فقعد الأمين وهو يشير إلى سعدون أن يقعد، وقال لأمه: «وأين هو؟»
قالت: «لا أدرى أين هو، ولكنني سأبعث إلى هذه الفتاة أستقدمها إلي لعلها تعترف بمكانه فيسهل علينا القبض عليه.»
فالتفت الأمين إلى سعدون كأنه يستطلع رأيه ثم قال: «ما لنا ولتلك الفتاة؟ هذا رئيس المنجمين عندنا.»
فقالت وهي تعتدل في مجلسها على الوسادة بجانب ابنها: «أخبرنا أيها الملفان عما يدلك عليه علمك عن ذلك الخراساني.»
فأخرج كتابه وقرأ فيه على عجل ووضع قطعة من البخور في فمه ومضغها قليلا ثم قال: «إنه في بغداد يا سيدتي.» قالت: «هل تعرف مكانه؟»
قال: «يلوح لي أنه بين ماءين، ولكن ليس في النهر، على أن تحقيق ذلك يحتاج إلى وقت أوسع وجو أصفى، أما تلك الفتاة فلا تعلم مكانه. وكيف يتأتى ذلك وهي محبوسة في قصر أمير المؤمنين لا يراها أحد ولا ترى أحدا؟»
فأطرقت زبيدة هنيهة وقالت: «علمت أن ابن الفضل يهواها وهي لا تريده، ولولا اختفاء ابنه لزوجته بها برغم أنفها.» وسكتت ثم قالت: «والفضل هذا خاننا عند الحاجة إليه. إنه أصل هذه المصائب وهو الذي حرض محمدا على خلع أخيه والتجريد عليه. لعنه الله من خائن!»
وغصت زبيدة بريقها كأنها شعرت بالخطر المحدق بابنها، ثم استأنفت الكلام وبدا على وجهها الاهتمام وقالت: «ولكنني حسنة الظن بالفضل.» وأحس الأمين بما تضمره من الخوف عليه فأحب أن يصرف ذهنها عن هذا فتجلد وتكلف الابتسام وقال: «سوف يلقى الخائن جزاءه، اذهبي يا أماه إلى قصرك الآن واطمئني وادعي لنا بالنصر، ولا يغرنك ما ترين من كثرة جند الأعداء فإننا غالبون بإذن الله، ولنا من العيارين أكبر معين.»
فعلمت أنه يريدها أن تنصرف، فنهضت وهمت بالخروج فأحست بما يحبب إليها البقاء، ولم يطاوعها قلبها على فراق ابنها كأنه أنذرها بالخطر عليه، فأرادت أن تعود إلى مقعدها فخافت أن تكدر ابنها فوقفت هنيهة تتردد ثم أكبت على الأمين وقبلته في عنقه قبلات حارة، فأحس بسخونة الدمع فدفعها بلطف وقبل صدرها وهو يغالب عواطفه ويخاف أن تخونه دموعه. أما هي فأسرعت في الخروج وشعرت بأن قلبها خلع من صدرها وانصرفت في موكبها إلى قصرها.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فقال سعدون: «هل يأمر لي مولاي بالانصراف؟»
Bilinmeyen sayfa