مقدمة
ترجمة حياته
حفلات تكريمه
باب المختارات
المختارات الشعرية أو الشعر المنثور
خاتمة
مقدمة
ترجمة حياته
حفلات تكريمه
باب المختارات
المختارات الشعرية أو الشعر المنثور
خاتمة
أمين الريحاني
أمين الريحاني
ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب
تأليف
توفيق سعيد الرافعي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فإن الباحث في شئون العمران، والمنقب عن أسباب سعادة الإنسان، لا يكاد يمعن بصره في شيء يذكر، أو يجيل فكره في أي عمل من الأعمال الجليلة النافعة، إلا رأى فيه يدا ظاهرة للأدباء والشعراء، وأصحاب الهيمنة على المشاعر والقلوب؛ ذلك بما لهم من السعي المحمود، والقصد المشهود؛ فهم قادة الأفكار، وأمراء الأقلام.
أجل، بل هم رسل التعارف بين الأمم، وألسنة الوداد بين الشعوب، بما يؤلفون به بين القلوب من نفثات أقلامهم، وما يودعون الألباب من حكم منظومهم، ومحكم منثورهم.
ولما كان الإنسان مدنيا بطبعه، محتاجا لأخيه في شد أزره، وتقوية عضده؛ فكر في تنظيم الاجتماع والتعاون، وبث العلوم والمعارف؛ لتقوى الجامعة الإنسانية، وترسخ دعائم حضارات الأمم. فأخذت كل أمة على عاتقها القيام بشيء من هذه المنافع على قدر استعدادها، والعمل على ما يصل إليه جهدها. والمرء إذا رجع إلى تاريخ الاجتماع وجده حافلا بما للأمم الشرقية من الأيادي البيضاء على الإنسانية جمعاء، بما نشرت من معارفها، وأتقنت من صناعتها، وأكملت من مدنيتها، وأوسعت في حضارتها، وأبقت على الدهر من آثار قوتها.
نعم، قد كان أولئك الآباء والأجداد رواد حكمة، وناشري فضيلة، لا يكتفون بنشر العلم فيما بينهم، بل كان الواحد منهم إذا ظهرت له الحكمة، أو واتته المعرفة بشيء يخشى فوات نشره لتعميم فائدته؛ سابق الأجل فرسمه على الصخر والحجر، ليبقى عبرة أو تذكرة لمن شاء أن يتذكر فيفعل، ومثالا يحتذى في إكمال كل عمل.
أولئك الآباء الشرقيون أصحاب الهمم العالية، والمقامات السامية، قد جعلوا الشرق بهمتهم العلياء، وعزتهم القعساء، جنات زاهية، قطوفها دانية، بما أودعوه من بديع المدنيات، وجليل المآثر والعادات، حتى تمنى كثير من رجالات الغرب وفلاسفته أن يكون مستقبل أممهم كماضي أولئك الأمجاد:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يقول لويس جاكوليو:
آه، ما أسعدني إذا صار ماضي الهند مستقبل فرنسا!
ويقول فولتير الفيلسوف الفرنسي:
قد كان للصين إسطرلابات «مراصد للفلك» قبل أن نعرف الكتابة والقراءة.
1
وقس على مدنيتي الهند والصين ما يماثلهما أو يفوقهما من المدنية البابلية والفينيقية والمصرية، وما ختم به كل مدنيات الشرق من المدنية العربية، فقد غشي سيلها الأرض الغربية فأحياها بعد موتها، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
أجل، قد بعث العرب بمدنيتهم أمم الغرب من أجداثها، وسيئ مراقدها، وطول سباتها.
نعم، أخذت أمم الغرب عن العرب مدنيتها، واسترشدت بإرشادها، واهتدت بهديها؛ فسرعان ما برزت في ميادين الحضارة، وحازت قصب السبق من يد أساتذتها.
2
وهذا نتيجة جدها في العمل، وإقبالها على نافع العلم. فالشرقيون الآن على بكرة أبيهم أعق خلف لأكرم سلف؛ لما أضاعوا من تراث الآباء، وما زالوا ينحدرون من مكانتهم، وينزلون عن رفعتهم حتى غلبوا على أمرهم، وأصبحوا نهبا مقسما فيما بينها، فاستبدت بهم، ومنعتهم ثمرة جد آبائهم، وجهد أجدادهم، بما ألقت بينهم من تفريق الكلمة، وإيقاع الفتن والدسائس.
عندئذ أخذ اليأس يتسرب إلى أفئدتهم، والقنوط يحط رحاله بين ربوعهم، ويغشى مجامعهم ودور سمرهم.
لولا أن الله - جلت حكمته - قد تداركهم في حيرتهم، فأراهم بصيصا من نور الأجداد، ووميضا من برق الآمال، فأخذوا يبحثون عن ذاك التراث القديم، وينقبون عن أسباب الوصول إليه، فكان في طليعتهم أدباء الكتاب والشعراء على جاري عادتهم، فرأوا أن خير سبيل موصل إلى الغاية المنشودة إنما هو تعارف الأمم الشرقية بعضها ببعض، وإحكام الصلات بين شعوبها، وإذاعة فضلها بين رجال الغرب؛ فكان لعملهم هذا فائدة تذكر فتشكر، وآثار تعرف فلا تنكر.
وليس بدعا أن كان في مقدمة الأمم الشرقية في هذه الحلبة: الأمتان السورية والمصرية؛ فقد عرفتا حق الجوار وواجب الأخوة في اللسان، فأخذتا تتقاربان، وتضع كلتاهما يدها في يد الأخرى، حتى نطق شاعرهم بما في مكنون ضمائرهم فقال:
لمصر أم لربوع الشام تنتسب
هنا العلى وهناك المجد والحسب
إلى أن قال:
هذي يدي عن بني مصر تصافحكم
فصافحوها تصافح نفسها العرب
فتعاونتا على البر والتقوى، وتصادقتا على تكريم رجال العلم والحكمة في أشخاص رجال الأدب والهمة.
وأنت إذا أبصرت ما يحصل من أبناء أحد القطرين الشقيقين، والبلدين التوءمين، من التجلة ومآدب الحفاوة والإكرام إذ نزل دار الضيافة أمير من الأمراء في القطرين، أو أديب من الأدباء في البلدين، للسياحة وترويح الخاطر؛ ملكك العجب، وعلمت همة العرب، وأيقنت أن هذا الشبل من ذاك الأسد.
فقد زار نيويورك منذ أمد غير بعيد صاحب السمو، الأمير محمد علي، فقابلته الجالية السورية في مهجرها بما يليق بمكانته السامية من التجلة والإكبار، ومن الإجلال والإعظام، وكذلك فعل المصريون مثل هذا عند زيارة الأمير شكيب أرسلان لمصر، ثم احتفل السوريون بحافظ إبراهيم، والمصريون بخليل مطران. وآخر ما شهدنا من هذا القبيل ما قامت به الجاليات السورية وكرام المصريين يوم قدم هذا القطر الفيلسوف الفذ أمين الريحاني؛ فقد كرموا العلم في شخصه، وقووا رابطة الإخاء بين السوريين والمصريين بما سارعوا إليه من الاعتراف بفضله، وتقديره حق قدره.
ولا عجب في هذا؛ فالشرقيون عامة، والسوريون والمصريون خاصة، أولى بمعرفة الريحاني وفضله، وأحق بإيفائه الشكر على عمله؛ فهو ناشر لواء أدب الشرق في الغرب، ومظهر فضل فلسفة المعري وغيره من فلاسفة الشرق أمام فلاسفة الغرب، وهو من عقد على رأسه الغربيون أكاليل المجد، ورفعوا له لواء الحمد، فقومه بهذا أولى، وعشيرته به أحق وأجدر.
فهو رجل الأدب وإتقان العمل، وفضله على العلم فضله، ومنزلته في خدمته منزلته.
على أنك واجد في هذا الكتاب من سيرته، وكيفية نشأته، وبليغ حكمه، وفصيح خطبه، ورقة أسلوبه، ما يثلج له صدرك، وتقر به عينك، فيقفك على مكانة الرجل بين لداته وأترابه، ويعرفك كيف تنشأ همم الرجال، وتتكون ملكات العلم.
هذا وإننا نرى أن ما حصل في هاتيك الحفلات من أفضل مساعي التعاون التي تربط الأمم بعضها ببعض، لا سيما أن أمم الشرق في دور تكوينها الحديث، وتعارفها السياسي والأدبي، وتوثيق المعاهدات، وإحكام الصلات.
نسأل الله تعالى أن ينيلها الأمل، وينجح لها العمل. إنه حسبي وعليه المتكل.
توفيق الرافعي
القاهرة في مارس سنة 1922
ترجمة حياته
ما ذكر اسم الأمين إلا وتمثل لكل من طالع مؤلفات ذاك الفيلسوف الشرقي الذي نبتت أفكاره في لبنان، ونمت في بلاد الحرية: بلاد الغرب، ونشرت في المجلات والمؤلفات الإنكليزية والعربية. كاتب رشيق العبارة، متين التركيب، يطرب بأسلوبه كما يسكر بآرائه الفلسفية، تعرب أشعاره عن عقلية سامية، وروح رفيعة، ورجحان قوة الاستقراء، ودقة شرح أسرار الحياة وما وراء الحياة، أفرنجي الأسلوب، عصري الأفكار، راقي الخيال والوصف والابتكار، يبتكر بكتاباته وبلاغة تعبيره آراء وفلسفة اجتماعية خالعا ثوب التقليد والجاهلية القديم، ينظم الشعر الخيالي البليغ المؤثر باللغة الإنكليزية والعربية.
ومن اطلع على بنات أفكاره، ونفثات يراعه، وبديع أسلوبه، وجميل مقالاته، وغزارة مادته، وما عنده من بعد التصور وسمو الخيال، وتقرير الحقائق الفلسفية، وإيراد اختبارات روح الاجتماع بأسلوبه الشعري المنثور، ومن سمع رنة صوته الموسيقي أثناء الخطابة وإشاراته التي تأخذ بمجامع القلوب يعجب لهذا الاجتماعي الكبير، ويفتخر به؛ لأنه شرقي راق عاش بين الطبقة الراقية من الأميركيين، ونال شهرة ومكانا رفيعا، وله مكاتبات كثيرة مع كبرائهم وعلمائهم.
وإن كاتبا كبيرا وشاعرا متفننا في البحث عن أمراض الشرق، وتأخره الأدبي الاجتماعي، وفلسفة الحياة وما بأسرار الوجود، وخياليا يسبح في عالم التصورات الراقية، خليق بأن تسطر سيرة حياته ليطلع عليها الناس، وخصوصا الشرقي العربي، ويدرس نبوغه أبناء وطنه في بلاد الغرب.
أذكر شيئا من تاريخ حياته بمناسبة زيارته مصر في هذا الشهر «28 يناير سنة 1922»، واحتفال السوريين والمصريين بهذا النابغة، وتقدير روحه الكبيرة في جسمه النحيف. •••
ولد أمين فارس الريحاني - أو فيلسوف الفريكة - في قرية «الفريكة» من لبنان الجميل في سنة 1876، وتعلم مبادئ اللغة العربية والإفرنسية في مدرسة صغيرة لمواطنه الكاتب الصحافي نعوم مكرزل، صاحب جريدة «الهدى»، وهاجر في العاشرة من عمره مع عمه إلى نيويورك حيث درس مبادئ اللغة الإنكليزية، ثم اشتغل بالتجارة خمس سنوات كان في أثنائها مثالا للاقتصاد وبساطة المعيشة.
وطالع تآليف كبار شعراء الإنكليز، فشغف بكتب شكسبير ورواياته، وتولد فيه ميل إلى فن التمثيل، فدخل ممثلا في شركة أميركية، وجال معها ثلاثة أشهر، ثم ترك هذا الفن الجميل لأسباب.
ودخل كلية نيويورك الفقهية، ومكث فيها سنة كان مثال الاجتهاد والذكاء، وبدأ منذ ذاك الحين بالكتابة والخطابة ونشر المقالات في الصحف الأميركية، وخطب عدة خطب بالإنكليزية في أندية ومحافل أميركية مشهورة.
واشتد عليه الضعف لإكبابه على الدرس في أثناء تحصيله في المدرسة، فأشار عليه الطبيب بترك الكلية، والرجوع إلى سوريا تغييرا للهواء، فسافر إليها عام 1898، وطالع في أثناء وجوده في بيته في لبنان نسخة من ديوان المعري، فأعجب بأفكار الشاعر الفلسفية وراقته، فمال إلى ترجمة الرباعيات إلى الإنكليزية.
ولما أنهى ترجمتها عرضها على شركة من أهم شركات طبع الكتب في أميركا، فقبلتها حالا، وبعد طبعها بدأت شهرة الريحاني، فأقام نادي الثريا الأميركي حفلة إكرام للسوري النابغة، خطب فيها خطبة نفيسة باللغة الإنكليزية، تقدم إليه بعدها رئيس النادي ووضع على رأسه إكليلا من الزهر، وسأله أن يتلو بعض الرباعيات ويسمع الحاضرين الفلسفة الشرقية والنبوغ السوري.
وكتب الريحاني في أثناء ترجمته الرباعيات مقالات كثيرة نشرها أكثر الجرائد العربية والإنكليزية، ونظم في الإنكليزية ديوانه المؤثر.
وفي عام 1904 عاد إلى سوريا، ومكث في قرية الفريكة مدة طويلة، وكتب في أكثر الجرائد العربية. وكان يكاتب المجلات الإنكليزية في أثناء عزلته التي ولدت في ذهنه فلسفة راقية. وطبع الريحانيات المشهورة في العالم العربي، التي تتجلى فيها الفلسفة الشرقية بالقالب الإفرنجي الشعري.
وطبع روايته الإنكليزية التي مثل فيها أخلاق السوري وعاداته، وشرح حالته في بلاد الغرب، تلك الرواية التي يذكرها الإنكليز بين أشهر رواياتهم: كتاب خالد.
وبعد إقامته في سوريا مدة طويلة رجع إلى نيويورك، وعاش عيشة الفلاسفة المعتزلين جائلا بين بروكلن ونيويورك وغيرهما خطيبا ومؤلفا وكاتبا في أشهر المجلات والجرائد الإنكليزية والعربية. وهو يكتب ويؤلف للذة يشعر بها، ولدافع طبيعي يحركه ليشرح فلسفة الاجتماع. وخطب عدة خطب في محافل سورية في أثناء الحرب العمومية حرك فيها عاطفة السوري وهمته لمساعدة أخيه في الوطن، وإنقاذه من أنياب الجوع، ومخالب الموت، واليد الظالمة.
أما معيشته فهي أنموذج البساطة واللطف، جمع فيها بين الرجل السوري الراقي والأميركي المتمدن، ونكب عن التبجح، وحب الظهور، واحتقار الغير، والادعاء، وعشق المال. وهو يجتهد في تطبيق أفعاله على أقواله، ولا يود تكليف غيره ما يستطيع هو أن يعمله. لا يقيد نفسه بالانخراط في سلك الجمعيات والخضوع لقوانينها. يعشق الحرية ولا يتذلل لينال غايته. مقر بضعفه، صادق بحديثه، مسامح لمن يسيء إليه، سليم النية، رقيق الكلام، بشوش الوجه.
أما صفاته، فربع القامة مع ميل إلى القصر، رقيق العضل، نحيف البنية، واسع العينين، عريض الجبهة. كان منذ سنوات طويل الشعر، حليق الشاربين. أما الآن فشعر رأسه وشاربيه معتدل. وهو لا يزال في دور الشباب والنشاط. أكثر الله من نوابغنا ونفع بهم الوطن.
حفلات تكريمه
جزى الله الشدائد كل خير إذا جمعت بين القلوب، وحيت إليها إجلال غاية أدبية سامية، كما حدث في الشهر الماضي؛ إذ زار الأديب العبقري أمين الريحاني هذا القطر، فإنه قوبل فيه بسلسلة من الحفلات الشائقة، وتبارى علماؤها وشعراؤها في مدحه بخطب أنيقة نظما ونثرا، أكرم بها المصريون إخوانهم السوريين، والسوريون إخوانهم المصريين.
ولقد كان الأدباء يقابلون دائما بالحفاوة والإكرام في بلدان المشرق، ولكننا لا نعلم إن أحدا منهم لقي ما لقي الريحاني في زيارته لمصر هذه النوبة، كأن علماءها وأدباءها من مصريين ومتمصرين وجدوا في تكريم فنون الأدب فيه مهربا لنفوسهم من نزعات السياسة وأخاديعها، وسبيلا لشد أواصر الجامعة الشرقية، ومتسعا لإظهار ما تكنه ضمائرهم من الحب والإجلال لكل من رفع راية الشرقيين في البلاد الغربية.
بدأت الحفلات في منزل الدكتور يعقوب صروف، أحد أصحاب جريدة «المقطم» الغراء، ثم توالت في دار سليم أفندي سركيس، فمنزل السيدة بلسم عبد الملك، صاحبة مجلة «المرأة المصرية»، فمنزل إلياس أفندي زيادة، صاحب جريدة «المحروسة»، فدار الجامعة الأميركية، فسراي الأمراء ميشيل وحبيب وجورج لطف الله، فالكنتنتال بدعوة من طعان بك العماد، فساحة الأهرام بدعوة من الأستاذ أحمد زكي باشا.
ونحن واصفون كل حفلة على حدتها، وذاكرون ما قيل فيها من خطب وقصائد تبارى فيها الخطباء والشعراء، معتمدين في ذلك على أخبار الجرائد السيارة وما وصل إلينا علمه من بعض خطباء هذه الحفلات وشعرائها.
هذا ويجمل بنا قبل أن نذكر شيئا عن هذه الحفلات، أن نسطر - مع الفخر - بأن أول من اقترح تكريم الفيلسوف الريحاني، وإقامة حفلات لذلك، هو الأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي؛ فقد نشر في «مقطم» يوم الأربعاء غرة فبراير 1922 الكلمة الآتية:
واجب الترحيب بكاتب
قرأت بمزيد السرور خبر قدوم الشاعر الناثر والمفكر الفيلسوف، أمين ريحاني، إلى هذا القطر منذ أيام.
وأذكر أنه زار مصر في سنة 1905 - أي منذ سبع عشرة سنة - إذ كانت النهضة القومية في مهدها، فلم ير من حياة الشعب الذي يتطلع لاستعادة حريته ما يكفي لتكوين عقيدته في مستقبل هذه البلاد. وكان الأستاذ ريحاني إذ ذاك في ريعان شبابه، ولم ينجز من مؤلفاته الجليلة إلا رباعيات المعري وفصولا من كتاب خالد.
وقد مضى على تلك الزيارة نحو عقدين من السنين، قطع فيهما الشاعر الشرقي والمفكر الغربي مراحل بعيدة المدى في ساحة العلم والأدب، فألف الريحانيات التي دلت على علو كعبه في لغته الأصلية علوا لا يدانيه إلا اقتداره على اللغة الإنجليزية.
وقد خلد في تلك الصحف وادي الفريكة الذي نشأ فيه وترعرع؛ إذ وصفه في كتابه أجمل وصف، وحببه إلى من لم يزوروه ولم يعرفوا جماله. وكفى هذا الوادي فخرا أنه أنجب نابغة مثل ريحاني.
وقد زارنا للمرة الثانية ومصر كالقدر الغالية تحمسا وتطلعا نحو العلى، ونحو مستقبل تتمتع فيه بحقوقها المهضومة.
زار مصر للمرة الثانية، وقد بلغت نهضتنا أشدها، وصار فتى أمس رجل اليوم، والأمنية التي كانت تتردد في نفوسنا أوشكت أن تكون حقيقة واقعة، وسيتاح له أن يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ما لم ير ولم يسمع في الزيارة السابقة؛ فأمامه شعب ناهض مثله كالنسر العظيم الذي أخذ الكرى بمعاقد أجفانه حينا، ثم بدأ نور الفجر يسطع، فبدأ النسر يفتح عينيه، ويحرك جناحيه، ويهز ريشه؛ ليسقط عنه آخر أثر من آثار الفتور والنوم العميق. ها هو النسر، أيها الكاتب الشرقي القادم من الغرب، ينظر إلى الشمس؛ لأنه يريد أن يتبوأ مكانه منها.
إن هذا النسر، أيها الشاعر، يبدو لك قويا وفتيا، ولكن إذا أنعمت النظر في رأسه وعينيه رأيت أنها تحمل آثار الحياة منذ آلاف السنين، ولكن ريشه لم يتغير لونه ولم يلحقه شيب؛ لأن الشيب علامة الشيخوخة والضعف. وهذا النسر مع عمره الطويل الغارق في بحار السنين الغابرة لا يزال صبيا وقادرا على النهوض لينشر جناحيه العظيمين، ثم يطير إلى حيث تطير النسور، ويحلق في سماء الحرية الصافية الأديم.
إن هذا النسر، أيها الشاعر الجليل، يحييك ويطلب منك أن تنظم له أنشودة جميلة تطربه وتساعده على النهوض. إن مصر العظيمة الجديدة القديمة، الجديدة الخالدة، تطلب من كل شاعر أن يغنيها صوتا يقوي من عزمها، أو ينشد حكمة تفت في عضد خصومها.
مصر ترحب بالشاعر اللبناني الذي غزا الغرب بقلمه، وجدد مجد العرب بشعره، وأحيا موات الأرض بخطبه وكتبه في وطنه، وتطلب إليه ألا يبقى في ضيافتها صامتا، وألا يتكلم بصوت خافت؛ لأن اليوم يوم المناصرة عن عقيدة وإيمان.
فهل يجيب شاعر الشرق هذا النداء؟
وإنني بهذه المناسبة أقترح على الكتاب والشعراء والأدباء في مصر أن يرحبوا بحضرة الشاعر الناثر الترحيب الذي يليق بمقامه العظيم في الشرق والغرب.
فصادف هذا الاقتراح هوى في نفوس الأدباء والشعراء، وارتياحا لدى ذوي الفضل والعرفان؛ ومن ثم ابتدأت تقام حفلات التكريم للأستاذ الريحاني، فكان أول الحفلات حفلة الدكتور يعقوب صروف. (1) الحفلة الأولى في منزل الدكتور يعقوب صروف
دعا عصر يوم الخميس، الموافق 2 فبراير سنة 1922، حضرة الدكتور العلامة يعقوب صروف - من أصحاب «المقتطف» و«المقطم» - جمهورا من فضلاء مصر ورافعي لواء الأدب العربي فيها إلى حفلة شاي أعدها في منزله، بشارع عماد الدين؛ للترحيب بحضرة صديقهم الكاتب الشهير أمين أفندي ريحاني، فلبى المدعوون دعوته، وفي مقدمتهم حضرات أصحاب السعادة والعزة: إسماعيل صبري باشا، وأحمد تيمور باشا، وأحمد شوقي بك، وأحمد زكي باشا، وسعيد شقير باشا، والدكتور صيبعة، والآنسة مي، وخليل مطران بك، وعبد الحليم أفندي المصري، ونعوم شقير بك، والأستاذ محمد لطفي جمعة، وأسعد أفندي خليل داغر، والدكتور وديع بك برباري، وأنطون أفندي جميل، والدكتور شخاشيري.
فاستقبلهم رب الدار وعائلته الكريمة بالتكريم، وبعدما شربوا الشاي وتناولوا الحلوى، وقف حضرة الدكتور صروف وألقى كلمة شكر للمدعوين، وترحيب بالمحتفل به، نوه فيها بخدمته للأدب الشرقي في الشرق والغرب، وأطنب في براعته باللغة الإنكليزية التي نافس فيها أبناءها المجيدين، وتلاه حضرة الشاعر المجيد أسعد أفندي خليل داغر، فألقى أبياتا بليغة صفق لها السامعون واستعادوها.
وعقبه حضرة الشاعر البليغ عبد الحليم أفندي المصري، فتلا أبياتا جزلة وقعت أجمل وقع في النفوس، وأطربت سامعيها، فصفقوا لها مرارا، ثم نهض حضرة الأستاذ الفاضل محمد لطفي جمعة، فخطب خطبة نفيسة دلت على علو كعبه في الإنشاء والخطابة، وبلاغة التعبير، فقوطعت بالتصفيق والاستحسان، ووقف حضرة أمين أفندي ريحاني، فشكر الجميع بعبارات رقيقة دلت على شدة حبه للشرق، واعتباره كل بلد من بلدانه وطنا له، وكل شرقي مواطنا، فصفق السامعون كثيرا.
وظل الحاضرون بعد ذلك يتبادلون أطايب الحديث، ثم ودعوا حضرة صاحب الدعوة، وحضرة قرينته الفاضلة، وسائر أهل بيتهما، شاكرين ما لقوا من كرم الضيافة، وما دخل قلوبهم من السرور في هذه الحفلة الأدبية الشرقية. (1-1) قصيدة الشاعر المجيد «أسعد أفندي خليل داغر»
لك يا أمين على اللسان
1
وأهلها
فضل يحدث عنه كل لسان
محصت جوهر شعرها وسبكته
في غيرها في قالب الإتقان
وملكت ناصية القريض وصغت في
كلتيهما منه عقود جمان
وأريت أهل الغرب أن الشرق لم
يبرح يذر أشعة العرفان
بلسانهم أحرزت تجلية على
فرسانهم في حومة الميدان
ولقد سمعت الروض عنك محدثا
نفسي بأفصح لهجة وبيان
ويقول: «إن أمين زهري نثره»
فتقول نفسي: «شعره ريحاني»
والله يحفظ ضيفنا ومضيفنا
في غبطة ومسرة وأمان (1-2) خطبة الأستاذ لطفي جمعة المحامي
منذ عشرين سنة، تقريبا، لقيت أمين الريحاني لأول مرة، وكان إذ ذاك في مقتبل العمر، في الفترة الفنية من حياته «بريوت استيك»، متخلقا بأخلاق الكاتب الإنكليزي الشهير «أسكارويلد»، من حيث تنسيق الشعر وتصفيفه وانسداله على كتفيه، وحلق الشاربين واللحية، وكان يدخن الشبك على الطريقة الأمريكية، فلما رأيته كان يبدو في وجهه التشكك في كل شيء، في حياة الفكر والعقل والدين، وكان مثله كمثل السائح الذي لم يهتد بعد إلى الطريق.
وكان قد كتب الفصول الأولى من «كتاب خالد»، فقرأ لي بعضها، فأعجبت بما جاء على لسانه من وصف أحوال صديقه شكيب، ثم شرح لي مشروعه في تأليف رواية تمثيلية باللغة الإنكليزية يكون بطلها الإمام علي، وكلمني عن تأثير صوت المؤذن في ذهنه، فعجبت من ذلك الذي هجر الشرق وسافر إلى أقصى بلاد الغرب، وأكثرها ازدحاما واهتماما بالشئون الغربية، ومع ذلك فهو لم ينس أدق الإحساسات الشرقية.
إن الذين قرءوا كتب الأستاذ الريحاني في مصر قليلون، ولكن هذا لا يقلل من قدرها؛ فقد كتب في النقش والتصوير مقالات تعد من أجمل وأبلغ ما كتبه الناقدون. ولا غرابة؛ فإن الأستاذ الريحاني اختار لمشاركته في الحياة نفسا امتازت بإدراك أسرار الجمال وتكوينها، ونقلها إلى عالم المادة بفضل الألوان.
عرفت أمينا وهو لا يحسن اللغة العربية تكلما، فضلا عن كتابتها؛ لطول الشقة بينه وبين وطنه الأصلي، وقدمت له نسخة من أول كتاب ألفته، فنظر فيه ثم قال لي: سأضع أنا أيضا كتبا باللغة العربية. ولم يكن أمين ممن يعدون ويخلفون، أو يعزمون فيترددون؛ فإنه بعد بضع سنين قضاها زاهدا منقطعا عن الناس في صومعته بوادي الفريكة أخرج للعالم العربي كتابا من أجل الكتب، ألا وهو الريحانيات - الذي طبع منه جزءان وباق تحت الطبع مثلهما - فأثبت بكتابه هذا أنه قد بر بوعده، وأتقن لغة القرآن إتقانا يسمح له بالتحرير، فيجاري أكبر الكتاب أسلوبا وسلاسة وسلامة منطق.
أما عن الأفعال فحدث ما شئت؛ فهو مبتكر ومخترع. إن في مصر الآن مئات من أغنياء الأمريكان السائحين نراهم في الطريق، ونمر بهم غير مكترثين - وقد يكون بينهم ملك الحديد أو الفولاذ أو الذهب - ولكنا نكترث ونهتم لرجل قد لا يملك فولاذا ولا حديدا ولا ذهبا؛ لأنه وإن كان لم يمنح قوة المال، فقد منحته الطبيعة قوة امتلاك العقول.
رأيت الريحاني في تلك السنة مع شوقي بك، وكلاهما قصير صغير البدن، ولا غرابة؛ فقد امتاز النوابغ بصغر الأجسام، وكبر العقول.
نعوم بك شقير مقاطعا: نريد أن نعلم هل هذه الصفة قاصرة على الرجال أم تشمل النساء أيضا؟
الخطيب مستمرا: لقد وضعني نعوم بك شقير في موقف حرج، وها أنا أرى السيدات ينظرون إلي مترقبات ذلك الجواب الذي فيه فصل الخطاب.
حقا، له الحق أن يقاطعني؛ لأنه رجل عظيم وطويل القامة أيضا، فهو يطالب بحقوق طوال النجاد.
فجوابي له: إن هذا الوصف وإن كان قاصرا على الرجال، فإنه لا يشمل النساء؛ لأن النساء عظيمات، طويلات كن أو قصيرات، فليس لنبوغهن شرط ولا قيد.
أعود إلى صديقي المحتفل به وأقول: إنما يكرم لأجل فكره وعقله، لا لأجل سبب آخر. وهذا دليل على أن الشرق - ولا سيما مصر - دائما تتعطش لتقدير النبوغ والاحتفال به؛ فرجل واحد عظيم قدير على إصلاح أمته. (2) الحفلة الثانية في منزل سليم أفندي سركيس
كان بعد ظهر السبت «4 فبراير سنة 1922» موعد حفلة الشاي التي أقامها حضرة الكاتب المعروف سليم سركيس أفندي، في منزله بمصر الجديدة؛ إكراما للكاتب الكبير أمين الريحاني أفندي، نزيل أميركا وضيف مصر الآن. وقد كانت الحفلة - كسائر حفلات سركيس - مجلى الأنس والظرف، ومظهر الذوق السليم، والأدب الصحيح، كما كان صاحبها على مألوف عادته خير صلة للتعارف بين أدباء مصر والشام وأميركا؛ فجمع في منزله حول المحتفل به طائفة كبيرة من أدباء القطرين ووجهائهما، نذكر منهما: الأميرين ميشيل وحبيب لطف الله، وأحمد زكي باشا، ومحمد المويلحي بك، وأمين واصف بك، ونعوم شقير بك، وأحمد حافظ عوض بك، وداود بركات أفندي، والأستاذ لطفي جمعة، وخليل مطران أفندي، وأيوب كميد أفندي، وأنطون الجميل أفندي، وسقراط بك سبيرو، وأميل زيدان أفندي، وطعان بك العماد، وإسكندر مكاريوس أفندي، وسليم حداد أفندي، وسليم المشعلاني أفندي، وإلياس عيسادي أفندي، وبعض السيدات.
وبعد أن أخذ رسم الحاضرين الفوتوغرافي، انتقل المدعوون لتناول الشاي في قاعة الطعام، وقد أثقلت موائدها بألطف أنواع الحلواء والأثمار والأزهار، وكان للخطباء جولة تشهد لهم بطول الباع في ضروب البلاغة وشئون الاجتماع، فافتتح الحفلة صاحب الدار بكلام شهي طلي رحب فيه بالضيف الكريم، وبالمدعوين الأفاضل، وتلاه الأستاذ لطفي جمعة المحامي، فتكلم عن الريحاني وبداية عهده به يوم كان يتلمس الطريق إلى المثال الأعلى، وقد لقيه اليوم وقد وجد ذلك الطريق، وسار فيه شوطا بعيدا في أشد البلاد تزاحما على الحياة، وأفاض الخطيب في وصف الداء القتال الذي يقضي على مواهب الشرقيين؛ وهو عدم قدر مواهب الرجال قدرها في شرقنا.
2
وخطب كذلك الشاعر الكبير خليل مطران، فأظهر ما للريحاني من الفضل بنقله إلى الغرب آداب الشرق، وتعريفه الأنجلوسكسون بفضائل الإسلام - وإن لم يكن مسلما - فحق للشرق أجمع أن يشكره على خدمته الجلى.
ودعي حضرة داود بركات أفندي إلى الكلام، فقال للريحاني: إن التاج الذي عقدته على جبهتك بأعمالك لم يتم؛ فالذي عملت لا يذكر بالنسبة إلى ما بقي عليك عمله، فإن مصر ولبنان والشام وسائر أقطار الشرق عرضة اليوم للمطامع المختلفة، فكن أنت في الغرب محاميا مدافعا عن الشرق حتى تفي بدينك للشرق الذي أنبتك.
وكان لسعادة العالم أحمد زكي باشا كلمة ضافية في الثناء على ضيف مصر الذي أذاع فضل الآداب الشرقية في الغرب، واستطرد إلى ذكر العرب ومفاخر الإسلام مستشهدا بالأدلة التاريخية والحجج العمرانية.
فقام أمين الريحاني أفندي وشكر أصدقاءه وإخوانه على احتفائهم به.
وانصرف الحاضرون وهم يشكرون لسركيس أفندي، ولحضرة قرينته الفاضلة، وكريماته الأديبات ما لقوه في دارهم من الإكرام والحفاوة وحسن الضيافة. (2-1) خطبة سليم أفندي سركيس
الأصدقاء في «بورصة» الحياة هم النقد الحقيقي، وإنما الفقير من لا أصدقاء له، ثم إن الله جعل الأقارب كالجلد من جسد الإنسان لا سبيل إلى نزعه، أحسن أو أساء. وأما الأصدقاء، فإنهم كالثياب نحرص على الحسن منها، ونخلع الرث البالي. ولحسن حظي، كان أمين الريحاني صديقا لي منذ أكثر من 20 سنة، فتحول الآن إلى قريب؛ لأنني لم أجد في صداقته الطويلة ما يستوجب نزع ذلك الثوب القشيب، بل كان من سلامة تلك الصداقة، وارتقاء هذا الصديق في مراتب النبوغ، أنني صرت أفتخر بأنني - في مصر وسورية وأميركا نفسها - كنت ولا أزال أول صديق للريحاني الشاب، وأول صديق للريحاني الرجل، وأول صديق للفيلسوف الذي نحتفل به الآن، كما احتفلت به أميركا. فعلى الرحب والسعة أيها الصديق. (2-2) خطبة داود أفندي بركات «رئيس تحرير الأهرام»
يطلب مني حضرة الداعي الكريم سليم أفندي سركيس أن أقول كلمة في هذا الاجتماع الأدبي الشائق، الذي نحتفي فيه بأديب من أدبائنا الذين يحكمون الآن روابط الشرق بالغرب، ويخرجون من كنوز المدنية العربية جواهر يحلون بها جيد الآداب والعلوم.
ولو لم يكن علي لسركيس أفندي دين كبير لا مندوحة من وفائه بما يرضيه - وهذا الدين تشريفي بالاجتماع بكم، وبالاستفادة من حكمكم ودرر أقوالكم - لمكثت صامتا أسمع وأتعلم، ولمكثت في مخبئي أتغطى عن العيون والأنظار بظل السكوت؛ فإن لم أستطع أن أؤدي لسركيس أفندي ما يعادل دينه، فتلك جنايته على نفسه وعلي أيضا، ومن الحب ما يؤذي المحبين.
يقول لكم سركيس أفندي: إنكم تحبون بلا شك أن تسمعوا ذلك الذي يخاطبكم كل يوم من على قمة «الأهرام»، ولكن هذا الذي يخاطبكم كل يوم ما جرؤ أن يستخدم كلمة «أنا» لاعتقاده بضآلتها؛ فهو يغرقها ويواريها في ذلك الخضم الواسع الذي نعبر عنه نحن - الصحافيين - بكلمة «نحن»، فترون فيها الباحثين والمحدثين والمرشدين جمة؛ فإن كان القول حقا، فهو راجع إلى ما اقتبس من المجموع، وإلا فإنا نتقي بها مغبة الزلل.
والآن، أوجه الكلام إلى أخينا أمين الريحاني لأقول له: إنك قد سمعت من الخطباء والأدباء كلمات المديح والإطناب بعلمك وعملك، فاسمح لأخ يجل عملك كثيرا أن يقول لك: إنك إذا كنت قد ضفرت لنفسك تاجا من الأدب، فإن في هذا التاج دررا يقدرها العلماء والأدباء حق قدرها، ولكنك لا تزال في سن الشباب، ولا يزال في ذلك التاج مكان لدرر أخرى قد تكون أغلى وأثمن مما رأينا فأعجبنا.
فاعمل وجد لتتم تاجك وإكليلك، وتذكر أن عليك دينا آخر لا مندوحة لك عن وفائه، ذلك الدين هو وفاؤك لوطنك، وخدمة هذا الوطن الذي أنبتك؛ فقد تذكر الوادي والجبل والسنديانة والنبع والعين، فتذكر - كما نحن نذكر - أن من هناك استمدينا مطلع الحياة، وأن الأرض بما رحبت وبما تجلى فيها من عظمة لا تحول عيوننا ولا قلوبنا عما انفتحت عليه العيون للنظر، والقلوب للشعور والإحساس.
أفلا تسمع أيها الأخ صوت لبنان بكل كلمة نقولها؟
ألا تلمح من ذكراه هدير النهر، وخرير الماء، وحفيف الشجر، ولمع البرق، وقصف الرعد، وجلالة الطبيعة، وجمال الإخاء والحنو والعطف من كل شيء، ومن كل إنسان؟
إن وادي الفريكة أنبتتك، فهي وما ناوحها من الآكام والجبال، وجاورها من الأودية، أم رءوم لا يرضيها إلا أن تكون الابن البار.
