فأدرك سعدون أنه يكتم شيئا يخاف التصريح به، فظل ساكتا ينتظر ما يبدو، فعاد الأمين إلى الكلام فقال: «أشار علي بعض خاصتي الباقين على ولائي بأن أخرج من بغداد بمن بقي من رجالي، وهم سبعة آلاف فارس فأمر ليلا من أحد أبواب المدينة حتى آتي الجزيرة أو الشام، فيفرضون الفروض ويجبون الخراج ويكون لي مملكة واسعة هناك، وأترك بغداد لأصحابها حتى يقضي الله بما يشاء؛ فما رأيك؟»
فلما سمع سعدون ذلك تحقق أنه الرأي الصواب، وخاف إذا عمل الأمين به أن يعرقل مساعي الفرس؛ لأن بقاء الأمين حيا في مملكة أخرى يفسد عليهم سعيهم، فقال: «هل يرى أمير المؤمنين فائدة من الفرار؟ ومن أي باب يخرج بسبعة آلاف فارس وبغداد محاطة بالأعداء من كل جانب شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؛ فإذا وقع في يد أعدائه - لا قدر الله - فإنهم يستحلون منه ما لا يستحلونه في حال أخرى.»
فقال الأمين: «ألا نجد لنا مخرجا من بغداد؟»
قال: «إذا شاء أمير المؤمنين صعدنا إلى إحدى المنائر العالية، وأشرفنا على بغداد وأرباضها فنرى أماكن العدو رأي العين والأمر بعد ذلك له.» •••
استحسن الأمين رأي سلمان، ونهض وقال: «في هذا القصر منارة عالية هلم بنا إليها.» فنهض سعدون في أثره حتى صعدا المنارة وأطلا منها على بغداد وقصورها، فالتفتا أولا نحو الشرق وقال سعدون: «انظر يا مولاي، هذه مضارب هرثمة بن أعين وراء دجلة؟ وهذه مضارب عبيد الله بن وضاح في الشماسية ومعه جند عظيم وقد حفظ الجسر الأعظم. وجند هرثمة يحرسون طريق خراسان؛ فلا سبيل إلى الفرار من هذه الجهة، وأما جهة الغرب فهذا طاهر وجنده في البستان قرب باب الأنبار وكأني أراهم يقتربون بأعلامهم. أراهم دخلوا محلة الكرخ حول باب الكوفة وما يليها وسائر الأرباض الغربية الجنوبية، وكادوا يحصروننا والعيارون يدفعونهم بالمقاليع، ألا ترى الحصى يتطاير فوق البيوت؟»
وكان الأمين ينظر إلى ذلك وقلبه يختلج وامتقع لونه، وتحقق ضياع أمره، فلم يجب ولكنه وجه نظره نحو الحربية في الشمال فرأى النار قد لعبت فيها فصاح: «ويلاه! ما هذا؟»
فقال سعدون: «أظن أوشاب السكان وأهل السجون اغتنموا فرصة اشتغال الناس بالقتال فألقوا النار في البيوت ليتمكنوا من السرقة والنهب. انزل يا سيدي إلى قصرك فإنك آمن فيه وهو حصن منيع.»
فنزل الأمين وسعدون وراءه حتى بلغا الدار فرأيا أهلها في هرج ومرج يركضون ذات اليمين وذات الشمال كأنهم يفتشون عن ضائع، وحالما وقع بصرهم على الأمين أجفلوا وصاحوا: «هذا مولانا أمير المؤمنين. هو هنا .» وما عتم أن رأى أمه زبيدة تعدو نحوه حتى ضمته إلى صدرها ودموعها تتساقط وهي تقول: «ولداه، أين كنت؟ لقد بلبلت بالي لغيابك هذه الساعة. وقيل لي إنك كنت جالسا هنا ثم لم يجدوك وذكروا أنك لم تخرج فطار صوابي لتغيبك في مثل هذا الوقت.»
فأثرت لهفة أمه تأثيرا شديدا في نفسه ولم يتمالك عن البكاء، ثم تجلد وأظهر رباطة الجأش وقال: «وما الذي يخيفك يا أماه؟ إننا في خير إن شاء الله. وإنما كنت مع رئيس المنجمين. ما الذي جاء بك الآن؟»
فأمسكت بالأمين ودخلت به غرفة ودخل سعدون في أثرهما وأقفلوا الباب وقالت: «جئت لأمر مهم؛ أنت تعلم أني لا أغفل عن التفكير في أمرك، وقلبي يدلني على خطر يهددنا من يد ذلك الخراساني بهزاد. وما زلت أبث العيون للبحث عنه حتى قيل لي إنه في بغداد، ولكنني لم أقف على مسكنه، وبينما أنا أتوقع الوقوف عليه حلمت حلما مزعجا لا أقصه على أحد، بل أنا أريد نسيانه. على أنني لم أعد أستطيع صبرا على بهزاد هذا، وإذا استطعنا القبض عليه فكأننا هزمنا نصف الجيش؛ لأنه منذ وطئ هذه الديار تغيرت حالنا وقوي جند طاهر؛ وذلك لأن بهزاد زعيم كبير وله نفوذ على كبار البغداديين، وقد ذكرت لك مرارا أنه رئيس عصابات سرية أعضاؤها من أكبر تجار بغداد وأهل النفوذ فيها.» قالت ذلك وقعدت.
Bilinmeyen sayfa