كان سلمان هو الذي تنكر باسم الملفان سعدون واختلط بالعامة وصاحب رئيس العيارين خدمة لمولاه بهزاد، وقد ترك الهرش على أن يعود إليه في تلك الليلة مهما يطل غيابه ليلقاه في قاعة العيارين. وكان قد أسرع إلى القصر ليخبر الطبيب بموت الرشيد، فلما رآه يعلم ما لم يعلمه هو من أمر البيعة وما تبعها رأى أن يعود بهذه الأخبار إلى الهرش لعله يدهشه فيزداد اعتقادا بصدق مندله.
فلما ودع مولاه الحكيم أبدل ثيابه وعاد إلى العمامة والجبة والسالفين واللحية، وأسرع إلى بغلته فركبها وسار قاصدا قاعة العيارين. وكان الليل قد انتصف وأغلقت المنازل وطاف الحراس يتنادون فإذا رأوا غريبا أوقفوه. أما سعدون فكان له من لباسه وقيافته شافع حتى بلغ جسر بغداد، ولم يكن له بد من المرور عليه إلى البر الغربي والحراس قائمون على طرفيه وقاعة العيارين بالحربية وراءه، فمر على الجسر ولم يعترضه أحد حتى دخل البر الغربي، وهو بغداد الأصلية مدينة المنصور وحولها الأرباض القديمة وفيها الطرق الضيقة علقت المصابيح في مداخلها، ووقف الحراس فيها بأسلحتهم، فأوجس خيفة منهم، ونادى أحدهم فأسرع إليه فقال له: «سر أمامي إلى قاعة العيارين.»
فلما سمعه الحارس يتكلم كمن له سلطان، ورأى لباسه ظنه أحد رجال أهل الذمة المقربين من الخليفة للطبابة أو النجامة أو نحوهما؛ فمشى بين يديه حتى أقبل على بناء فخم من ناحية الحربية ببابه عياران عليهما المئزر وعمامة من الخوص، فلما رأيا الملفان على بغلته عرفاه فتقدما إليه وأعاناه على النزول وقالا له: «إن مولانا الهرش ذهب إلى مكان قريب ولا يلبث أن يعود، وقد أوصانا بأن نرحب بك وندخلك القاعة تنتظره فيها.»
فترجل ومشى العياران بين يديه وسلمان يخطو وراءهما بعكازه، حتى استطرق من الدهليز إلى ميدان تطرق منه إلى قاعة كبيرة فيها عدة مصابيح مدلاة من سقفها كالثريا، وفي أرضها بساط عليه نقوش ووسائد ومقاعد، فدعاه العياران إلى الجلوس على مقعد إلى اليمين فجلس، وكانت هذه أول مرة دخل فيها قاعة العيارين، لكنه لم يدهش لما هناك من الأثاث الثمين، بل دهش لما رآه معلقا في جدرانها من ضروب الأسلحة وأدوات الحرب من مختلف أنواع السيوف والأقواس والرماح، ومن المقاليع بين مصنوع من الجلد أو مجدول من الشعر أو من الحرير، وإلى جانب كل مقلاع مخلاته والمخالي على أنواع. ورأى في بعض جوانب القاعة عصيا طويلة من خشب الشوم وغيره يثب عليها العيارون لقطع الأنهر، وبجانبها سلالم مصنوعة من الحبال تنتهي من أطرافها بكلاليب يرمونها على السطوح إذا أرادوا الوثوب عليها، ويقال لها سلالم التسليك. غير ما رآه من أدوات النفط التي يشعلون بها الخرق المبتلة بالنفط ويرمونها بالمجانيق. ولم ير هناك إلا منجنيقا واحدا صغير الحجم لرمي النبال أو النفط وليس مما ترمى به الحجارة الضخمة. هذا إلى ما رآه معلقا في صدر القاعة من الدبابيس وهي العصي وفيها المسامير من الحديد، وبعضها مساميره من الفضة أو الذهب. وهذا الدبوس لا يحمله إلا الرؤساء، وبينها دبابيس مصنوعة من الحديد. ورأى على رف هناك أرغفة من الرصاص يرميها العيارون على أعدائهم فتذهب بقوة عظيمة، وقد تقتل عدة أشخاص في رمية واحدة. ورأى كثيرا من أدوات القتل والكسر والنقب وضروبا من الحبال وغيرها مما يحتاج إليه العيارون.
ابن ماهان صاحب الشرطة
قضى سلمان نصف ساعة ظنها عدة ساعات لفرط قلقه وهو يراجع ما مر به تلك الليلة من الغرائب، ثم سمع ضوضاء بباب القاعة فعلم أن الهرش قدم فتحفز للقائه، وإذا بالهرش قد دخل مسرعا وفي أثره شاب جميل الصورة عليه قباء وسراويل وقلنسوة، وقد نبت عارضاه وبان عذاره، يلوح أنه من الرقيق الأبيض، فوقف الغلام بالباب وأسرع الهرش إلى سلمان، وكان قد وقف له فحياه وابتدره قائلا: «أبطأت عليك مرغما؛ فإن حامد (وأشار إلى الغلام) له حاجة عند صاحب الشرطة وأبى إلا أن أصطحبه الليلة إليه، فهل تأتي معنا؟»
قال: «إنما جئت عملا بإشارتك فقد ألححت علي بالرجوع. فإذا كنت لا ترى أن أذهب معك رجعت.»
فقطع الهرش كلامه قائلا: «بل أنا شديد الرغبة في الذهاب برغم أننا في آخر الليل. هيا بنا فإن الركائب معدة.» ثم التفت إلى الغلام وقال: «نحن ذاهبون مع الملفان سعدون إلى صاحب الشرطة، وسأوصيه بأن يخرطك في سلك الشاكرية؛ فذلك خير لك من أن تكون عيارا.»
ففهم سلمان أن الهرش وعد الغلام بإدخاله في ذلك السلك، وتبينه عن قرب فرأى فيه ذكاء وأنفة، فضلا عن الجمال، ولم يستغرب ذلك؛ فقد كان بين الرقيق المجلوب إلى بغداد أو المولودين فيها جماعة من أجمل خلق الله وأذكاهم ينخرطون في الجندية أو الحراسة، أو ينتظمون مع الشاكرية الذين يتولون نقل المراسلات في قصر الخليفة. فخرج الهرش وقد أمسك بيد سلمان احتفاء به، وفي خاطره أن يسأله عما لديه من الأخبار ولكنه استنكف من التعجيل.
فلما خرجا من القاعة ركب سلمان بغلته وامتطى الهرش فرسه ومشى في ركابيهما عياران، وركب الغلام حمارا وسار في أثرهما وهو يستغرب ما يراه من احتفاء الهرش بذلك الملفان. وكان كل همه أن يوفق إلى الالتحاق بالشاكرية عملا بإشارة مولاه؛ فقد ربي في كنفه ولم يكن يعرف وليا سواه. وكان يخلص في طاعته لما كان يلقاه من عطفه عليه، وكان الهرش يعامله معاملة الأب لابنه، وقد عني بتعليمه وتثقيفه على غير ما تعود العيارون.
Bilinmeyen sayfa