ذلك وطنك الصغير، ولك ولنا الوطن الكبير، وهو الشرق، وفي غرة هذا الشرق وجبينه مصر التي تقف منه كالمنارة؛ فإن أضاءت أرسلت نورها إلى الشرق كله شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا. وهذه المطامع تتجاذبها وتتجاذب الشرق كله؛ فارفع صوتك، ولنقل جميعا عند رفع الصوت بالحق كلمة الطحان الألماني - الذي طمع الملك فردريك بطاحونه ليوسع بها حديقة قصره: لا أعطيك وفي برلين قضاة.
ففي العالم أحرار ومنصفون يسمعون صوتنا إذا كان هذا الصوت هو صوت الحق إلخ إلخ. •••
وقد تخلف عن حضور هذه الحفلة الشائقة من المدعوين: الأستاذ الشيخ عبد المحسن الكاظمي، الشاعر المطبوع؛ فأرسل معتذرا بالأبيات الآتية:
إليك سركيس عذر المدنف العاني
عذر المطرق في سر وإعلان
ليت الضنى تاركي أو ليت لي جلدا
يعينني فأؤدي فرض إخواني
حي الأمين وحي كل محتفل
يرى الأمين وطرفاه قريران
بعثت روحي إليكم حين أقعدني
عن القيام بذاك الفرض جثماني
قالوا سلا والصحاب الغر في طرب
وكيف أسلو أمينا وهو ريحاني
لبنان جادت علينا بابن بجدتها
وكم للبنان من فضل وإحسان
عسى تعود الليالي والهزار فمي
والروض روضي والأغصان أغصاني
إني لأحسد قوما ينعمون به
إن الضنى أبدا يسعى لحرماني (2-3) خطبة أمين أفندي الريحاني
لا أذكر يوما في حياتي الفكرية، يا سادتي، قدمت فيه الانتساب الديني على الانتساب الوطني. لا أقول ذلك فخرا ولا اعتذارا، إنما هي الحقيقة في مبدئي وسلوكي. وقد أكون مخطئا في تقديمي الوطن على الدين، ولكنني متيقن أن حجة بعد الموت لأكبر حجة، أما حجة الحياة - وهي حجتي - فهي عقلية أدبية تاريخية فلسفية، فإذا كان العقل والأدب، والتاريخ والفلسفة تضلل الناس، فإنا إذن من الضالين في هذه الدنيا، ومن المغضوب عليهم في الآخرة.
ولكني وإياكم في دائرة واحدة، وإن تعددت طبقاتها، وعلي كما عليكم مسئولية واحدة، وإن تعددت أسبابها، فالأدب الحق إنما هو دين هذا الزمان، والأدباء الحقيقيون هم كهنته وأئمته.
وبما أن الأدباء المصريين والسوريين هم الحلقة التي تصل الشرق بالغرب؛ فالمسئولية عليهم أشد منها على سواهم، ولا بد من هذا الاتصال، يا سادتي؛ لأن عوامل التضامن اليوم، اقتصادية كانت أو علمية، أشد منها في كل زمان، ولا تستطيع أمة أن تستغني تماما عن بقية الأمم.
أما الصلة القوية الدائمة، الصلة الذهبية الصافية، فلا ينبغي أن تكون سياسية ولا دينية، بل أدبية علمية فلسفية، واقتصادية أيضا؛ فمن مدنية الغرب تجيئنا مثلا العلوم الكونية الحديثة، وإلى مدنية الغرب نتقدم نحن الشرقيين بالحي السليم الدائم من علومنا الروحية. وإن في مثل هذا التبادل الرقي الحقيقي، بل فيه تصل الأمم إلى أعلى درجات التمدين.
ومن جهة خصوصية، أرى أن على الأدباء السوريين مسئولية كبيرة تجاه الكمالات العقلية والاجتماعية. والحق يقال: إن أدبنا يظل ناقصا إذا كان لا يمزج بشيء من الأدب الإسلامي، والعكس بالعكس؛ فإن الآداب الإسلامية العربية لا تستمر حية نامية، عزيزة راقية، إلا إذا امتزجت بشيء من الآداب الإفرنجية. وفي هذا الامتزاج، يا سادتي، كنه الحياة الجديدة التي ستكفل للأمم الشرقية استقلالها التام، وترفع شأنها بين الأمم المتمدنة. (3) الحفلة الثالثة في منزل برسوم أفندي روفائيل وحضرة السيدة قرينته صاحبة مجلة المرأة المصرية
أقام بعد ظهر الاثنين «6 فبراير سنة 1922» حضرة الأديب برسوم أفندي روفائيل، وحضرة السيدة قرينته، بلسم عبد الملك، الكاتبة الشهيرة وصاحبة مجلة «المرأة المصرية»، حفلة شاي، في منزلهما بشارع العزيز بشبرا؛ تكريما لحضرة الكاتب الفاضل أمين أفندي الريحاني، فلبى دعوتهما فريق من رجال الفضل والأدب، وحملة الأقلام وأرباب الصحف العربية.
ولما كمل عقد المدعوين دعوا إلى تناول الشاي، فجلسوا إلى مائدة مزينة بالأزهار والرياحين، وعليها ما لذ وطاب، فأكلوا هنيئا، وشربوا مريئا. ونهض حضرة الدكتور منصور فهمي، وخاطب حضرة المحتفل به بكلمات طيبة، ثم وقف رب الدار وألقى كلمة بليغة خاطب المحتفل به، وأبان ما له من الأيادي البيضاء في خدمة العلم والأدب؛ فقوبلت بالتصفيق.
وعقبه حضرة الأستاذ الريحاني أفندي، وبعد أن شكر الداعين والمدعوين تكلم عن المرأة وما لها من التأثير الحسن في تربية أولادها، مما لا يلقن في المدارس ولا يجمع في كتاب، وشرح كيف أن الطفل في الحقيقة هو مربي الأم؛ فقوبلت أقواله بالإعجاب. ثم انتقل المدعوون إلى قاعة الاستقبال وجلسوا يتجاذبون أطراف الأحاديث - والحديث شجون - وانصرفوا وهم يثنون على حضرة برسوم أفندي والسيدة قرينته؛ لما لقوه من الترحيب والتكريم. (3-1) خطبة برسوم أفندي روفائيل
أستاذي الريحاني
إلى روحك الطيبة التي سطعت شمسها فيما وراء البحار في الدنيا الجديدة، وأرسلت أشعتها المحيية إلى وطنها الأول في الشرق، فبعثت روح الرجاء، وحركت العواطف النائمة من مراقد الغفلة، نرفع تحية عاطرة خالصة، ونرحب بك ترحيب الشرقي بأخيه الشرقي، وأنت في وطنك الثاني «مصر» بين إخوان تجمعهم وإياك صلات الأدب وصلات الوطن أيضا.
فقد كانت مصر وسوريا أختين في حياتهما الطويلة، وطالما اجتمعتا وتفرقتا واحتملتا آلام الشقاء، ومازالت توجد بينهما اللغة والعواطف والتذكارات التاريخية التي لا تمحى.
إنك أرسلت «الريحانيات» - وهو حسنات الآداب في هذا الزمان - كتابا أوحى به إليك روح الفلسفة القديمة، الذي لبث يرفرف فوق وديان لبنان من القرون الغابرة، يبحث عمن يودع في روحه نور الحكمة القديمة ، ويفيض على نفسه روح الخلود، حتى رأى ذات يوم فتى ممتلئا حياة وقوة، ورأى فيه مخايل المجد العلمي والفلسفي للشرق، فهبط إليه، وأسر لقلبه سر الحكمة.
لقد كان الفتى يداعب العصافير المزقزقة «في وادي الفريكة»، «ويهتف لها»: أي طيوري الصغيرة، لو تعلمين ما في قلبي من العاطفة لما فرت أسرابك خيفة مني. إنني لا أحب الأذى، إنني أريد أن ينتشر السلام والإخاء والحب بين الناس، وأريد أن تعيش الطيور أيضا بسلام.
فما أسمى روحك وعواطفك يا أمين!
أتعرفون، أيها السادة، من هو ذلك الفتى؟ إنه فيلسوف وادي الفريكة، هو موضع احتفائنا وتكريمنا اليوم، هو الفيلسوف الكاتب الشرقي المتواضع صاحب التآليف القيمة باللغتين العربية والإنجليزية، وهو خير ممثل للنبوغ الشرقي في العالمين الأميركي والأوروبي: «أمين الريحاني».
سادتي:
ضاق وطن الريحاني بروحه الكبيرة، ولم يجد في وطنه منفسحا لمداها الواسع، فوثب بها وثبة إلى ما وراء البحار، وهناك بين أبناء سوريا الأمجاد أهل النجدة، أخذ يملأ الصحف والمجتمعات والأندية بما أودعه فيه الروح من الحكمة والفلسفة، وحمل لواء لغة الضاد، وأخذ يسير في طليعة مواكبها في تلك البلاد الأعجمية، حتى عشق فيها القلوب، وحبب فيها النفوس.
أيها السادة:
إن أمين الريحاني علم من أعلام الشرق الذين وضعوا بجهادهم الشريف الصامت أساس مدنيتنا وتضامننا الحديث، فحيوا في نفسه الكبيرة الطاهرة هيكل الفلسفة المقدس، حيوا السلام والفضيلة.
وإني لأنتهز هذه الفرصة لأقدم إليه، وإلى مقامكم الكريم، تحيات السيدة عقيلتي، وتحياتي على تنازلكم بقبول دعوتنا، وتشريف دارنا، كما أننا نتمنى لفيلسوفنا العظيم طيب الإقامة تحت سماء النيل الصافية، وعلى شاطئه السندسي. والسلام. (3-2) خطبة أمين أفندي الريحاني
في تطور المرأة الغربية محاسن لا تنكر، أريد أن أشير الآن إلى واحدة منها، بل إلى ما أظنه أهمها؛ وهو علم التربية.
فالتربية الحقة عندهن مبنية على الآية: إن أبناءنا أصدقاءنا؛ أي إن السيادة الأبوية لا تتجاوز حد العقل والحكمة، وتنحصر كلها في مصلحة البنين.
وهذا النوع من التربية لا يلقن في المدارس، ولا في الكنائس، ولا في الاجتماعات العلمية، وليست أصوله محصورة في بطون الكتب، ولا في صدور الحكماء؛ إنما هو قائم بمراقبة الأولاد، ودرس أخلاقهم وأذواقهم وأمزجتهم وأطوارهم وميولهم، وتكييف التربية عليها، فالأولاد أنفسهم يعلمون الأمهات التربية.
أجل، إن الأمهات العاقلات الحكيمات يتعلمن كثيرا من بنيهن، فينفعنهم فيما يتعلمن عملا، مثال ذلك: إذا سأل الولد سؤالا، وكانت الأم تجهل الجواب، فلا ترد ابنها خائبا، ولا تضحك عليه بجواب كاذب، بل تبحث عن الموضوع، فتستفيد هي أولا وتفيد، وإذا كسر الولد لعبة تعلمه أمه إصلاحها، وإذا أضاع شيئا تحرمه من مثله إلى أن يقتصد من مصروفه اليومي ثمنه.
كذلك تعلمه البناء لا التخريب، تعلمه المسئولية ونتائج الإهمال، تعلمه الشجاعة والصبر وشظف العيش، تعلمه الاعتماد على النفس، تعلمه الإرادة والثبات والإقدام، تعلمه حب الوطن قبل كل شيء، وتعلمه فوق ذلك حرية القول وحرية العمل.
أجل سادتي، إن هنالك حرية أكبر من حرية المرأة وأعز، وهي الحرية التي توجدها المرأة في بنيها، وإن حب العلم نغرسه في قلوب البنات خير من العلوم والفنون نكرسها كرها في عقولهن، فإذا رغبت الفتاة بالعلم علمت نفسها المفيد لها كزوجة وكأم، وانتفعت عملا بعلمها، وإذا كانت لا تحب العلم، فعشرون سنة في المدارس لا تعلمها شيئا.
كانت ولم تزل التربية من واجبات المرأة، ولكن التربية الحديثة من حسنات تطورها، وغرس حب العلم في قلوب البنات - خاصة - من أهم قواعد التربية.
لا أريد بالعلم العلوم العالية أو الفنون السامية، بل المعرفة العقلية بأمور الحياة، بل التعود على البحث والاستقراء والتفكير والمراقبة، وكل هذه تؤدي بنا إلى العلم بالأمور والأشياء علما نستفيد به ولا ننساه، وشيء تخبره بنفسك ويرسخ في ذهنك خير من أشياء تتعلمها في الكتب، فإذا اقتدت المرأة الشرقية بالمرأة الغربية في ذلك فقط، نستغني عن العلوم الفلسفية والرياضية والسياسية كلها. (4) الحفلة الرابعة في منزل إلياس أفندي زيادة صاحب جريدة المحروسة
دعا في مساء اليوم «الجمعة 10 فبراير سنة 1922» إلياس أفندي زيادة، صاحب جريدة «المحروسة»، جمهورا من الفضلاء والكتاب والشعراء إلى حفلة شاي أقامها في منزله، بشارع المغربي؛ للاجتماع بحضرة الكاتب الشهير أمين أفندي الريحاني، والاشتراك في تكريمه، فأقبل المدعوون في الموعد المعين، وكانوا يقابلون بالترحيب، فكانت حفلة شرقية توافرت فيها أسباب السرور والصفاء. وبعدما استقر بهم المقام، وتبادلوا التحيات، وتجاذبوا أطراف الحديث، أديرت عليهم الحلوى والشاي من «بوفيه» فاخر.
ثم وقفت حضرة الكاتبة الشهيرة، الآنسة «مي»، كريمة صاحب الدعوة، فخطبت خطبة بليغة أجادت فيها ما شاءت الإجادة، فوصفت المحتفل به في شعره ونثره، وخدمته للشرق والأدب الشرقي، وصفا شمل «وادي الفريكة» الذي خلده بشعره ونثره، فأعجب السامعون بحسن بيانها، وثبات جنانها، ومقدرتها على إبراز المعاني السامية في قوالب البلاغة العربية التي تأخذ بمجامع القلوب، فكانوا يصفقون لها استحسانا، ويكررون عليها الثناء.
وألقى حضرة الشاعر البليغ أسعد أفندي خليل داغر أبياتا رقيقة في مدح الريحاني والآنسة مي، جمعت بين رقة العاطفة ومتانة التركيب. وتوالى الخطباء؛ وهم حضرات الأفاضل: أحمد حافظ عوض بك، والدكتور منصور فهمي، وداود أفندي بركات، والدكتور فارس نمر، فتكلموا بموضوع الحفلة، وأفاضوا في نهضة الشرق، وتضامن شعوبه، منوهين بخدمة الريحاني للشرق؛ بنشر لواء آدابهم في عالم الغرب، وتمنوا أن يكثر الله من أمثاله لخير الجميع، فقوبلت أقوالهم بالاستحسان والتصفيق.
وكان مسك الختام كلمة رقيقة للمحتفل به، أشاد فيها بفضل الكاتبة الشهيرة مي على الأدب الشرقي، وشكر الجميع على ما يلقى من الحفاوة والترحيب، وبسط الكلام في نهضة الشرق وما يجدر بأبنائه في دور النهضة الحاضرة، فوقعت أقواله موقع الاستحسان والاعتبار.
وعاد المجتمعون إلى التحدث فيما كان موضوع خطب الخطباء، وأصحاب الدعوة يبالغون في تكريمهم، ثم خرجوا مودعين رب البيت، وحضرة قرينته الفاضلة، وكريمته النابغة، شاكرين ما لقوا من الكرم والإكرام، متمنين أن تكثر مثل هذه الاجتماعات لتوثيق عرى الألفة بين أدباء الشرق، وتنشيط النهضة الشرقية. (4-1) خطبة الآنسة مي
أيها السادة:
من رقيق العادات أن القوم إذا نزل عليهم عزيز جاءوا بأصغرهم سنا وشأنا يهدي إلى الضيف الأزهار، ويلقي بين يديه كلمات الترحيب، كأنهم بذلك يقولون للزائر: إننا نقدر قدومك تقديرا يعجز دون وصفه الكبير فينا، وإنما نقدم لك الطفل اعترافا بهذا العجز، ودلالة على أن الكبير عندنا والصغير سواء في الشعور بالاغتباط والامتنان.
وعلى هذه العادة جرى أبواي فقدماني - أنا أصغر أعضاء البيت - لأشكر لكم تشريفنا بحضوركم، ولأرحب بكم بالكلمة العربية البسيطة التي لا يزيدها الاستعمال إلا عذوبة وجمالا: أهلا وسهلا. لقد جئتم أهلا، وأرجوكم أن تتناسوا طول السلم؛ ليتسنى لي أن أضيف: ووطئتم سهلا.
ولكن لا بأس بالصعوبة أحيانا، وأكاد أقول: إن قيمة الأعمال تقدر بالتغلب على المصاعب، ولا بأس بشيء من التعب للاحتفاء بمن هو بالاحتفاء حقيق. ليس غرضي هنا التنويه بأمين أفندي، والإشادة بذكره - وهو أمر ما فتئ يقوم به رجالنا الأفاضل من مصريين وسوريين منذ أن حل مترجم المعري بوادي النيل - غير أني ما ذكرت الريحاني إلا ذكرت أنه كان جليسي يوم كنت أتلقن اللغة العربية على نفسي، أتلقنها على حبي لهذه اللغة التي أباهي بأني لم أدرسها على أستاذ. كان جليسي في «الريحانيات»، وقد كانت «الريحانيات» من الكتب الخمسة أو الستة التي عرفتني باتجاه الفكر العربي الحديث في صيغتي الشعر والنثر.
استهل الجزء الأول من «الريحانيات» بمقال وصف فيه مسقط رأسه «وادي الفريكة»، ذلك الوادي الذي أحبه، وتغنى بمحاسنه، راسما منه الصخور والأشجار والمرتفعات والمنحدرات والألوان والأصوات، مصورا ما أحاط به من الجبال المتعانقة عناقا أبديا تحت رعاية الأفق المخيم عليها، مستحضرا منه المياه المتدفقة، والرياح العاصفة، والشمس المشرقة، والكوكب المتلألئ.
يا لجمال روح الريحاني في مقال «وادي الفريكة»! قال «رسكن»: «إن جمال المشاهد الطبيعية كثيرا ما يقوم بما مر عليها أو وقع فيها من حوادث تاريخية أو فردية.» كذلك تشبعت عندي جميع صفحات الكتاب بحياة من «وادي الفريكة»، وصرت كلما قرأت فصلا خلته مكتوبا في ذلك الكهف، أو تحت تلك الشجرة، أو عند ذلك الغدير.
وأرى الريحاني سائرا في معاطف الوادي تحت سيول الأمطار، هائما بالطبيعة في انفعالها وغضبها، طربا لتساقط الأوراق، متسائلا عمن فتح تلك الطريق الصغيرة بين الأشواك والأدغال، ومطلقا عليه اسم «بطل الوادي »، ثم يقف متفهما معنى السكينة بعد العاصفة، متنشقا بنسمة واحدة خليط أنفاس الوادي.
صرت أحسب «وادي الفريكة» هيكلا يأوي إليه الريحاني ليتأمل ويبحث ويفكر - والفكر صلاة الفيلسوف، على رأيه - حتى إذا ما كشر المجتمع عن أنيابه ليؤلمه وينسيه لحظة الجمال والحقيقة والصلاح، حتى إذا ما أوجعته الصغائر وأمضته الجراح، سأل الوادي تعزية، ودوزن قيثارته مناديا ربة ذلك الهيكل الطبيعي قائلا: داويني ربة الوادي داويني، اغسلي جرحي وضمدي كلومي، أعيدي إلي ما سلبتني الآلام من مجد الحياة الشعرية، وأزيلي عن أجفاني كآبة الأجيال. داويني ربة الوادي داويني، ربة الإنشاد أصلحيني.
كان ذلك في أواخر صيف سنة 1911، وكنا مصطافين في لبنان، فأفضيت إلى أديب هناك بأثر «الريحانيات» في نفسي، وكيف أن ذلك الوادي غدا لي شيئا حيا يتحرك ويندب، ويهلل ويزمجر، ويهينم ويحيي ويودع، فقال الأديب: إذن لماذا لا تزورين الوادي وهو على مقربة من هذا المكان، وأمين ريحاني وصل حديثا من أمريكا، ويقطن منزله المشرف على الوادي وقد دعاه «بالصومعة»؟ وكان ذلك الأديب من أصدقاء شاعرنا، فكتب إليه.
وكان الجواب أن بعد ظهر الغد زارنا أمين الصومعة مع شقيقتيه الفاضلتين وبعض أنسبائه وأصحابه، فرأيت بالجسم للمرة الأولى ريحاني الوادي هذا الذي تبصرون.
ومضيت إلى «الفريكة» بعد يومين أو ثلاثة مع والدي وبعض الأدباء، فرأينا هناك المكتب الذي يكتب عليه، والنافذة المطلة على البحر البعيد، وقد خيمت فوقه روعة الغروب، ورأينا والدته الجليلة. تعلمون أيها السادة أن أمين أفندي واسع حر في مسألة الدين؛ أي إنه يوحد جميع الأديان في أخوة رفيعة سامية.
أما والدته فصائمة مصلية زاهدة متعبدة، تكثر من قرع الصدر، وتكثر التردد على الكنائس، ولعلها تبتهل إلى الله دواما أن يرد ولدها الضال إلى حظيرة التوبة.
وزرت جانبا من الوادي متلمسة خطوط الصخور والأشجار، متلمسة هينمة النسائم وهدير النهر المهرول إلى حضن البحر. زرت جانبا من الوادي وعندئذ فهمت عظمة التفوق الفردي الذي ينيل الجماد حياة، ويجعل المكان المجهول محجة للزائرين، عندئذ فهمت عظمة التفوق الفردي الذي قد يثير من الكره والتطاول والعداء بقدر ما يثير من الإعجاب والصداقة والإخلاص، ولكنه يهز الأفراد والجماعات هزا، ويحدث فيهم يقظة محتومة، عندئذ فهمت عظمة التفوق الفردي المتجلي وحده فريدا بأسباب سعادته وشقائه، فوق فروق المراتب وروابط الحسب، فتنحني أمامه جباه المكابرين والمسالمين.
ومرت عشرة أعوام والريحاني يشتغل في الغرب بعيدا عن بلاده، وكلما نشر كتابا أو مقالا ذكر أصدقاءه في الشرق، فبعث إليهم بنفثاته، وكنت كلما قرأت منها شيئا عاودتني تلك الذكرى الأولى التي بسطتها الآن أمامكم.
فيا ريحاني الوادي، إن نحن احتفينا بقدومك مرحبين، كل منا بأسلوبه الخاص، فإنما نحتفي بنفسنا الشرقية، وبما يتحرك فيها من وراثة سحيقة، ويهيجها من ذكريات العز الماضي، وآمال القدم المنشود.
بالأمس قطعت فينيقيا البراري، وخاضت البحار مشيدة على الشواطئ القصية المدائن والعواصم.
بالأمس كانت مصر معلمة العالم تلقي عليه دروس الشريعة والإدارة والهندسة والفلسفة الروحانية الخالدة.
بالأمس فتح سيف الإسلام القارات الثلاث ناشرا فيها حضارة أوجدها القرآن.
وكان الشرق إلى ذهب يرفع الجبهة ويناجي الشعوب قائلا: ها أنا ذا، جئتكم بمواهبي أستخدمها بنبل لمصلحة بني جنسي ومصلحة بني الإنسان.
ومما نفاخر به اليوم ويبعث الأمل فينا: أن منا أفرادا يقفون في بلاد المشرق والمغرب عالي الجبهة، لا يكذبون وراثتهم الشرقية، ويتغلبون على أنانية الجماهير الحيوية، قائلين ما قالته بالأمس فينيقيا ومصر والعرب: ها أنا ذا، جئتكم بمواهبي أستخدمها بنبل لمصلحة بني قومي ومصلحة بني الإنسان. (4-2) قصيدة أسعد أفندي خليل داغر
بين مي وأمين شبه
في ذكاء ونبوغ وإجاده
ولكل منهما الحق إذا
ما ادعى فيها على الغير السياده
وعجيب أن كلا منهما
ليست الدعوى - وإن صحت - مراده
منكر ما هو معروف به
وعليه ثبتا ألف شهاده
وإلى الآخر كل مسند
حق تهذيب ونفع وإفاده
فهي قالت عن أمين أنه
خير من شرف في الغرب بلاده
وأمين قال عنها عندما
سألوه: هي مي وزياده (4-3) خطبة الدكتور منصور أفندي فهمي
أيها السادة:
كنت أود أن يقدر لي قراءة ما كتبه الريحاني من ضروب الكتابة الممتعة؛ ليكون لي من ذلك مادة صالحة للقول الطيب، على أنني أعترف بتقصيري لأني لم أقرأ ولم أمحص كتابات ذلك الفاضل الذي به نحتفل.
ولكن منذ بضعة أيام دعتني السيدة صاحبة مجلة «المرأة المصرية» لحفلة أقامتها للريحاني. لبيت الدعوة، وكان معي الصديق داود بركات وصديق آخر، ركبنا مركبة وقصدنا الدار التي إليها دعينا، وفي أثناء الطريق أخذ يتلو علينا الصديق الأخير قطعة نثرية للأديب المحتفل به من كتاب فيه مختار من أقوال عيون الأدباء.
كثيرا ما عودتني مهنتي في التدريس أن أجد شخصية القيمين من الكتاب والمفكرين كامنة في آخر كتاباتهم القصيرة. ولقد تبينت في القطعة التي سمعتها أسلوب العظمة الكتابية، وصفاء النفس، والروح الثائرة على النظم العتيقة.
شعرت بذلك وقلت في نفسي: لا غرابة إذا تعددت حفلات التكريم لرجل ذلك شأنه؛ لأننا في أمة راغبة في الحياة الراقية، متطلعة إلى الكمال، فطبيعي إذن أن يحتفل صفوتها بفرد من أهل ذلك العالم الكمالي، يتصل بوحي الأدب، ويمت إلى السماء بسبب.
وطبيعي أننا - ونحن من الشرقيين - نكرم كاتبا ظل محتفظا بشرقيته رغم طويل الزمن الذي عاش فيه نائيا عن الشرق، ولكن جعل من آلام الشرق وآمال الشرق إلى قلمه وقلبه رسولا.
يقولون: إن السيدات أقرب البشر إلى تذوق ما يوحى إلى النفوس الراقية من فكر كبير، وأدب سام. ولقد احتفلت سيدة من نحو خمسة أيام بالأديب الريحاني، واليوم أرى واسطة العقد من الاحتفال تلك الأديبة الكبيرة «مي».
الجنس اللطيف الذي هو أدنى إلى تذوق نتاج العواطف الرفيعة يجد عند الريحاني وفي أدبه تلك العواطف الرفيعة، ليمتع الله - إذن - ذلك الأديب الفاضل بالعافية حتى يفيض علينا من فضل ما أفاض الله به عليه من أدب راق؛ ليجعل له بيننا مدة مقامه مقاما محمودا. (4-4) خطبة أمين أفندي الريحاني
ما أنا إلا رمز لفكرة جميلة في النهوض هي فكرتكم، وآمالي في الارتقاء الشرقي هي آمالكم، وتشوقي إلى الكمالات الأدبية والاجتماعية هو شوقكم، والرمز - سادتي - ينبغي أن يناسب المرموز إليه شكلا وجمالا؛ فانظروا إلى هذا الشكل وهذه السحنة، ثم حولوا نظركم في هذا البيت العامر إلى كوكب في سماء الآداب نوره يسطع في كل مكان، إلى قوة أدبية جمعت بين الحقيقة والجمال، بين المعرفة والخيال، إلى من لا يعرفها في مصر وسوريا وفي المهجر - إلا من لا يحسن القراءة - إلى الآنسة مي.
إن لهذه الأديبة مولدين مثلي: فقد ولدت أولا في الناصرة، وقد قال فيها رينان: «بلاد الجليل أجمل ما في فلسطين.»
ثم ولدت روحيا في أجمل بلاد الله سماء وهواء وأنسا، في مصر، على ضفاف النيل، فجاء أدبها جامعا بين مزايا البلدين المستحبة بين الشموخ والانبساط، بين القوة والجمال، بين الرصانة واللطف، بين المتانة والرقة، بين الفكر والشعر.
أجل، إن للآنسة مي فيما تكتب عقل الرجال وعاطفة النساء. وهذا لعمري أسمى ما نرغب به من الأدب النسائي.
ولا ينبغي أن نذهب مذهب الغربيين في كل شيء، فنجرد حقائق الوجود - مثلا - مما يكتنفها من أثير الشعر والخيال، ومن أسرار الحياة والجمال. إن بلادنا لتوحي إلينا مثل هذا الأدب الممتاز - إذا أحسناه - المستمد من الشمس نورها وحرارتها، ومن السماء صفاءها وألوانها، ومن الجبال شموخها وتحدرها، ومن الأزهار شكلها وأريجها.
وإن الشعر في الحياة وفي الآداب هو هذا النور الذي يشع من الشمس، وتلك الألوان التي تتماوج في الشفق والغروب، وذاك الأريج الذي يفوح من الورد، وكذلك في حقائق الوجود والحياة، فإذا جردت من الشعر تصبح كالأزهار التي لا شذا لها، وكالثمار التي لا نكهة فيها، وكالعصافير التي لا تحسن التغريد.
على أن هناك اليوم نفرا من الأدباء؛ أدباءنا، يحاولون تجريد الشعر من الحقائق فينسجونه خيالا، وينظمونه أوهاما وآمالا، وكأنك في مثل أدبهم في عالم علوي، بل وهمي لا صلة له بالأرض وبحياتنا الدنيا. وهذا الأدب إذا استولى على أمة أمات فيها الإرادة للعمل، والإقدام على العمل، والقوة في العمل. ونحن - الشرقيين - في حاجة شديدة إلى ما يدفعنا إلى العمل، ولا يبعدنا من الشعر، والمرأة الشرقية بالأخص في حاجة أشد إلى ما يحملها على التفكير على الخروج من وكر الخمول إلى العمل، دون أن يقتل فيها الفضائل النسائية الشريفة. وإني أرى في أدب الآنسة مي ما يحقق من هذا القبيل كبير الآمال.
3 (5) الحفلة الخامسة في دار الجامعة الأمريكية
كانت حفلة الثلاثاء «14 فبراير سنة 1922» في دار الجامعة الأمريكية من أكبر الحفلات الأدبية التي شهدتها عاصمة الديار المصرية، تبارى فيها فرسان البلاغة في تكريم الشاعر الناثر أمين أفندي ريحاني، بل كانت من أعظم الأدلة على أن جامعة اللغة أشد الجوامع ربطا للنفوس؛ لأن اللغة مستودع تاريخ الناطقين بها - الأخلاقي والأدبي والعلمي والسياسي - وبألفاظها تهتز دقائق الدماغ وأوتار القلوب.
وقد تجلى ذلك بأجلى بيان في هذه الحفلة، فخلنا أنفسنا في سوق عكاظ، وقد أضيفت إليه نار الحماسة التي أوقدها تضارب المصالح بين الشرق والغرب، ومطالب المدنية الحديثة التي نشأت أصولها في هذا القطر، ثم انتقلت إلى الغرب انتقال الشمس. وكان ذلك البهو الواسع يدوي بتصفيق الحضور المتوالي كلما ذكر الشعراء والخطباء معنى مبتكرا، أو أشاروا إلى النهضة الوطنية الحديثة ولو إشارة طفيفة.
وقد لبى الدعوة - التي وزعت بإمضاء حضرة الأستاذ لطفي جمعة - إلى هذه الحفلة جمهور كبير من العلماء والفضلاء، وكبار الموظفين والأعيان، والمحامين والأطباء والمهندسين والأدباء وغيرهم، وبعض السيدات المصريات والسوريات، حتى ازدحم بهم ذلك البهو على سعته. وجلس في صدر المكان على منصة الخطابة حضرة المحتفل به، وإلى يمينه ويساره حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة والعزة: السيد عبد الحميد البكري، والشيخ محمد بخيت، والشيخ محمد شاكر، وحمد باشا الباسل، وواصف بك غالي، والأمير ميشيل بك لطف الله، والدكتور صروف.
وافتتح الحفلة حضرة الأستاذ لطفي أفندي جمعة بخطبة بليغة استرعى بها سماع المحتفلين، وخلب ألبابهم بما نثر عليهم من المعاني الحسان، ودلائل الغيرة الوطنية الجامعة لقلوب الناطقين بالضاد، مرحبا بالضيف الكريم ترحيب من طالع كتبه واستشعر روحه، وقال: إننا نحتفل به لفضله وعلمه وجهاده المجيد في إعلان فضل الشرق في الغرب.
ثم ذكر أسماء الذين كرموا في مصر من أفاضلها وشعرائها، وقال: ليست هذه بالمرة الأولى التي يكرم المصريون فيها النابغين. ووصف المحتفل به بما هو أهله، وقال: إنني قصدته وتعرفت به عند زيارته لهذا القطر منذ عشرين عاما، وكان أجرد أمرد لم ينبت الشعر في عارضيه بعد، بعينين حادتين، وأنف أقنى، وكيان صغير، وهو يتقد ذكاء وفطنة، فخيل لي وقتئذ أنه فرخ النسر، وأنه يتحفز للطيران. وقد كان من أمره بعد ذلك ما كان، فطار وحلق وحلق وحلق.
ثم أفاض في ذكر مؤلفاته وخدماته الجليلة في الشرق بقلمه، ووصف نثره ونظمه وصفا استرعى الأسماع، وتكلم عن مؤلفه الذي نشر فيه فضل المعري في الغرب، ونقل إلى لغة أهله بأفصح بيان حكمته وفلسفته، وكيف وثب وثبة الأسد للدفاع عنه، وتسفيه آراء حساده ومنتقديه، إلى ذلك من درر الألفاظ والمعاني؛ فوقعت أقواله وقعا عظيما في النفوس، وصفق له الحاضرون مرارا وتكرارا.
ثم تلا على الحاضرين تلغرافا من صاحب السعادة شوقي بك، يعتذر فيه عن الحضور باعتلال صحته، ويعد بإرسال تحية إلى المحتفل به.
وتلغرافا آخر بالاعتذار من حضرة صاحب العزة عرفان باشا.
ثم قامت حضرة الفاضلة السيدة لبيبة أحمد، رئيسة جمعية «نهضة السيدات»، فرحبت بالمحتفل به، وقدمت إليه مجموعة من مجلة السيدات، فتقبلها شاكرا، وتلاها الشاعر الكبير عبد الحليم أفندي المصري، فأنشد قصيدة عصماء عامرة الأبيات، فاستعاده الحاضرون أكثر أبياتها بين تصفيق المصفقين وهتاف المستحسنين.
ثم وقف حضرة الفاضل محمد أفندي عبد الرازق وتلا قصيدة لحضرة الشاعر فريد أفندي حداد بالإسكندرية.
وتلا حضرة الفاضل محمود أفندي عماد قصيدة عامرة صفقوا لها.
وتلا حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد عبد المطلب حكمة لحضرة صاحب العزة واصف بك غالي، العضو بالوفد المصري، فقوبلت بأشد الهتاف والتصفيق المتوالي.
وتلا حضرة الشاعر الفاضل محمد أفندي عبد الرازق قصيدة استعيدت أبياتها مرارا.
وتلا حضرة الفاضل أبادير أفندي بقطر كلمة نفيسة كان لها أحسن وقع في نفوس الحاضرين.
ثم نودي على حضرة الدكتور منصور أفندي فهمي لإلقاء كلمة، فحضر وتلا حكمة عن معاوية واعتذر.
ثم وقف حضرة الأستاذ الكبير الشيخ علي الزنكلوني وتكلم كلمة بليغة صفق لها الحاضرون مرارا.
ثم تلاه حضرة صاحب العزة نعوم بك شقير، فتلا قصيدة بليغة نالت الاستحسان واستعيدت أبياتها مرارا.
ثم وقف حضرة المحتفل به وشكر الحاضرين على احتفائهم به، ثم تكلم عن زيارته الأولى لمصر ومقابلته فيها للمرحوم قاسم بك أمين لما كان منفردا بالدعوة إلى تحرير المرأة، وفقيد الوطن المرحوم مصطفى كامل باشا، الذي كان وحيدا في الدعوة إلى استقلال بلاده.
قال: أما الآن عند زيارتي مصر للمرة الثانية، فقد ألفيت الأمة المصرية بأسرها من رجال ونساء تطالب باستقلالها، وعلى رأسها أبو الشعب الذي له في كل قلب منبر؛ ألا وهو صاحب المعالي زغلول باشا.
وهنا اهتز المكان بالتصفيق والهتاف المتواصلين، ولما ساد السكون شرع في تلاوة قصيدة منثورة على الحاضرين عن «الشرق»، فقابلها السامعون بالإصغاء التام، ولما فرغ من تلاوتها دوى المكان بالتصفيق والهتاف للمحتفل به ولمعالي سعد باشا.
ثم أعلن انتهاء هذه الحفلة الشائقة - وكانت الساعة السادسة والربع - فخرج الحاضرون - وكانوا مئات - وهم يتحدثون بمحاسن حفلتهم وما سمعوا فيها من غرر اللفظ، ودرر المعنى، متمنين أن تكثر هذه الحفلات المفيدة.
ولا مراء أن هذه الحفلات المتوالية جاءت مؤيدة لما هو مشهور في الشرق والغرب عن الكرم المصري، ولما بات معلوما؛ وهو أن جامعة اللغة أقوى الجامعات كلها. (5-1) قصيدة عبد الحليم أفندي المصري
طار خلف البحار صوت عريني
مطار الزئير من خفان
مثلما جلجلت زمازم للرع
د ولكن وقعه كالأغاني
وادق بالنهى يلث على الرو
ح حياة كالعارض الهتان
معجم معرب إلى شكسبير
ينقل المعجزات عن «سحبان»
عن ذكاء كأنه فجة الشم
س وعزم كنفثة البركان
عن فؤاد كأنه وضح الصب
ح ورأي صاف كصقل اليماني
قانص شارد الخواطر غوا
ص على الدر في بحار المعاني «أهل لبنان» أشركوا مصر في الفخ
ر وإلا اعتدت على لبنان
هو منا وحسبنا وطن الشر
ق فمصر وسوريا أختان
هو منا وإنما مصر روض
وكذا الروض منبت «الريحان»
فسلام عليك يا لجة «الأر
دن» لا زلت جمة الفيضان
وسلام عليك «يا شجر الأر
ز» ويا أرضه فكم تنجبان!
