قالت: «من هنا إلى المدائن طريقان أحدهما في البر والآخر على الماء.»
وكانتا تتكلمان وهما تنظران إلى السفينة من خلال الستر فلم تعرفا من فيها. ثم توارت أثناء مجراها ببعض تعرجات النهر فاشتغلتا عنها قليلا. ثم ملت زينب الجلوس وهمت بالنهوض فإذا بها تسمع صوت ارتطام الماء على مقربة من القصر يتخلله نقر الهواء على الشراع فالتفتت فرأت قاربا صاعدا بجانب المسناة وفيه نوتيان قد أخذا في حل الشراع، وفي صدر القارب امرأتان التفت إحداهما برداء قديم قد غير الزمان لونه، وسترت رأسها بخمار، وظهر محياها وعليه ملامح الشيخوخة. والثانية عليها ثوب أسود فوقه خمار في لونه قد تلثمت به حتى لا يظهر من وجهها إلا العينان. وبعد هنيهة شد النوتيان القارب بحلقة من حلقات المسناة وألقيا خشبة بينها وبين القارب، ونهضت المرأتان ومشتا وهما تتساندان حتى عبرتا إلى المسناة ووقفتا في أسفل السلم، والعجوز تنظر إلى القصر وتجيل بصرها فيه كأنها تبحث عمن تريد أن تكلمه، فقال لها أحد النوتيين: «هذا هو القصر المأموني يا خالة.»
فنهضت دنانير لساعتها وتقدمت حتى وقفت بالباب وأطلت على القارب وتفرست في المرأتين وظلت زينب جالسة تنتظر ما يبدو منها، فما لبثت أن رأتها انحدرت على السلم مسرعة حتى دنت من العجوز واستقبلتها بين ذراعيها وأكبت على يدها وقبلتها بلهفة، ثم أعانتها على الصعود والفتاة في أثرهما. وكانت زينب تتوقع كلمة تسمعها من دنانير فتعرف القادمتين فلم تسمع شيئا، فظلت صامتة حتى أقبلت والعجوز تمشي معها تتوكأ على عكازها، ولما دنت منها تطاولت دنانير بعنقها وقالت بصوت ضعيف: «هلمي بنا يا مولاتي.»
فنهضت زينب ودخلن جميعا في دهليز بين الباب الغربي والقصر حتى وصلن إلى قاعة أمرت الجواري بالخروج منها، وأشارت إلى العجوز ورفيقتها بالدخول فدخلتا، وأجلستهما على طنفسة هناك، بينما جلست زينب على وسادة وأخذت تنظر إليهما وتتفرس فيهما وقد أزاحتا الخمار فظهر شعر العجوز وقد اشتعل شيبا، أما الفتاة فبان محياها فإذا هي في إبان الشباب كأنها ملاك في صورة إنسان، وكانت رشيقة القوام جميلة الطلعة قمحية اللون متناسبة الملامح تدل خلقتها على كرم المحتد والوجاهة، ويشف لباسها عن سذاجة وفقر زادا جمالها وضوحا، رغم ما يتجلى في وجهها من الكآبة والحزن ورغم ثوبها الأسود وما يتلألأ في عينيها من الدمع. وكانت في دخولها تمشي مطرقة كأنها تحاول كتمان ما في نفسها، فلما جلست رفعت عينيها وفيهما دعج وسحر فوقع بصرها على زينب، وكانت هذه تتفرس فيها متلهفة، فلما التقى بصراهما أحست زينب بجاذب إليها لم تعهد مثله في أحد تعرفه مع أنها فتاة مثلها، وشعرت بميل إليها وانعطاف، وظنت أنها قد تكون رأتها من قبل.
أما العجوز فكانت مع ما يبدو عليها من مظاهر الذل والحزن، ينم محياها عن الأنفة والعز. فلما استقر بهما الجلوس التفتت دنانير إلى زينب وقالت وهي تشير إلى العجوز: «ألم تعرفيها يا مولاتي؟»
فأجابت الفتاة بعينيها وشفتيها أن لا.
فقالت دنانير وهي تهز رأسها متحسرة: «إنها مولاتي أم جعفر.»
فتبادر إلى ذهن الفتاة لأول وهلة أنها تعني زبيدة زوج الرشيد؛ فدهشت لما تعهده في زبيدة من شباب باق وهي ترى بين يديها عجوزا طاعنة في السن فضلا عن فارق الملامح؛ فأدركت دنانير سبب دهشتها فقالت: «إنما أعني مولاتي أم جعفر الوزير، وهي عبادة بنت محمد بن الحسين بن قحطبة.»
وكانت زينب قد علمت أن جدها الرشيد اغتال وزيره جعفرا هذا وأباح منازله، ولم تسمع بأمه فكانت تحسبها ماتت. وغلبت العصبية الهاشمية على زينب فانقبضت نفسها وتراجعت، فابتدرتها دنانير قائلة: «إن لأم جعفر دالة على سيدي المأمون؛ لأنه ربي في حجرها، وكانت تخدمه وتحبه، وهو يحترمها، وكثيرا ما كان يذكرها بعد نكبة ابنها ويود أن يراها ليكرمها. ولو علم بوجودها على قيد الحياة لاستقدمها إليه وأكرم وفادتها وعزاها على ثكلها.»
وكانت أم جعفر في أثناء ذلك تمسح دموعها وتتجلد حتى تخفي بكاءها. أما زينب فلما سمعت قول مربيتها وشاهدت بكاء تلك العجوز رق قلبها وكادت تشاركها في البكاء لولا رباطة جأشها وما سبق إلى فؤادها من كره البرامكة. وكانت دنانير تعلم ما في نفس زينب، فأحبت أن تبالغ في استعطافها فقالت: «حتى أمير المؤمنين الرشيد، مع ما تعلمينه من أمره مع ابنها، يحترمها ويعلي قدرها لأنها أرضعته وربته بعد أن ماتت أمه وهو في المهد. وكان يشاورها ويكرمها ويتبرك برأيها، وطالما سمعته يناديها يا أم الرشيد!»
Bilinmeyen sayfa