، وفي جملتهم ابن ماهان وابن الفضل.
وكان الملفان واقفا في الجمع لم ينتبه له أحد، فلما فرغ الناس من المبايعة وقف الأمين فيهم خطيبا فأصغوا وتطاولوا بأعناقهم، فحمد الله ثم قال: «يا أيها الناس، ويا بني العباس، إن المنون بمرصد لذوي الأنفاس. حتم من الله لا يدفع حلوله، ولا ينكر نزوله؛ فارتجعوا قلوبكم من الحزن على الماضي، إلى السرور بالباقي، تحوزوا ثواب الصابرين، وتعطوا أجر الشاكرين.»
ولم يكن الناس يتوقعون هذه الجرأة منه فاستغربوا ذلك، ثم أمر أن يفرق في الجند رزق أربعة وعشرين شهرا، وكانت قد جرت العادة إذا تولى الخليفة أن ينعم على الجند بأرزاقهم ليكتسب ثقتهم.
ولما فرغ من مبايعة الناس تقدم الحسن بن هانئ (أبو نواس) شاعره، فهنأه بالخلافة وعزاه في أبيه فقال:
جرت جوار بالسعد والنحس
فنحن في وحشة وفي أنس
العين تبكي والسن ضاحكة
Bilinmeyen sayfa