وسلام عليك يا أرض لبنا
ن ومجنى العلوم والعرفان
يا عرينا «للضاد» فيه لأشبا
لك زأر يصم سمع الزمان
سمع الغرب من بني الشرق صوتا
عربيا موفق التبيان
هاله أن يرى نبوغا جديدا
أسمر اللون في صغير الكيان
ليس وقفا على بياض نبوغ
فالنهى في النفوس لا الأبدان
وبنو السمر قبلهم ملكوا الأر
ض وساسوا الملوك من «ساسان»
وعليهم طال الزمان فملوا ال
مكث بين العروش والتيجان
وقضى الله أن يكونوا رعايا
وجرى حظهم مع الألوان
فعسى أن يدور دورته الده
ر فيهوي البياض في الدوران
ربنا إننا إليك رجعنا
يا سلاح الأعزال في الميدان
ربنا أنت للضعيف وللمظ
لوم والمستجير والحيران
ربنا ما نسيتنا غير أنا
ما لنا بالذي حملنا يدان
ربنا اصرف عنا عذابك واجعل
مخرجا للبلاد مما تعاني
ربنا أنجنا فإنك منجي «سفن نوح» من غمرة الطوفان
ربنا قد سمعت في اليم موسى
وسمعت الخليل في النيران
فاستجب دعوتي فإني من أر
ض عليها أثنيت في «القرآن» •••
أيها الباعث المعري من القب
ر وكيف استطعت رد الفاني
صيحة منك أرجعته كما كا
ن بصير النهى فصيح اللسان
أنت في صيحة بعثت «المعري»
فابعث المجد بين تلك المغاني
وإذا ما هتفت فاهتف بمصر
فهي دار القصاد والضيفان
نكرم النازل الغريب - ولا م
ن - ونطوي الإكرام بالنسيان •••
قم ومهد للشرق في الغرب وافتح
لبني الشرق مغلق البلدان
إن تحت الأقلام فتحا مبينا
فوق فتح السيوف والمران
أنت من أنت في السراة وأهل الم
ال والجالسين في الإيوان
أينال الأديب بالغابة الجو
فاء ما لا ينال بالصولجان
أينال الأديب ما لم ينله
برضى شعبه «أنو شروان»
شعراء الزمان أنتم على الفق
ر بأقلامكم ملوك الزمان
فارفع الشرق في ذرى الغرب وانشر
لغة الشرق في بني الإنسان
وأر الغرب أن فينا رجالا
رجحوهم في كفة الميزان
كل فحل يكاد يختطف الوح
ي بلا وقفة ولا استئذان
إن أدياننا لشتى فكوني
لغة الشرق وحدة الأديان
إن أوطاننا لشتى فكوني
لغة الشرق وحدة الأوطان
أنت مثل الأثير يا لغة الشر
ق فكوني اتصال قاص بدان
أنت نعم الرسول يا لغة الشر
ق وصوت الطبيعة الرنان
فلئن أنطق الحمام لغنى
عربي اللسان والوجدان
من يشأ أن يرى النوابغ منا «فأمين» يغنيهم عن بياني (5-2) قصيدة فريد أفندي حداد
تصباك ادكار الأولينا
وشاقك عظم مجد الأقدمينا
وراعك ما طوت منه الليالي
فكادت تحجب الصبح المبينا
نظرت إلى العلى فرأيت شمسا
تطل على عصور السالفينا
تشير بنانها بشعاع نور
إلى قوم أناروا العالمينا
تحييهم بمطلعها وتحيي
لهم في الشرق ذكرى الخالدينا
وسمت الغرب يغضي عن سناهم
كأن الغرب مهد النابغينا
فأطلقت اليراع على طروس
تسطر معجزات الناطقينا
نقلت بيان حكمتهم إليهم
وكنت بنقله الحر الأمينا
نثرت عليهم آيات صدق
عن العرب الكرام الظافرينا
بنثر فاق نثرهم وشعر
بليغ فاق نظم الناظمينا
جلوت لهم حقيقة ما أتوه
وما نبغوا به أدبا ودينا
لقد أوحى البيان إليك سرا
وكان على سواك به ضنينا
فيا ضيف الكنانة إن مصرا
تحيي اليوم مقداما أمينا
تحيي فيك آدابا وعلما
وتكرم مصر أوفى المخلصينا
شمائل باهرات لم يشبها
سوى عرفان قدر العاملينا
فجاهد في سبيل الشرق وادفع
برشدك عنه لوم اللايمينا
لعل الدهر ينصفه سريعا
معيدا فيه مجد الأولينا (5-3) قصيدة أحمد أفندي محرم
أعرفتها فشجاك من عرفانها
أن الزمان ابتز حسن بيانها
وقف الكلال بها على أوطانه
والشوق يحفزها إلى أوطانها
نفس طوت في الأربعين مراحها
ومشى المشيب يجر فضل عنانها
النفس ملكك والصبا لك قوة
تحمي المهيب الفخم من سلطانها
تلك الجنود وأنت صاحب دولة
ألقت إليك بسيفها وسنانها
راقب سيوف الله عند ضرابها
وأسنة الأقدار عند طعانها
لا تظلمن ولا تطش بك نزوة
فالنفس تلقى الحتف في نزواتها
واعمل لقومك والشعوب بأسرها
لك إن أمنت السوء من عدوانها
قوم الفتى في أرضه وزمانه
أمم الحياة بأرضها وزمانها
ساس الممالك معشر جمحت بهم
شهواتهم فأتوا على بنيانها
ساقوا الشعوب إلى الشعوب كتائبا
يذكي الدم المهراق من أضغانها
ما نال ذئب السوء من قطعانه
ما نال سوء الحكم من قطعانها •••
ضيف «الكنانة» أنت حاتم أمة
الدهر والأجيال من ضيفانها
أنت الأديب ونحن أمتك التي
تروي شعوب الأرض عن إحسانها
تهب النفوس حياتها فإذا بها
ملء الفجاج تثور من أكفانها
تطغى الجبابرة العتاة فإن دعا
داعي اليراع قضى على طغيانها
قل يا «أمين» فأنت أبلغ قائل
غوت النفوس وطال عهد حرانها
امنن على الأقطار منك بحكمة
تهدي الشعوب بها إلى ديانها
الشعر والأدب المهذب طيع
والعرب مصغية إلى «حسانها»
تهفو الجموع إلى بيانك وحده
وأرى القلوب تطل من آذانها
أدب يصيب الشرق فيه شبابه
وتصونه الآداب في تيجانها •••
اذكر لخالتك
4
الحديث ولا تبح
بهموم خالتنا
5
ولا أحزانها
هذي تحس السهم في «أهرامها»
وتحس تلك الجرح في «لبنانها»
لا تحزنن سبية لسبية
دنيا الشعوب تجد في دورانها
الشرق في أبطاله وحماته
والضاد في العالين من أعيانها
كل يسير للتحية موكبا
يعلو المواكب في رفيع مكانها
نظم الزهور لكل جيل غيضة
تمشي الدهور على شذا ريحانها
حق «الأمين» وللنوابغ حقها
وجلال رتبتها ورفعة شأنها •••
انظر إلى دول الزمان ودولة
كبر الزمان فصار من غلمانها
ما قيس في ماضي الملوك جلالها
بجلال «قيصرها» ولا «ساسانها»
نظموا الممالك والممالك كلها
في تاجها العالي وفي إيوانها
إني رأيت الشعر دين هداية
ينهى الغوي النفس عن شيطانها
لا يصدق الإيمان في نفس امرئ
حتى يكون الشعر من إيمانها
قل للأئمة: أين إنجيل الهدى؟
فالناس عاكفة على أوثانها
ومن المعين على عباب جهالة
غرقت شعوب الشرق في طوفانها؟
لا تبلغ الأمم المراتب فخمة
حتى يكون العلم من أعوانها
ولقلما يبقى بناء حياتها
حتى ترى الأخلاق من أركانها (5-4) قصيدة محمد أفندي عبد الرازق
لله عرشك من عرش وإيوان
يا ضيف مصر ويا عنوان لبنان
يا زهرة نبتت في الشرق ثم سرى
للغرب منها شذى عرف وريحان
يا كوكبا في سماء الشام مطلعه
ونوره الهدي للقاصي وللداني
أكلما جحدوا للشرق حكمته
بدا لهم كل يوم ألف برهان
إن فاخروا «بشكسبير » وشيعته
وإن أشدنا «بقس» أو «بسحبان»
فالشام تفخر أن قد أنبتت رجلا
له من الأدبين اليوم سهمان
فتى تغرب طفلا عن ملاعبه
والطفل يبكي لتذكار وتحنان
أنامل كن ينسجن الحرير وقد
غدون ينسجن من در وتيجان
يا صاحب النول طفلا واليراع فتى
وصاحب الذكر في تسيارك الثاني
أي المشاعر هاجت فيك واتقدت؟
وأي معنى عميق؟ أي وجدان؟
لما رأيت «نيويوركا» وقد نصبوا
على مداخلها تمثال إنسان
فتاتهم تحمل المصباح ناشرة
للحق أنوار إقناع وإيمان
ماذا رأيت وأمر القوم بينهمو
شورى بلا عنت قاس وعدوان
كل له مذهب يسعى لينشره
فصاحب الملك والصعلوك سيان
لا فرق بين غني يستفز بما
لديه من ذهب أو بائس عاني «رأي الجماعة لا تشقى البلاد به»
والحق زهرة إقناع وبرهان
أكنت فيهم غداة النصر يوم هوى
زعيمهم بين أعوال وأشجان
وغادر العرش يبكي وهو متكئ
مجدا قديما بدمع منه هتان
قلنا نبي إلى الإصلاح يرشدنا
لما أتانا بإنجيل وقرآن
لكنما قوة الأطماع باقية
وما سواها جديد زائل فاني
والنفس تبدو لغايات تؤملها
كأنها ملك في ثوب إحسان •••
يا فخر لبنان، ما ذنب القريض إذا
لم أمتدحكم بتفصيل وتبيان؟
فما مدحت سوى مولى نعوذ به
من كل منتقم عات وشيطان
له بكل فؤاد حرقة وهوى
كما لكم في فؤادي الموضع الثاني •••
يا فخر لبنان قبل اليوم ما سمعت
أذناي درا بصوت منك رنان
وما رأيتك إلا في مخيلتي
من الملائك في أردان إنسان
بنيتموا مجد لبنان على دعم
من الحقائق لم تخلق لبنيان
هذي جرائدكم في كل حاضرة
وذي مجلاتكم في كل ميدان
وما خلا منبر إلا وقام له
شبل ليعلوه من أهل لبنان
أم اللغات حميتم حوضها فصفا
وراح يشرب منه كل ظمآن
إذا دعونا إلى الجلى فإن لنا
في الشام أكبر أنصار وأعوان
ما الشرق إلا كتاب كله حكم
أنتم له دون شك خير عنوان
مصر الفتية تهديكم تحيتها
فإنها وبلاد «الأرز» أختان
إن كان في مصر «شوقي» نستعز به
فعترة الشرق في أعمال ريحاني (5-5) قصيدة محمود أفندي عماد
ليس ضيفا فتحييه الديار
كل هذا السكون للشاعر دار
إنه أكبر من أن ينتمي
لشعار وهو للدنيا شعار
كيف لا تعرفه أصقاعها
وبها من فكره الملهب نار؟
كيف لا تعرفه أجواؤها
وهي مرقى لنهاه ومطار؟
كيف لا تعرفه ساعاتها
وهو يحصي دقها ليل نهار؟
إنما الشاعر روح شائع
في شعاب الكون مأمون العثار
إنه الريح سرت طيبة
ليس يثنيها بناء أو جدار
إنه الرحمة عمت واحتوت
كل ما دب على الأرض وسار
هو في الأرض رسول من عل
يتولى رعيها فوق المدار
من سواه نعت الدنيا إلى
ساكنيها ونضا عنها الخمار؟
من سواه عرف القبح ومن
عرف الحسن فنحى وأثار؟
أنراهم لو عداهم وحيه
يحسنون السير في هذي القفار؟
هو للمجموع يحيا لا له
ومن المجموع يأتيه البوار
هل يرى الشاعر إلا باكيا
لخراب أو ضحوكا لعمار؟
همه تعميم نفع وهدى
وإن اختص بضر وخسار •••
ضيفكم - يا قوم - ضيف للورى
لا تشينوه بدعوى واحتكار
إن شعرا ليس يعدو نفعه
قائليه فلياليه قصار
فخر «مصر» بعد «لبنان» به
فخر «أمريكا» وما خلف البحار
كيف تعتز به منطقة
دون أخرى وهو يأبى أن يخار
قد أنسنا قبل مرآه به
وسمعناه وإن شط المزار (5-6) قصيدة فيليب أفندي مخلوف اللبناني
قد أكرمت مصر بالترحاب مثوانا
هاجت جروحي إذ أيقظت أشجانا
فأضمر الدمع قلبا كان ريانا
صداح مصر بقلبي صدحه وله
في صدر لبنان صوت بات رنانا
تئوي الضلوع صدى شكواه ذاكرة
عهد الأخوة أجيالا وأزمانا
عهد السمو إلى العلياء نصعدها
جنبا لجنب وعين الله ترعانا
ألا تعيد لنا الأقدار ما سلبت
من تالد الفضل أخلاقا وإيمانا
وتنصف القوم أبناء الألى جعلوا
حضارة الشرق للأقوام عنوانا
فأثقلوا البحر برا من سفائنهم
وأغرقوا البر بحرا ماج شجعانا
وسهلوا النشر بين الناس إذ طبعوا
مقاطع الصوت ألفاظا وألحانا
تكبدوا الأرض فاستقصوا مجاهلها
وعمروا القفر أقطارا وبلدانا
ونظموا البيع في الأسواق إذ عرضوا
تواجر الرزق أصنافا وألوانا
تلك المفاخر للأجداد نذكرها
ذكرى المفاخر فيها النفع أحيانا
أترجع الشمس للشرق الذي سطعت
للناس منه هدى دينا وعرفانا؟
أمشرق الشمس يضحى مظلما أبدا
ومشرع العلم يبقى الدهر ظمآنا؟
مصر وقد نهضت فالسعد رائدها
يمضي بها قدما للمجد يقظانا
يمضي وتتبعه الأقوام رافعة
أهلة جاورت في الحق صلبانا
شم الأنوف يدير الموت خمرتهم
يشتفها خاطب العلياء عطشانا
إن كان لا بد من موت نعيش به
فما أحب الردى إن يحيي أوطانا!
إن يبكم الظلم صوت الحق في أمم
فالحق مبلغه أذنا ووجدانا
تجاهلوا الشرع حتى بات منصفهم
يلابس الحق بين الناس بطلانا
تجنبوا كتب التشريع وامتشقوا
من غمده السيف للأحكام ميزانا
فاستسمع الصم صوت البكم في صحف
وأنظر النور في الظلماء عميانا
وحدث الغرب عن نور بمشرقه
إن يحتبسه فقد يلفيه نيرانا
إن النفوس إذا ما أنصفت عطفت
والعطف كان لذي الحاجات معوانا
والعدل أنجع طب تستطب به
نفس إذا كلمت ظلما وعدوانا
والسلم مدعاة خير للأنام وما
بالشر نفع لأقوام وإن هانا
تنفس الشرق عن صبح يضاحكه
فالشمس موقظة للشرق أجفانا
والروح واثبة للمجد طالبة
في أوج عزته نزلا وإيوانا
فالدهر في غير والشمس إن غربت
لا شك عائدة يوما للقيانا
واذكر لمصر جميلا نحن نذكره
قد أكرمت مصر بالترحاب مثوانا
مصر لنا وطن ثان وإن بها
في أهلها للقرى أهلا وإخوانا
فلتحيا مصر ويحيا القوم إنهمو
منارة الشرق منهاجا وتبيانا (5-7) قصيدة محمد توفيق أفندي خاكي
سلاما للذي زان الشبابا
وأهلا بالذي وافا الرحابا
بمن أضحى وحيد العصر علما
وفلسفة وآدابا عذابا
فكان ذخيرة للشرق تبقى
له ذود إذا ما الغرب عابا
وعنوان المفاخر والمعالي
إذا قرءوا لنا فيها كتابا
وكان نبوغه للشرق تاجا
إذا ما الغرب فاخرنا الثيابا
ولما كانت العلياء تشكو
ولم يحسن لها أحد جوابا
أتاح الله نابغة «أمينا»
فكان بأفقها السامي شهابا
فيا ليث العرين فداك نفسي
فويل الغاب إما الليث غابا!
فكم دافعت عن آداب شرق
فألزمت الذي عاب المتابا!
وقد ترجمت أشعار المعري «بآمركا» وذللت الصعابا
فأدهشت الألي سكروا وقالوا
أدار مدامة مزجت ملابا
بلاد للعجائب ساكنوها
رأوا آدابنا العجب العجابا
فأنستهم طلاوتها اختراعا
وأحنوا عندما تليت رقابا
فيا ريحان منه أريج فضل
وقد بلغت مكانته السحابا
فكان لقطرنا منه انتعاش
وكان بعيننا الليث المهابا
نزلت فكنت فيه أجل ضيف
وكان حنينه لكم ركابا
فدم يا ذا العلا لنهوض شرق
بمثلك يبتغى اليوم الغلابا (5-8) خطبة الدكتور منصور أفندي فهمي
ولما نودي على الدكتور منصور أفندي فهمي، أستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية، ودعي إلى الخطابة، وقف وقال: «إني على غير استعداد، وقد سئل معاوية - رضي الله عنه - ذات يوم: أي شيء تحبه وتهواه؟
فقال: محادثة الرجال.
وقد عثرت على رجل يحدثكم.» وأشار إلى الأستاذ الريحاني وجلس. (5-9) خطبة الأستاذ الجليل الشيخ علي الزنكلوني من علماء الأزهر الشريف
أيها السادة:
إني ما حضرت في هذه الحفلة المباركة لأكون خطيبا، ولا نبهت في بطاقة الدعوة لهذا الغرض، وإنما حضرت لأشترك في حفلة تكريم الأستاذ الريحاني مع المكرمين.
إن الأستاذ الريحاني لم تكن لي به صلة قبل هذه الحفلة، ولا سابقة عهد، ولم أقف على تاريخه المجيد إلا من خطبة الأستاذ المحتفل لطفي جمعة. وهذا وإن عد تقصيرا بالنسبة إلي، فلا يعد نقصا في جانب المحتفل به؛ لأن له آثارا جليلة، وأياد فاضلة على الشرق، ولا ضير عليه إذا عاق ضعف الهمم بعض أبناء الشرق عن التطلع لهذه الآثار. على أني رجل ديني يجب علي أن أستكمل دائرتي الدينية، فإذا قصرت فيها، فإنما أقصر في واجب ضروري، وفي حياة جوهرية، فإذا ضعفت بي الهمة عن استطلاع آثار الأستاذ الريحاني في خدمته للشرق والشرقيين؛ فإن القصور لا يتخطى دائرة الكمال.
إن مجمل ما يقوله الخطباء عن الأستاذ الريحاني أنه بين للغرب محاسن الشرق، وهذا المجمل وإن كان صغيرا في نظر كثير من الناس، إلا أنه - في نظري - كبير جدا، وأنه من الأعمال الجليلة التي يستحق عليها صاحبها أعظم مظاهر الاحترام والتبجيل.
إن الغرب قد استهان بالشرق كثيرا، وبينه وبين الشرق عداء ولده الطمع والتوسع في الاستعمار. وإن العدو القوي إذا لم يدرك من عدوه الضعيف فضيلة من الفضائل لا يستحي أمامه، ويتشجع في إذلاله وضعفه. أما إذا تبين منه مواضع الفضيلة - وإن لم تظهر آثارها - وأدرك أن فيه قوة كامنة قد يظهرها الاحتكاك استحى عند مواجهته، وبرزت منه الحركة العدائية ضعيفة بالنسبة إليها إذا كان معتقدا فقدانه لكل فضيلة. وهنا يعامله مرة بحركة القمع المشلولة، ومرة بالمخاتلة والدهاء. وتلك حالة كثيرا ما تولد القوة في نفس الضعيف؛ فتبعثه على بلوغ أغراضه، وتحقيق آماله.
على هذا النحو كان يسير الأستاذ الريحاني، فيجب علينا ألا نستهين بهذا العمل الجليل الذي يعرف شعوب الغرب فضائل الشرقيين. إنا لا نتخاطب مع الحكومات؛ فالحكومات لا تبصر ولا تسمع ولا تعقل، وإنها لمن عالم وراء العالم الإنساني، وإنما نتخاطب مع الشعوب. وإن مثل عمل الأستاذ الريحاني مما يصرف الشعوب عن تقليد الحكومات إلى النظر في الواقع، والتفكير في الحقائق.
إن الشرقيين كثيرون، وقل من الشرقيين في هذا الزمن من طهره الله من أمراض الاجتماع، فبرز مجاهدا في سبيل الله، وفي سبيل الوطن، لم تلوثه الطبيعة بأقذار الوظائف والمنافع الشخصية، والمظاهر الكاذبة. وإن أحسن شيء أكرم به الريحاني أنه عضو حي في الشرق بريء من الأمراض؛ فإنه يدافع بنوع من الدفاع عن الشرق والشرقيين، وفي ذلك سعادة لمصر؛ لأن سوريا شقيقة مصر، ولها عليها حق الجوار
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .
إن كل إنسان يعمل في إبادة سبيل المذهب الاستعماري من الوجود، وإماتة حكم الفرد، والنهوض بالضعفاء إلى المستوى اللائق بهم، فإنما يعمل على طريق النبيين والمرسلين؛ لأن أنبياء الله جميعا ما بعثوا إلا لتحقيق السعادة العامة، وطمأنينة العالم، إلا أن السعادة التي جاءوا بها هي السعادة الصحيحة التي لا تعلم إلا من قبل الله تعالى؛ لأنه وحده هو الذي يعلم القدر المشترك الذي يتحقق به رضا الجميع، فهو وحده الخالق للنفوس والأرواح، والعالم بما يسعدها ويشقيها، ومحال أن يضع العقل البشري للعالم سعادة صحيحة.
وإن الفتح والاستعمار هما منار شقوة العالم في الأرض، وما دام المستعمرون فيها أقوياء فالإنسانية شقية معذبة، وإن الله ما بعث رسله للعالم ولا أنزل كتبه إلا لمحاربة الاستبداد والمستعمرين، فكل من يسير في طريق الأنبياء فهو عظيم، ويكفي أن الأستاذ الريحاني بعمله هذا صار من عظماء الرجال، والسلام. (5-10) خطبة أمين أفندي الريحاني
1
أنا الشرق!
أنا حجر الزاوية لأول هيكل من هياكل الله، ولأول عرش من عروش الإنسان؛ لذلك تراني محني الظهر، ولكني قويم الرأي، ثابت الجنان.
أنا جسر الشمس!
من أعماق ظلمات الأكوان إلى الأفلاك الدائمة الأنوار تصعد كل يوم على كتفي، وتكافئني مكافأة جميلة.
أجل، إن في جيوبي، وفي يدي، وفي نفسي من ذهب الفجر ما لا نظير له في معادن الأرض كلها.
تزودني الشمس للترحال، وتزود مني البصر أيضا والجنان، وأنا على ثباتي في رحلة دائمة كالكواكب لا تبصر حركاتها.
إن أول القافلة، قافلة نفسي، ليتصل بالجوزاء.
وإن آخرها، لست أدري اليوم أين آخرها!
قد يكون واقفا مستكشفا في أبواب ليفربول، أو نائما تحت عرائش الياسمين في سمرقند، أو جادا على ضفاف النيل، أو ضائعا في الجادة البيضاء في نيويورك.
ولكنني قنوع رضي، مطمئن؛ لأني وإن كنت لا أرى ساقة القافلة فإني مبصر قادتها.
وإني لأسمع طنطنة الأجراس عند المساء، وصوت الرسول يجيئني كل صباح مسلما وفي يده ثوب جديد ألبسه ليومي.
نسج من لا ينسج إلا لصاحب الجلال رب الليل والنهار.
2
أنا الشرق!
وقد جئتك يا فتى الغرب رفيقا.
فكن صبورا إذا كنت لا تحسن السكون.
إني مثقل أحمالا لا تراها العين التي ترى الأقطان، وتشتهي الثروة والجاه، ولو رأت عيناك بعض ما أنا حامل لخررت ساجدا، ولرحت شاهدا.
وفي جيوبي أيضا وفي يدي أشياء من حقول النفس ومن جبالها، وأشياء من أغوار الحياة.
أشياء ترضي الله، وترضي الإنسان، وأشياء لا ترضي لا الإنسان ولا الله، منها ما أود نبذه لو استطعت ذلك دون أن أضر بجاري صاحب الجنود والمدرعات، ومنها ما أود إخفاءه لو أني لا أستحي من نفسي الباصرة.
ومنها ما أود إصلاحه، لو كان لصناع هذا الزمان ضمير يشفع باليد الرجفة، والبصر الكليل.
وهناك أشياء - يا فتى الغرب - لك فيها الحبور والسعادة، عندي ما يسكن نفسك المضطربة وينعشها، عندي ما يشفي ما في قلبك من أمراض التمدين، عندي ما يبعث فيك عدلا يتجاوز استياءك، وحرمة لما يقدسه سواك.
عندي ما يقيدك، رجلا ويدا؛ لتهدأ وتستريح، فترى الكون إذ ذاك والعقل منك مطلق، والقلب مطمئن، وتتأمل كذلك أسرار الوجود.
3
أنا الشرق!
لي عروس في الليل القديم البهيم لا تفارقني أبدا، ولي أيضا في كل يوم بكر من الحسان، تجيئني ممتطية جواد الفجر؛ لتخبر البصر مني والجنان.
أراها، فتهتز جوارحي طربا، وأرى صباي أمامي يهتف للفجر؛ لجلال الفجر الذي يجري في النفس مثل سلسبيل فضي في الجبال، فتبدو خلاله الأعشاب الخضراء وهي تعانق الحجارة والصخور، فتبعث فيها روحا يستحيل التجويد عندها نشيد حب وتشويق، بل نشيد وطن يستفيق.
4
أنا الشرق!
أنا شبح يا فتى الغرب الباسل.
شبح في موكب الزمان، في موكب الحياة الدنيا، ولكن للشبح صوتا، بل أصواتا تسمع شيئا منها اليوم، وستسمعها مليا غدا.
أصوات متضاربة، متنافرة، إلا أنها من قلب واحد، لها صدى في هياكلي كلها، ولها صدى في كليات بلادك.
صوت يضج في الخلوات، ويتراجع في الأماكن المقدسة، وصوت يحدو في الصحراء، ويملأ جبال تقواي سكونا طيبا.
وصوت يهمس في أذن أدواتك رغبة جديدة مستطلعا قصدها ومغزاها.
وصوت يتماوج سلاما على وجه المياه في الأنهر المقدسة.
وصوت يحن شوقا في ظلال الحرمين، كما أنه يئن ويطن في المنابر الجديدة منابر الوطن.
صوت ينشد «نرفانا» لآلهة من ذهب ذي عيون من زمرد جاحظ، ويتغنى ب «كرما» وبالقضاء والقدر في أكواخ البؤس والإثم والشقاء.
وصوت يهتف استحسانا في ملاهي بلادك، يا فتى الغرب، وفي مراقصه.
كما أنه يحدث في قهواتك، حول كأس من الخمر، بأحدث رأي علمي في الجاذبية، وبأحدث رأي سياسي في عصبة الأمم.
5
أنا الشرق!
أحتمي من العالم بنفسي.
أستعيذ من العالم بالله! «أم، أم !» - الله! الله!
ساعة، ثم سكرة، ثم آية.
إله عينه سوداء،
6
وشيطان عينه حمراء،
7
وملك عينه زرقاء،
8
يلبسون الحياة، ويعيدون إلي قديم الحياة.
يرقصون في ظلال البنيان والنخيل، ويحرقون البخور في هيكل أحلامي.
ويهمسون، وينشدون، ويصيحون، طالبين الإطلاق.
الإطلاق؛ إطلاق النفس والعقل والروح والجسد.
يهمسون: «وآهم، وآهم، واه!» ويرقصون.
يصيحون: «لبيك اللهم لبيك!» ويسجدون، ثم في ساحات المدينة يخطبون، وبالأبواق ينفرون، وعلى الثورة يحرضون. «لبيك اللهم لبيك!» «واذكروا الرجيم الأجنبي وإن كان حاملا إنجيل!» «ولا تخافوه وإن كان حاملا مدفعا رشاشا!» «ولا تعاملوه وإن كانت بضاعته هبة!» «واه، واه، واه!» «لبيك اللهم لبيك!»
ساعة من الابتهاج الروحي حول سرير الوطن، يتلوها استسلام طويل تحت عرش الله ساعة، ثم سكرة، ثم أعجوبة.
أبحث عن ذي العين السوداء، وذي العين الحمراء، وذي العين الزرقاء، فلا أجدهم، بل أسمع ما يشبه أصواتهم في سراب ال «كرما»، وفي فيافي القضاء والقدر.
أنغاما شجية روحية تذيب الشهوات أشواقا، وتحوك للنفس أحجبة من خيوط الشمس، وتفرش لها طريق الفرقدين أزاهر سرمدية، ولكني - وا أسفاه! - أستغرب هذه الأنغام اليوم ولا أستحبها، وبالأخص عندما أطالع - يا فتى الغرب - صحافة بلادك الفضاحة، التي تنبئني بما لطياراتك من الصولة والاقتدار، وكيف يمكنها أن تنسف أساطيلك البحرية وتبيدها.
6
أنا الشرق!
عندي فلسفات، وعندي أديان.
فمن يبيعني بها طيارات؟
أتحسبها سفاهة مني أو تظنها تجديفا؟
قد يكون ذلك، قد يكون.
أنا نفسي أجهل اليوم صوت نفسي، صوت المجالس، وصوت المنابر، وصوت الصحافة.
أجل، إن لي أيضا صحافة فضاحة، يا فتى الغرب، ولي منابر قد لا ترضى بها آلهة أجدادي.
ولكنها منابر جديدة، حريتها فتاة لا تعرف التمويه، فلا تسمعك بما يسر إن لم تجئها بما تريد.
وهناك سر أهمسه في أذنك يا فتى الغرب: ليست الأديان والفلسفات ما تظنها، وليست ما تظن أني أظنها.
فلا للحراثة هي، ولا للتجارة، ولا للسياسة، ولا للتقشف.
إنما الأديان والفلسفات كمصاف في الماء.
هي مصافي الحياة تصفيها في الأقل من بعض الحشرات والجراثيم.
7
أنا الشرق!
عندي تذوب الألوان كلها وتمتزج؛ فتتماوج نورا بعضها في بعض تحت ريشة الزمان.
ألوان الغروب، وألوان الفجر، وألوان الليل السرية، لها كلها أفق واحد عندي، وبسماء واحدة.
من الأخضر الناضر لذي النبوة التي تزرع الثريا بذورها، إلى الأصفر الفاقع لذي السر الذي يخلع العذر والعذار، إلى الأحمر القاني الذي إرادته لا تذعن لبشر أو جن، إلى الأزهر الباهر لخيال يسحر الساحرين بيانا!
هذا سلم من النفسيات لا تجده عند سواي.
وهناك الأرجوان لسفاهة تجلس على العرش، والزعفران لمجد هوت عروشه، والجلنار يتماوج ظلالا حول عرش الأهواء والشهوات.
والرماد المنتثر لما كان في سماء الفكر كوكبا نيرا، والأسود القائم لدمقراطية شابة تحمل عصا التأديب، والأبيض الناصع لمصرية تحمل غصنا من النخيل.
كلها تمتزج في آفاق نفسي، وتذوب في سماء آمالي، وتستحيل خمرا في كأسي.
أجل! إن خمر الأجيال الغابرة، وخمر الأجيال الحاضرة، التي لم يحسن تصفيتها الزمان لتملأ الكأس التي أشربها كل يوم؛ فتعيد إلي روح النبوة القديم المجيد، وتثير في ألم الذكرى، وتجدد في حب الجهاد. (6) الحفلة السادسة في سراي آل لطف الله الكرام في قصر الجزيرة
لبى دعوة حضرة الأمير ميشيل بك لطف الله، في الساعة الرابعة من مساء اليوم «13 فبراير سنة 1922»، لتناول الشاي في قصر الجزيرة، نحو مائتي أديب ووجيه من المصريين والسوريين، وفي مقدمتهم حضرات أصحاب السعادة والفضيلة والعزة: محمد باشا شكري، وكيل الحقانية السابق، وأمير الشعراء أحمد بك شوقي، والسيد مصطفى الإدريسي، والشيخ محمد شاكر، ومحمود باشا عزمي، وأحمد باشا زكي، وصادق باشا يحيى، وسعيد باشا شقير، وحلمي بك عيسى، وإدوار باشا إلياس، ويوسف باشا مسرة، والشيخ الكاظمي، والسيد رشيد رضا، والدكتور محجوب بك ثابت، وطعان بك العماد، وحبيب بك دبانة، وميشيل بك أيوب، وبعض أصحاب الصحف العربية والإفرنجية وكتابها، وكثيرون آخرون من رجال العلم والأدب، وأولي الوجاهة والفضل. وكان الأمير ميشيل بك وشقيقاه الأميران حبيب بك وجورج بك يرحبون بالمدعوين، ويبالغون في إكرامهم ومؤانستهم.
ولما تكامل عقد المدعوين أخذ مصور اللطائف المصورة صورتهم الشمسية، ثم دعوا إلى القاعة الكبرى حيث مدت موائد الشاي، وقد حوت كل ما لذ وطاب من أنواع الحلوى والفاكهة والخشاف، فأموها أفواجا.
وبعد ذلك وقف حضرة ميشيل بك لطف الله، صاحب الدعوة، ورحب بالمدعوين جميعا؛ لتلبيتهم دعوته، وتشريفهم منزله، وذكر فضل المهاجرين من الشرقيين الذين يقصدون المهاجر، ويستعملون مواهبهم في طلب الكسب والعلى، ولكنهم لا ينسون وطنهم، بل يعملون على خدمته في غربتهم، ويقفون على ذلك أقلامهم ومجهوداتهم، وينشرون فضل الشرق في الغرب، ويحيون لغتهم فيه، ويطلعونه على ما في لغتنا الشريفة من علم وفلسفة وأدب. ومن هؤلاء المهاجرين المجاهدين اثنان يحضران هذه الحفلة معنا الآن، فأعرفكم بهما؛ وهما: طعان بك العماد وأمين أفندي الريحاني، نزيلا أميركا، ثم ذكر ما لهما من الفضل والجهد في خدمة الوطن، وما بين مصر وسورية من الإخاء، وكرر الشكر للحاضرين.
فوقف حضرة طعان بك العماد وشكر آل لطف الله على كرمهم ولطفهم، وخدماتهم الجليلة لوطنهم، وذكر مصر بالثناء والشكر، وتلاه حضرة أسعد أفندي داغر، فأنشد أبياتا كان لها وقع حسن في النفوس، وخطب حضرة أمين أفندي الريحاني، فذكر أن الغرب والشرق لا يختلفان في الحقيقة والجوهر؛ فالآثار الشرقية والغربية تتشابهان، وكذلك فلسفة الفلاسفة في البلادين وحكمة الشعراء، وكل أثر للعلم فيهما، وتمنى أن يأتي يوم يتصافح فيه الشرق والغرب، وتربط الجميع رابطة الإخاء والحب.
وتلاه حضرة توفيق أفندي دياب، فشكر بلسان المصريين الخطباء على ما أبدوه في خطبهم من عواطف الحب والإخاء لمصر والمصريين.
ثم تكلم بعد ذلك حضرات: فرح أفندي جرجس، والدكتور محجوب ثابت، ونسيم أفندي صيبعة، فأفاضوا في وجوب الاتحاد والتضافر بين الشرقيين عامة، ولا سيما بين الشقيقتين مصر وسورية، وذكروا أن كل ما تطلبه الأمم الشرقية هو أن تنال مقامها اللائق بها بين الأمم، وتنال حقها الشرعي من الحرية والاستقلال، ثم ارتجل حضرة الشاعر المشهور الشيخ الكاظمي قصيدة حماسية بليغة، وتلاه سعادة أحمد باشا زكي، فشكر لآل لطف الله كرمهم وفضلهم، وقال: إن هذا القصر بعدما كان دارا للملوك تحول إلى فندق يقصده السياح ، وقد عاد الآن - بفضل آل لطف الله الكرام - دارا للفضل، ومجتمعا لملوك الأدب القابضين على ناصية الكلام والأقلام.
وكان الحاضرون يكررون التصفيق للخطباء والشعراء إظهارا لاستحسانهم، ثم ودعوا وانصرفوا وكلهم ألسنة تتحدث بما لقوه من لطف حضرة صاحب الدعوة وأخويه، وكرمهم وإكرامهم، وما رأوه وسمعوه من جمال الحفلة وبلاغة الخطباء. (6-1) خطبة الأمير ميشيل بك لطف الله
ساداتي:
أرحب بحضراتكم كثيرا، وأشكر لكم تلبية دعوتي وتشريف منزلي. ولما كنتم من خيرة فضلاء الشرق، وتقدرون النشاط الشرقي، أغتنم فرصة تشريفكم لأذكر بالخير والثناء إخواننا في المهاجر، الذين ركبوا البحار، واقتحموا الأخطار في الأسفار؛ يريدون متسعا من الحياة، وسبيلا للمعاش، فلم ينسوا وطنهم، ولا أهملوا لغتهم، بل أشادوا بذكرها، وأحيوا آدابها، فأنشئوا في تلك البلدان الأجنبية جرائد راقية، ومجتمعات سامية، وما برحوا يحنون إلى الشرق، ويتغنون بمحاسنه. وبهذه المناسبة أؤدي التحية إليهم في شخص رجلين وجدا الآن معنا في هذه الحفلة، أريد بهما: طعان بك العماد، من إخواننا في الأرجنتين، فإنه ترك عائلته وأعماله الناجحة ولبى داعي القومية، فحضر إلى جنيف واشترك مع إخوانه في المؤتمر السوري الفلسطيني ممثلا قومه أحسن تمثيل، ولا يزال دائبا على الدفاع عن استقلال وطنه، وعن القومية الشرقية.
