فغضب ابن ماهان لهذه الإهانة وأمر بالقبض على طاهر فلم يستطع أحد ذلك. ولم يسمع بهزاد شيئا من كلام طاهر لبعده عنه ولكنه فهم فحواه. وما عتم أن رأى الجيشين يتحركان للالتحام، فهجمت ميمنة ابن ماهان على ميسرة طاهر فانهزمت هذه هزيمة منكرة، وفعلت ميسرة ابن ماهان مثل هذا في ميمنة طاهر فأزالوها عن مكانها؛ فخاف بهزاد وتحركت حميته وأوشك أن يسوق جواده إلى وسط المعركة لينصر طاهرا، ولكنه تجلد ليرى له مدخلا نافعا. وما فتئ يستجمع الهاربين ويردهم ويحرضهم على القتال وهو يجول على جواده ملثما ويخاطب الفارين بالفارسية يعيرهم بالفرار ويحقر ابن ماهان ورجاله في أعينهم، فكان لكلامه وقع شديد على نفوسهم فأخذوا يرتدون إلى صفوفهم.
وكان طاهر من الجهة الأخرى يحرضهم على الثبات والصبر، فاجتمعت قلوبهم وحملوا على عدوهم حملة شديدة في القلب فهزموهم، وأكثروا فيهم القتل، ورجعت الرايات بعضها إلى بعض فانتقضت ميمنة ابن ماهان، وكانت ميمنة طاهر وميسرته قد عادتا إلى المعركة فتشدد قلب طاهر وقوي جنده كأن بهزاد بث فيهم روحا جديدة، فتقهقر جند ابن ماهان بغير انتظام.
فلما رأى ابن ماهان تقهقر جنده أخذه الرعب وخاف الفشل فنهض بنفسه، وأقبل يحرض رجاله على الثبات ويعدهم بالمال ويقبح عمل طاهر ورجاله؛ فرأى بهزاد الفرصة قد آنت للعمل، وأن هذا الانكسار لا يكون قاضيا إلا إذا قتل القائد الكبير، فكر بنفسه كالصاعقة ويده على خنجره لا يبالي بما يتساقط حوله من النبال أو يتكسر من الحراب، حتى دنا من ابن ماهان وصاح فيه: «قف أيها القائد ولا تقل إني أخذتك غدرا.»
فتحول ابن ماهان إلى بهزاد ولم يعرفه من تحت اللثام، لكنه استل سيفه وضربه فخلا بهزاد من الضربة، واستل خنجره كالبرق الخاطف وطعنه في صدره فخر قتيلا، ورجع بهزاد من المعركة وقد اكتفى بما فعله ولم يعد يراه أحد. وشاع في المعسكر أن ابن ماهان قتله أحد رجال طاهر بسهم، ثم احتز بعضهم رأسه وحمله إلى طاهر، وشدت يداه إلى رجليه كما يفعلون بالدواب، وحمل على خشبة إلى طاهر، فأمر به فألقي في بئر، وأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرا لله تعالى. وتمت الهزيمة على جند الأمين ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف وتبعوهم فرسخين واقعوهم فيها اثنتي عشرة مرة انهزم فيها عسكر الأمين، وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال الليل بينهم وغنموا غنيمة عظيمة. ونادى طاهر: «من ألقى سلاحه فهو آمن.» فطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم ورجع طاهر إلى الري وكتب إلى المأمون وذي الرياستين: «بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس علي بن عيسى بن ماهان بين يدي وخاتمه في أصبعي وجنده مصرفون تحت أمري، والسلام.» فورد الكتاب مع البريد في ثلاثة أيام وبينهما نحو من خمسين ومائتي فرسخ. فدخل الفضل على المأمون فهنأه بالفتح، وأمر الناس فدخلوا وسلموا عليه بالخلافة، ثم وصل الرأس بعد الكتاب بيومين فطيف به في خراسان.
خلع المأمون
تركنا ميمونة في بيت الأمين ببغداد كأنها على الجمر لفرط حزنها ويأسها، ولا سيما أنها لم تر سلمان ولا عرفت مقره حتى ظنته مات أو لحق بحبيبها بهزاد، وكذلك اشتد شوقها إلى جدتها واستوحشت لبعدها وجهلها مكانها. فكانت تقضي نهارها وحيدة تتظاهر بانحراف صحتها أو دوار في رأسها، فإذا خلت إلى نفسها أخرجت كتاب حبيبها وقبلته وكررت قراءته استئناسا بصاحبه. وكلما كررت ما قاله من عبارات النقمة على العباسيين وتهديده بالانتقام يختلج قلبها في صدرها حذرا من وقوع ذلك الكتاب في يد بعض أعدائها، ولكنها كانت حريصة على إخفائه لا تثق بأحد ممن حولها من الجواري أو الوصائف، ما عدا فريدة قهرمانة القصر؛ لأنها من صديقات دنانير المعجبات بتعقلها وحكمتها، وقد أوصتها هذه بها خيرا. على أنها مع ارتياحها لها كانت تخافها أيضا على سرها؛ وذلك لعلمها بتفشي الجاسوسية، فلم تطلعها على شيء من أمر الكتاب أو أمر بهزاد الذي انقطعت أخباره عنها كما انقطعت أخبار سلمان، ولم تكن تعلم أنه في القصر على قاب قوسين منها ولكنه متنكر، لا يعرف أحد ممن في القصر عنه شيئا إلا أنه الملفان سعدون رئيس المنجمين!
قضت في ذلك أياما لا تدري ما يصير إليه أمرها، ولا تبالي ما تراه من اشتغال جواري القصر ونسائه باللهو والضحك، أو سماع الغناء أو الضرب بالآلات، أو غير ذلك، فإذا رأتهم في مجلس أنس انفردت في غرفتها وأخرجت كتاب بهزاد وأخذت تقرؤه، فإذا سمعت وقع خطوات أو صوت متكلم أخفت الكتاب في جيبها. واتفق مرة أنها أحست بالوحشة وأرادت الاستئناس بذلك الكتاب فأرادت أن تخرجه من جيبها فلم تجده، فأحست كأن قلبها سقط من مكانه، وأعادت البحث جيدا فلم تقف له على أثر، فخافت خوفا شديدا وزادت وحشتها من الانفراد هناك. وأحست بافتقارها إلى رفيق يؤنسها فلم تجد خيرا من أن تدعو جدتها إليها، فكتبت إلى دنانير بطاقة شكت فيها استيحاشها وسألتها عن جدتها ثم عهدت إلى القهرمانة في توصيل البطاقة إلى دنانير في قصر المأمون، وكانت فريدة تتمنى القيام لدنانير بمثل هذه الخدمة، فأسرعت في إرسال البطاقة إليها في الخفاء.
فلما وصلت البطاقة إلى دنانير، سارعت إلى أم جعفر وأطلعتها عليها فقالت هذه لها: «أرسليني إليها ودعيني أمت عندها؛ فقد كنت أظنهم سيطلقون سراحها بعد أيام فإذا هي باقية إلى أجل غير مسمى.»
فقالت دنانير: «هل تذهبين إليها متنكرة؟»
قالت: «أخاف إذا عرفوني أن يزيدوا في التضييق على ميمونة.»
Bilinmeyen sayfa