أما عبادة فجمد الدم في عروقها ولم تحر جوابا؛ فظلت ساكتة ثم خافت أن يعد سكوتها موضعا للتهمة فأرادت التنصل منها على قدر الإمكان فقالت: «لم أفهم مرادك يا مولاتي. من هو ذلك الخراساني؟ وما شأننا والدسائس ونحن لا نكاد نملأ جوفنا طعاما؟ بالله اقبلي رجائي فقد صغرت نفسي وهانت علي، وكل ما أطلب منك إخراج هذه الفتاة من قصر أمير المؤمنين، ومهما تأمري بعد ذلك أفعل.»
فحولت زبيدة وجهها عنها ومدت يدها بالحق إليها وقالت: «كفى يا عبادة. خذي هذا الحق لعله ينفعك في غير هذا السبيل. وإذا كنت في حاجة إلى عطاء من مال أو طعام أعطيناك.»
فأيقنت عبادة ألا خير يرجى من زبيدة وأنها تريد أن تصرفها، فتناولت الحق وقالت: «كنت أقبل عطيتك يا سيدتي لو كان لي مطمع في الحياة، فأستغفر لذنبي على ما بدا من جسارتي، وأرجو أن يديم الله سعدك ويؤيد عرش ابنك.» قالت ذلك وتحولت تهم بالخروج وهي تتوقع أن يلين قلب زبيدة بما سمعته، فوصلت إلى باب القاعة ولم تسمع صوتها ولا رأتها تحركت من مكانها؛ فأكبرت أن تخرج من بين يديها ذليلة مغلوبة على أمرها؛ فعادت إليها أنفتها وتذكرت حالها على عهد ابنها وما أصابها من المصائب بسبب زبيدة، وما رأته من قساوة قلبها وشماتتها بذلها؛ فالتفتت إليها فإذا هي لا تزال جالسة على السرير وعيناها على الوسادة تتشاغل بالتقاط فتات المسك عنها وحول شفتيها ابتسامة تغني عن شرح عواطفها؛ إذ جمعت بين الاستخفاف وعز الانتصار وأنفة الكبراء وشماتة الحاقدين.
وكانت زبيدة تريد رجوع عبادة لأنها لم تشف كل غليلها منها، ولم تجبها ساعة الوداع رغبة في رجوعها، وقد لذ لها الحديث مع امرأة ساعدتها الأقدار عليها حتى سحقتها سحقا بعد أن قتلت ابنها وأذلت زوجها وسائر أهلها وشتتت شملهم واستباحت أموالهم وضياعهم وأصبح اسمهم فزعة يخافها المنتمون إليهم. وكان الرشيد قد نكب البرامكة برأي زبيدة وتحريضها، فلذ لها النصر، وليس ألذ لقلب الإنسان من النصر. ولو حللت أسباب السعادة تحليلا دقيقا لرأيتها ترجع إلى النصر أو ما في معناه؛ فالمنتصر في الحرب يتمتع بالنصر على أبسط معانيه، وناهيك بلذة القائد عندما يرى جيشه ظافرا وجيش عدوه مدحورا. وطلاب المال لا يجمعونه خوف الجوع؛ فإن الإنسان يشبعه ما لا يعجز أفقر الفقراء عن الحصول عليه، وإنما يجمع المال ليستعين به في تنفيذ أغراضه أو تقوية نفوذه في الدولة أو الهيئة الاجتماعية، وذلك هو النصر أو الفوز. وطلاب الشهرة على اختلاف وجوهها إنما يطلبونها التماسا لمثل هذه اللذة؛ فطالب الشهرة من طريق السياسة يشعر إذا مدحه الناس على عمل أعجبوا به أنه تغلب على آرائهم بقوة عقله، وأن إعجابهم به إنما هو إقرار بتقصيرهم عنه في ذلك السبيل؛ وطالبها من طريق العلم أو الشعر أو غيرهما من المهن القلمية يلذ له إعجاب الناس بنفثات يراعه أو بنات أفكاره مثل شعور القائد بانتصاره على أعدائه؛ فلا عجب إذا لذ لزبيدة انتصارها الكبير على البرامكة، وخاب رجاء عبادة وتذللها لديها لاستغراقها في تلك اللذة حتى نسيت عاطفة الشفقة أو تناستها، أو لعلها أبعدت تلك العاطفة عمدا.
فلما التفتت عبادة إليها ظلت هي مشتغلة بالتقاط المسك عن الوسادة وقلبها يخفق توقعا لما عساه يبدو من تلك الوالدة المقهورة المغلوبة على أمرها؛ فإذا هي تقول لها: «أأخرج من بين يديك ولم أنل جوابا منك غير الشماتة والاستخفاف، وقد تقدمت إليك بحرمة زوجك المدفون في طوس فاكتفيت بقولك إن الله إنما أوصلنا إلى هذه الحال جزاء ما جنته أيدينا؟ وقد سرني أنك تعرفين ذلك، وأن الله قادر على مثله في كل زمان ومكان.»
فنظرت زبيدة إليها فإذا هي قد تغيرت سحنتها من الاستعطاف والتذلل إلى الغضب والنفور، واحمرت عيناها وجف دمعهما وارتجفت شفتاها وارتعشت يداها ورجلاها حتى كادت تقع على الأرض لولا تجلدها. وكانت قد تناولت عكازتها فتوكأت عليها ولم تزد على ما قالته وأخذت تبحث عن نعلها لتلبسها وتخرج، فصاحت بها زبيدة: «عبادة!» فتغافلت وظلت سائرة في الدهليز، فصاحت بها ثانية: «عبادة يا أم الرشيد!»
فلما سمعتها تناديها بهذه الكنية استبشرت وتراجعت وكظمت ما في نفسها لعلها تستطيع أن تنفع ميمونة، فالتفتت وإحدى يديها على العكازة والأخرى على خصرها كأنه تتماسك من الضعف، فوقعت عيناها على عيني زبيدة وهي ترجو أن تقرأ شيئا جديدا يشف عن انعطاف أو حنو، فرأتها لا تزال تبتسم ابتسامتها المعهودة وقد زادها رهبة ما بدا من عينيها من دلائل الغضب، فظلت عبادة بضع لحظات تتفرس في عيني زبيدة وتقرأ الغضب فيهما، ولكنها غالطت نفسها رغبة في إنقاذ ميمونة، وإذا بزبيدة تقول بصوت مختنق : «أتدعين على ابني بالقتل؟»
قالت: «معاذ الله يا سيدتي! أطلب إليه تعالى ألا يريك مكروها فيه، بل أتوسل إليه أن يحفظ كل أبناء الناس لعل حفيدتي المسكينة أن تصيب طرفا من عنايته.» ثم تغير صوتها واختنق.
فقطعت زبيدة كلامها وقالت: «أكنت تطلبين ذلك من قبل؟»
فأدركت عبادة أنها تشير إلى أيام عزها قبل مقتل ابنها فقالت: «كنت أرجو ذلك ليبقى ابني، ولكنني لم أكن أقوله بحرارة قلب ولهفة كما أفعل الآن لأني لم أكن جربت الذل بعد. كنت مثلك يا مولاتي لا أعرف من الدنيا إلا نعيمها وراحتها، وكنت أحسب الدهر يدوم لي، فإذا هو قد أذاقني ما لم يسمع بمثله في الأرض.»
Bilinmeyen sayfa