والكاتب الشهير أمين أفندي الريحاني، الذي رفع في أميركا وإنكلترا راية الإخلاص للأدب العربي والقومية الشرقية، فنقل إلى لغة الإنكليز ما حسن من أدب العرب، ونال مكانة عليا في تقديرهم، ثم كانت زيارته لمصر المثل الأعلى للتضامن الشرقي، بما أظهره فضلاء المصريين من العطف عليه، والاحتفاء به، والتقدير لأدبه، فأظهروا بالدليل الساطع فضيلة التضامن والاتحاد بين الشرقيين من أبناء اللغة؛ مما دل على نهوض الشرق من سباته. والشرق يريد العمل على خير العالم بأسره، لا أن يقاوم الغرب، بل يريد أن يكون صديقا، وأن يسير مع الغرب يدا بيد. (6-2) قصيدة أسعد أفندي خليل داغر
يسقيك يا قصر الجزيرة عارض
جود يحاكي من أميرك جوده
ويدوم ظل الأنس فوقك وارفا
والحظ مشتاقا إليك سعوده
والعز لا ينفك حولك راتعا
وعليك يرفع رايه وبنوده
والنيل جارك خير جار حافظ
لك حفظ كل ابن لمصر عهوده
وسمي ربك ليس يبرح حارسا
لك مرسلا للذود عنك جنوده
ويظل صفو العيش فيك مخادنا
سكانك المستمتعين رغيده
يردونه عذب الروى في روضك ال
زاهي الأغن ويحمدون وروده
روض يصفق دوحه متمليا
رقص الهزار مرددا تغريده
ويطيع أمر أميره مستقبلا
بأريجه العطر الذكي وفوده
ويهزه طربا قصيدة ناظم
من زهره في ساكنيك عقوده
بنشيده في مدح مصر يشنف ال
آذان والدنيا تعيد نشيده •••
لله قصر زاده طول السنا
حسنا وعرض الجاه وشى جيده
وكساه بذل بني حبيب سؤددا
يبقى ولا يبلي الزمان جديده
يا طالما حدثت عنه وشاقني
أني أشارك بالعيان شهوده
فوجدت أن النصف لم أخبر به
وعددت مفخرة القصور وجوده (6-3) قصيدة الأستاذ الكاظمي
مهما تباعد فهو منك قريب
يوم له بين الضلوع دبيب
فإذا تباعد فالحبيب مبغض
وإذا تقارب فالعدو حبيب
لا فرق بين المشرقين سوى الذي
يصفو به هذا وذاك يشوب
كالشمس ما بين الأنام مشاعة
ولها شروق مرة وغروب
كم قرب القوم اللئام وباعدوا
حتى استوى التبعيد والتقريب
لا يصدقون وكيف يصدق طامع
يصغي إلى داعي النفاق كذوب
ليس الهوى من كل صب واحدا
إن الهوى للعاشقين ضروب
هيهات يصبيني سوى حرية
يصبو الشباب لذكرها والشيب
يكفي جمالك أنت فيه يوسف
وكفى محبك أنه يعقوب
أمنية الشعبين أنت فضيلة
تاقت إليك قبائل وشعوب
حرية الأمصار أنت حبيبة
في حبها يستعذب التعذيب
عظمت على قلب المحب همومه
يكفي دلالك أيها المحبوب
في كل يوم حفلة لك يرتقي
فيها المنابر شاعر وخطيب
لك كل يوم في المحافل سيرة
تتلى وذكر عن سناك ينوب
يا حبذا يوم الجمال وحبذا
يوم الوصال وأجره المكسوب
يوم يعود به لنا استقلالنا
ويرد فيه حقنا المغصوب
حتام نحتمل المذلة طوعا
ولنا بآفاق البلاد وثوب؟
نرجو الحياة وليس يجهل عالم
أن الحياة مصائب وخطوب
لا فاتنا عز الحياة ولا عدت
شعبا تذل بها الحياة شعوب
يا حبذا يوم يروح لنا به
هذا له نغم وذاك طروب (6-4) خطبة أمين أفندي الريحاني
يقال في الشرق والغرب: الشرق شرق، والغرب غرب، ولا يجتمع الاثنان. وهي كلمة لا تصح إلا في مظاهر الاجتماع السطحية التي تزول عند احتكاكها من جهة بالحقائق الأولية الدائمة، ومن جهة أخرى بالحقائق السامية الفنية، فإذا ما تجاوزنا السطحيات إلى ما تحتها مما يربط الأمم بعضها ببعض؛ كالشعور الأدبي، والعواطف البشرية الشريفة، أو إلى ما فوقها من آثار العقل والخيال؛ كالفنون الجميلة والصناعات، لوجدنا في الشرق من الغرب، وفي الغرب من الشرق أشياء كثيرة نفيسة، حيوية، كأنها من بيتها أصلا، وفيه.
ومن البراهين على ذلك برهان واحد قائم حولنا الآن، بل نحن فيه واقفون، برهان هو الفن بعينه، بل هو منتهى الإبداع في الفن. إن هذا القصر الجميل، يا سادتي، بل في هذه القاعة الفخمة ليجتمع الشرق والغرب اجتماعا فنيا جميلا لا تناكر فيه ولا تنافر؛ فهذه صناعة الشرق وقد تناهت دقة وجمالا تظلل صناعة الغرب وفنونه، وقد سمت شكلا وصنعا، وبين الفنين تناسب أنيق جميل، بين الصناعتين صلة لا تكلف فيها ولا اجتهاد، صلة طبيعية يتهادى إليها الجمالان، وتذوب عندها أطراف السحر والبيان.
أما في النقش أو الرسم أو التطعيم أو الهندسة، فالغرب والشرق من هذا القبيل صنوان، وما يصح في الفنون والصناعات - اللهم إذا تناهت إتقانا وجمالا - يصح في العلوم وفي الآداب وفي الاجتماعات، إذا تجاوزنا فيها السطحيات؛ فالحكيم الهندي والحكيم الإنكليزي لا يختلفان، وشكسبير والفردوسي أخوان، والمعري وملتن وفولتير من أمة واحدة، أمة النبوغ وحرية الوجدان.
ولنا الفخر - نحن الشرقيين - أن يكون في زعمائنا اليوم ما في زعمائهم من حب الوطن، ومن البر والكرامة والشمم. لنا الفخر أن يكون في أغنيائنا من يطلبون المعالي بالفضل والإحسان؛ فيبذلون من أقوالهم في سبيل الوطن والأمة سياسة وأدبا واجتماعا، وليسمح لي أرباب هذا البيت إذا أشرت إلى ما أظنه رمزا لقاعدة سلوكهم الوطني الاجتماعي، فإن طي الفكرة السياسية على ما يظهر لي فكرة اجتماعية قد لا تدرك فورا؛ وهي حرية بالذكر والاعتبار. ولهذه الفكرة في هذا القصر أيضا رمز جميل، بل رمزان نادران عزيزان؛ أولهما: هدية إلى الخديوي إسماعيل من رأس الكنيسة الكاثوليكية من كبير أسياد المسيحية، وثانيهما: هدية إلى الأمراء آل لطف الله، من سيد الحرمين، من كبير أسياد الإسلام، من جلالة الملك حسين.
فالهديتان وقد اجتمعتا في هذا القصر الفخم هما عربون عهد السلام الدائم، إن شاء الله.
بل رمز لما سيتمتع به أجيال المستقبل في شرقنا خصوصا من الإخاء الحق، والاحترام المتبادل المبني على العلم والتساهل، بل على التفاهم والحب، ولا شك عندي أن حصة المصريين والسوريين من ذلك ستكون كبيرة. وأود جدا أن يكون الفضل الأكبر في تحقيقها لأصحاب هذا البيت الكريم، بل لأصحاب الرمزين النادرين الشريفين اللذين سيوحيان إليهم - ولا شك - من الأعمال الوطنية الشريفة، بل الشاملة الإنسانية، ما يخلد ذكرهم، ويجعلهم في الغرب مفخرة الشرق، وفي الشرق أحب الناس وأعزهم عند أبنائه.
9 (7) الحفلة السابعة في فندق الكنتنتال
لبى جمهور من الفضلاء والأدباء في مساء اليوم دعوة الوجيه الفاضل طعان بك العماد - من آل العماد المشهورين بلبنان ومن كبار الجالية السورية في الأرجنتين - إلى حفلة شاي أقامها عصر اليوم «الخميس 16 فبراير سنة 1922»؛ لتكريم الأستاذ الريحاني في فندق «الكنتنتال»؛ فكان لهذا الاجتماع مظهر بديع من مظاهر جامعة الأدب العربي، الذي يحمل الأستاذ الريحاني راية من راياته فيما وراء البحار، بل نفثة من نفثات الروح القومي العصري الذي استيقظ في الشرق اليوم، فأخذ الشرقيون يستشعرون به أن لهم وجودا، وأن لهم كرامة ليعترف لهم عالم الأحياء بهذا الوجود، وهذه الكرامة.
فبعد أن اجتمع المدعوون في حديقة الفندق، وأخذت صورتهم تذكارا لهذا الاجتماع، جلسوا حول مائدة الشاي، ثم قام صاحب الدعوة طعان بك العماد، فتكلم عن نفسه، وعن الجالية السورية في الجمهورية الفضية، فرحب بالمحتفل به، وأثنى على أدبه الجم، وجهاده المزدوج في تنوير قرائه من أبناء العربية، وتعريف أوروبا وأميركا بروح الشرق التي بزغت مع شمسه، وما زالت تتجدد بتجددها. وكان يتكلم من قلب امتلأ إخلاصا للغة التي ينتسب إليها، ومحبة للقومية التي هو فرد من أفرادها.
وتلاه نجيب بك الهواويني، فخطب في النبوغ وتكريم النابغين.
وقام على أثره توفيق بك دياب، فأبدع ما شاء في بيان ارتباط الأمم الشرقية، ولا سيما الناطقة بالضاد، وأن ذلك من أظهر دلائل الحياة، وما على مصر من الواجب نحو الأدب العربي والمصلحة الاجتماعية في سبيل توثيق هذه الرابطة.
ثم قام السيد رشيد رضا، فذكر أن من القواعد الطبيعية أن يكون التقارب بين الناس على مقدار ما يوجد من وجوه المشاركة وصنوف المشاكلة بينهم، وأن البلاد التي يتشابه سكانها بلغاتهم وعاداتهم وآمالهم وآلامهم حقيق أن يكون ذلك سبب التقارب بينهم. وقد أدركت مصر والهند هذه الحقائق الفطرية، فوحد المسلمون والأقباط كلمتهم في وادي النيل، وكذلك فعل المسلمون والهندوس في الهند، وقال: إن المسلمين لما كانوا أكثر تمسكا بدينهم لم يمنعهم هذا من أن يكون المسجد مدرسة لتلقي علوم الكون، يشترك في ذلك المسلمون والمسيحيون والإسرائيليون، لا يمنعهم من ذلك مانع، وقد كان جمال الدين الأفغاني - وهو من أول من نادى بالإصلاح في الشرق - لا فرق عنده بين أديب إسحاق والنقاش والشيخ محمد عبده وسعد زغلول، فكلهم كانوا تلاميذه وأنصاره، بل لم يكن يفرق بين بلاد الشرق، فكان يرى أن مصر إذا حملت لواء الإصلاح كان ذلك وسيلة لانتشاره في سائر الأقطار.
وختم خطبته بقوله: إنني بصفتي سوريا أقول - وأنا منكس رأسي خجلا: إننا - معاشر السوريين - كنا أول العاملين لنهضة الشرق في الأمس، وقد صرنا اليوم أول من ضل سبيلها.
وقام على أثره منصور فهمي، الأستاذ بالجامعة المصرية، فقال: إنه وهو يرى اتحاد السوريين على تكريم فكرة سامية، في شخص الريحاني، لا يصدق أن هذه الأمة لا تستطيع أن تتحد على فكرة أسمى من ذلك؛ وهي فكرة الوحدة الوطنية والقومية؛ فالاتحاد هو الذي رأينا - نحن في مصر - أنه ترياقنا من سموم كثيرة، والضماد الذي نلف به كلوما مؤلمة، وما صح في مصر لا يصح غيره في شقيقتها.
وخطب بعده الدكتور محجوب بك ثابت في موضوع الشرق والغرب، وأن تضامن الأول من دواعي احترام الثاني له، واعترافه بحقوقه، وتخفيفه وطأة سلطانه عن عاتقه؛ فالارتباط بين الأمم الناطقة بالضاد نافع لكل منها، ومسهل لها سبيل الوصول إلى غايتها، وأتى على براهين من التاريخ القديم والحديث احتجاجا لهذه القضية.
وختم الحفلة الأستاذ الريحاني بشكر صاحب الحفلة والخطباء والمحتفلين، وانصرف الجميع لاهجين بما كان لها من التأثير في نفوسهم، وذاكرين أدب الريحاني وفضله.
10 (8) الحفلة الثامنة أو حفلة الصحراء
أرسل حضرة صاحب السعادة، الأستاذ أحمد زكي باشا، الدعوة الآتية إلى ثمانمائة من أفاضل المصريين والسوريين وخيرة رجال الفضل والأدب:
أحمد زكي باشا يرجو مشاركته في تكريم ثالث الثلاثة بعد الجعدي والذبياني: نابغة العرب الجديد أمين الريحاني، بتناول الشاي على سماط بدوي فوق بساط الرمل، وتحت ظلال الأشجار الحرام التي غرسها الصحابة الكرام في سفح الأهرام، يشرف عليها بلهيث «أبو الهول» الفصيح بإشارته، البليغ في صحته، القائم على الدوام بحراسة كنانة الله في أرضه.
الملتقى عند محطة الهرم الساعة الثالثة ونصف بعد ظهر يوم الاثنين «20 فبراير سنة 1922».
وقد أخذ الناس يتهافتون على طلب تذاكر الدعوة إلى هذه الحفلة النادرة الغريبة.
فلما كان الموعد المضروب أقبل القوم زرافات ووحدانا تلبية لدعوة الأستاذ المحتفل، وليشهدوا هذه الحفلة الصحراوية التي أقيمت لتكريم النابغة أمين أفندي الريحاني.
شهد هذه الحفلة الشائقة جمهور كبير من كرام المصريين والسوريين، وخيرة رجال الفضل والعرفان، وقد تجلى فيها مجد الآباء والأجداد، ونهضة الأبناء. ينظر الواقف في ذلك المكان إلى عظائم أعمال الأولين الممثلة بأبي الهول والأهرام وغيرهما من الآثار الخالدة، فيراها تنطق بما كان عليه الشرقي من العز والجاه والسؤدد، ثم يجيل نظره في نوابغ المجتمعين في هذه الحفلة من أولي الحزم والرأي، وما أوتوه من حماسة وذكاء وفضل، فيرى أمما تسير إلى الأمام، وشبابا مفكرا ناهضا يتحفز ليسترد للأبناء ما ضاع من مجد الآباء.
كانت تلك الصحراء مزينة أبهج زينة بالأعلام المصرية، وقد ضربت فيها المضارب تتخللها الجمال والأبقار ممثلة مساكن البدو في حلهم، وبرز الفرسان منهم على صهوات الخيل يلعبون بسيوفهم، ويرقصون جيادهم على نغمات الطبل والمزمار، ونصب في صدر المكان سرادق كبير لاستقبال المدعوين، ومدت فيه مائدة الشاي حاوية لأطباق الفطير والتمر والحلوى، فأموه أفواجا رجالا ونساء، يتقدمهم حضرات أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة: أحمد مظلوم باشا، ويوسف سليمان باشا، والدكتور محمود صدقي باشا، ومرقص باشا سميكة، وأحمد بك شوقي، وحسن بك مظلوم، مدير الجيزة، والشيخ أبو الفضل، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ بخيت، والسيد عبد الحميد البكري، والشيخ عبد الرحمن قراعة، ومحمد شكري باشا، وأحمد تيمور باشا، وسعيد شقير باشا، ونجيب منصور شكور باشا، والأمراء ميشيل بك، وحبيب بك، وجورج بك لطف الله، وجمهور غفير من المستشارين والقضاة والمهندسين والأعيان وغيرهم. وكان سعادة زكي باشا، صاحب الحفلة، وبعض المستقبلين من الأدباء يرحبون بهم، ويبالغون في ملاطفتهم.
وفتحت الحفلة بتلاوة آي القرآن الكريم، ثم وقف سعادة زكي باشا فخطب في الجمهور مرحبا بالحاضرين، ومطريا المحتفل به، وقال: إننا فتحنا حفلتنا بتلاوة آي القرآن تبركا بكلام الله، ولما لهذا الكتاب الشريف من الفضل في نشر اللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها.
واستطرد إلى ذكر المكان الذي أقيم فيه هذا الاحتفال، فقال: إنه ورد في القرآن، فهو المعني في قوله تعالى:
إرم ذات العماد ، فأرم هذه لم تكن الشام ولا غيرها من البلاد، بل هي الأهرام. وكان في مكان هذا الاحتفال هيكلان كبيران قائمان على أعمدة عديدة، فسميت من أجل هذا بذات العماد.
وتناول كلامه «بلهيث»، فقال: هو الاسم الأصلي لأبي الهول، ولكنه صحف فصار أبو الهول كما صحفت أرم.
11
وعقبه حضرة الدكتور محجوب بك ثابت، وتلا قصيدة من نظم سعادة أحمد بك شوقي، فقوبلت بالتصفيق الشديد، وكان الجمهور يستعيده أبياتها.
وحيا محمود أبو بكر البطران العربي - وهو غلام بدوي في نحو العاشرة من العمر - مصر بأبيات جزلة.
وخطب حضرة أنطون أفندي جميل خطبة بليغة وصف فيها الصحراء الجرداء والواحة الخضراء.
ولحن حضرة محمود أفندي عارف منظومة من قلمه تلحينا بديعا حرك أوتار القلوب، وأثار الحماسة في النفوس ، وأنشد حضرة أحمد رامي أفندي قصيدة عصماء قوبلت بالاستحسان الشديد.
وخطبت حضرة الآنسة مي خطبة جميلة ذكرت فيها فضل سعادة صاحب الحفلة وعلمه وتسامحه، وحيت المحتفل به، وأثنت على مصر وأهلها أطيب الثناء، وأعلنت فضلها على سائر الأمصار، وكل ذلك بكلمات عذبة جزلة امتزجت بأرواح السامعين، وقوبلت بالتصفيق والاستحسان الشديدين.
ولما انتهت من خطبتها قدم إليها سعادة زكي باشا صحفة فيها ثلاث صبيرات، وقال: إن هذه الصحراء التي لا تنبت إلا الشوك أنبتت بوجودكم ثمرا شهيا.
ثم ألقى حضرة محمود أفندي صادق قصيدة عامرة الأبيات استرعت الأسماع، واستعاد السامعون أبياتها طربين بها، ووقف بعد ذلك حضرة أمين أفندي الريحاني المحتفل به، فشكر مصر والمصريين شكرا جزيلا على ما لقيه من كرمهم ولطفهم وحفاوتهم، وتلا مقالة من النظم المنثور وضعها خصيصا ليتلوها في هذه الحفلة في وصف مصر بين هتاف الهاتفين، وتصفيق المصفقين.
ثم انصرفوا وهم يتحدثون بجمال هذه الحفلة، ويثنون على سعادة القائم بها الثناء المستطاب. (8-1) قصيدة أمير الشعراء «أحمد شوقي بك»
قف ناج أهرام الجلال وناد
هل من بناتك مجلس أو ناد
نشكو ونفزع فيه بين عيونهم
إن الأبوة مفزع الأولاد
ونبثهم عبث الهوى بتراثهم
من كل ملق للهوى بقياد
ونبين كيف تفرق الإخوان في
وقت البلاء تفرق الأضداد
إن المغالط في الحقيقة نفسه
باغ على النفس الضعيفة عاد •••
قل للأعاجيب الثلاث مقالة
من هاتف بمكانهن وشاد
لله أنت فما رأيت على الصفا
هذا الجلال ولا على الأوتاد
لك كالمعابد روعة قدسية
وعليك روحانية العباد
أسست من أحلامهم بقواعد
ورفعت من أخلاقهم بعماد
تلك الرمال بجانبيك بقية
من نعمة وسماحة ورماد
إن نحن أكرمنا النزيل حيالها
فالضيف عندك موضع الإرفاد
هذا الأمين بحائطيك مطوفا
متقدم الحجاج والوفاد
إن يعده منك الخلود فشعره
باق وليس بيانه لنفاد
إيه «أمين» لمست كل محجب
في الحسن من أثر العقول وباد
قم قبل الأحجار والأيدي التي
أخذت لها عهدا من الآباد
وخذ النبوغ عن الكنانة إنها
مهد الشموس ومسقط الآراد
أم القرى إن لم تكن أم القرى
ومثابة الأعيان والأفراد
ما زال يغشى الشمس من لمحاتها
في كل مظلمة شعاع هاد
كم من جلائل أنعم لمحمد
بل كم لإسماعيل بيض أياد
لولا اهتمامهما لظل الشرق في
واد وأبناء الزمان بواد •••
رفعوا لك الريحان كاسمك طيبا
إن العمار تحية الأمجاد
وتخيروا للمهرجان مكانه
وجعلت موضع الاحتفاء فؤادي
سلف الزمان على المودة بيننا
سنوات صحو بل سنات رقاد
وإذا جمعت الطيبات رددتها
لعتيق خمر أو قديم وداد
يا نجم سوريا ولست بأول
ماذا نمت من نير وقاد؟
اطلع على يمن بيمنك في غد
وتجل بعد غد على بغداد
وأجل خيالك في طلول ممالك
مما تجوب وفي رسوم بلاد
وسل القبور ولا أقول سل القرى
هل من ربيعة حاضر أو باد؟
سترى الديار من اختلاف أمورها
نطق البعير بها وعي الحادي •••
قضيت أيام الشباب بعالم
لبس السنين قشيبة الأبراد
ولد البدائع والروائع كلها
وعدته أن يلد البيان عواد
لم يخترع شيطان حسان ولم
تخرج مصانعه لسان زياد
الله كرم بالبيان عصابة
في العالمين عزيزة الميلاد «هومير» أحدث من قرون بعده
شعرا وإن لم تخل من آحاد
والشعر في حيث النفوس تلذه
لا في الجديد ولا القديم العادي
حق العشيرة في نبوغك أول
فانظر لعلك بالعشيرة باد
لم يكفهم شطر النبوغ فزدهمو
إن كنت بالشطرين غير جواد
أو دع لسانك واللغات فربما
غنى الأصيل بمنطق الأجداد
إن الذي ملأ اللغات محاسنا
جعل الجمال وسره في الضاد (8-2) خطبة الشيخ أنطون الجميل
ما أجمل الواحة في الصحراء!
ما أبهى البقعة الخضراء تبدو بين تلال الرمال الصفراء!
ما أشهى الجزيرة الخضلة تبرز في الأرض المقفرة الجرداء!
الواحة ابتسامة حلوة على محيا الطبيعة المقطب العابس.
هي دمعة ندية تبرد القلب المكتئب اليائس.
هي نجمة لامعة في جبهة الظلام الدامس.
الواحة يوم فرح في حياة نسجت أيامها من غوالب الهموم.
هي قوس قزح مسبع الألوان دقت أوتاده على مكفهر الغيوم.
هي ترياق سائغ يشفي من مختلف السموم.
الواحة هي معترك الغايات والأهواء ، راية المحبة والسلام.
هي اللفظة المليحة العذبة بين حوشي الكلام.
هي آية الحق والعدل فوق صحب الشرور والآثام.
ما أجمل الواحة في الصحراء تبرز في الأرض المقفرة الجرداء! •••
هبت رياح الصحراء فاستعرت الرمضاء.
السماء تمطر نارا، والأرض تنفث شرارا.
تجد القافلة في السير إلى الواحة البعيدة.
القافلة تجد في السير، وقد برح بها الجوع، وألهب العطش منها الضلوع.
إلى الواحة البعيدة تتطال أعناق المطايا، تحدوها في سيرها أشباح المنايا.
صرع من القافلة واحد واثنان وثلاثة ... فكانت الرمال كفنهم، والرمال قبرهم: الرمال الناشفة، الرمال الملتظية.
القافلة تجد في السير: الصحراء تدفعها، والواحة تجذبها.
فهناك في الواحة البعيدة ستجد الماء السلسبيل يروي الغليل.
هناك ستلقى الظل الوارف تحت أغصان النخيل.
الواحة ستجير القافلة من رياح الصحراء واستعار الرمضاء.
تلك الواحة التي وصفتها بالحقيقة وصورتها بالخيال.
هي أنتم يا خلاصة مدنية المصريين والفينيقيين ممدني العالم في غابر الأجيال.
مدنية الفراعنة ومدنية فينيقية كلتاهما تحدرت إليكم من ثنايا الليالي والأيام، بعد أن هذبتها آداب النصرانية، وعدلتها شرائع الإسلام.
قطرات رشحت من خلال العصور والدهور، فتكون منها الغدير.
حول الغدير نبتت أزهار العلم، وبسقت أشجار العرفان.
حول الغدير قامت معالم الحياة تكتنفها مفاوز الجهل
فكانت الواحة في الصحراء.
إلى واحتكم المخضلة يسير الشرق سير القافلة وقد أعياه المسير.
مشى الشرق طويلا في أرض التيه قاصدا أرض الميعاد.
أنهكته وعثاء السفر، فتقرست رجلاه، واحدودب ظهره، وخارت قواه.
تجرع في طريقه كئوس الخيبة ألوانا حتى بات باليأس سكرانا.
ذر الزمان على مفرقه غبار الفناء، فترك في سيره الشاق الطويل كثيرا من الضحايا والأشلاء.
كان اليأس كفنهم، وكان اليأس قبرهم.
اليأس القاتل كرمال الصحراء.
ولكن الشرق يرهف غرار عزمه، ويسير إلى الواحة سير القافلة.
إلى واحتكم المخضلة يسير الشرق فرارا من رمال الصحراء. •••
أرهف أذني فأسمع من الصحراء دبيبا في الرمال.
إن في حبات الرمل لنجيا تشعر به الضمائر، وتتلمسه الحواس، إن رمال الصحراء لتصطخب اليوم ولا اصطخاب الأمواج في البحار.
كان «أورفه» - مطرب الإغريق - يرقص الحجارة بنشيده ، فيشيد منها جدرانا.
فأين في الشرق من يضم حبات الرمل يصوغها حجارا؟ ويقيم منها بنيانا؟
يسير الشرق إلى الواحة وأمامه نور ضئيل يبدو حينا ويخبو حينا.
ليس هذا النور بالمبيض الحواشي فيصبح فجرا ... ولا بالمسود الجوانب فيمسي ليلا.
أهو الشفق مقدمة الإمساء والظلام؟ أم الغلس طليعة الأضواء والأنوار؟
ليس الجواب في صدر أبي الهول، فصدر أبي الهول خزانة أسرار.
إن الجواب لفي صدوركم أنتم يا معشر الأدباء والأحرار. •••
إلى الواحة البعيدة تسير القافلة في الصحراء، ولكن بين الواحة والصحراء قد يبدو السراب.
إن السراب لشر ويلات القافلة في الصحراء؛ فهو يضلها الطريق، ويوردها موارد الهلاك.
وكذا بين السعي والنجاح قد يلمع برق أمل خلب، فيضل الساعي سبيل النجاح.
فاتقوا البرق الخلب، واحذروا السراب.
قال المعري - ومن أجدر بالاستشهاد بقوله من المعري في يوم تكريم مترجم المعري:
وقلت: الشمس في البيداء تبر
ومثلك من تخيل ثم خالا
وفي ذوب اللجين طمعت لما
رأيت سرابها يغشى الرمالا
يا صاحب «الخزانة الزكية»، يا مقيم معالم هذه «الحفلة الصحراوية»، والداعي إلى «الرابطة الشرقية».
قد جعلت شعار تلك «الرابطة» قولا صار مأثورا: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر اختلف.»
عمل جسام ندبت نفسك للقيام به، وأنت الندب الهمام. إن الأربعين قرنا التي نظرت إلى جند بونابرت من أعلى الأهرام تنظر إلى عملك وعمل زملائك الكرام.
فعسى تلك القرون الخوالي تبرز من قبر الزمان، فتصفق لكم يا جند الاتحاد والوئام.
ادعوا الشرق إلى الوئام والإخاء تكونوا من أدلاء القافلة السائرة في الصحراء. •••
وأنت يا صاحب «الريحانيات»، قمت بالأمس باسم الشرق كله مناديا: «أنا الشرق عندي أديان، وعندي فلسفات، فمن يبيعني بها طيارات؟» كأني بك دلالا نزل إلى سوق الاجتماع يقصد البيع والشراء، فما شرى ولا باع.
كأني بك باسم الشرق تنادي:
ولي كبد مقروحة من يبيعني
بها كبدا ليست بذات قروح
وبطبيعة الحال:
أباها عليك الناس لا يشترونها
ومن يشتري ذا علة بصحيح؟
ولكن بفضل العلم تنشر رايته، وبفضل الإخاء تعم آيته، سيقف الغرب مناديا: «عندي طيارات، وعندي مدرعات، فمن يبيعني حكمة راقية وفلسفة سامية تنهض بأبنائي من حضيض الماديات؛ فإن المادة كادت تقتل فيهم الروح؟» فكن يا ابن لبنان داعيا إلى الإخاء، وكن دليلا من أدلاء القافلة السائرة إلى الواحة في الصحراء. (8-3) أنشودة محمود أفندي عارف
يا ساكن الأهرام كلنا نحييك
ساعين عالأقدام قصدنا نرضيك
يابو الهول حكموك ظلم وشوهوك
واليوم نسترضاك ونصالحك تاني
جبنا لك م الشام من روضة لبنان
صحبة من بستان زانها الريحاني
عهد صلاح الدين أحييته يا أمين
والسعد علمه حيرفرف تاني
الشرق يحييك وسوريا تناديك
ومصر تهنيك وطنك الثاني
فرحانة تقول لك يا ابني تعا أضمك
شرفت وطنك خففت آلامي
مجدنا اللي راح يا أهل الإصلاح
بالعلم يحيى ويرجع ثاني
اشهد يا أهرام يا مفني الأيام
عهد وإيمان ما ارجع في كلامي
بعد الأربعين أبدا مش راجعين
حتى نعيش حرين ودي كل أماني (8-4) قصيدة أحمد أفندي رامي «إلى طائر الشام»
إني لأخشى أن تموت عواطفي
ويجف ذاك النبع من أشعاري
وتقر نفسي بعد ثورتها فلا
يهتاجها شيء سوى التذكار
وترى مجال الكون عيني خاليا
من بهجة الآصال والأسحار
وأخاف أن يقضي على قلبي الأسى
فيصيبه يأس من الأوطار
إني ليحزنني بقائي صامتا
ولدي هذا الكنز من أفكاري
وأكاد أندب خاطري ومشاعري
وهما إلي نفائس الأذخار
في الشعر تأسائي وفيه رفاهتي
وإليه أشكو صولة الأقدار
فإذا سكت فقد حرمت شكايتي
ولرب شكوى نفست أكداري •••
لمن الغناء أقوله فأصوغه
من أدمعي ودمي وطيب سراري؟
ومن الذي يوحي إلي من الهوى
قبس الخيال وصدحة الأوتار؟
ما أطلق الطير الصدوح بشدوه
مثل انبثاق الزهر والنوار
أو نضر الزرع البهيج زهوره
كالشمس والماء النمير الجاري
أو هدأ البحر الخضم عبابه
كالبدر يشرق باهر الأنوار
الحب نبع الشعر منه تفجرت
عين المعاني والخيال الساري
الحب لحن النفس وقعه على
وتر القريض بنان موسيقار
الحب يفسح في الحياة مراحها
ويحفها ببدائع الآثار
فلرب ساعة خلوة هفافة
طالت عن الأجيال والأعمار
ولرب وجه أبدعت قسماته
أبهى من الجنات والأنهار
ولربما فاقت مناجاة الهوى
معنى ومغزى ممتع الأسفار
ولرب ثغر باسم أحيا المنى
وأطارها في النفس كل مطار
هذا هو الحب الذي أشتاقه
فيهيج ساكن روحي الزخار
ويمدني بالشعر معنى ساميا
ويبث فيه جلائل الأسرار •••
ما لي أريغ هوى يعز وجوده
وهواي حب التسعة الأبكار
هذي بنات الشعر توحي صبها
سامي الخيال وثاقب الأفكار
فأصوغه في مدح عاشق حسنها
هذا الأمين لها وللأحرار
إيه بنات الشعر هاتي نغمة
فأصوغ إكليلا من الأزهار
هو غرسه وأحب ما يهدى له
ما بث من زهر ومن أثمار
يا طائر الشام الرخيم غناؤه
أسمعت صوتك نائي الأقطار
ووصفت مجد الشرق في أيامه
ونشرت ما درجت يد المقدار
وكشفت عن سر الحياة فأصبحت
مجلوة للنفس والأبصار
هذا أبو الهول الجليل محدث
بسكوته في هيبة ووقار
هو رمز مصر وحارس الوطن الذي
أخنى عليه تتابع الأدهار
لو كان ينطق رتلت ألفاظه
شكرا كشكر الروض للأمطار
فاقبل تحيته؛ فكم من نظرة
جلت معانيها عن الأشعار! (8-5) خطبة الآنسة مي
أيها السادة والسيدات:
زكي باشا ظالم، ولكننا نسامحه؛ لأنه حجة العرب، بل هو متيم الشرق بأسره؛ ما ذكر هذا الشرق إلا اتقد عاطفة وحماسة، وتدفق معرفة وفصاحة؛ كأنه صخرة الكليم بعد الأعجوبة، أو كأنه تلك الجزيرة المتوارية وراء البحر الأحمر، ما كادت تشتعل فيها شرارة الإسلام حتى انطلق أبناؤها يجددون العالم بالحياة وبالعلم وبالجد.
وزكي باشا فوق ذلك مثال جميل للتوفيق بين التعصب والتساهل، من ذا أمتن إسلامية من زكي باشا؟ ومن ذا أمنع شرقية منه؟ ولكن رغم هيامه بقوميته، واعتزازه بمدنيته، فهو يفتح صدره لجميع الأديان، ويقدر القيم من جميع المدنيات، ويكبر الذكاء عند جميع الأجناس؛ فلا عجب إذا ما تفنن حتى في أساليب الضيافة والحفاوة.
لقد أكرمت، أيها الريحاني، في المنازل والفنادق والجامعات. أما أستاذنا اللوذعي، فأراد إكرامك في هذه المملكة السنية الفيحاء. تلك اجتماعات كانت قاصرة على جمهور الشرقيين. أما هنا فتحاذى الشرقي والغربي كما هو خليق بفكرك الذي لم يقف عند حدود البلدان، وكما يليق بمن كان واسطة التعارف بين باحثي الشرق والغرب كصاحب هذه الدعوة الكريم، فضرب هذه الخيمة العربية، وأقام هذا المهرجان الجامع بين بساطة البدو وجزالة العباسيين. وفي هذه الربوع التي لا تجرؤ الأصداء على اقتحامها، بل ترتد على حدودها خاشعة، ارتفعت الأصوات للثناء عليك، وفي هذه الربوع حيث دحر التاريخ جيوشا، وجندل قوادا، حللت أنت عزيزا عزة من كانت قوته الوحيدة معرفة، وسيفه الوحيد قلما.
لقد رأيت من مصر حسن الضيافة، وعرفت كيف تشجيها عطور الرياحين، ولكنك شاعر بلا ريب بما وراء اللطف من تحفز وشجاعة. لقد عرفنا نحن مصر عذبة كريمة أعواما طوالا، ثم اهتزت فجأة فبدت ذات هيئة جديدة وجمال رائع. وها هي تتخرج منذ ثلاثة أعوام في مدرسة النخوة والبطولة، وإذا خفت صوت الرجل فيها لحظة، أشارت المرأة - ولو من وراء الحجاب - إلى شرفات العز، ورفيع المصاعد.
ولقد دفع استبسال مصر في جسم الشرق استبسالا، فجئت وهو يتوهج حمية، ويتفجر وطنية، وبينما هو يحييك لأجل ما أنت، ولأجل ما فعلت، إذا به يشير بوجوب إتمام العمل المنتظر، فلا يكفي أنك ترجمت المعري، بل انهض - ولينهض كل ذي صوت مسموع - وقل للغرب: إن الأمة التي أنجبت المعري وأمثاله لا تخبو فيها شعلة الذكاء. انهض أنت وكل ذي صوت مسموع وقولوا للغرب وللشرق جميعا: إننا لا نكتفي بالآثار والأخربة والحضارة البائدة، بل نريد مع العز العظامي والشرف التالد عزا عصاميا وشرفا طريفا.
وإذا ذكرت هذه الساعة؛ فاعلم أن زكي باشا لم يفعل في يوم سوى ما اعتاد المصريون فعله مع نزلاء الشعوب أجمعين، وإذا ذكرت أبا الهول شعار مصر الخالد؛ فاذكر أنه مهما هبت عليه لفحات السموم، وتراكمت حوله رمال الصحراء، فهو يظل باسما يرقب في الشرق فجر الصباح الآتي، وإذا ذكرت هذه الأهرام المنتصبة كالمردة الصامتة في وجه اللانهاية؛ فاذكر أنك سمعت في ظلها أهزوجة الحياة ونشيد الأمل.
وليس هذا نشيد مصر الفتاة وحدها، بل هو صوت من جوق تؤلفه الأقطار الشرقية الهاتفة بنبرة واحدة ، وقلب واحد: «أنا الشرق، ولي صوت يحدو في الجبال والقفار، فيملأ الجبال والأودية ضجيجا وحنينا ... أنا الشرق، وخمر الأجيال تعيد إلي روح النبوة القديمة ... وتثير عندي ألم الذكرى، وتجدد في حب العزم والجهاد. أنا الشرق، أول صوت صارخ بوحدة الحياة وإخاء الإنسان؛ فلنتقاسم بها الغرب حظنا من الحرية والنور؛ لأني اتخذتك يا فتى الغرب رفيقا.»
وكلما ذكرت الشرق، وذكرت إكراما أدته إليك مصر، فوحد هنيهة حب الشرق في حب مصر؛ لتهتف بما يهتف به الآن وعلى الدوام: لتحي مصر مصرية. (8-6) قصيدة محمود محمد أفندي صادق
من من الشرق ليس يهدي السلاما
لفتى الشرق حين هب وقاما
شاكي العزم راح يخترق اليأ
س بقلب تعشق الإقداما
ليس يثنيه أن يرى الشرق أمسى
خافت الصوت لا يطيق الكلاما
أو يرى الناس لا تزال نياما
وخطوب الزمان ليست نياما
فمشى مشية الكمي ونادى
يا بني الشرق - يا بنيه - إلى ما؟
غربة الدار لا المقام على الضيم
وإلا خذوا الخدور مقاما
نحن لا نعرف الحياة جمودا
لا ولا ذلة ولا استسلاما
إنما نحن للجهاد خلقنا
نبذل النفس أو ننال المراما •••
ومضى يقطع الفيافي والبح
ر إلى عالم هناك ترامى
حاملا بين جانبيه غراما
أشعلته النوى فشب ضراما
ذاكر العهد تلك شيمة شهم
هزه المجد والعلا فاستهاما
ورأى الغرب ليس يعلم ما للش
رق وإلا فمبصر يتعامى
كيف لا يبصرون والشرق شرق
فسلوهم متى يكون ظلاما؟!
مطلع الفجر والوجود دياجي
ر ومحصي الدهور عاما فعاما
مهبط الوحي والشرائع لما
بعث الله الوحي والإلهاما
ظلموا الشرق ليتهم أنصفوه
لرأوا رحمة وألفوا سلاما •••
يا ابن لبنان قل للبنان يعلو
فوق عليائه وأن يتسامى
أنت أفصحت عن شعور بني الش
رق وأنطقت في القبور عظاما
ليس ميتا أبو العلاء وإن كا
ن بحكم القضاء أمسى رماما
ليس بالميت إنما هو روح
أيقظ الشرق بعده ثم ناما
فمن الناس من تراه «أمينا»
وقليل في الناس يرعى الذماما
فخر لبنان، هل ترى ثم روحا
فوق هذا المكان رف وحاما؟
أتراه يكاد يلهج بالحمد
وقد كاد يستدر الغماما؟
ويكاد السرور يملأ عيني
ه ضياء وثغره تبساما
ذلك الشيخ لا يزال كريما
وكذاك الكرام تهوى الكراما
يا فتى الشرق كيف أشرق وجه الش
رق لما رفعت عنه اللثاما؟
أترى الغرب لا يزال كما كا
ن جهولا بحقنا لواما؟
أم ترى أدرك الصواب من الغ
ي فعاف الظنون والأوهاما؟ •••
يا أبا الهول يا رهيب تحرك
قد تخذناك للجهاد إماما
فانفض الأرض عن يديك وردد
صيحة الشرق وارفع الأعلاما
وقد الجحفل الرهيب إلى المج
د كما كنت واذكر الأياما
وادع من كان قد أعدك للجل
ى قديما ومن بنى الأهراما
أنت لم تنس يا أبا الهول يوما
أن حب البلاد صار غراما
ظامئ أنت من قديم إلى المج
د فهيا بنا لنشفي الأواما
قد سئمنا المنام نحن بني الي
وم فلا بدع إن سئمت المناما
يا بني الأولين لم يبق شيء
من تراث الجدود حتى نناما
خلفوا المجد فوق هام الثريا
فانظروا هل ترون إلا رغاما
وحقوقا عدا الزمان عليها
فغدت نهبة وراحت حراما
لهف نفسي وأي نفس سواها
ليس تشكو لربها الآلاما
يا بني الشرق ليس ينتشل الش
رق سوى وحدة تكون لزاما
نجمع الشرق لا يكون شتاتا
ونضم الشعوب والأقواما
هكذا تفعل الشعوب إذا شا
ءت ثباتا لحقها ودواما
فاعملوا إنما الحياة مجال
يسع الفعل وحده لا الكلاما
واطلبوا الحق في الحياة كراما
لا عبيدا لهم ولا أنعاما
وإذا ما الحسام جرده العزم
فهيهات أن يردوا الحساما (8-7) خطبة الدكتور شخاشيري «وافدتان»
سيداتي وسادتي:
أرى أن في البلد وافدتين متفشيتين تفشيا هائلا؛ فالأولى: مخيفة مروعة، وقد مضى على انتشارها زمن بعيد، ومصلحة الصحة تقاومها بالوسائل المعروفة لديها من غير طائل، فإصابتها تزداد، وأعلامها تخفق كل يوم في كل منزل من منازل القطر.
والثانية: منعشة مفرحة هبطت مصر في 27 يناير المنصرم، وما كادت تطأ أرض الكنانة حتى أثارت في نفوس أهلها - الفضلاء العلماء الأدباء الكرماء - ثائرة الأدب الكامن في الصدور، فذهبت بما يشغل تلك النفوس الأبية من روع المرض، ويقلق بالها من جور السياسة المبرقشة، وأحدثت في القلوب هزة طرب تجاوبت أصداؤها في الأقطار، ورن دويها في أعماق الشرق المتألم؛ فنهض على قدميه نهضة الجبار.
الفرق بين الوافدتين واضح جلي: رأيت في الأولى طبيبا مداويا، وطبيبا مواسيا، وطبيبا مقاوما، ورأيت المرضى يصيحون: الشفاء الشفاء! هذا كل ما نريده منكم، أيها الأطباء، ورأيت السليم ينفر من المريض، ولا يقترب منه خوفا من أن تنتقل العدوى إليه، ورأيت الناس هجرت الملاهي، واعتصمت بالمنازل احتياطا من التعرض لأسباب الداء المتوافر وجودها عادة في مثل تلك الأماكن.
ورأيت في الثانية، وما أجمل ما رأيت!
رأيت من الشعور الوطني المتدفق حياة ما يحيي موات النفس، وينهض بها إلى أسمى الذرى. رأيت الأدب كله يسيل من قلب مصر الخافق، فينعش القلوب الصلدة، فتدب فيها جميعها حياة الأدب، رأيت أدب مصر في كأس قاطرة تطوف الحواري والمدن والعواصم والبلاد والأمم والشعوب، فتسقيها جميعها قطرة قطرة ولا ترتوي.
رأيت، وما أعظم ما رأيت!
رأيت العلم والفضل والكرم، صفات مصر الأزلية تذيع مجد أبي الهول الصامت، وتنشر حكمته للعالمين.
رأيت، وما أعجب ما رأيت!
رأيت الشاعر يغرد بقيثارته في سماء خياله، يطاول النسر بعزيمته ووثباته، فيحلق من مصر إلى أرز لبنان إلى أميركا.
ورأيت الأديب ينثر علينا من الدرر الغوالي ما يبهج النفس، ويشرح الصدر.
ورأيت الخطيب يصف لنا الماضي كأنه حاضر، ويحضر أمامنا ببلاغته وسحر بيانه صور العصور الخالية فنتعظ بها.
ورأيت الريحاني كالنحلة ينتقل من زهرة إلى زهرة، ومن غصن إلى غصن، ومن دوحة إلى دوحة، ومن حفلة إلى أخرى.
ورأيته شاكيا ألما بمعدته، وسمعته يقول: معدتي تلفت، معدتي تلفت، ارحموا معدتي، ارحموها ترحموني. فلم ألتفت إلى شكواه، ولم أعرها شأنا مع عظم اهتمامي بسلامة جسمه النحيل، ووجود شروط الوقاية من دائي التلبك وسوء الهضم في ذهني، بل على طرف لساني قامرت بمعدته وراحة جسمه على حساب المنفعة.
رأيت في هذه الوافدة «وافدة الأدب» غير ما رأيته في تلك.
رأيت الناس يتهافتون سراعا على حدائقها النضرة الزاهية للتمتع بطيب شذاها، والاستزادة منها وقد أسكرهم رحيقها.
رأيت مصر اليوم في عرس ترحب بعودة ابنها الشرقي ترحيب الأم الرءوم بعودة ابنها الضال، فصرخت من أعماق نفسي: عساك يا مصر غدا أن ترحبي وتفرحي بعودة أبنائك البررة المبعدين المنتزعين عودة الفائزين، فيفرح الشرق وقتئذ معك، وتهتز جوانحه، ويشتد ساعده بطربك ونصرك المبين. ورأيت الشرق بين ذلك كله يستجمع قواه المتفرقة، ويلم شعثه استعدادا للوقوف بين الأمم رافع الرأس، وكان أرفعها عزيز النفس، وكان أعزها مكرم الجانب، وكان أكرمها.
في هذه الحفلة البكر - وهي خاتمة الحفلات ومسك ختامها - أحذركم، سادتي، إدخال طعام على طعام، وأسألكم الاقتصار على لون واحد من الطعام في حفلاتكم المقبلة، وإراحة جسمكم وفكركم بعد كل طعام.
أحيي مصر العزيزة فيكم، أيها السادة، تحية يستخرجها القلب من أعماق الزمان.
أحيي أبناءها الكرام، طبيبها ومحاميها وعالمها وأديبها وجميع أبنائها الكرام البعيدين منهم والقريبين، تحية شاعر بفضلها، معجب بنهضتها، مؤيد لمطالبها الحقة، مفتخر ببطولة زعيمها الأكبر، محب لها محبة ثابتة كالدهر لا تتغير. (8-8) خطبة أمين أفندي الريحاني «مصر»
1
مصر هي أكبر الشرقيات الباسمات للدهر، وهي أحدث الشرقيات الناهضات.
هي أول من هزت الشمس سريرهن، وأول من قبلهن الليل على ضفاف النيل.
هي أول من لعب في ذرى الصناعة والفنون، وأول من رقص والقمر تحت النخيل.
هي أول من بنى كنا للعلم وبيتا للحضارة، وأول من شيد للحياة هيكلا وللموت قصورا.
هي أول من نطق في قلب العالم كلمة العبادة والابتهال.
هي أول من أضرم في ليل الحياة نار الإيمان.
هي أول من نحت تمثالا جميلا، ورسم ذكرا وأملا للإنسان.
هي أول من كون من شتات الغيب عالما حقائقه أغرب من خرافاته.
هي أول من نصب للحق الأنصاب، وأحرق البخور للخرافات.
هي أول من شيد للخيال معالم تباهي معالم الحق جلالا وخلودا.
هي أول من حمل ميزان القسط، وأول من استرق العباد.
لها الصولجان المرصع ماسا، ولها الصوت الملطخ دما.
هي أول من قال للموت : لا، وأول من قال للحياة: نعم.
لها في الموت حياة، ولها في الحياة المآثر الخالدات.
هي مصر!
آية الزمان، ابنة فرعون.
معجزة الدهر، فتاة النيل.
2
هي في هيكل الحب آلهة تسجد لها آلهة الأمم.
هي في هيكل الجمال ربة لا تخضع لآلهة الزمان.
ورد خديها من وادي الصفاء، وزنبق جبينها من جبال البر، وذهب شعرها من معدن الفجر، وقرمز فمها من بساتين الخلود.
هي في السراديب مشكاة فيها مصباح يضيء، وهي في الفضاء نار على علم.
3
هي ابنة رموز أسرارها في فم العاصفة وفي قلب النسيم.
لها صوت يهيج حتى النخيل إلى الخيال، ويبعث حتى في الرمال شوقا إلى النيل.
هي ربة العشق، وربة الموت، وربة الخلود.
هي مصر!
آية الزمان، ابنة فرعون.
معجزة الدهر، فتاة النيل.
4
هي في قلب العالم سيد الإيوان الجديد، إيوان البر والحق، إيوان الحرية والحجى، لسانها عربي، وقلبها شرقي، وعقلها غربي.
لها في ظل الهرم أثر خالد، ولها في ظل تمثال الحرية زاوية للحكمة والعدل.
هي التي شاركت إيزيس هيكلها، ورعمسيس عرشه.
وهي التي تتغنى اليوم بأنغام النور الذي كلل هذا الصباح رأس أبي الهول.
لها صوت سمعته قبل الهرم الصحراء، ونسمعه اليوم نحن الواقفون في ظلال الأجيال التي شاهدها هذا الهرم.
من ضفاف النيل، إلى ضفاف بردى، إلى شاطئ الفرات، إلى وادي الكنج، صوت مصر يتماوج كالنسيم، ويزمجر كالرعد، ويخترق ظلمات الجمود كالنور.
إن كلمة مصر لكلمة العرب، وإن كلمة العرب اليوم لغيرها بالأمس، ولغيرها غدا، ولكنها أبدا كلمة مصر، مصر الخالدة، مصر الفراعنة، ومصر المماليك، ومصر «الزغاليل».
كلمة علم تنطق بها مصر تنير مصابيح الهدى في الأمم العربية الدانية والقاصية.
كلمة عطف تفوه بها مصر تنعش قلوبا خدرها ريب الزمان.
كلمة حق في وادي النيل يردد صداها في الشام وفي بغداد، بل يتراجع صوتها بين طنجة وسمرقند، في كل بلد عربي القلب واللسان.
آية الزمان، ابنة فرعون.
معجزة الدهر، فتاة النيل.
5
حيتني بغصن من النخيل، وبزهرة من السوسن.
أسمعتني نشيدا سمعه قبلي كاهن إيزيس، وأديب الرومان، وشاعر العرب، همست كلمة في أذني ملأت فؤادي من فيضها القدسي، فيض الذوق والشوق والهيام. فتحت لي باب خدرها؛ فبهرت نورا، فسكرت حبورا.
ذكرت يوما كان فيه ابن مصر عبد الملوك، وهو اليوم سيد تنصت له السلاطين.
ضحكت مصر في ليالي الغم، وبكت في فجر الابتهاج.
وضحكت لضحكها، وذرفت لدمعها الدموع.
ضحكنا سخرية، وبكينا سرورا.
جالستني مصر، يا فرعون، وهي تذكرك وتقول: هل كان فيمن شيدوا الأهرام رجل واحد حر؟
بسمت لي مصر، يا فرعون، وهي تذكرك وتقول: هل في مصر اليوم رجل واحد يطيق العبودية؟ تبارك أبناؤك يا مصر، وتباركت بناتك الناهضات.
إن فيك ينور سر التجديد والخلود.
إن سحرك يا مصر ليبعث الحياة في سكان أهرامك.
إن فضلك يا مصر لينطق حتى أبا الهول.
إن روحك يا مصر لكالندى في الأكمام، بل كأشعة الشمس تكلل الندى.
إن جمالك يا مصر لكالخمر في كأس من النور، بل كالنور يسير على وجه النيل.
آية الزمان، ابنة فرعون.
معجزة الدهر، فتاة النيل. •••
وهناك حفلات خصوصية كثيرة لم يطلع عليها الجمهور، ولم يسعدنا الحظ بمشاهدتها وسماع ما دار فيها، والرأي الراجح أنها كانت قاصرة على التعارف والتعريف، وكان حظ الطعام فيها أكثر من حظ الكلام - كما يقولون. على أنها كانت في بيوت السراة ووجهاء القوم، نخص بالذكر منها حفلة السيد عبد الحميد البكري، شيخ مشايخ الطرق الصوفية، والأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق، وأميل أفندي زيدان، ونجيب بك صروف، والدكتور شخاشيري، والحفلة الراقصة في نادي الاتحاد السوري.
هذا وقد اهتم جمهور الأدباء والوجهاء من السوريين والمصريين في طنطا والمنصورة والإسكندرية في أداء واجب الضيافة للأستاذ الريحاني، وإقامة حفلات التكريم، فاعتذر عن تلبية طلبهم بضيق وقته، وصحة عزمه على إتمام رحلته العلمية في بلاد الحجاز واليمن، وباقي بلاد العرب؛ لدرس أحوال تلك البلاد وعاداتها؛ فيدون نتائج رحلته هذه وخلاصة أبحاثه في كتاب خاص ينشره باللغة الإنجليزية، ليطلع الأجانب على حالة بلاد العرب النفسية، وعاداتها القومية، فشخص في صبيحة يوم الاثنين 20 فبراير سنة 1922 من القاهرة، ميمما السويس، حيث يبحر منها إلى جدة، فكان في وداعه على إفريز محطة القاهرة عدد كبير من الوجهاء والأدباء وعلية القوم من السوريين والمصريين.
وبعد أن وصل مدينة السويس أرسل كلمته هذه يودع بها مصر، ويذكر ما لقي فيها من الحفاوة وأنواع الإكرام.
في فجر السفر
وكنت كمن لم يزل في حلم جميل، وكان هواء الليل لم يزل باردا، وقد خالطه شيء من فيض الأزبكية العطري، وكان الفجر مستوحدا في البلد، فلا حركة ولا صوت لبشر أو جن، إلا أن السكون المتشح من الليل أرق الجلاليب وأجملها، حمل إلي صوتا واحدا خلته بادئ بدء من أصوات الفضل والمكارم، التي اعتدتها في مصر في عشرين يوما مضت، وجمال ذكرها لن يمر.
سمعت الصوت أولا، ثم رأيت أمامي فجأة شيخا جليلا في جبة سوداء وعمة بيضاء، يتوكأ على عصاه، ويسلم سلاما لا تكلف فيه ولا غرابة، ثم قال: «إني عالم بما في نفسك، ومدرك ما يضيق منك دونه. أنت الآن ثمل ولا يرجى من الثمل البيان شكرا ومنة ولا ينتظر، ولكن فضلك الأكبر - ولا نبخسك في الإخلاص حقك - أنك هاجرت بلادك ولم تهجر قومك، وكنت في بيئة لا ذكر فيها لغير الحاضر تذكر أبدا ماضيا مجيدا، ماضي الأمم العربية؛ فتقتبس منه نورا تضيء به شيئا من ظلمات الشرق الحاضرة.
سمعنا صوتك يا ريحاني، وشممنا في مشاعلك رائحة زيت طيبة، ولكننا سمعنا أيضا صوت الأمة المصرية اليوم، وتضوع في أرجائنا من مكارمها نفحات زكيات طيبات. حياك المصريون ورحبوا بك وأثنوا عليك، بل صاغوا لك من معدن القلوب شعرا جميلا، وأنت ما عندك مما يصاغ شكرا ومنة.
كشفنا الحجاب وبحثنا في زوايا النفس، فوجدنا فيها آثار شعور بليغة تكاد من شدة الفرح، وعجز الإفصاح والبيان تتحول كلوما، وتسيل دما، والعجز في واحات الحبور أشد المآسي.
رثينا لك يا ريحاني، وشفقنا عليك، وقلنا: إن بعض ما أنت فيه إنما هو منا، بل نحن المسئولون، وعلينا حق النجدة.
إن المصريين يا ريحاني لأكثر الناس فضلا، وأكبر الناس خلقا، وأجزل الناس كرما، وألطف الناس ذوقا، وأرحب الناس صدرا، وأصفى الناس حبا وودادا. هذا كله تعرفه أنت ويعرفه الناس، ولكنك لا تعلم أن في مصر اليوم ثلاثة جاءوا يحيون المصريين، بل جاءوا يقرئون مصر سلام من لا تهزهم من الفضائل كلها اليوم إلا واحدة؛ الوحدة القومية. وقد شاهدناها في أجمل المظاهر في مصر، شاهدناها في مظهر نود مثيله في كل بلاد عربية.
لذلك جئنا نحيي عنك مصر، نحن الثلاثة أصحابك وأصحابها، فنحن وإن تنوعت المسافات والهيوليات بيننا مقيمون في نور الوحدة والتوحيد، ذلك النور القدسي الذي يشع حقا وعلما، وشعرا وحرية، وفنا وسلاما. ونحن اليوم مقيمون في مصر، نحن الثلاثة، وأنا أصغرهم وأحقرهم، أغتفر لك جهلك، أنا المعري أبو العلاء، ورفيقاي اللذان لا تراهما: أمريكا ربة الحرية، ولبنان رب العبقرية؛ فسر في سبيلك طالبا العلم، ناشدا مجد الأجداد، راغبا بتجديد حياة العرب والعربية، وكن هادئ البال، مطمئن الفؤاد؛ فقد أولتك مصر فضلا جزيلا جميلا، ونحن نسديها عنك شكرا جزيلا جميلا، وإن وجودنا فيها ليشفع بعجز فيك.»
الآن وقد أنهينا الكلام على حفلات التكريم، وحضر معنا القارئ من أول حفلة أقيمت إلى آخر حفلة ختمت بها مجالس الحفاوة والإكرام.
وقد شهد قارئنا مشاهد الأدب، وسمع نغمات الأشعار، وما زال يصحبنا حتى جمعتنا محطة القاهرة في وداع فيلسوفنا العظيم، وهكذا أخذ مطالعنا الكريم يتنسم ريح أخبار الشاخص العزيز حتى وافتنا كلمة شكره لمصر والمصريين.
وكأننا بالقارئ وقد تاقت نفسه لرؤية المناظر المختلفة، والمشاهد الجميلة، وإنا آخذون بيده حتى نصل به إلى طلبته، فنمر به برحلتنا على «مدينة بيروت» آخذين معه بالتجوال بين ربوعها، والتمتع بحسن مناظرها، وبديع روائها، ثم نعرج بقارئنا اللبيب على «وادي الفريكة» مسقط رأس فيلسوفنا الكبير.
وهناك نشاهد معا ما أودعت يد الطبيعة من أودية غناء، وأشجار لفاء، وجبال تناطح السماء، ولا نزال على قدم التجوال والحل والترحال، حتى يتم تطوافنا لربوع لبنان، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى يجذبنا تيار السياحة، فتقذف بنا أمواجه إلى ساحل مدينة «نيويورك»، فنجتمع بنبغاء السوريين وعلماء العالم الجديد - الذين علا صيت فيلسوفنا بينهم، ورفع علم شهرته على نواديهم - فنجول هناك جولة هائم ببديع المناظر، ونصعد نحن وإياه إلى أعلى بناء هناك، فنشرف على الأسواق والسكنات، ونتأمل هناك بحر العمران الزاخر والعالم المتكاثر، ثم نسرع إلى «جسر بروكلن»، فنشاهد ما صنعت يد العلم الحديث، وما أوجدت قرائح الرجال، ولا يدور بخلدنا أن نغادر هذه المدينة إلا بعد أن نشاهد محاكمة الثعلب على خروجه من دينه، وإنكاره كتاب شريعته، ورميه إياه بالتحريف والتبديل أمام المجلس الأعلى في عاصمة «المملكة الحيوانية»، ونشهد والقارئ تنفيذ الإعدام في هذا المقدام.
هذا وقد أخذنا حظنا من هذه المدينة وطال الاغتراب، فحسبنا أن نرجع بزميلنا تلقاء ديارنا، على شريطة أن تكون أوبتنا على طريق من آثارنا؛ فنمر «بسهل الأندلس» الفيحاء، فنسمعه هناك شعر النابغين من العرب العرباء، ونذرف دمعة أمام مجد الآباء الضائع، وتراث الأجداد الفقيد. ولعل أحسن تأسية لنا ولزميلنا أن نتعظ بذلك الدرس الحكيم، الذي هو «كبذور الزارعين»، ونعرف أن من زرع وردا جنى منه وليد بذره، ومن بذر حنظلا لا يجني منه آسا وياسمين.
ومن هنا يحسن بنا أن نعود بزميلنا إلى مدينة الإسكندرية «نيويورك البلاد المصرية» بعزم ثابت، ملاحظين أن المسافر هدف المشقة، وانتياب الجوع، ولكن الرجل لا يضيره جوع ساعات أو تحمل المشقات في سبيل أوبته إلى وطنه، فعساه بعد ذلك يعرف قدر نعمة السعة فيحن للبائس المسكين، ويرحم الجائع والفقير، ولعل زميلنا بوصوله ثغر الإسكندرية، واستنشاق هواء بلاده قد نسي مشقة التعب، وارتاح من وعثاء السفر وألم الجوع، غير أننا لا ندعه حتى نقص عليه قصص «هباسيا» المصرية، ابنة الفيلسوف ليون، فيعلم أن ما رأى من حضارة، وما شاهد من عمران في رحلته هذه، زاهد يسير بنسبته إلى ماضي مدنيته المصرية، ثم ننشده بعد ذلك - ونحن في طريق أوبتنا إلى القاهرة - شيئا من الشعر المنثور، أو الشعر الحر. وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الأميركيين .
فمن شاء من القراء مشاطرة زميلنا ما رأى وما سمع في رحلته هذه؛ فليطرق باب المختارات.
باب المختارات
المختارات النثرية (1) وصف بيروت
أيها البيروتيون:
أقمت في هذه البلاد - بلادنا - ست سنوات، ولم أستطع قبل الآن أن أقول في بيروت كلمة حق يرضاها قلب شغف بحب بلاده، ولا ينكرها عقل شغف بحب الحقيقة. نظرت إلى هذه المدينة بعين رأت مدن أوروبا وأميركا، فاستصغرتها وندبت حظها، ثم نظرت إليها بعين شاهدت غيرها من مدن سوريا، فأحببتها وأكبرت شأنها. وأنا الآن ناظر إليها بالعينين فأصفها وأنصفها.
بيروت أم البلاد السورية وأمة البلاد السورية، أميرة المدن الآسيوية، وأجيرة المدن الآسيوية، بيروت حسنة من حسنات التمدن، وآفة من آفاته.
بيروت لؤلؤة شرقية في صيغة من النحاس غربية. هي خلخال في رجل سلطانة المشرق عند الصباح، وأسوار في معصم ربة المغرب عند الغروب. هي ذرة في أوحال تئن فوقها الكهرباء، هي مرجانة على ساحل اختلط تبره برماله، ولجينه بأوحاله.
ساحل النغولة مهد أم المدن السورية وعرشها.
فم الأتون بيروت، وأفق النور بيروت، ومطلع الظلمة بيروت، عروس الحرية هي وعجوز الحرية. يوما تتهادى تحت علم الوطن عفة وكبرا، ويوما تتوكأ على عصاها كيدا ومكرا، يوما تلبس الرعاة العتاة إكليلا من الأزهار، تصعر يوما خدها للظالم، وأمام سدته تعفر يوما وجهها.
بيروت منبر الدستور ومشنقته، بيروت حسناء النظام، وبيروت صخابة الفوضى.
مدينة المدن السورية بيروت، منبت الياسمين والقلام، مغرس الورد والشوكران، القراص فيها يرفع رأسه عزة تحت أزاهر الليمون، والعليق يسرح ويمرح في ظلال النخيل. مدينة الدماء، مدينة المدن، مدينة الخلسة والرجاسة، أخت أورشليم، روحها تئن في الأزقة، نفسها تحشرج في المجاري، قلبها يغرد في البساتين، عينها تدمع في دوائر الحكومة، جسمها يذوب في الموبقات، وعقلها يدق على سندان التفريق في المدارس.
بيروت إحدى وصيفات باريس، هي قمر ينعكس فيه نور المغرب فيضيء المشرق، وتنعكس فيه أيضا ظلمة الغرب، فتزيد الشرق ظلاما. بيروت منبت العلوم، ومغرس الخرافات، هي حقل خصب التربة تزرع فيه أوروبا قمحها وزوانها ووردها وقلامها ، ومع ذلك نراها سائرة إلى الأمام ساهرة صابرة. إذا أقبلت سوريا بيروت أمامها، وإن أدبرت بيروت وراءها. إذا كانت اليوم كآذار من السنة تتراوح في رعدها وبرقها بين الظلمة والنور، غدا تصير كآيار، بل كتموز، كآيار بأزهارها، كتموز بثمارها. إذا كانت اليوم أسيرة شياطين التفريق، غدا تصبح ربة الألفة والإخاء، إذا كانت اليوم عرش التعصب الديني؛ فهي غدا قبره.
مدينة المدن السورية بيروت، وإثمها مثل مجدها؛ كلاهما عظيم، إذا بكت هاج بكاؤها بكاء الأمة، إذا غردت رددت أنغامها بلابل حلب، وشحارير الشام، وحساسين لبنان، وحمام الجليل.
إذا وردت بحيرة الإصلاح «ورد الفرات زئيرها والنيلا»، وإذا أفسدت أفسدت بناتها في السواحل، وعلى شواطئ العاصي والأولى والأردن وبردى.
كلمة باطل تنطق بها بيروت تمسي حجة في دمشق، كلمة حق تصدع بها بيروت تروي غليل القرى الظمآنة، وتبعث في مدن السواحل والسهول روح الجهاد.
أم المدن السورية هي، وعجوز المدن السورية، تعلم بناتها الفضيلة يوما، ويوما تعلمهن الرذيلة، تحمل إليهن نورا، وتحمل إليهن سما، إثمها مثل مجدها؛ كلاهما عظيم، وأعظم من الاثنين واجب فرضه الله على الأمهات: أحسني القدوة يا بيروت يحسن بناتك الاقتداء ... في المروج والجبال، وفي السواحل والسهول، بناتك يستقين من ينابيع علمك وأدبك، من مدارسك، من صحافتك، من منابرك، من مطابعك، فصفي مياها تسقينها بناتك، اخفري السبل، صوني المناهل، تعهدي المسارب، اقطعي يد كل أثيم يشتغل اليوم في تعكيرها أو تخريبها أو تسميمها، اقطعي الأيادي التي تحمل إليها سرا فضول الأديان، وأوحال التعصب، وأوساخ سخافات الأدب والسياسة، طهري ينابيعك، ارحمي بنيك وبناتك.
أشهد ألا نور ولا دخان ولا وحول في سوريا اليوم غير ما كان مصدره بيروت، وأشهد أن بيروت وجه سوريا، وأن «الهوتنتوتي» في هذا الزمان يغسل وجهه ... بيروت قلب سوريا، والعلم يقضي بأن يكون النقل كالقلب والجسم نظيفا نقيا، ولكن المدينة التي تدعى درة في تاج آل عثمان هي درة في أوحال وغبار، تئن فوقها وتحتها الكهرباء، وتبص حولها حباحب الأدباء.
أوحال وأقذار وغبار في أسواق المدينة، وفي آدابها، وفي سياستها، وفي أديانها، ودرة العلم، ودرة الدين، ودرة تاج آل عثمان في هذه الأوحال والأقذار غائصات ضائعات، وماذا يزيل الأوحال والأقذار والغبار؟ لا الصحافة، ولا قرض البلدية، ولا قصائد الشعراء، ولا كلماتي تزيلها. هذه الأقذار من فضول الأعصر والأجيال، ولا يزيلها أبدا سرمدا غير التربية الحقة، والتهذيب الصحيح. تربية أساسها الشجاعة والحمية والصدق والنظافة، وتهذيب أساسه النزاهة والأمانة والإقدام، وحب العدل والوطن، متى تأصلت هذه الفضائل في الرعاة، وفي الرعية، وفي السائدين والمسودين، تصطلح جادات المدينة، وتستقيم جادات الأدب والدين والسياسة، أصلحوا الحياة تصلحوا الحكومة، أصلحوا الحياة تصلحوا المدينة. (2) وادي الفريكة أو العود إلى الطبيعة
وادي الفريكة مهيب أكثر منه جميل، هو عميق ملتو ينحدر من قرية صغيرة ليغسل رجليه في نهر الكلب، هو صغير ولكنه كثير الزوايا والأسرار، يجمع بين الدلب الذي لا يعيش إلا بالقرب من الماء، والصنوبر الذي يكتفي بمشاهدة البحر من أعالي الجبال، وفي الشتاء تنثر الطبيعة تحت قدميه أزاهر الدفلى، وتكلل رأسه في الربيع وفي الصيف بأزاهير اللزان، ومع هذا الجلال والدلال تراه حاملا على منكبيه كثيرا من الأطواد التي تخضع صاغرة تحت قدمي صنين.
نعم، إن ملتقى الجبال على منكبي وادي الفريكة، هنالك تعانق جبال القاطع جبال كسروان، ومن أعطافها تتدفق في الشتاء المياه التي تجري في نهر الكلب، هنالك تمتد الأعناق، وتنحني الرءوس، وتضغط الخدود بعضها على بعض، وفي الصباح قبل أن يغيب القمر وتشرق الشمس، تتلألأ فوقها آلهة الحب لتباركها إلى الأبد، تشرق الزهرة من وراء جبل صنين، وترسل أشعتها الباهرة فوق الجبال التي يعانق بعضها بعضا عناقا أبديا على منكبي وادي الفريكة.
في هذه الوادي من القصور الشامخة، والمنحدرات المخوفة، والوهاد العميقة، والكهوف المظلمة، ما لا يرغب الناس في الانحدار إليه، فهو يقول للفلاح: تعال وفأسك ومنجلك، ويقول لمحب الطبيعة: تعال بأفكارك وتصوراتك، كما تقول الرياض لمحب السرور: تعال بالعود والدن.
في صباح يوم من الأيام التي تقف حائرة بين الخريف والشتاء لبيت دعوة الوادي، خرجت من بيتي بمعطف مشمع، وأخذت أقفز عن الربى، وأدب من تحت الصخور حتى وصلت إلى قلب الغاب. نزلت لأتفقد الوادي بعد أن اغتسل بسحابة الخريف الأولى، هبطت على عادتي لا ترويحا للنفس - كما يقال - بل طالبا الإلهام، ناشدا الفائدة.
نعم، أنا أقصد الوادي كما يقصده الفلاح، ولكن فأسي ومنجلي يختلفان نوعا عن فأسه ومنجله، وأحمالنا ونحن عائدان تختلف كثيرا بعضها عن بعض، على أن حطب الغاب يفيد في هذه الأيام أكثر من حطب الخيال، والفلاح هو الفيلسوف الحقيقي، ولكن ذلك قلما يهمني.
قد انحدرت إلى الوادي ووقفت على صخر يشرف على النهر، وتأملت فعل العواصف والأنواء الليلة البارحة، تلك الليلة التي دخل إله الشتاء بعروسه الطبيعة، كيف لا ومياه النهر والسواقي حمراء كالدم، وقفت هنالك مبتهجا، فأحسست بأن روحي انفصلت عن جسمي وطارت فوق الأشجار البليلة، وفوق الصخور الشهباء في الصيف السوداء بعد الأمطار، طارت وطار معها ما تراكم على رأسي وقلبي من الأفكار والخيالات والأماني، طارت مسرعة صامتة كما يطير السنونو والحسون في هذا الفصل.
شعرت بأن روح الوادي تجسدت في، وروحي تجسدت في الوادي؛ فأنا إذن والوادي سواء، في نفسي ما فيه من الظلال والخيالات والكهوف، في نفسي ما فيه من الصخور الشامخة، والمنحدرات الهائلة، والسواقي الفائضة، والأنهر الجارية، في نفسي ما فيه من العصافير والجنادب والنسور، ومن الهوام والذئاب أيضا، أيها القارئ البعيد القريب.
صعدت قليلا وجلست تحت خرنوبة غضة، وتنفست متنشقا هواء الإحراج المنعش، فكاد يكون لنفسي صدى في حفيف الأوراق، في ظل هذه السكينة يكاد المرء يسمع خفقان قلبه، وعند توغلي في الصخر سمعت صوت رفرفة العصافير، فالتفت إلى جهة الصوت، وإذا بسرب كبير من السنونو فر من أمامي، ففكرت في نفسي قائلا: لو كان للطير أن يقرأ الأفكار لما كان هذا السرب يفر الآن من وجهي، بل كان يجيئني مغردا، فأقبله ويقبلني، ويسير بعدئذ كل منا في سبيله، ولكن إخواني البشر لم يعودوا الطير مثل هذا، والسنونو لم يقرأ شيئا حتى اليوم مما أكتبه. إلى الآن لا يعرفني، وهل يلام على ذلك والإنسان نفسه لم يزل يعجز عن فهم ما انطوى عليه الإنسان؟!
السكينة بعد العواصف. أتأملتها في زمانك؟ هي عندي نوع من الراحة الأبدية، السكينة في الوادي تكاد تكون في هذا الفصل غير عالمية، فما أنعشها للنفس! وما أجمل وقعها على الأذن والقلب! ولو جاز أن تقول إن للسكينة ألحانا وأنغاما، لقلت إنها أشجى في مسمعي، وأبدع من ألحان أمهر الموسيقيين، وما معنى الألحان التي لا تسبقها وتتلوها السكينة؟ إنها عندي كلا شيء، بل هي ضجيج مزعج ممل. وأما العبير المنتشر في الغابات بعد الأمطار - وخصوصا بعد السحابة الأولى من فصل الشتاء - فيحير الكيماوي والنباتي والعطار، فما أشذاه وأطيبه! وما أبعده وأغربه! أيفاخرني الخليع بروائح الحشيش والأفيون وحبوب المسك والعنبر وغيرها من «نسخات» المصريين؟ فوالله إن روائح الغاب والوادي بعد الأمطار لأطيب منها شذى، وأبعد منها غرابة، وأشد منها فعلا في النفس.
مر علي ساعة من الزمن وأنا أتنشق هذه الروائح، وأفكر في الحشاشين والروحيين والبوذيين، في أولئك الذين يسكرهم الإيمان أو الأفيون، فيرتفعون بأحلامهم إلى ما وراء الطبيعة، أو ينحدرون إلى ما تحتها، فنهضت وقد تخدرت أعصابي من أرج الأشجار الندية، وأفيون الأرض الندية، ونظرت بعين البصيرة إلى الأفق من خلال الأغصان، فتنسمت من الغيوم المتراكمة فيه خيرا، وقلت في نفسي: إلى البيت يا ولد، إلى البيت. فها قد اختبأت في أعشاشها الطيور، وعادت إلى أوكارها الحشرات والهوام، وعدت نحو حظائرها الماشية. ها قد انهزمت السكينة أمام الرياح، وهبت الأوراق الصفراء البالية من الأدواح لتختبئ في الغياض والأدغال. وأنت، فما الذي يبقيك هنا؟ عد إلى عشك قبل أن تحاصرك الرياح، عد إلى عشك قبل أن تسل عليك صوارمها الغيوم وتطلق مدافعها، قبل أن ترسل عليك السحب شآبيبها. فقبلت نصيحة نفسي، ونظرت حولي باحثا، فرأيت بالقرب من شجرة صنوبر كبيرة صخرا قد نقرت فيه الديم والأعاصير مغارة صغيرة، فتقدمت نحوها ودججت تحت الصخر إليها دجا، وتأملت بعد ذلك حكمة الطبيعة، ورحمة العواصف والرياح. لا أيها القارئ ، إن الطبيعة لا تظلم بنيها مهما اشتد غضبها، ومهما تعامت في مناحيها الهائلة المخوفة، وأما أولئك الذين يخافون الأمطار ويخشون الأعاصير فيتفرجون عليها من وراء الزجاج، فذرهم في نعيمهم يمرحون، أولئك فقراء الروح لا يدركون الغرض الجوهري من الحياة الدنيوية، ولا يعرفون ما غرب وخفي فيها من اللذات الروحية والجسدية. كم من مرة سمعت صوت النفس يناجيني قائلا: امش تحت المطر الهاطل، وعرض خديك لسهام الغيوم، بل لقبلاتها، فهي تسيل شوقا إليك، وإذا وجدت نفسك في الغاب أو في الوادي في مثل هذه الآونة، فلا تخف على جلدك من الذوبان، ولا تهرول إلى البيت كالجبان، بل قل لنفسك: مكانك تحمدي أو تستريحي. افرح بكل مظهر من مظاهر الطبيعة، واستفد إن كان عندك ذروة من العلم، عليك بشجرة وارفة الظلال، فاشغل فكرك أو قلبك بشيء تراه حولك ولا تكن من الخاسرين. هذه الفرص ثمينة يا صاح، وهي أندر من الغراب الأعصم، ولعلك لا توفق أيضا للاقتراب من الطبيعة في شدة غضبها في ساعة تهيجها واضطرابها، فاقترب منها الآن، تعلم منها الثبات والإخلاص، واستمد منها القوة والجلال.
إذا كنت في سفينة تتقاذفها الرياح من كل جانب، وأوشكت تبتلعها الأمواج، أتضيع وقتك بالعويل والنحيب صارفا النظر عما يتمثل حواليك من جمال الطبيعة وهولها وجلالها؟ لا أقول لك: لا تصل إلى الله لينجيك من الغرق في مثل تلك الساعة، ولكنني أقول: اشكره تعالى أولا وآخرا على أنه جعلك ممن شاهدوا هذا المشهد العظيم، ووقفوا هذا الموقف الرهيب. ألا تظن مشاهدة البحر ساعة هيجانه تساوي شيئا، وخصوصا إذا كنت في مركب واقع في شبك أمواجه الزابدة؟ هل لنا أن نختبر مثل هذه الاختبارات النادرة كل يوم؟ ولنفرض أني مت في الوادي تحت الغيث الهاطل، أو سكنت قعر البحر تحت الموج المتراكم، أينقص من نفسي الأزلية شيء؟ فعلام الخوف والجبن؟ أيخشى الإنسان ربه؟ أيحاذر ابن الطبيعة أمه؟ أتوجس النفس الأزلية خيفة من شيء زائل؟
قد شذبت نصائح القوم، ووضعت ما بقي منها في جيبي، وسرت مع نفسي سيرا بطيئا بعيدا عن طرق الوادي الضيقة، بعيدا عن تلك الخطوط الصفراء التي يراها التائه عن بعد، فيقصدها ويلازمها مطمئنا، سرت بين شرايين الوادي وعروقه طالبا في القلب مركزا جميلا تزينه ثلاث من أدواح الصنوبر الشامخة، وقد تساوت كلها حجما وقدا وجمالا، رأيتها واقفة هنالك شبه عرائس خرجن من خدورهن ليدعونني إليهن. وهل تظنني خاطرت بنفسي إذ لبيت الدعوة؟ لا وحياتك أيها القارئ، فقد خاطرت بشيء من اللحم والدم والعظام التي تقيد النفس، أوليس من المحمدة أن يطلق المرء للنفس زمامها مهما كلفه ذلك؟ أوجه هذا السؤال إلى الشعراء لا إلى اللاهوتيين. أنا لا أذكر سوى اللذات الروحية حينما أكون بالقرب من الطبيعة، ومتى عدت إلى المدينة، فهنالك لذات جسدية تنتظرني، هنالك سرور ينسيني النفس كما ينسيني سروري الآن سرور الجسد.
وأما الكوارث والحوادث التي يخافها الناس، ويبالغون في التهويل بها، فمتى جاءت تراني متأهبا، تراني دائما مستعدا إلى السفر.
الطريق التي اتخذتها إلى الصنوبر في الوادي هي الطريق إلى الحقيقة في العالم، وعلى من يحب الاقتراب من الصنوبر، وتتوق نفسه إلى فيء أشجاره وأرضه المفروشة بإبره اليابسة، أن يخاطر بكثير من الرفاهية التي ألفها، عليه أن يخاطر في الأحايين بحياته، أي بلحمه ودمه، عليه أن يمشي بين العوسج والأدغال، وعلى الشوك والبلان والشيح، بين الحجارة والرتم والقيصوم، وفوق الصخور المغطاة بالطحلب النامي في ثقوبها الغار والخنشار، عليه أن يدج دجيجا من تحتها تارة، ويقبل شوك القرقفان الذي يعترضه، ويشم رائحة الطيون الذي تلتصق أوراقه بثيابه، وقد يقع تارة من صخر أملس، ويزلق طورا على الأرض المفروشة بورق الأشجار البالي، وبينما هو سائر يسمع الحقيقة تخاطبه قائلة: أنا الصنوبر أيها الشاب الطلق المحيا، الرائع الوجه، الرقيق العواطف، الراسخ في علم السلوك، المواظب على سنن الأدب والمسامرة، فإن كنت تريد الاقتراب مني، إن كنت تريد الجلوس تحت جوانحي الخضراء المبللة بندى الحب؛ فعليك أن تترك وراءك نعومة المجالس، وجمال الترف، ورفاهة العيش وبذخه، عليك أن تدوس شوك الخرافة، وتمشي بين عوسج التقليد، وتقطع أودية الأوهام، وتعبر سواقي الحب الكاذب، وتتوغل في الصخور الشامخة، وتسقط تارة في عليق الرؤساء، وطورا في أدغال الحكام وأحافير الشرائع.
وإذا سلمت بعد كل فصعد في الصخور المعتزة بذاتها، المتفردة بعظمتها، القائمة على شفر الهاوية، من غير أن تشعر بشيء من الخوف والرهبة، أو أن يخامرك بشيء من الريب بنفسك. ومتى وصلت إلي تقيم في ظلي سعيدا، قريبا من الحياة بعيدا عنها في آن واحد، وتصبح مثل قمة جبل الشيخ لا ملك فيك لأحد من الناس، ولا لإحدى الطوائف والأحزاب، تصبح إذ ذاك ملكا مشاعا للجميع. تبارك من عاش في ظل الحقيقة، تبارك من ملك نفسه.
حاصرني المطر في كهفي الصغير ساعة من الزمن، فأخذت أتأمل أثناء ذلك ما كان داخله من آثار المخلوقات التي سكنته قبلي، فرأيت أن الحية كانت تدخله لتغير فيه ثوبها، والثعلب ليأكل فرخته، والضبع ليفترش فيه مائدته. كيف لا وهذا ثوب الحية البالي، وهنا بعض ريش الدجاجة المسكينة، وهناك عظم من عظام الثعلب، وفي السقف والزوايا أنسجة العنكبوت، وفيها عشيرة من البعوض؟ وإني أؤكد أن هذه البعوضة الراقدة الآن في هذه الخيام النحيفة آمن على نفسها من قيصر الروس في قصره! ولقد يستطيع حزاز الصخور أن يفيدني شيئا من هذا الباب لو شاء ربك، لقد يستطيع الخنشار النامي على باب المغارة الباسط جناحه المزركش فوق هذه الأوراق البالية أن يقص علي قصة غريبة عجيبة، فكم من حادث حدث في جوف هذا الكهف لو كان لجدرانه أن تنطق وتتكلم.
آها على رفيق يشاطرني الآن هذا المأوى الصغير المعتم البارد، الجميل في ذاته - لا أنكر أن العزلة جميلة - ولكن رفيقا واحدا؛ لأقول له من وقت إلى آخر: إن العزلة جميلة؛ فقد تاقت نفسي وأنا بالقرب من الطبيعة إلى نفس بشرية أخرى تريني بما فيها من القوة والضعف ما خفي من قوتي وضعفي. تأملت وأنا في هذه المغارة ما في الطبيعة من القوى الكامنة، ومن الهول الراقد تحت ستار السكينة والجمال، فجرني الفكر إلى الهيئة الاجتماعية الحاضرة الواقفة على شفر هاوية فتن لم يسبق لها مثيل في التاريخ. جرني الفكر إلى ستار الكذب والتصنع والاحتيال الذي يسدله ذوو الغايات النفسية على الحقيقة، إلى القوى الكامنة في الشعوب المظلومة، إلى الهول الراقد تحت ملاءة من الخوف والخمول، إلى الخير الكامن في الأفراد الغيورين على الحقيقة، الجريئين في الذب عنها، ومهما اشتدت الاضطهادات على ذوي الأفكار فهم لا يحرمون كوخا يلتجئون إليه؛ تضربنا الطبيعة باليسرى وتعيننا باليمنى؛ تعد لنا المغاور لنلتجئ إليها حينما يشتد غضبها الأعمى، وإذا حملقت فينا الهيئة الاجتماعية، وكشرت عن نابها؛ ففي زوايا الأرض وأطرافها نفوس حرة سامية تنعشنا بطيب شذاها، وتجدد فينا حرارة محبتها الحماسة والنشاط.
وبعد أن وضعت حرب الرقيع أوزارها أشرقت السماء قليلا، فظهر شيء من نور الشمس من خلال الغيوم والأغصان، وحول نقط الماء المتجمعة على الأوراق إلى نثرات من الفضة، وحبات من اللؤلؤ الثمين، وأخذت إذ ذاك العصافير تطير من غصن إلى غصن، ومن صخر إلى آخر ساكتة خائفة، وهكذا تفعل بعد الأمطار والعواصف، فهل هي تشعر مع الشاعر بلذة التأمل الذي توجبه السكينة؟ أتمثل الآن دور الفيلسوف بعد أن مثلت دور المنشد المطرب؟
في مثل الساعة - ساعة السكينة والهدوء - لا تتوق النفس المبتهجة إلى الشمس ونورها، ولا تشتاق إلى بهائها وحرارتها، في مثل هذا الوقت من السنة تلذ لي الغاب، ويبعدني الوادي عن الأوراق والكتب، تلذ لي الغاب وما فيها من السلوى والإلهام والراحة، تلذ لي ظلمتها وظلالها، سكينتها وصخورها، وأشجارها وأدغالها، أشواكها وأزهارها. نعم، إن صوت الغيث الهاطل على الأشجار جميل؛ فهو يضرب على أغصانها وأوراقها فيخرج منها أنغاما وألحانا مطربة مدهشة، ولكن السكينة التي تتلو العواصف أجمل في أذن النفس وأطرب.
صوت الأوراق الصفراء التي تقع متناثرة إلى الأرض من ثقل ما عليها من الماء، أو صوت نقطة ماء تقع من ورقة خضراء حية على ورقة يابسة ميتة، أو صوت فأس الحطاب بين أشجار العفص والسنديان، أو أصوات الأولاد الذين يؤمون الوادي والغابات طالبين الحلازين . هذا كل ما تسمعه في الغاب بعد العواصف والرياح، وهو جميل؛ لأنه قليل في كثير:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
صحيح ما يقال من أن الرياح والأعاصير تضر بمصالح الناس، ولكن أمن أجل الإنسان ومصالحه الزمنية المادية خلق الله كل شيء؟
هكذا يقال في التعاليم الدينية، ولكن الطبيعة تقول غير هذا القول، ويظهر لي أن الأعاصير تعوض أضعافا على الإنسان؛ فالذي تأخذه من ملكه الخاص تعيده إلى ملك الطبيعة، والخسارة لا تكون إلا نسبية. وهذا ظاهر لكل الذين وصلوا بترقيهم الروحي العقلي إلى درجة يتم فيها امتزاج الروح البشرية بروح الطبيعة الشاملة. وهؤلاء القلائل لا يفقدون شيئا أزليا، ولا يكسبون شيئا زائلا؛ لأن الطبيعة بما فيها هي أبدا لهم، وهم أيضا لها على غابر الدهر.
السير في شوارع المدن الكبرى يذكر الإنسان بالإنسان، وأما السير في الوادي أو الغاب فيذكر السائر بالخالق العظيم. الأول يدعو إلى العمل، والثاني إلى التفكر والتأمل. في الأول بعض اللذة التي يتبعها الإعياء والقنوط، وفي الثاني نوع من اللذة الذي يتبعه النشاط والعزم وحسن الآمال.
يمشي المتنزه في شارع من شوارع باريز أو نيويورك فيدهشه ازدحام الناس، وتنقبض نفسه من الضجيج، ويتبلبل فكره مما يراه وراء زجاج النوافذ الكبيرة من مصنوعات الإنسان، ومن التحف والعاديات، ويمشي ابن الطبيعة في الغاب بين الأدغال وتحت الأشجار والأدواح فتنعشه روائح الصنوبر، ويسكره أرج الأرض الذكي الممتزج بروائح القويسة والبطم والغار، فيخرج من بيت أمه وقد ملئ نشاطا وعزما وسرورا، وبالأخص إذا كان معها في ساعة تهيجها. يخرج إذ ذاك وهو شاعر بأنه يستحق أن تعامله الطبيعة معاملة مثيل لها، بل معاملة أحد أعضائها المتساوين أمام الناموس الشامل الدائم الذي لا يبطل من أجل الأغنياء، ولا يلغى من أجل الملوك والأمراء.
وهكذا خرجت من الوادي بعد أن قضيت فيه بضع ساعات، خرجت بعد أن تصفحت فصلا طويلا من كتاب أميرة المنشئين وربة الكتاب. (3) فوق سطوح نيويورك
دخلت ذات يوم مصعد إحدى بنايات نيويورك الشاهقة ، فرفعني الخادم في أقل من دقيقة إلى الطابق الأخير منها - الطابق الخامس والعشرين - ومن هناك أخذت أدور صاعدا درجا من الحديد لولبيا حتى وصلت إلى قبة البناية العظيمة؛ قبة تكاد تختفي بين الغيوم في النهار، وتضيع بين النجوم في الليل، قبة ترتفع بين أبنية نيويورك العالية ارتفاع هذه فوق بيوت الفقراء الحقيرة. ومن هناك يشرف المتفرج على مدينة نيويورك العظمى، وينظر إليها نظرة الطائر، ولكن يجب عليه قبل أن يرى أسواقها المزدحمة أن يطل من حالق على سطوحها المشتبكة بأسلاك البرق والتلفون، المغشاة بالدخان المتصاعد من المداخن ومن آلات سكك الحديد الجارية فوق الأسواق.
وبعد أن وقفت في القبة بعيدا عن ضجة الأشغال، وحركة التجارة، وصياح باعة الجرائد، وضوضاء الأرتال والمركبات، تنشقت الهواء النقي الذي يندر في البيوت والأسواق، تنشقت منه مقدارا وافرا، وسرحت نظري فيما تحتي من السطوح، وما فوقها من المداخن التي يتصاعد منها الدخان على الدوام في النهار وفي الليل؛ فخيل لي أن هذه المداخن أفواه براكين هائلة تنذر بقدوم انفجار عظيم، فكأنها أيادي أولئك المعدنين السوداء مرتفعة نحو السماء ليصرف الله عنهم البلاء، وكأن الدخان المتصاعد من أناملها هو الفائض من دخان الظلمات التي يسكنها المعدنون، ويحفرون فيها ساكتين صابرين. ألوف من المداخن تنفث في وجه السماء روحها الغازي، رافعة إلى الخالق احتجاجها على القائلين بحركة العمل المستمرة، بالحركة الدائمة التي لا يتخللها راحة ولا هدوء.
تأملت هذا الدخان مليا، ونظرت في تكوينه وأشكاله، في اجتماعه وتبدده، في صعوده وسقوطه، في انسلاله وهجومه؛ فرأيت هنالك أشباحا وحشية ترتفع تارة وتنخفض أخرى، وتهجم على الهواء هجوم الزابع في الفضاء، فكأنها تريد إفساده بنفسها الغازي القتال. هي أمواج بخارية تتلاطم وتنتفخ وتتبدد في الجو: هذه تشبه حية تنساب وتختفي، وتلك تشبه جاموسا يشول برأسه وينطح بقرنيه السماء، فيعود منهزما مسحوقا متبددا في الفضاء.
أغمض الطرف قليلا وعد معي إلى عالم التجارة والعمل، ألا ترى لتلك الأشباح والهيئات المرعبة أمثالا في الهيئة الاجتماعية؟
ألا ترى كيف هذا الجاموس في البورص ينطح تلك النعاج الصغار فيقتلها، ومن ثم ينطح خالقه فيقتل نفسه؟
ألا ترى تلك الحية في الهيئة الاجتماعية تنفث سمها في الإخوان، ولا تلبث أن تنفد قوتها المميتة، فتتلاشى كما تتلاشى أمواج الدخان؟
أترى هذه المداخن فوق هذه السطوح؟ لينفذ بصرك في الضباب المتصاعد منها، فترى ما وراءها من الشقاء والبلاء، من الويل واللأواء. إن وراء هذه المداخن - وإن شئت فقل تحتها - ألوفا من الأرواح البشرية التي تضرب بالمعاول تحت الأرض اثنتي عشرة ساعة كل يوم، فالدخان هو روح الفحم الذي يحترق في الألوف من الأكوار والمواقد والأتن، ومع الفحم أيضا تحترق أرواح أولئك الرجال والأولاد الذين يعدنون في ظلمة قتالة لا يدخلها الهواء ولا النور ولا الماء إلا بالطرائق الصناعية؛ فهم يستخرجون الفحم وهم يحملونه إلى الأرتال التي تنقله إلى المدن والقرى. هو عملهم المقدس الذي يحترق الآن أمامك ويذهب أدراج الرياح. نعم، إن نتيجة عملهم للعالم عظيمة، ولكنها لأنفسهم عقيمة، هي كالدخان الذي يتبدد الآن تحت عينيك.
لا بد لنا من الفحم في الوقت الحاضر، ولكن أيبطل في المستقبل استعماله؟ إن كثيرا من البيوت الآن تستعيض عنه بالغاز للطبخ وللدفاء، وبعض شركات السكك الحديدية تستخدم عوضه الكهرباء. نعم، قد تنفد المعادن يوما من الأيام، فيحرر المعدنون من العبودية التي لا مثيل لها حتى في العبوديات القديمة، العبوديات التي أبطلت بحد السيف، وسفكت من أجلها دماء الأحرار.
لا يمضي شهر إلا ويحدث في معادن الفحم في هذه البلاد وفي غيرها كوارث تقضي على مئات وألوف من المعدنين بالموت السريع؛ فكم مرة انهالت الأرض على أولئك المستعبدين، وهم على أشغالهم مكبون قانعون، فأيمت ألوفا من النساء، ويتمت ألوفا من البنين! فضلا عن استخراج الفحم، فإنه تمثال الموت التدريجي البطيء، فكل معدن يموت بحكم الطبع منتحرا؛ إذ ليس الانتحار محصورا بتجرع السم، وباستنشاق الغاز، وبإطلاق المسدس. لا، الرجل الذي يضطر أن يشتغل مع بنيه الصغار تحت الأرض، فيحرم الهواء النقي والنور وجمال الفضاء لا يموت أبدا موتا طبيعيا، والهيئة الاجتماعية التي لا تقوم إلا بشقاء فئة من بنيها هي هيئة مظلمة مختلة، هي هيئة فاسدة تفتقر إلى كثير من الإصلاح والتعديل والتحسين. قد تقدمنا - على ما يزعم - بعضهم في الحضارة والتمدن، وقد حررنا - على ما نعلم - العبيد، وأطلقنا الحرية في بلاد الغرب لكل امرئ، فقيرا كان أو غنيا، ولكن العبودية الجديدة تظهر في مظاهر مختلفة وأثواب غريبة، فماذا ينفع السجين قولك له: أنت حر؟ ماذا ينفعه تغيير ثوبه المخطط بثوب الرجال الأحرار إذا ظل راسفا في سلاسل الحديد مسجونا في غرفته المظلمة؟
قد تغيرت القيود وتنوعت السلاسل، واستبدل النخاسون بغيرهم. تعددت الأسباب والموت واحد!
إن في الولايات المتحدة من العبوديات أنواعا وأشكالا، فهناك العبودية في المعادن، والعبودية في آبار الغاز، والعبودية في معامل الأنسجة وفي عالم العمل على الإطلاق، فمتى يا ترى يتحرر الإنسان حقا، وتشمل السعادة والراحة كل أسرة بشرية؟
كفانا تأملا في المعادن والمداخن والدخان، لنعد إلى عالم التجارة لنسقط إلى ساحة الجلبة والحركة والضوضاء. ها قد صرت في الشارع أسمع باعة الجرائد ينادون على جرائدهم: أخبار أخيرة، أخبار مهمة، فابتعت نسخة من جريدة المساء وعدت إلى البيت تحت ضباب الفكر، وبين دخان النفس ولهيبها، فجلست إلى الكانون، وقرأت الخبر الآتي:
اضطراب هائل في البورص، وسقوط عظيم في الأسهم. قد بلغت الخسارة في ساعة واحدة خمسين مليون دولار بسبب سقوط الأسعار الفجائي.
خمسون مليون دولار تخسر وتكسب في هنيهة من الزمن، وألوف من المعدنين يضربون بالمعاول عشر ساعات في النهار، ويخاطرون بأرواحهم وأرواح بنيهم في الظلمات الكالحة تحت الأرض من أجل دولار أو دولارين! ما أجمل هذا العالم يا صاح! وما ألطف هذا التمدن الحديث الذي يأتينا في كل شارقة وبارقة بمثل هذه الغرائب الخارقة! (4) من على جسر بروكلن
أحبك يا نيويورك على ما فيك من حركة وضجيج وازدحام، أحبك على ما فيك من غريب الخزعبلات والأوهام، أحبك وإن كنت لا تحفلين بما يحلمه شعراؤك من جميل الأحلام، أحبك لا من أجل ملاهيك الحافلة، وحدائقك الزاهرة، وصروحك الشامخة ، ومتنزهاتك الفسيحة الباهرة، ولا من أجل بناتك النشيطات الجميلات، أو نساءك المترجلات، بل أحبك من أجل جسرك العظيم فقط! ذلك الجسر الذي يراه المرء في الليل عن بعد وقد أضيء بالأنوار المتنوعة الألوان فيظنه القسطان. ومحبتي لهذا البناء الحديدي العظيم محبة الصانع لشيء جميل يصنعه. أحبه كأنه ملكي الخاص، أحبه كأنه صنعة يدي، وكلما داهمتني جيوش الهموم واليأس سرت إلى الجسر وحصنت هناك نفسي. هناك أنصب خيامي، وبين أبنية المدينتين أرفع علمي، وأجيش من النور والهواء جيشا جرارا، فتبدد أمامه غيوم الغم، ويذوب ثلج الأكدار؛ فأقف إذ ذاك منتصرا والهواء البارد النقي يورد خدي. أقف في منتصف الجسر فوق المراكب والبوارج الجارية تحتي، وبين العربات والأرتال المارة عن يميني وشمالي، وأتهلل بفوزي المبين - بفوز النفس على الهموم المحدقة بها - على الرزايا التي تغشيها. لا جرم أن من يقطع الجسر ماشيا كل يوم يستغني في حياته كلها عن الطبيب والكاهن والمحامي؛ يستغني عن الطبيب لأن الهواء النقي والمشي هما الطبيبان الحقيقيان، يستغني عن الكاهن لأن المشي يساعد على التأمل، والتأمل يسمو بصاحبه إلى ما فوق السفليات، ويعقد بين خالقه وبينه ذاك الاتحاد الذي تتوق إليه كل نفس بشرية سامية، ويستغني عن المحامي لأن النفس إذا استحمت كل يوم في نور الشمس، وانتعشت من نسيم الصباح، وناجت في الفجر خالقها؛ يتولد فيها للخصام كره شديد.
ألوف من الناس يقطعون الجسر كل يوم، ولكن كم هو عدد من يمشون ولا يخاطرون بأنفسهم في الأرتال المزدحمة؟ عددهم أقل من عدد الحكماء في العالم. على الجسر طريق رحبة خاصة بالمشي، وطريقان ضيقتان لسكة الحديد والمركبات الكهربائية. وإذا اعتاد جمهور الناس أن يعبر الطرق الضيقة في الحياة، ترى الأرتال أبدا مزدحمة، وطريق السير الواسعة أبدا مهجورة.
قطعت الجسر ماشيا على عادتي ذات يوم من أيام الشتاء الشديدة الرياح، الكثيرة الأمطار، فكم من شخص تظنني صادفت في طريقي؟
رجلا واحدا وبوليسين، أما البوليسان فلا فضل لهما في قيامهما هناك، ولكن الشخص الآخر جدد في الرجاء.
ما أجمل المطر على الجسر وعلى النهر تحته! وما أقبح قعقعة المركبات والأرتال وقد شحن فيها الناس كالمواشي! ما أشقى هؤلاء الناس! ما أثمن أوقاتهم وما أرخص حياتهم! ما أعظم أشغالهم وما أصغر أعمالهم! هم يخافون على جلودهم من الأمطار، ولكنهم لا يخافون على رئاتهم من جراثيم الملاريا والسل. يهربون من الهواء النقي ومن تحت سماء الله الواسعة؛ لأن ذلك تستوجبه التجارة. يكرهون المشي لأنه مضر بأشغالهم؛ فبئس الأرباح، ونعم الخسارة!
يرى السائر على الجسر أن الطريق الجميلة الرحبة قد خصصت به وبقليل من مثله، فإذا مشى هناك يقدر أن يرفع يديه إلى العلا ليمجد خالقه دون أن يسيء إلى أحد، ويقدر أن يتنشق الهواء مليا غير ممزوج بهدروجين البشر.
ولكن لننظر في المسألة من وجه آخر، لو كان كل من يقطعون الجسر حكماء تهمهم صحتهم أكثر من تجارتهم لازدحمت طريق المشي الرحبة، وأصبح هواؤها كهواء الأرتال. سبحان من دبر الأمور! فالطرق الفسيحة جميلة؛ لأن عابريها قليلون. لتزدحم الناس مع جراثيم الملاريا والسل إذن، وأنا أمشي مع إخواني - وإن قل عددهم - على طريق الجسر المتنكب عنها، وتحت سماء الله.
وفي مثل هذا اليوم وقفت على الجسر بعد الغروب بنصف ساعة، وسرحت نظري في مرفأ نيويورك الواسع المستدير الجميل، المرفأ الذي لا يخلو دقيقة واحدة في النهار أو الليل من البواخر والقوارب والمراكب واليخوت؛ بواخر قافلة، وسفن حافلة، وقوارب راسية، وزوارق تشق العباب ذاهبة جائية، وهناك في جنوب المرفأ ترفع الحرية رأسها قائمة على أركانها لتضيء العالم الجديد بضوء نبراسها. رأيتها تلك الساعة تشعل مصباحها في الوقت الذي ظهر فيه البدر من وراء مدخنة في مدينة بروكلن، فخيل لي أن تمثال الحرية محطة للقمر على الأرض يصل إليها نوره، فتعكس الأشعة بعد أن تجتمع على وجهها الجميل، وتذكر العالم الجديد بثبات هذا الكوكب القديم، فقلت في نفسي: متى يا ترى تصير الحرية مثل هذا القمر، فتوقد مصباحها لا في الغرب فقط، بل في الشرق وفي الجنوب وفي الشمال، في العالم بأسره؟
متى تحولين وجهك نحو الشرق، أيتها الحرية؟ متى يمتزج نورك بنور هذا البدر الباهر، فيدور معه حول الأرض، ويضيء ظلمات كل شعب مظلوم؟ أيتأتى أن يرى المستقبل تمثالا للحرية بجانب الأهرام؟ أيمكن أن نرى لك في بحر الروم مثيلا؟ أممكن أن يولد لك أخوات في الدردنيل، وفي بحر الهند، وفي خليج الصين؟ أيتها الحرية، متى تدورين مع البدر حول الأرض لتنيري ظلمات الشعوب المقيدة والأمم المستعبدة؟
وأنت أيتها البواخر المقلة إلى أوروبا ومصر وعدن والهند منسوجات «نوانكلند» وقطن «فرجنيا» وحديد «بنسلفانيا» وقمح «تكساس» وخشب «فرمنت»، خذي معك إلى بحر الروم وبحر الهند والبحر الأحمر والبحر المتوسط بعض موجات من هذه الأمواج التي تغسل أبدا قدمي تمثال الحرية، خذي معك ولو زجاجة صغيرة من هذا الماء المقدس، ورشي منها سواحل مصر وسوريا وفلسطين وأرمينيا والأناضول، وإلى كل جزيرة تمرين بها، وكل بلاد تقصدينها، وكل شعب تحيي سواريك قباب كنائسه، ومآذن جوامعه. احملي سلام هذه الآلهة التي تنير الآن طريقك في الخروج من العالم الجديد، وتوكل بك ما لها في السماء من شقيقات باهرات، احملي إلى الشرق شيئا من نشاط الغرب، وعودي إلى الغرب بشيء من تقاعد الشرق، احملي إلى الهند بالة من حكمة الأميركان العملية، وعودي إلى نيويورك ببضعة أكياس من بذور الفلسفة الهندية، اقذفي على مصر وسوريا بفيض من ثمار العلوم الهندسية، واقفلي إلى هذه البلاد بفيض من المكارم العربية. أيتها البواخر الآيبة، حيي عن جسر بروكلن خرائب تدمر وقلعة بعلبك، وأقرئي أهرام مصر سلام هذه المعالم الشاهقة المشعشعة بالكهرباء، سيري أيتها السفن بسلام، وارجعي بسلام. •••
وقد شاهدت الآن ثلاثة مناظر عظيمة لا أقدر أن أنساها حياتي. لا أتناساها لأنها عندي أشبه برموز جميلة لدعائم الحياة الروحية الثلاث، هي مراحل في رحلتي الفكرية التي باشرتها منذ خمس سنين أو من حين ولدت. نعم، إني طفل في العالم الروحي، إني سائح في مروج النفس وأوديتها، أمامي مسافة طويلة يجب أن أجتازها، وتحتي هوة هائلة يجب أن أسبر غورها، وفوقي فضاء غير متناه ينبغي لي أن أتمتع بجماله، وحولي من المروج والجبال والأنهر والبحار ما يشغل معظم وقتي لو عشت ألف عام.
أما المناظر الثلاثة التي تمتع بها طرفي حتى الآن فتركت أثرا عظيما في نفسي، فهي: لبنان وسواحله من ذروة جبل صنين، وباريز من على برج إيفل، ونيويورك في الليل من منتصف جسر بروكلن، فالأول إنما هو رمز الطبيعة، والثاني رمز الفنون الجميلة، والثالث رمز الكد والاجتهاد. وهذي هي دعائم الحياة الروحية الثلاث؛ فالمنظر الأول صنعة الله، والمنظران الآخران صنعة الإنسان.
المنظر الأول أو الطبيعة هو منبع النفحات الإلهية والإلهامات الروحية.
والمنظر الثاني أو باريز هو منبع التفنن في الصناعة على الإطلاق.
والمنظر الثالث المنبسط أمامي الآن إنما هو عنوان الجهاد والجلد والثبات والنجاح، فإذا كنت، أيها القارئ، شاعرا أو مصورا أو كاتبا، بل لو كنت صباغا أو دباغا أو إسكافا، وجه نظرك إلى الطبيعة أولا تستمد منها الإلهام الإلهي، وعنها تقتبس الألوان البديعة، والمناظر الجميلة، والأشكال الأنيقة، والنغمات السماوية، وعرج على باريز ثانيا تتعلم منها دقة الصناعة، ولطافة الأسلوب، وجمال الفنون، وغرابة الإبداع، وسر الابتكار، وانزل على نيويورك ثالثا تأخذ منها الاجتهاد والجلادة، وتتعلم من أهلها الاستقلال في العمل، والثبات بعد الفشل.
الطبيعة، التفنن، الاجتهاد، هذي هي أس الأعمال الفكرية، هذي هي دعائم الحياة الروحية.
لبنان، باريز، نيويورك: في الأولى روحي، وفي الثانية قلبي، وفي الثالثة الآن جسدي. (5) فلتكمل مشيئة الله
1
في اليوم الثالث اجتمع الحصان والبغل والحمار في ديوان التفتيش، وأمروا بإحضار الثعلب المتهم بالكفر والإلحاد إلى المجلس؛ كي يسمع الحكم الذي أصدره القضاة الثلاثة، وكانت قضيته قد اشتهرت، فسمع بها القاصي والداني من جميع الحيوانات، فحضر منهم عدد غفير إلى المجلس ليروا الثعلب المتهم، ويسمعوا تلاوة الحكم المخيف.
ولما دخل الثعلب المجلس مكبلا بالحديد، ومحاطا باثنين من الخفر، أخذت الحيوانات في اللبيط والصفير والنهيق، ولم يكن المتفرج ليسمع إلا كلمات يفهم منها الصلب والشنق والحريق: فليمت الثعلب، فلتسقط الكهربائية، فليحي المجلس.
الحصان: يأمركم المجلس بالنظام، وينهاكم عن المظاهرات والصفير والنهيق ، اسمعوا قراءة الحكم الذي أبرزه المجلس بصوت حي.
فاستتب عند ذلك السكوت، وبدأ الكاتب بقراءة ما يلي:
قد ظهر للمجلس وتحقق للمستنطقين: أولا: أن للثعلب اعتقادات خصوصية شريرة تخالف تعاليم جمعيتنا المقدسة، وتناقض شريعة الله التي أقامنا عليها أمناء، وأوصانا بها، وهذا ما ندعوه كفرا وإلحادا، وقد تبين ثانيا: أن المتهم لم يبرهن عن اعتقاداته الفاسدة إلا بأسلوب التهكم والازدراء والاستخفاف؛ إذ كان يتكلم عن القضايا المقدسة بالهزء والسخرية. وهذا ما نسميه تجديفا. وثالثا: أنه لم يجاوب على سؤالات القضاة إلا بعد أن سيم العذاب الاعتيادي وغير الاعتيادي. وهذا ما نعتبره تمردا وتكبرا. ورابعا: أنكر على القضاة السلطة، واحتقرهم وأهانهم بإلقائه عليهم سؤالات ليس من شأنه إلقاؤها. وهذا ما نعده وقاحة وفضولا. ولذلك قد التأم المجلس في جلسة سرية، وتفاوض الأعضاء في أمر المتهم، وأبرموا الحكم الآتي: بقوة السلطة الروحية المعطاة لنا - نحن أعضاء مجلس التفتيش - نحكم على الثعلب أولا: بالفضول والوقاحة، وثانيا: بالتمرد والعصيان، وثالثا: بالتجديف، ورابعا: بالكفر والهرطقة والإلحاد. وعقابه على كل واحدة من هذه الجرائم هو كما يلي: قصاص الذنب الأول: هو أن تغصب من الملحد كل أملاكه وتضاف إلى أملاك الجمعية المقدسة، وعقاب الذنب الثاني: أن يبقى تحت الحرم سنة كاملة، والثالث: أن يلقى في السجن خمس سنوات، وأما عقاب الذنب الرابع فهو: الإعدام بالنار. وقد حركت أعضاء المجلس عاطفة الشفقة والرحمة، فعزموا على نقض الحكم بالإعدام إذا أنكر المتهم اعتقاداته الخبيثة الشيطانية المضرة، واعترف بشرائعنا، واعتذر أمام المجلس عن كل كلمة وقحة فاه بها أثناء المحاكمة. أما الذنوب الثلاثة الأخرى فعقاب المتهم عليها ثابت - كما ذكرنا - تأديبا للكافرين المارقين، والمتمردين المجدفين. ويسأل المجلس الثعلب أمام الجمع عما إذا كان يريد أن يرجع عن غيه، ويكفر عن ذنوبه بإنكاره كل اعتقاداته الخبيثة، ويعترف بتعاليمنا كي يعفى عنه من الموت. ولما انتهى الكاتب من قراءة الحكم، عاد الحصان إلى السؤال قائلا: هل تريد أن تفعل ذلك؟ فأجاب الثعلب بدون تردد: هل تريدون أن أشتري حياتي بضميري؟ إني لا أرى نسبة بين الثمن والمشترى، اطلبوا مني غير هذا.
الحصان :
تذكر أنك رب عائلة؛ فلك زوجة وأولاد يشق - لا شك - عليك فراقهم، ألا تعرف بأنك تجلب إلى عائلتك التعاسة والشقاء إذا أنت لم تنكر اعتقاداتك الخبيثة؟ ألا تعرف بأنك مديون لأولئك الصغار أولادك، فلا تكن لهم مثلا رديئا وقدوة قبيحة؟ تأمل قليلا، أعد نظرك على هذه المسائل الخطيرة، لا تكن أحمق متمردا؛ إذ إن هذه الصفات السافلة لا تكسبك شيئا، وشكاسة طباعك تفضي بك إلى النار، فنسألك الآن ثانية: هل تريد أن تنكر اعتقاداتك، وتعتذر عن وقاحتك وتجديفك، وترتد إلى اعتقادك الأصلي الذي نشأت عليه وورثته عن أجدادك؟
الثعلب :
أنتم أيها القضاة المحترمون الأفاضل أحوج في رأيي إلى الإنكار والاهتداء مني، فأنتم في عيني كما أنا في أعينكم، فإذا طلبتم مني إنكار اعتقادي تجعلون لي حقا بأن أطلب منكم إنكار اعتقادكم، وإذا تركتموني وشأني أترككم وشأنكم، فلم تحكمون علي بالإعدام وأنا لم أرتكب قط ذنبا؟ لماذا أعطاني إلهي عقلا، ووهبني قوتي الحكم والتمييز؟ ألكي أقتلهما وأعيش من أجل بطني فقط؟ أيعطي الله العصفور جناحين ثم يهلكه إذا طار بهما؟ أيعطيني عقلا ثم يهلكني إذا استخدمته للافتكار والتأمل؟ لا شك في أن اعتقادي هو أرسخ في قلبي من اعتقادكم في قلوبكم، ومتى أنكرت وجود الخالق أنكر إذ ذاك اعتقادي، وأقر لكم بتعاليمكم الخرافية، فأنتم أكرهتموني فاعترفت بما لا أعترف به إلا بعد العذاب الأليم؛ اضطررتموني إلى إنكار وجود الله وأنا لا أنكر إلا إلهكم، أجبرتموني على إنكار الكتاب بكامله، وأنا لا أستهجن إلا ما جاء فيه من الخرافات والخزعبلات، تقولون: إني أنكر العجائب، وأنا لم أنكر ولم أثبت، ولكن لكم الأمر وعلي الطاعة. أما ما تطلبونه الآن، فهو أكثر مما أطلبه من نفسي. لا، يا أسيادي، إن الحياة التي تريدون قتلها بخسة جدا بالنسبة إلى الضمير الذي يحيا سعيدا شريفا طاهرا. إن هذا الجسد لا يساوي ما تطلبونه مني أنتم؛ تطلبون قتل ضميري ليبقى جسدي حيا، وما نفع الجسد بلا ضمير؟ فأنا أفضل أن أرى نفسي في النار المستعرة على أن أرى ضميري مكبلا بسلاسل العبودية. خذوا جسدي واتركوا لي ضميري.
الحمار :
أيها الثعلب المسكين، اسمع صراخ زوجتك، ترأف على أولادك، أشفق على نفسك! إن الحياة عزيزة، والهلاك الأبدي فظيع مرعب؛ فاحفظ الأولى، واتق الثاني، احفظ حياتك بكلمة واحدة، أنكر اعتقاداتك وعش مع زوجتك وأولادك سعيدا.
الثعلب :
لا تزدني من هذه الإرشادات؛ فقد عزمت على أن أموت من أجل اعتقادي كما مات الأسد على الصليب من أجل دعوته، خذوني إلى النار وألقوني فيها؛ فأستريح من هذه الحياة وأفرح بالآخرة.
الحصان :
إذن أنت تأبى الإنكار وترفض الاهتداء، فلا حول ولا ... فالمجلس إذن يبعث بك تحت الحفظ إلى أصحاب السلطة المدنية لينفذوا فيك حكمه المبرم.
وتبوأ عندئذ الحصان كرسيه، وأمر الكاتب بأن يأخذ قرطاسا وقلما ويكتب ما يلي:
إلى الثور قاضي قضاة الحكومة المدنية
إن مفتاح السماء يستنجد سيف الدولة؛ فالثعلب الواصل إليكم قد حوكم في مجلسنا على اعتقاداته الشخصية الخبيثة المضرة بتعاليمنا، ووجد بعد المخابرة والاستنطاق أنه ارتكب الذنوب الآتية: أولا: الوقاحة والاستهزاء، ثانيا: التمرد والمكابرة، ثالثا: التجديف، ورابعا: الكفر والهرطقة والإلحاد. وقد رفض أن يهتدي وينكر اعتقاداته الشيطانية مكفرا بذلك عن ذنوبه القبيحة، وفضل أن ينفذ فيه حكم المجلس، الذي هو - كما تعلمون - الإعدام في النار. فأملنا أن تستخدموا القوة المعطاة لكم لتنفيذ حكم المجلس، وفي كل الأحوال: إن مفتاح السماء يستنجد سيف الدولة.
الداعون لحضرتكم
الحصان، الحمار، البغل
أعضاء مجلس التفتيش
ولما فرغ الكاتب من كتابة الرسالة قدمها إلى المجلس، فوقع عليها كل منهم بإمضائه، وسلمها الحصان مختومة إلى الخفر قائلا: خذ الثعلب تحت الحفظ إلى السجن، وسلم هذه الرسالة إلى صاحبها؛ فنحن - والحمد لله - قد تممنا وظيفتنا، ونقدر أن نقول براحة وسرور وضمير مستقيم: إننا أبرياء من دم هذا الصديق؛ فلتكمل مشيئة الله.
الحمار :
وسيرى الثعالب أي منقلب ينقلبون.
البغل :
فلتكمل مشيئة الله.
وارفض المجلس عندئذ، وخرج جميع الحيوانات متهللين فرحين وهم ينتظرون أن يشاهدوا عن قريب إحراق الكافر المسكين.
أما الثور فإنه عندما وصله الكتاب فضه وقرأه، ثم صادق عليه وناوله للجلاد ليعمل بموجبه، وأعطى الثعلب فرصة عشرة أيام ليتفكر في أمره؛ لعله يرتد عن غيه وينكر اعتقاده.
وكان الثور يذهب كل يوم إلى الثعلب في سجنه ويحاول إقناعه، ولكنه لم يظفر بأرب؛ إذ إن المحكوم عليه بقي مصرا على عناده، متشبثا بآرائه، ومحافظا على ما كانت تدعوه إليه استقامة ضميره التي أفضت به إلى الموت احتراقا. وبعد أن مضت المدة المعينة وجاء صبح اليوم الحادي عشر، ذهب الجلاد مع أعوانه إلى الساحة العمومية في المدينة، وأضرموا هنالك نارا متأججة، وجاءوا بالمحكوم عليه راسفا بسلاسل الحديد، محاطا بالخفر، وأوقفوه على دكة عالية تشرف على النار المضطرمة بالقرب منها، وكانت الحيوانات قد ازدحمت في الساحة العمومية، ومن جملتهم الحصان والحمار والبغل، الذين أتوا ليروا هذا المشهد المرعب، ويتلذذوا بثمرة أعمالهم الصالحة.
ولم يكن بين كل هذه الخلائق المحتشدة ثعلب واحد؛ لأن الحكومة كانت قد اتخذت كل الاحتياطات لمنع المظاهرات الثعلبية، وأعلنت أنها تستخدم القوة في هذا اليوم لقمع كل عنيد مكابر يحاول أن يثير الخواطر، ويدس الدسائس؛ فبقيت الثعالب في بيوتها، واحتملت المصيبة بقلب مملوء من الخوف والحنق.
وكان السرور والابتهاج يشملان كل الجماهير المحتشدة؛ إذ إن أكثر الحيوانات كانوا يكرهون الثعالب الكافرة، ويعتقدون بأن وجودهم مضر بالصالح العمومي، فشكروا المجلس الذي أصدر الحكم، والقاضي الذي صادق عليه، وجاءوا الآن ليسدوا شكرهم الجزيل إلى الجلاد الذي ينفذه.
فوقف إذ ذاك الجلاد بالقرب من الثعلب على الشرفة، وحلق له شعره، وعصب عينيه بمنديل وخاطبه قائلا: أسألك لآخر مرة إن كنت تريد أن تنكر اعتقادك وترتد عن غيك مهتديا إلى الصواب.
فرفع الثعلب يده إلى السماء وقال: اسأله عز وجل ولا تسألني.
الجلاد :
لا تريد أن تنكر اعتقادك إذن!
الثعلب :
إني أموت لأن الحيوانات نيام، أما أنتم فستموتون لأنهم سيكونون أيقاظا.
إذن بالسلطة المعطاة لي من الثور، قاضي القضاة، وبموجب الأمر الذي بيدي، أرمي هذا الثعلب الكافر في النار لتطهر جامعتنا، وتنقى آدابنا من سفاهات الزندقة التي تشوهها، وعند ذلك رجع الجلاد إلى الوراء، وأخذ الحبل الموصول باللوح وشد به، فانسحب اللوح من تحت أقدام الثعلب، ووقع في النار المستعرة تحته، فصرخ إذ ذاك الجلاد قائلا: فلتكمل مشيئة الله.
فكان لصرخته صدى تصاعد من بين الجمع الذي هتف مرددا: فلتكمل مشيئة الله، فليمت كل كافر، فليحي البغل والحمار والحصان.
أما الثعلب فلما انسحب من تحت أقدامه اللوح، ووقع في جوف النار المستعرة صرخ صرخة مرعبة هائلة، وكان لم يزل مالكا على عقله عندما هتف الجمع المحتشد: فلتكمل مشيئة الله. فحركته عواطفه الفطرية لتذكر خالقه، فهتف معهم بصوت يخنق اللهيب: فلتكمل مشيئة الله.
وبعد مضي برهة من الزمن أصبح الثعلب رمادا، فسرت الحيوانات، وصعد بعدئذ الحمار والبغل والحصان إلى الشرفة ليشكروا الله، ويتوسلوا إلى العزة الإلهية كي تساعدهم دائما على استئصال شأفة كل كافر ملحد.
ولم يكد الحصان يلفظ اسم الخالق حتى حدث في الجو اضطراب عظيم؛ فاكفهرت السماء، وهطلت الأمطار، وتساقط البرد كالحجارة، وجالت ريح عاصفة في أرجاء الفضاء تجر وراءها البرق والصواعق، وبقي هذا الحال مدة نصف ساعة، فوقف الجميع مرتعشين خائفين، ثم انقشعت الغيوم وظهر من ورائها الأسد راكبا أوتومبيلا كبيرا، فوقف فيه وخاطب الحصان والحمار والبغل قائلا: «أطلب رحمة وليس ضحية، قلت لكم: حبوا أعداءكم، قلت لكم: لا تدينوا لئلا تدانوا، قلت لكم: مثلما تريدون أن يفعل الغير بكم افعلوا أنتم بهم أيضا، قلت لكم: لا تقتلوا. بأي جسارة ترتكبون هذه الجرائم الفظيعة، ومن ثم تقولون إنها من أجلي؟ أي متى قلت اذبحوا واحرقوا إخوانكم من أجلي؟ بأي كتاب قلت عذبوهم واطردوهم واحرقوهم واسجنوهم من أجلي؟ أما والحق أقول لكم: إنكم دنستم اسمي، وافتريتم علي، وأفسدتم تعاليمي. ويل لكم من العقاب الشديد الصارم! ويل لكم حين تقفون يوم الدين لتجاوبوا عن كل جريمة ترتكبونها باسمي من أجل مطامعكم وغاياتكم الذاتية!»
فتشجع عند ذلك الحمار ونفض عن جسمه غبار الرعشة، وخاطب الأسد بصوت خافت قائلا: ألم تقل لنا : «أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم ها هنا واذبحوهم قدامي.»
فصرخ الأسد إذ ذاك صرخة مرعبة قائلا: هذا كذب باسمي وافتراء علي، فأنتم أفسدتم تعاليمي ونقحتموها على ما يوافق أذواقكم، ويساعدكم على نيل مطامعكم، بأي جسارة تضيفون عليها هذه الآيات الشيطانية؟ فكيف أقول لكم: حبوا أعداءكم، ثم أناقض نفسي بنفسي وآمركم بذبح أعدائي؟ الحق أقول لكم: إن جرائمكم عديدة، وويل لكم في الآخرة! فاذهبوا من أمامي، ولا تتجاسروا على تكرير هذه الأعمال الفظيعة.»
وتلبدت إذ ذاك السماء بالغيوم، وغاب الأسد في أوتومبيله عن الأبصار.
أما الحصان والبغل والحمار، فذهبوا إلى إصطبلهم منكسين وجوههم خاسئين، وبينما هم سائرون ذات يوم على طريق السكة الحديدية إذ صفر قطار العلم القائد عربات البخار الكهربائية والاختراعات، ومر عليهم جميعا فسحقهم سحقا، وتطايرت رءوسهم وبقايا أجسادهم في الجو، وتشتتت أعضاؤهم المتقطعة على طريق التمدن الحديث. (6) بذور للزارعين
إن حسنة واحدة تأتيها لخير من ليال بالصلاة تحييها. إن الأمين وإن كان كنودا لخير من المدغل وإن كان هجودا.
إن التعبد لفي الصالحات، لا في تمتمة الصلوات.
ورب صغار يلعبون أصدق إيمانا من شيوخ يتورعون.
ورب محسنة في موبقات الوجود أصح دينا من راهبات السجود.
ورب كافر عمال للخير أحب إلى الله من راهب في الدير.
السالكون عملا وفكرا خير من السالكين ذكرا.
أنت السالك يا من تطابق بين أقوالك وأعمالك.
الندامة حبا بالغفران كالإحسان حبا بالشكران.
وقد قال بلزاك: «الندامة الشهرية إنما هي خباثة أبدية.»
المواساة خير العبادات، وممرضة تضمد جرح الشرير خير ممن يصلون من أجله.
إن روائح الأدوية عند من أحبت أن تخدم الله لأذكى من رائحة البخور، والنور الضئيل المنبعث من عين المريض الذابلة لأجمل من نور الشموع في الهيكل.
بالأعمال لنخدم الله، ولنسبحه بالأعمال. •••
إذا تخاصم من أصدقائك اثنان لا تسبق في الإصلاح بينهما الزمان، فهو للعداء خير دواء، وإن عاقبة الإسراع في وصل حبل الوداد هي غالبا كعاقبة الجرح المندمل على فساد. •••
شر الأصدقاء صديق لا يعتبرك من أكفائه؛ فإن ظن نفسه أكبر منك يهينك في حبه وتقلبه، وإن كان أصغر منك يغيظك في تودده وتحببه.
من نهج لحاجاته المادية وغاياته الدنيوية منهج التدين والورع الكاذب والرياء والتنطع، كان بعيدا عن الدين، وعن الله، بعد هذه الأرض عن أبعد السيارات من الشمس.
الدين الحقيقي ما أنار القلب من الإنسان والضمير، فيهديه في الحياة الدنيا خير طريق إلى خير الأبواب في الآخرة، ومتى كان ضمير جاري كنور الشمس حيا نقيا، وقلبه كوردة تفتح في الفجر لتستقبل ندى السماء، لا فرق إذ ذاك عندي إن ذكر مع الدراويش، أو سجد مع اليسوعيين، أو اغتسل في نهر القنج مع البوذيين؛ فهو المؤمن الحقيقي، هو الصادق في دينه، هو رجل الله الأمين. •••
من أجل ما قرأته في الكتب المقدسة فاتحة القرآن؛ فهي صلاة جديرة بأن يرددها بقلب حي كل إنسان كل يوم في السنة:
إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم . أي والله! فإن الإنسان وإن كان من أرقى البريطانيين، أو من أرقى العثمانيين، إن كان من باريز، أو كان من نيويورك، أو من أطنة، أو من داهومي، هو في أشد حاجة إلى الهداية اليوم مما كان في أيام النبي داود، أو في عهد عاد وثمود. •••
قل تبارك السر الذي في ولا تحفل بضجيج الناس وضوضى الأمم. عش قنوعا هادئا ساكتا معتزلا، وواظب على نظافة العقل والقلب كما تواظب على نظافة الجسد، فلا تكن من الخاسرين، تلاه في العمل والنمو عن عقبات الحياة وهمومها، وبكلمة وجيزة: كن مثمرا ولو بين القتاد، فلا تحزن يوم يجيئك ملك الحصاد. •••
خير الكتب وأنفسها كتاب لا يتركني بعد أن أطالعه في الحال التي ألفتها، كتاب يحرك في عاطفة شريفة جديدة، أو قصدا كبيرا جديدا، أو فكرا ساميا جديدا، كتاب يزحزحني من مكاني، أو يدفعني لأزحزح من هم حولي، كتاب يفيقني من سباتي العميق، أو ينهض بي من حمأة الخمول، أو يهديني إلى طريقة أحل بها عقدة من عقد الحياة، ولكن مثل هذا الكتاب على كثرة ما تصدره المطابع الحرة اليوم من القصص والروايات أصبح كالامرأة الفاضلة التي ينشدها سيدنا سليمان. •••
كليمبروتوس اليوناني رمى بنفسه في البحر بعد أن انتهى من قراءة كتاب أفلاطون في خلود النفس، وفي فعلته هذه الخارقة ثناء عظيم على المؤلف وعلى القارئ معا؛ إذ لو لم يقنع كليمبروتوس بحجة أفلاطون لما كان فادى بحياته ليبرهن عن إيمانه، ولو لم يعتقد أفلاطون بما كتبه لما استطاع أن يفحم كليمبروتوس.
فمثل كتابه هذا يزحزح حقا، ولكنه يزحزح جدا، يزحزح القارئ دفعة واحدة عن هذا العالم، فهو إذن لا ينفع كثيرا. ومن حظنا أنه لم يترجم إلى اللغة العربية، على أنني وإن كنت أشك في صحة عقل كليمبروتوس لا أشك قط في شجاعته، التي حملته على أن يعمل بما اعتقده صحيحا. فما قولك بالمسيحيين والمسلمين واليهود الذين يعتقدون - أو في الأقل يقولون - بالخلود، ويبكون أمواتهم كما لو كانت أنفسهم أيضا للدود؟ فإن كنا في اعتقادنا صادقين، إن كنا واثقين - كأفلاطون وكليمبروتوس - أن النفس لا تموت، ينبغي أن نفرح في الأقل ساعة تطلق من أسر الجسد، على أنني لا أسألكم أن تفرحوا، ولا أسألكم أن ترموا بأنفسكم في البحر لتبرهنوا عن إيمانكم العجيب، ولكن لا تصمون الأحياء ساعة الموت بالعويل والنحيب. •••
الحكيم لا يخشى الموت؛ لعلمه بأن الموت بعيد عن الإنسان ما زال حيا، ومتى مات الإنسان يصبح بعيدا عن الموت.
خير الإحسان وأجمله ما جاد به القلب والعقل معا، وما بقي ففيه الكذب والادعاء، جد علي بشيء من القوت فآكله، وبعد قليل أصبح كما كنت قبل إحسانك، ففتاتك لا تغير في نفسي شيئا، ولكن هات منك فكرا ساميا جميلا، فيتحلل في القلب والدماغ، ويخالط النفس مني؛ فترثه عني الأجيال. في كل قوة أدبية - أي عقلية روحية - شيء من الخير الخالص النقي، وإذا كان فيك يا أخي شيء من هذه القوة الأدبية؛ فهذا الخير يصدر عنك إن شئت أو لم تشأ، وينفعني أنا وإن شئت أو لم أشأ. •••
من الناس من يعجب ببعض أبطال التاريخ ليحذوا حذوهم في السيئات لا في الحسنات، فينتحل لحماقته من شذوذهم الأعذار، ويتخذ من عيوبهم مثالا لعيوبه. (7) الجوع
إذا نضبت في البلاد الأنهار، واستحالت السماء نحاسا حاميا ترسل أشعة شمسها نقمة وانتقاما، فتحرق الأشجار، وتأكل النبات، وتجفف الأرض، وتجعل الحقول كالصحراء، يحدث في الناس مجاعة لا يد جانية فيها للإنسان.
وإذا غزا الجراد زرع أمة ومروجها، يلتهم الأخضر واليابس كشمس النفود في الصيف، فلا يترك وراءه شيئا يصلح للغذاء، يحدث في البلاد مجاعة لا يد أثيمة فيها للإنسان.
وإذا ألقى الوباء في أمة عصاه، وشرع يفتك فيها فتكا ذريعا، أوجب عليها النطاق الصحي فأبعدها من خيرات الأرض خارج تخومها، فقد تجهز عليها مجاعة لا يد جانية فيها للإنسان.
وإذا كانت أمة في حرب، فحاصرها العدو وحبس عنها الزاد، فأبت التسليم صاغرة، فقد تهلك جوعا ولا ذنب في ذلك على العدو أو عليها.
أما إذا وطأ الجيش المحاصر أرضها، وأبت البقية الباقية الرضوخ والاستكانة ملجة في العصيان، فقد يتخذ الفاتح التجويع طريقة للاستيلاء التام، وقد يكون الذنب في ذلك عليها.
ولكن أمة طائعة أولياء أمرها، أمة مخلدة إلى السكينة، أمة بريئة طاهرة الذيل، تربأ على الضيم صبورة، سكوتة، جلودة، تربتها في الأقل لم تزل جيدة، أنهارها لم تزل جارية، سماؤها لم تزل مقيمة على عهودها ترسل غيثها خيرا شتاء ربيعا، في مثل هذه الأمة لا تحدث مجاعة إلا لأحد أمرين: لجهل فيها، أو لجور في أولياء أمرها.
والمجاعة التي لا يد فيها للطبيعة أو للقضاء أو لله، إنما هي جناية الإنسان الكبرى على أخيه الإنسان.
إن خيرات الأرض لتكفي أبناء الأرض، وإن التكافل والتعاون لمن أوليات الوجود الإنساني الحضري منه والمدني، فإذا أغفلنا الآن البحث في أسباب المجاعة، ونظرنا في نتائجها فقط، تحتم علينا النظر أيضا في الطرائق الفعالة لإزالتها، ولإزالتها سريعا.
أمة صغيرة في بقعة قصية من الأرض تتضور اليوم جوعا، وأمة كبيرة عزيزة الشأن، عظيمة الصولة، يفيض عنها من خيراتها، أليس من العدل إذن - بل من الواجب المقدس - أن نأخذ مما فاض عن هذه لنطعم تلك الجائعة؟ نعم، وما يصح في الأمم يصح في الأفراد. وهذا التعديل في خيرات الأرض عدل لا فضل فيه لمن أعطى، ولا شكر عليه ممن قبل العطاء.
الأمة المنكوبة أمتنا أيها الناس، الجياع فيها إخواننا، وإن الفائض عنا اليوم لا حق لنا به البتة، لا والله، ليس ما فاض من خيرنا اليوم لنا، بل هو للجياع في بلادنا، ولو كنت من أولي السيادة والسلطان لأخذت اليوم من شبعان لأطعم الجائع، لفرضت على كل سوري مقدارا من المال يدفعه راضيا أو مكرها.
وماذا يضر السوري لو دفع اليوم دولارا واحدا لإغاثة إخوانه في الوطن؟ دولارا واحدا على كل سوري، الفقير والغني سواء.
إني من أصحاب الرأي لا أصحاب السيادة؛ لذلك لا أستطيع أن أضرب ضريبة - هي حق والله - على كل سوري، ولكني عملت بطريقتي وبحقي، فدعوت إخواني في المهجر في مقال سبق إلى الصوم يوما واحدا؛ يدفعون ما يوفرون في هذا اليوم إعانة للمنكوبين، وقلت: إننا إذا خبرنا الجوع نرثى لحال الجائع، فنسرع لإغاثته.
وكي لا يقال: إني أبشر بما لا أفعل بدأت بنفسي عاملا برأيي، فإني محاسب لقلبي إذا مال، وللساني إذا قال؛ لذلك صمت عن الأكل والشرب والتدخين يومين وصالا، ودفعت نفقة اليومين إلى اللجنة، وجئت في هذا المقال أطلع القارئ على ما خبرته من نتائج الصوم ومفعول الجوع.
فإذا كانت كلمتي في الصوم ذهبت أدراج الرياح، عسى أن يؤثر عملي، فيحمل إخواني في المهجر على الاقتداء بي.
من الساعة السابعة مساء حين بدأت أصوم حتى الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم الثاني لم أشعر قط بالجوع، ولكنني أحسست بطنين في أذني، وبتجفف في لساني، وبشيء من المرة في فمي، على أني في الساعة السابعة، أي بعد مرور أربع وعشرين ساعة، بدأت أشعر نوعا بالجوع وبالعطش وبشيء من الدوار.
كنت أصيل هذا النهار أتمشى وصديق لي في أحد شوارع المدينة، فمررنا بمطعم صفت في شباكه أنواع الخبز والكعك والحلويات، فوقفت أمام الزجاج الحائل دوني وتلك الجنة ناسيا ذاتي، أمثل في نفسي ولدا فقيرا جائعا لا فلس في يده يفثأ به ثورة جوعه. اخترقت الزجاج عيناي وما فيهما من نهمة إلى الأكل، فتحلب اللعاب في فمي، فغصصت بمر مذاقه، وترغرغت عيناي بالدموع. هذا وأنا لا أشعر حقا بمضض الألم في معدة فارغة، وقلب يقتر شواء؛ لأني أجوع مختارا، والمسكين الذي صورته أمامي، بل أمام تلك المآكل المصفوفة وراء الزجاج، يجوع مكرها. إن جوعي ينتهي ساعة أريد، وأما جوعه فلا يزول إلا ساعة يتصدق عليه أحد المحسنين.
فقلت في نفسي: إن حالة اجتماعية توجد مثل هذا المسكين الجائع لحالة ذميمة، منكرة، فاسدة، جهنمية، وإذا كانت كذلك فكيف بها والمسئولون عنها يجوعون عمدا أمة بأسرها؟
لقد شاركتك جوعك يا أخي، فتعال أقاسمك كسرتي؛ عله - تعالى - يبعدني من ذل الحاجة والاستجداء، الذي هو أشد ويلا من مضض الألم الذي يولده الجوع. ألا فليردد كل سوري هذا الكلام، هذا الابتهال، وليمثل حول مائدته الفاخرة صبيا فقيرا عضه الجوع، أنهكه، أقعده، أضناه، أورثه الهزال والخبل، فيسارع إلى إغاثته.
ومن غريب أمر الصوم أن صاحبه لا يشعر بالجوع إلا في الساعات التي اعتاد أن يأكل فيها؛ فإني بعد أن أتت الساعة العاشرة استفقت نصف الليل ولا أثر في نفسي للصوم كأني قضيت البارحة وقد أكلت على عادتي ثلاث مرات.
ولكنني نهضت صباح اليوم الثاني وفي - ساعة الفطور - نهمة إلى الأكل، وهذا لا شك من قبيل العادة.
على أن مظاهر الجوع ازدادت نوعا وشدة؛ فتحت فمي فإذا به كالقطن جفافا، بلعت ما تحلب من رضابي إذ مررت بركوة القهوة، فإذا به أمر من الحنظل، نظرت إلى لساني، فإذا به أبيض كالحليب، لمسته بإصبعي، فإذا به كعباءة الراهب خشونة، أما أذناي فازدادتا طنينا، وأحسست أن رأسي جسم غريب ركب مؤقتا بين كتفي، نزلت الدرج وعدت إلى غرفتي، فألمت بي نوبة من الارتعاش شديدة أقعدتني بضع دقائق وأنا أرتجف حتى أطرافي، وكنت أثناء ذلك أحس بموجات حارة تتماوج في داخلي، وبالأخص في جوار المعدة .
فقلت في نفسي: قد عضك الجوع يا رجل، قد دنوت من إخوانك في الوطن.
نعم، بدأت في اليوم الثاني أشعر بالجوع وأتألم من شعوري؛ فهذا الضعف في رجلي - وبالأخص في مفاصلي وركبتي - إن هو إلا احتجاج المعدة على صاحبها، بل على باريها، بل على من في أيديهم خزائن الأرض المسئولين عن توزيع خيرات الدنيا على عباد الله.
مررت بركوة القهوة ثانية، فوقفت أمامها راغبا مترددا، ثم امتنعت لأني آليت على نفسي أن أصوم يومين كاملين، وفي البيت المقيم فيه أناس في الدور الأسفل يطبخون طعامهم، فتتصاعد أحيانا روائح المطبوخات فتسطع في منزلي وتزعجني جدا، ولكن اليوم يوم الصوم والجوع، فإن امرأ يقتر شواء يتصاعد صوت نشيشه من فوق النار إلى منزلي لأحب عندي من مطرب أو مطربة، وإن روائح الشواء والأبازير في أنفي لألذ من روائح المسك والبخور.
ولت ساعة الفطور وولى معها مضض الجوع ولا غرو؛ فإن للعادة حتى في الأكل - كما قلت - تأثيرا شديدا فينا؛ إذ ما السبب يا ترى في رغبتي بالطعام في ساعات اعتدنا أن نتناوله فيها، وفي نسيانه، بل الرغبة عنه، في الفترات بينها؟
أما الفكر مني ففي اليوم الأول من صومي كأن لم يزل رائقا صافيا، ولكنه في اليوم الثاني أصبح خاسئا حسيرا.
ومن غريب أمر الصوم أيضا أن الذي يصوم يومين يستطيع أن يصوم خمسة، بل عشرة أيام وصالا؛ فأنا في مساء اليوم الثاني لم أشعر بشهوة إلى الأكل شديدة كمساء اليوم الأول، وقد قرأت أخبار أناس صاموا أسبوعين وثلاثة دون أن يتعطل فيهم عضو من أعضائهم الحيوية كالكبد أو الكليتين أو الرئة أو القلب.
ومعلوم أن الأقدمين كانوا يكثرون من الصوم والتنحس، وقد قال ابن خلدون: «وقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوما وصالا.»
على أنه لا ينكر أن الصوم أياما وصالا يفقد المرء قواه الجسدية والعقلية؛ فإن العضلات والأعصاب لتتقلص وتذوب من الاقتيات مما كونت منه، وإن العقل ليخسأ ويمرض من تشرب دم لا غذاء فيه؛ أي إن الصائم طويلا ، الطاوي أياما، يعيش على لحمه ودمه، يأكل بالحقيقة نفسه. نعم إخواني، إن الجائع يعيش على لحمه ودمه، والجائع كرها يقاسي من مضض الذل - ذل الحاجة وذل الطلب - ما هو أشد من مضض الجوع.
كتبت مرة نبذة أنتقد فيها بعض التعابير العربية التي نرددها نحن الكتاب وقلما نتحقق تمام معناها، من جملتها قولنا: «الجوع المدقع»، فاستغربت إذ عدت إلى القاموس النعت، وقلت أن لا أحد يجوع جوعا يلصقه بالدقعاء - أي التراب - فمهما اشتدت سورة الجوع لا تبلغ درجة يصح أن ننعتها بالدقوع.
ولكني تحققت اليوم خطئي؛ فإن الجوع يوهن، يهزل، ينهك، يقعد، يهلك، وإذا كان الجائع هائما في البرية يطلب الأعشاب يقتات بها، فليس من الغريب أن يسقط في الطريق من شدة الجوع. نعم، رأيت كلاب السوق في الشرق في جوع ألصق بطونهم ووجوههم بالتراب، وكنت أجل البشر عن ذلة الكلاب وجوعهم.
فوا أسفاه! إننا لنتحقق اليوم من حال بلادنا صحة التعبير العربي، بل تحققنا التقصير فيه لا الغلو: مئات بل ألوف من إخواننا مطروحون اليوم في الطرق والأسواق تتلاشى أجسامهم عضوا عضوا، عيونهم شاخصة إلى الشمس نهارا، إلى السماء والنجوم ليلا، يسألون باري الأكوان كسرة من الخبز. قلوب واجفة، أبصار خاشعة، نفوس حزينة حتى الموت، معد تلتصق بالأضلع منهم كما تلتصق أجسامهم بالدقعاء - بالتراب - في فمهم المرة الصفراء - مر الحياة - يبتلعونها ثم يبتلعونها، في أعصابهم المتقلصة غصص الرعشة، في أجسامهم المرض والوهاء.
شيوخ وأطفال، نساء ورجال، يسارعون إلى المدينة من الجبال علهم يلتقطون في أسواقها ومن فضلات ذوي اليسار فيها كسرة من الخبز، فيتساقطون في الطرق كورق الخريف وقد استحوذ عليهم الجوع المدقع، أفلا تشاركهم جوعهم يوما واحدا أيها السوري؟! أفلا تمدهم بنفقة يوم من أيام يسرك؟!
ووالله لو مر بهؤلاء المناكيد الجياع وحش ضار، أو عقاب كاسر، لمال بوجهه عليهم، لرثى لحالهم. وإننا نعلم أن في الحيوان غريزة هي أشرف من غريزة الإنسان التي أفسدتها المدنية والتكالب فيها، فمن الطيور من تطعم صغارها من قلبها إذ لم تجد لهم رزقا.
فيا أيها السوري النائي عن إخوانك المنكوبين، جئت أخبرك - خاشعا لا مفاخرا - أني صمت يومين فأنهكني، أقعدني يوم واحد من الجوع، فكيف بمن يصومون أياما بل أسابيع؟ اليوم، اليوم، من كان غنيا فليستعفف، من كان مترددا في التبرع فليتقدم، من كان متقاعدا فلينهض، من كان في سبات فليستفق. وما الفائدة من القول غدا غدا؟! فإن مثل هؤلاء المستحجرة قلوبهم يلوحون بثريدتهم للجائع لأقرب إلى الضاري من الحيوان منهم إلى الإنسان.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
الصوم، التقشف يوما واحدا؛ تملكون تلك النفس منكم الشارهة إلى اللذات، فإن مثل هذه السيادة على أنفسكم لأشرف من وجاهة يجرها لكم المال. صوموا يوما واحدا، وتصدقوا علينا بدولارين مما رزقتم.
الأمة - أمتنا - جاثية على قارعة الطريق تئن من ألم الجوع، الجوع المدقع، الجوع المهلك، فهلا تسارعنا بل تسابقنا إلى إغاثتها؟ أليس بلسان في جلعاد؟ (8) هباسيا (8-1) مهد العلم الحديث
ألقي الرواية جانبا سيدتي، فأقص عليك قصة حقيقية محورها المرأة والعلم، وقطرها الظلم والتعصب، تعالي معي أحدثك ماشيا فتفهمي كلامي ماشية. إنا الآن لفي حي الأعيان من المدينة، وها قصر الملك أمامنا، وبالقرب منه المتحف الشهير الذي بناه أحد الملوك الفاتحين، وفي هذا المتحف دار العلوم التي يؤمها الطلبة من كل حدب وصوب، من كل الشرق يأتون ومن الغرب، من الجنوب ومن الشمال؛ ليتلقوا العلم والفلسفة من امرأة عالمة حكيمة.
أقف بك، سيدتي، أمام هذه الكلية العظيمة، كلية لا شرقية هي ولا غربية، أقف بك أمام هذا المعهد القديم - وهو مهد العلوم الحديثة - الذي شيده الأمراء، وخلد ذكره المؤرخون والشعراء. ما أبهى هذه الرواقات وقد غصت بالطلبة من كل أجناس الناس والطبقات! وما أعظم هذه المكتبة وفيها ما يربو على الأربعمائة ألف مجلد! ولكنها - وا أسفاه - ستوزع على الحمامات بعد حين، ولا يعصى العلم على ابن العاص، ولا الأربعمائة ألف مجلد تقوى على كتاب واحد. إن لله في خلقه وفي كتبه شئونا.
نعم، سيدتي، نحن في سراديب التاريخ، فلا يهولنك ما وراءنا وما أمامنا من الظلمات، على أني أقف بك موقف النور لنذرف دمعة على العلم وعلى إحدى نسائه العاملات.
ليست المكتبة أعظم ما في المتحف، بل هناك دوائر أخرى سترينها: هذا المرصد الفلكي الذي يبعد الإنسان من الخرافات ويقربه من الله، وهذا المعمل الكيماوي حيث الملك نفسه كان يشتغل بضع ساعات في النهار باحثا عن إكسير الحياة، وهذه دار التشريح، ولا أظنك تحبين أن تدخليها، وقد تتعوذين إذا أخبرتك أن الأطباء فيها يشرحون الأحياء أيضا ممن حكم عليهم بالإعدام؛ ابتغاء التوصل إلى الحقائق الطبية الراهنة. لا تتكرهي سيدتي؛ فقتل المجرمين خير من قتل الأبرياء.
تعالي فأريك جنينة الحيوانات وبستان النباتات؛ حيث الطلبة يتعلمون من الأمثال الحية علمي النبات والحيوان، ولا تظني أن التعليم في هذا المعهد العظيم ينحصر في العلوم الطبيعية فقط، بل يتناول أيضا العلوم العقلية والروحية؛ فإن هذا المعهد - لكمثل معاهد العلم كلها - إنما هو مهد الحقائق والأضاليل معا. ورب حقيقة تشعل الأوهام نورها، ورب أوهام - كبعض الأطيار - تبيض بيوضها في عش الحقائق؛ فقد نبغ في هذا المعهد العلمي المتشرعون واللاهوتيون والأطباء والفلاسفة والعلماء.
لا، يا سيدتي، ليست كلية أكسفرد هذه ولا معهد الصربن، لسنا الآن في لندرا أو في باريس، إنما نحن في المدينة التي ولد فيها العلم الطبيعي واللاهوت المسيحي تحت سقف واحد، فتخاصما وتنازعا طويلا، وكان من شأنهما في قديم الزمان ما كان، إنما نحن في قاعدة البلاد المصرية، في باريس الزمان القديم، في الإسكندرية على عهد الرومان، والمتحف الذي وصفت فروعه العلمية هو الذي شيده بطليموس سوتر، وابنه فيلادلفس، وكان المليكان يدرسان ويعملان فيه كبقية الطلبة والعلماء.
المؤرخون متفقون في أن كلية الإسكندرية هذه كانت في زمانها أعظم معهد للعلم في العالم. كيف لا ومن مرصدها رصدت النجوم والكواكب التي استنار بها فيما بعد علماء أوروبا الفلكيون؟! كيف لا وفيها وضعت فلسفة أرسطاطليس الاستقرائية موضع العمل، وكان من ثمارها أن معهد بطليموس هذا أضحى مهد العلوم الحديثة؟! ومن من علماء اليوم ينكر فضل أرخيميدس في الرياضيات؟
ومن لا يذكر بطليموس وآبولونيوس وهباركوس في علم الفلك؟
ومن لا يعرف إقليدس ومبادئه في الهندسة التي يتعلمها الطلبة في المدارس حتى اليوم؟ وقد لا تعلمين سيدتي أن أراتوستينس - وهو من علماء هذا المعهد أيضا - قاس الأرض قبل علماء الخليفة المأمون، واكتشف شكلها الكروي قبل كبرنكوس وغاليلو، وأن هيرو اخترع آلة بخارية قبل جان وطس الإنكليزي، وأن تيزيبوس أول من اخترع ساعة مائية، وأن يوليوس القيصر بعث يطلب من هذا المعهد الإسكندري سوسيجينوس الفلكي ليصلح له الروزنامة الرومانية على الحساب الشمسي؛ فالمعهد الذي ينبغ فيه مثل هؤلاء العلماء العاملين - لا شك - عظيم، وأعظم منه من كانوا يلقون فيه الدروس العالية. (8-2) الفيلسوفة العذراء
ومن هؤلاء سيدتي: الفيلسوف ثيون الذي درس الرياضيات في القرن الرابع «ب.م»، وراقب كسوفا سنة 365، وألف في الفلك والطبعيات تآليف درست كلها، ولكن أعظم تآليف ثيون وأعماله: ابنته البارعة هباسيا.
ولدت هذه الفتاة في الإسكندرية، وقرأت العلوم على أبيها، وكان لها ميل خاص في الرياضيات والميكانيكيات، وقبل أن وقفت حياتها على العلم والتعليم سافرت إلى أثينا، وتلقت هناك الشريعة والفلسفة، ورافعت في المحاكم، ونشأت نشأة عجيبة دلت على مقدرة عقلية فيها تضاهي مقدرة أعظم الرجال. ولما توفي أبوها كانت قد تمكنت من العلوم، وبرهنت في مواقف عديدة على تضلعها ورسوخها في الرياضيات والفلسفة؛ فرقيت في العشرين من عمرها - وهي عذراء - إلى منصبه، وظلت تعلم في المتحف الإسكندري أربعين سنة، فهاج أخيرا عليها هائج الجهل والتعصب فقتلها شر قتلة، كما ستعلمين.
هباسيا زينة نساء الإسكندرية في تلك الأيام، ورئيسة الفلسفة الأفلاطونية، وصديقة الأمراء المحبين للعلم والعلماء، ومرشدة الحكام، وعدوة التعصب والخرافة. كلنا نسمع بالملكة كليوباترا الداهية الفاسقة، ولكن من منا يسمع بهباسيا العالمة العفيفة العذراء؟ في المتحف الذي وصفته كانت تلقي دروسها على الألوف من الطلبة وفيهم الأعيان والأغنياء واللاهوتيون. في ذاك المتحف كانت تعلم - بأفصح لسان وأجلى بيان - فلسفة أفلاطون الجديدة التي تدعى في تاريخ الفلسفة «نيو بلاطونيزم»، في ذاك المتحف الذي شيده بطليموس رفيق الإسكندر، أنارت هباسيا أنوارا أطفأها الجهل والتعصب، فظلت بعدئذ أوروبا تعمه في الظلمات أحد عشر قرنا.
وقد كانت هذه الوثنية الفاضلة رائعة الجمال، فصيحة اللسان، شديدة العارضة، سديدة الرأي، سريعة الخاطر، شريفة الشمائل والخصال - وإن آباء الكنيسة أنفسهم ليعترفون لها بذلك - على أنها كانت تتعب فكرها عبثا في مسائل قد تشغل الفلاسفة بعد ألفي سنة من اليوم كما أشغلتهم منذ ألفين مضت: من أين الحياة؟ وإلى أين؟ فإن هباسيا، سيدتي - أمد الله بحياتك وأنارها - كانت تحاول حل هذا اللغز القديم العظيم: ما هو العقل؟ وما هو العلم؟ وما هو الله؟
في مثل هذه المواضيع الخطيرة كانت الفيلسوفة العذراء تلقي دروسها وخطبها، والحقيقة أن فلسفة الإسكندرية في أيام هباسيا وقبلها إنما هي مزيج من فلسفات اليونان كلها؛ كفلسفة المشائين والرواقيين والكلبيين وغيرهم.
ومن تلاميذ هباسيا الذين حازوا شهرة في زمانهم: سينيسيوس أسقف عكا، وقد بعث هذا الأب الفاضل برسائل عديدة إلى ابنة ثيون البارعة، فيها ثناء جميل عليها، واعتراف بفضلها وجميلها عليه - ولم تزل هذه الرسائل محفوظة - وفي إحداها يستشير المراسل أستاذته في عمل الإسطرلاب، دليل أنها كانت تميل إلى علمي الفلك والميكانيكيات أكثر من سواهما. وقد ألفت كتابا وشرحت كتب آبولونيوس في هذه المواضيع.
ولكن عمرو بن العاص الذي جاء الإسكندرية بعدئذ لم ير فيها وفي الألوف مثلها كبير فائدة، فوزعها على الحمامات لتسخن على نارها المياه - برد الله مثواه!
قد شهد المؤرخون لهباسيا الوثنية بالعفة والنزاهة، كما شهدوا لها بالفضل والعلم والحكمة، وهم متفقون في أنها عاشت وماتت عذراء. وأما ما قاله سويدس في أنها اقترنت بالفيلسوف أزيدوروس فلا صحة له، وقد قيل: إنه محض اختلاق وافتراء. والنمامون منذ البدء كثيرون؛ فالأسقف سينيسيوس أول من اعترف بفضلها وعلمها، وعندما تعرف بها، وأخذ يحضر محاضراتها كانت أضحت في الأربعين من عمرها، وكانت قد قضت في المتحف عشرين سنة تخطب وتعلم، وظلت الصداقة بين الفيلسوفة الوثنية والأسقف المسيحي نقية الأسباب، وثيقة العرى، فلا هباسيا اعتنقت الدين المسيحي، ولا سينيسيوس خلع ثوبه الكهنوتي.
على أني قرأت في أثر لأحد آباء الكنيسة أن أسقف عكا لم يقتبل قواعد الدين المسيحي، ولم يعترف بعقائده كلها، فهل في ذلك دليل على أرجحية الفلسفة في كفة ميزانه؟ الله أعلم!
أما في سلوكها ولبسها ومعيشتها، فقد كانت آية البساطة والجمال.
وإني لأتخيلها واقفة أمام تلاميذها بثيابها البيضاء المهلهلة، وقد عقصت بشريطة من الحرير شعرها، وسدلت على كتفها ذيل ردائها، وفي رجلها العارية نعل يوناني بسيط، فلا قبعة تثقل رأسها، ولا مشد يضعف رئتيها وقلبها، ولا كعب عاليا يضر بعمودها الشوكي وبمجموع أعصابها؛ آية في البساطة والبراعة والجمال.
وحبذا لو عادت نساء اليوم، سيدتي، إلى الزي اليوناني القديم البسيط، خمس أذرع من القماش الكتان الرقيق خير من عشرين ذراعا من الحرير الثقيل المخيط على آخر «مودة»؛ فلا تثقلي وتشددي جسمك سيدتي كما لو كان جسم عدوتك، ناهيك بأمر الاقتصاد والتوفير، على أننا لسنا الآن في موضوع الأزياء والاقتصاد.
لنعد إذن إلى هباسيا؛ فقد وصلنا إلى ما يثير الأحزان من أمرها، فإن هذه العالمة الحكيمة، التي كان يكرمها الإسكندريون الراقون، ويستفتيها العلماء العاملون، ويستشيرها في أمور السياسة الحكام، لم تنج من كره المتعصبين من المسيحيين؛ فبعد أن خدمت العلم والفلسفة أربعين سنة خدمات جليلة، ماتت موت الشهداء على أفظع طريقة وأنكرها، كما ستعلمين. (8-3) البطريق كيرللوس
لم تكن الإسكندرية في ذاك الزمن مهد العلوم المادية فقط، بل كانت عش الكلام أيضا والسفسطة؛ وبينا كان نستوروس وكيرللوس يتنازعان في عقيدة عبادة العذراء، وأثاناثيوس وآريوس يتناقشان في عقيدة المشيئة الواحدة والمشيئتين، كان علماء الإسكندرية يشتغلون هادئين باكتشافاتهم واختراعاتهم. ومن آباء الكنيسة الذين اشتهروا بالفصاحة والعلم، والتعصب والدهاء، والمعاندة والمكابرة: كيرللوس، الذي كان بطريق الإسكندرية على زمن هباسيا، فبينا هي كانت تلقي دروسها في العلوم والفلسفة على الألوف من الطلبة، كان كيرللوس يثير من على منبره خواطر النصارى على اليهود، ولما ارتقى إلى المنصة البطريقية في الإسكندرية كانت هباسيا في أوج شهرتها، وقد تجاوزت الخمسين من عمرها، ومنذ ذاك الحين إلى أن قتلت لم يطب للبطريق عيش، ولم يسغ له شراب. وإن أمره في التعصب والحقد والاستبداد مشهور لدى المؤرخين؛ فحينما ذهب إلى أفسس ليناقش نستوروس في عقيدة العذراء استصحب زمرة من رعاع الإسكندرية، حتى إذا ضاقت به أبواب الجدل هاجهم على عدوه، وعندما تبوأ كرسي السيادة طرد اليهود من الإسكندرية، وبعث بعسكر على معابدهم وبيوتهم فنهبوها ودمروها، وارتكبوا من الفظائع فيها ما تقشعر لهوله الأبدان.
ولا يخفى عليك، سيدتي، أن البطريق في تلك الأيام كانت له قوة الحاكم المدني، فإن فرقة من الجنود كانت دائما موقوفة لخدمته لتنفيذ أوامره، على أن محافظ البلد أورستيس لم يستطع صبرا وسكوتا على هذه الفظائع التي ارتكبها كيرللوس باسم الدين، فناهضه برهة - وكانت هباسيا في هذا الخصام نصيرة المحافظ، بل نصيرة الحق - واستمر هذا النزاع إلى أن حدث الحادث الهائل الذي أودى بحياة ابنة ثيون العالمة الجميلة. ولا تظني، سيدتي، أن هذا هو السبب الوحيد الذي أثار خاطر كيرللوس على هباسيا، فإن رأس الخلاف بينهما لأبعد من هذا. أجل، إنما هو نزاع بين العلم والخرافة، بين التعصب والفلسفة، بين الحرية والاستبداد، بل هو نزاع بين عذراء وثنية أقامت على فضائل الدين المسيحي دون أن تعتنقه، وبين بطريرك استخدم الدين واسطة لإشفاء غليله ونيل مآربه، وفاز بذلك فوزا مبينا، حتى إن المحافظ أورستيس أشفق على منصبه وحياته من تعصب البطريرك وتغيظه، ولكن ذنب المحافظ ذنب سياسي فقط، وذنب هباسيا سياسي علمي ديني؛ لذلك اختارها كيرللوس هدفا لحقده وغضبه. وسأنقل إليك حادثة قتلها كما رواها واتفق في روايتها المؤرخون.
عندما كانت هباسيا عائدة في عربتها من المتحف الملكي قاصدة بيتها، تصدى لها جمهور من رعاع المسيحيين وفيهم الرهبان، وفي مقدمتهم بطرس الشماس الذي كانت له في الجريمة المنكرة اليد الطولى، فأسقطوها من العربة، وجروها إلى السيزاريوم - وقد كانت في ذاك الزمان كنيسة للنصارى - ونزعوا عنها كل ثيابها، ومزقوا جسدها تمزيقا بصدف المحار - وقيل بشقف من القرميد والفخار - ثم قطعوها إربا إربا، وذهبوا بها إلى خارج المدينة وحرقوها هناك. وكان ذلك في آذار سنة 415، في عهد الملك تيودوسيوس الثاني. فقدس كيرللوس في صباح اليوم التالي على عادته، وأكل جسد الرب، ولكنه لم يستطع أن يقول ما قاله بيلاطوس قبله بأربعة قرون: «أنا بريء من دم هذا الصديق.»
لا، فإن البطريرك مسئول عن قتل هباسيا على هذه الطريقة الفظيعة الشنعاء، وقد يتطرف المؤرخون ويعتدلون - بحسب نزعاتهم السياسية وصبغاتهم الدينية - ولكن ما من واحد منهم يرتاب في أن البطريرك كيرللوس هو العامل الخفي على قتل هباسيا.
وقد قال ثيودزوت - وهو من آباء الكنيسة المشهورين: إن لكيرللوس يدا خفية في هذه الجريمة.
وقال أحد المؤرخين المعتدلين: إن لم تقتل هباسيا بأمر صريح واضح من البطريرك، فقد قتلت بعلمه وإرادته.
وقد أدهشني عنوان طويل لكتاب، طبع في إنكلترا سنة 1720، في هذا الموضوع، قال المؤلف: إن هذا «تاريخ امرأة عظيمة في علمها وفضلها وفصاحتها وأخلاقها وجمالها، قتلها إكليروس الإسكندرية ومزقوها إربا إربا إكراما لخاطر بطريركهم الذي يدعى بلا استحقاق القديس كيرللوس».
وفي قتلها أقفل باب المتحف العظيم الذي شيده رفيق الإسكندر، في قتلها كانت نهاية العلم والفلسفة في المغرب، في قتلها تم للتعصب النصر على الحرية والتهذيب، فأقفل باب النور الذي فتحه بطليموس في الإسكندرية - كما أقفله بوستنيانوس في أثينا، فكان سميليسيوس آخر الفلاسفة في بلاد اليونان - وكانت هباسيا خاتمة الفلاسفة في بلاد مصر. ومنذ هاتين الحادثتين المنكرتين تبتدئ ما يدعى في التاريخ «العصور المظلمة»، وتستمر في أوروبا أحد عشر قرنا.
هذي هي سيرة هباسيا «العظيمة في علمها وفضلها وجمالها»، بل هذه قصة النزاع بين الدين والفلسفة في ذلك الزمان. ومهما قيل في البطريرك كيرللوس، فمن المقرر، سيدتي، أن الرجل الذي يعمل ما عمله في اليهود، الرجل الذي يهيج رعاعه على نستوروس في مجمع أفسس، الرجل الذي يستخدم القوة العسكرية لإثبات عقيدة لاهوتية وتعزيزها، لا يتردد في أمر امرأة عملت على هدم صروح الخرافة والأوهام، فقولي إذن: رحم الله أمثال كيرللوس من البطاركة، وجعل أمثال هباسيا من المقربين المكرمين.
المختارات الشعرية أو الشعر المنثور
يدعى هذا النوع من الشعر الجديد
Vers libres
بالإفرنسية، وبالإنكليزية
Free verse ؛ أي الشعر الحر، أو - بالحري - المطلق، وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج، وبالأخص عند الأميركيين والإنكليز، ف «ملتن» و«شكسبير» أطلقا الشعر الإنكليزي من قيود القافية، و«ولت وتمن»
Walt Witman
الأمريكي أطلقه من قيود العروض؛ كالأوزان الاصطلاحية والأبحر العرفية، على أن لهذا الشعر المطلق وزنا جديدا مخصوصا، وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوعة.
و«ولت وتمن» هو مخترع هذه الطريقة وحامل لوائها، وقد انضم تحت اللواء بعد موته كثير من شعراء أوروبا العصريين.
وفي الولايات المتحدة اليوم جمعيات «وتمنية» ينضم إليها فريق كبير من الأدباء المغالين بمحاسن شعره الجلية، المتخلقين بأخلاقه الديمقراطية، المتشيعين لفلسفته الأميركية؛ إذ إن شعره لا تنحصر مزاياه بقالبه الغريب فقط، بل فيه من الفلسفة والتصور ما هو أغرب وأجد. (1) الثورة
ويومها القطوب العصيب، وليلها المنير العجيب
ونجمها الآفل يحدج بعينه الرقيب
وصوت فوضاها الرهيب، من هتاف ولجب ونحيب، وزئير وعندلة ونعيب
وطغاة الزمان تصير رمادا، وأخياره يحملون الصليب
ويل يومئذ للظالمين! للمستكبرين والمفسدين!
هو يوم من السنين، بل ساعة من يوم الدين
ويل يومئذ للظالمين! •••
هي الثورة ويومها العبوس الرهيب
ألوية كالشقيق تموج، تثير البعيد، تثير القريب
وطبول تردد صدى نشيد عجيب
وأبواق تنادي كل سميع مجيب
وشرر عيون القوم يرمي باللهيب
ونار تسأل: هل من مزيد؟ وسيف يجيب، وهول يشيب
ويل يومئذ للظالمين؟ ويل لهم من كل مريد مهين!
طلاب للحق عنيد مدين، ويل للمستعزين والمستأمنين!
هي ساعة للظالمين
هي الثورة وأبناؤها الحفاة، وصبيانها المسترجلون العتاة
ورجالها الأشداء الأباة، ونساؤها المتنمرات
وخطباؤها وخطيباتها الفصيحات، وزعماؤها وزعيماتها المتمردات
ويل يومئذ للظالمين!
أنذرهم بأغلال وسعير، بقنابل تفجر ويوم عسير
يوم لا ينهون ولا يأمرون، ولا يطلقون فيهربون
ويل يومئذ للظالمين! •••
ألم يأتهم حديث الرومان؟
يوم شغف قيصر
1
بالأرجوان، ومد يده إلى الصولجان
فإذا هو صريع خناجر أحرار ذاك الزمان، قتيل مهان كثير الطعان
ويل يومئذ للظالمين. •••
ألم نقص عليهم قصص باريس؟
يوم دك البستيل وزفت المحابيس، يوم قطع رأس الملك لويس.
2
وجزت رقاب كبار الفرنسيس، وفر الطاغون والمسيطرون من وجه هول باريس.
ويل يومئذ للظالمين. •••
ونبأ الإنكليز!
يوم بايع القوم بياع الجعة
3
وقالوا هذا ولي عزيز
يوم نادى الخمار بالناس والملك في حرز حريز
فإذا بالمستضعفين أشداء، وشارل المليك ذليل نبيذ، بل على المشنقة يستعيذ
ويل يومئذ للظالمين من كل متنمر متمرد مدين
ويل يومئذ للمفسدين من نصر البنود الحمر المبين. •••
ونبأ العالم الجديد!
ألم يروا لهيب الأتون في العالم الجديد؟ حيث يطرح كل جائر مريد
حيث يحرق الأرجوان وتذوب تيجان الحديد
حيث تحرر العبيد، ويموت ألوف البشر من أجل هؤلاء السود المناكيد
حيث قام الأذل على الأعز، والوضيع على الجبار العنيد
ويل يومئذ للظالمين، يوم يمتع الله المستعبدين
ويطلق في الشعوب سلطان روح كمين، بل يضرم من ناره البراكين
بل يثير في الجموع روح الأمين، روح كل زعيم صادق أمين
يوم يهب المظلوم سيف الظالم الأثيم
ويذيق المفسدين حر عذاب أليم، في هذه الأرض لا في الجحيم
ويل يومئذ للظالمين من كل متنمر متمرد مدين
ويل يومئذ للمفسدين من نصر البنود الحمر المبين. (2) ريح سموم
وبربك القيوم، ما الذي تظنه يدوم؟
صوت سمعته في الكروم، وقد مرت عليها ريح سموم، فجفت الأرض
وعادت جزرة كثيرة الكلوم
سقطت الجفان عن فسائلها، وفزعت أوراقها إلى الغيوم
صوت صارخ من وراء النجوم: ما الذي تظنه يدوم؟ •••
من صروح زاهية فخيمة، من رياض زاهرة كريمة
من بروج شاهقة عظيمة، من معامل حديثة أو قديمة
ما الذي تظنه يدوم؟
من أسراب منورة تحت الأنهار، من أرتال فيها يدفعها الكهرباء، أو يجرها البخار، من بوارج ماخرات في البحار، من أساطيل تنذر بالدمار
من معالم ومعاهد في الأمصار، ما الذي تظنه يدوم؟
من أنفاق تحت الأديم ملؤها عجاجه، تنفثها وتثيرها القطر الولاجة
من قباب بين السحاب وهاجة، ما الذي تظنه يدوم؟
من جسور فوق المياه جسيمة، من جزائر على المياه عظيمة
من جبال تحت المياه قديمة، ما الذي تظنه يدوم؟
من سدود محكمة منيعة، من خلج كونتها الطبيعة
من ترع تؤلف بين البحار، وتجمع بين بعيد الأقطار والأمصار
من خطوط حديدية تطوق الأرض، من أسلاك برقية تطوي المسافات في الطول والعرض، ما الذي تظنه يدوم؟
من أبنية ذات الطبقات العشرين، من أحياء في المدن الكبرى يأوي إليها جموع البائسين، من معابد وبيع لا أثر فيها للدين
من أصقاع لا صوت فيها للأحرار الصالحين، ما الذي تظنه يدوم؟
من قصور مكتنفة برياض خضراء، من صروح الملوك والأمراء
من دور الرؤساء والأغنياء
من أكواخ البؤساء والفقراء، ما الذي تظنه يدوم؟
من شرائع ودساتير
من تقاليد وعادات وخرافات
من أديان وعقائد وخزعبلات
من دول وممالك وحكومات
من أحزاب وطوائف وجماعات، ما الذي تظنه يدوم؟
صوت صارخ من وراء الغيوم، صوت ريح سموم، أي شيء يدوم؟
مهلا مهلا، إن هذه كلها لصالحة في ذاتها، إن هذه كلها لحسنة في وقتها
لكل شيء من العز والمجد أركان، لكل شيء من أبناء البطر والأشر أعوان، لكل شيء برهة من دهره الوسنان
ساعة أو عام أو قرن من الزمان، الطويل من الدهر في عين الأزل والقصير سيان
فلا تظنها إلى الأبد تدوم، لا وربك القيوم مبدع الشمس والنجوم. •••
إلى حين يا أخي إلى حين، كل ما في العالمين، إي ورب العالمين إلى حين! وبعد فقل لي: هل أنت من الممترين، هل أنت من القائلين السائلين؟
وبعد ذلك وبعد حين
أما في زمانك تأملت المغاور في الصخور؟ فاذكر أن الأمطار والرياح تكونها، والأمطار والرياح تهدمها
إن كل ما هو محترم معبود، من أضاليل الزمان والجدود، يظل في حرز إلى أن يظهر في الناس رجل عظيم عزيز
بطل تجود به الأيام، فيصرخ في وجه الأئمة والحكام.
صرخة ترددها البحار والآكام، وهو قائم على المظالم البشرية، مناضل عن الحقيقة والحرية، باذل مهجته في سبيل الإنسانية
أجل، إن كل شيء لحريز في موضعه حصين، إلى أن يزلزله رجل حصيف رشيد، أو امرأة عظيمة ذات رأي سديد
ومهما كانت حصونكم متينة منيعة، فساعة الزلزال والدمار شديدة سريعة
ساعتئذ يتحدث الركبان في صنيع لأحد العظام جميل، أو عمل لإحدى العظيمات جليل
أجل، إن كل شيء لحريز في موضعه حصين، إلى أن يقف أمام القوم رجل صالح ذو رأي سديد، حر فصيح عنيد، أو امرأة صالحة ذات رأي سديد، حرة فصيحة لسانها من حديد
يومئذ يعلو صوت المطالب بحقوق المستضعفين المستذلين المستعبدين
صوت الأمناء والأمينات من زعماء وزعيمات على كل ظالم جبار مهين. •••
وبعد أن تلاشت ريح السموم فوق الجبال تلاها نسيم لطيف الاعتلال
فدخلت في أثره غابة من الصنوبر كثيفة الظلال، وسمعت من خلال الأغصان صوت المحبة والمعروف والحنان، سمعت صوتا يقول: ورب الأكوان، لا يدوم إلا الإحسان والعرفان! لا يدوم إلا السجايا الروحية الفريدة، سجايا النفس البشرية الخالدة
لا تدوم إلا آثار النهضة الجليلة، ومآثر الأنفس السامية النبيلة
وما أسخف الجدل والمنطق والبرهان أمام مشروع جليل! وما أوهن التعاليم الوضيعة تجاه خطب جسيم! وما أوهى الأقوال والآراء إذا قوبلت بنظرة من رجل عظيم أو صادفت نفحة من نفحات حكيم!
عندما يرفع مثل هذا البشر رأسه وصوته، ولا فرق عندي رجلا كان أو امرأة، يقف دولاب الأعمال، ولا يبقى شيء على حال
عندئذ يبطل الجدال، وتنكسر شوكة المال، وتحشر الرجال، وتكبر الآمال
يومئذ تنقلب المجتمعات، وترتعد فرائص الطغاة الحفاة
يومئذ تنقلب العادات والعبادات، وتهب على الأرض الذاريات السافيات
فيسأل السائل من وراء النجوم: أين مالكم ونفوذكم وشوكتكم؟ أين تقاليدكم وطرائقكم ولاهوتكم؟ أين شرائعكم ودساتيركم وحكوماتكم؟ أين حصونكم وصروحكم وسجونكم وجنودكم؟ أين مصانعكم ومعاهدكم؟ أين زخرفكم وسفاسفكم؟!
فقل: إن هي إلا برهة من الدهر الوسنان، ساعة أو عام أو عصر من الزمان
قل ورب الأكوان: لا بقاء لما سوى الجد والعرفان، والمعروف والحب والإحسان
فهي هي الجبال الراسيات، وهي هي الحصون الواقيات، وهي هي الباقيات الصالحات
بلى ورب السماء والنجوم! لا يفلح المستكبر الظلوم، ولن تدوم إلا آثار النفوس الذكية السامية ووجه ربك الحي القيوم. (3) تحت الرماد وفوق النجوم «تحت الرماد وفوق النجوم ما لا تراه مما يدوم»
رأيت فضيلة اليوم تجر أذيال الفخر والتبجح في شوارع الرياء، وفي أزقة الورع والقداسة، فكرهتها نفسي
ورأيت ما يسميه الناس رذيلة تقضي حياتها في ظلمات السكون والكتمان وراء ستار الخمول والنسيان، فحن إليها فؤادي
لم إذن نبغض الأشرار، ولم إذن نعبد الأبرار؟
لماذا نميل وجهنا عن الفقراء الأذلاء، ونعفره أمام الأغنياء والأمراء؟
إن علية القوم أوطاهم أيها الإخوان! فاحذروا من تكرهون ومن تحبون!
من تحتقرون ومن تجلون!
وغدا ينير الله قلوبكم فتعرفون الحق وتعبدون.
لا والله! وأنا لا أشمخ بأنفي على أصغر صعلوك، ولا أعفر وجهي أمام أكبر الملوك! «إن تحت الرماد وفوق النجوم ما لا تراه مما يدوم»
اعلموا أن الكل في عيني سواء من الوجهة التي أنظر منها إلى الناس
كيف لا وتحت الرماد نفس هذا الشرير جذوة خير حية، وفي بستان ذاك الصديق كثير من الجذور السامة، والنباتات الكريهة الرائحة؟
كيف لا وفي الصعلوك نفس تكبر إذا انطلقت من القيود والأغلال، وفي الملك نفس تصغر إذا جردت من ترهات الأبهة وأباطيل الإجلال؟
لم إذن يحسد الإنسان هؤلاء الأغنياء والأقوياء، وأولئك الملوك والأمراء؟ إن أفقر البشر حالا، وأوضعهم شأنا، وأقلهم مالا، لهو من أعاظم الناس إن كان لا يحسد أحدا من الناس! «إن تحت الرماد وفوق النجوم ما لا تراه مما يدوم»
أنا لا أغبط من أبناء آدم إلا الرجل الحر حقا، الحر بكل معنى الكلمة، ولكن أين أجد مثل هذا الرجل لأعبده لا لأغبطه؟!
أما الأغنياء والأقوياء، والملوك والأمراء - تباركت أسماؤهم - فعظمتهم إما مكتسبة اصطناعية، وإما خلقية طبيعية، وجل ما في القوة المكتسبة مسروق منهوب، ومعظم العظمة الاصطناعية مختلس مسلوب، العظمة العرضية الاصطناعية هي كالسوس في عظام القوة الحقيقية.
ومن يحسد السوس في العظام، أو الذباب فوق الطعام، أو الجراد على الآكام؟
وأما العظمة الخلقية الطبيعية فهي جير من روح الله
وأنا أطأطئ رأسي أمام كل قوة بشرية فيها شيء من جوهر الذات الإلهية، وإن أسمى ما في قلب الإنسان من العواطف الشريفة هي تلك التي تتجلى في اتضاعه وخشوعه أمام العظمة البشرية الخلقية التي هي حقيقة الله في الناس. «إن تحت الرماد وفوق النجوم ما لا تراه مما يدوم.» (4) داويني ربة الوادي
داويني ربة الوادي داويني!
ربة الغاب اذكريني، ربة المروج اشفيني!
ربة الإنشاد انصريني! •••
ألا تذكرين يوم رددت وحيك بين قوم لا يشركون مع البعل إلها، ويوم قدمت ذبيحة للزهرة من يد من لا يعرف من الآلهة سواها؟
ويوم ناديت باسمك في هيكل إيزيس، فطردني من الهيكل الكهان
ويوم تصاعد دخان بخورك على الأولمب، فاكفهر منه جبين رب الأوثان
أنا من وضع بخورك في مجامر خدام هياكل الرومان
أنا من عقد أوتارك في قيثارة راقصات بابل وقين اليونان
أونسيت ما زرعته يدي حول هيكل تموز من الأشجار
وما حاكته يدي لربة الفينيقيين من أكاليل الغار والأزهار
وما خطته يدي في كتاب عبدة الشمس والنار ...
وما حطمته يدي من تماثيل الطغاة ودمى كبار الأبرار؟
داويني ربة الوادي، داويني!
ربة المروج اشفيني! ربة الإنشاد انصريني!
أنشديني على قيثارك من الألحان التي تردد صداها اليوم طيور الغاب، وشحارير البستان
أنشديني من الأنغام التي يطرف بها الرعاة الأنعام
صوت نايك في الدجى، وصوت أرغنك في الضحى أسمعيني
إلى صوت عبادك على ضفاف الأنهار، وصوت أولادك في القفار اهديني!
انشري الآن حول سريري ما كمن في الحقول من عبيري
اسكبي الآن فوق رأسي ما تركته الأحقاب في كأسي
ألحفيني بحبك، ضمخيني بطيبك، أنعشيني بهمس شفتيك، وبلمس أناملك
رددي على مسامعي الآن ما نسيته مما علمتني من الألحان
أسمعيني الآن ما رددته عنك في مجالس قين بابل واليونان
داويني ربة الوادي، داويني!
ربة الإنشاد أصلحيني!
أنا ناي الرعاة من عبادك
أنا عود العشاق من عبادك
أنا أرغن المتشرد من عبيدك
أنا كنارة الراقصات ليلة عيدك
أنا النفس التي يتجلى فيها جمالك، وينبعث منها نورك، وتنطبع عليها أسفار حكمتك، وترف فوقها بلابل سحرك
أنا صوتك جسدته الدهور، أنا روحك أنزلت في الفيدا وفي الزبور
أنا رسولك إلى صفوة العباد، إلى خير من زين الأحلام في المعاد، بل إلى كل من هام في كل واد
أنا وحيك في نشيد الإنشاد، أنا نورك في نفس من سربل التوبة بالإنشاد
أنا في قيثارك نغمة جسها الجهل ضمن جدران الأهرام
بل أنا أغنية رددتها الليالي على الأعوام
أنا في قيثارك روح الفقنس تحت رماد المنون، بل روح أرفيوس فوق أمواج الفنون
أجل! أنا قيثارك، وأنا صوتك، وأنا نشيدك
ولكن يدا أثيمة خنقت البلابل في القيثار، وقطعت منه الأوتار
فجاءت اليوم بنات الهديل تداوي بسجعها سجعي العليل
داويني ربة الوادي، داويني!
ربة المروج اشفيني! ربة الإنشاد انصريني!
المسيني بأناملك تعيدي إلي بهاء ملكي
عوديني في الأسحار تشتد من نسماتك الأوتار
اغسلي جراحي بموجات من فيوضاتك الإلهية
ضمدي أوتاري برقية من رقياتك الموسيقية
أعيدي إلي ما سلبتني الآلام من مجد الحياة الشعرية
ضميني إلى صدرك بنت الأزل والخلود، فتزول عن جفني كآبة الأجيال، ويثمر في عقم الجدود.
من يوم هجرت وإياك الجفان في قديم الزمان، ما رأيت أجمل من الحب فيك إلا الحنان!
فحتام اليوم هذا الصد والجفاء، وهذا الهجر والنسيان؟
اذكريني ولو مرة في ظلامي
عوديني ولو مرة في منامي
انصريني قبل أن تذبل أيامي. (5) غصن من الورد
ركبت في الأمصار البعيدة هواي وأرحته من عنانه
غرست في بساتين الغرباء حبي فنور قبل أوانه
غرسته في أرض سمراء جديدة، فناحت عليه زهور زمانه
طرحت بذور حبي جزافا ذات اليمين وذات الشمال
طرحتها في سهول الحرية، فأحرقها قيظ الفوضى، وداستها أرجل همجية
طرحتها في أنجاد العلم، فأيبس ما نبت منها الصر، وحملت رياح النزاع البقية إلى حيث لا أدري
طرحتها على شواطئ نهر الفلسفة الراكد، فذوت في ظلاله الظليلة، ماتت؛ لأنها لم تر نور الشمس
غرست حبي في غياض الحضارة الغيضاء، فأدمته الأشواك، خنقه العليق، قتلته الجذور السامة
غرسته في أرض الأحباء والخلان، فمات بالاستسقاء من مستنقعات الكذب والرياء
غرسته في حقول التجارة تجاه طواحين التمدن، بين بيت الصراف، وبيت الكاهن، فتواطأ الاثنان عليه، ومدا في قلبه البلاط رصيفا للصوص
لأولئك اللصوص الذين يؤاكلون ويشاربون القضاة
ذهبت بحبي إلى الفقراء والبؤساء، فغرسته في أرضهم الجدباء فلم ينبت، غرسته قدام بيت أم الحي فاقتلعته ورمته بوجهي وهي تقول: اذهب في طريقك، جاءنا قبلك مغرون فقتلوا، صلبوا، حرقوا، نطلب إنصافا وعدلا لا تعزية ورحمة
جزت حي البؤساء إلى مغاور اللصوص والأشقياء، إلى المنبوذين والممقوتين
ذهبت فغرست بينهم غصنا نضيرا من حبي، فعاش قليلا نحيلا، ومات قبل أن يبلغ أشده
في ظلمات قنوط المنبوذين قضى نحبه، دخان تجديف الجاحدين أعماه، خنقته روائح بذاءة اللصوص والقتلة، فكفنه الفاجر بلعنته، وجلقت الفاجرة فاها فوق جثته
هجرت المدن، وهذه المدنية، وركبت البحار
نثرت على المياه حبي كما تنثر شمس تموز ألماسها ولآليها، نثرته صباحا فتلونت الأمواج من شهواته، نثرته مساء فتوهجت من نيرانه الآفاق
كلم حبي السحاب فأجابه، دعا البحر فلباه
لمس حبي الآفاق بأنامله، فارتعدت وتموجت مبتهجة متوهجة. •••
في صبح يوم من أيام الربيع بعثت حبي رائدا في صحراء جديدة، فمضى ولم يعد إلي
ناديته من قمم لبنان فلم يجبني
فتشت عليه في الآفاق وورائها في مشرق الشمس ومغربها فلم أجده
تركت حبي يهيم ثانية على وجهه
فركب هواه مرة أخرى وتركني أتحسر وأتأسف عليه، آه علي، أواه عليه
في وطني، في أرض أجدادي، في التربة التي ذاقت قديما حلاوة ضربة معول رجل قوي، غرست غصن ورد طري
غرسته والآمال تدفعني والعزم يعقد شفتي
غرسته في مكان عزيز، جعلته في حرز حريز بعيد عن الحضارة والناس، لا فرق عندي الآن إن صمت مسامعهم وإن فتحت
لا يهمني إن استحجرت قلوبهم، أو استحالت طينا، أو ذابت ماء معينا. أنت أيتها الأرض أمي، وسأفرح يوم تضميني إلى قلبك كما تضمين الغصن الذي أنا الآن غارسه
أنت أيتها الأرض حية أبدا، أبدا تحبلين وأبدا تلدين
مهما كان ظاهرك فالشعور فيك لا يموت، النار في قلبك لا تخبو
الخريف يزيل الوقر من أذنك، والشتاء يلين قلبك، والربيع يحرك لسانك، والصيف يريك ثمرة أحشائك
ومن أفصح منك في الربيع، وأكرم منك في الصيف؟
من أعظم تهيجا وعطوفا منك في الشتاء؟ من أشد سمعا في الخريف؟ من أرحم منك أيتها الأرض؟ من ألطف وأشفق وأحلم؟
تقبلين منا الأقذار وتعطينا عوضها الأزهار
تستنشقين نتانة أمراضنا وروائحها، وتعيديها إلينا شذاء طيبا
تسكب لك السماء كأسا من الماء الزلال، فيعكره الإنسان، فتفيضين عليه مكافأة خيراتك ومراحمك
أرض أجدادي، افتحي الآن لي قلبك
لا تجهميني، لا تعبثي برجائي وعملي، لا تحبسي حبي عني دهرا
أيتها الأرض التي نقبها أبي، وصلت تحت أشجارها أمي، لا تودعي آمالي الصخور، لا تحمليها إلى قمم الجبال فتموت هناك من الثلوج وشدة الرياح. •••
على كتف هذا الوادي الذي ردد صدى صراخي وغنائي صغيرا في هذه الأرض التي هجرتها قبل أن هجرتني الصبوة، غرست غصن ورد طري
كلمت الأرض بيدي لا بلساني، حصبتها ونقبتها بمعولي الصغير
طعمتها من ذاك الأسود الذي تفرزه المواشي، ومن ذاك الأصفر الذي يكاد يشتعل في الصحراء من قبلة الشمس، ويكاد يذوب على السواحل من قبلة الأمواج
سقيت غصني من ماء الفؤاد، وحجبت عنه النور في أيامه الأولى
رفعت فوقه سرادق ودي وهيامي، ونثرت حوله في الشتاء أوراق الخريف البالية
ولبثت إذ ذاك أنتظر جواب الأرض وحكمها
كم مرة زرت غصني وهززته مستخبرا، فلم تبد عليه لا إشارة الموت ولا علامة الحياة!
كم مرة افتقدته وقلبت فيه الطرف مستقصيا أخباره!
كم مرة وقفت أمامه والفؤاد يتموج بين اليأس والرجاء!
تباركت أرض أجدادي؛ فقد حسن في عينها اجتهادي
تباركت أرض أمي، فستريني الورد على غصن تعبي وهمي
نعم، الأرض كلمتني، أجابت الأرض سؤلي، رددت الأرض صدى حبي
ها إن غصن الورد ينطق كالطفل
بدت عليه على شفتيه لفظة الحياة، وأثمرت في قلبه الكلمة الحية التي تساقطت عرقا من أناملي ومن جبيني
في فمه لؤلؤة صغيرة ملفوفة بلفافة ذهبية، وفي صباح الغد تستحيل لفافة لازوردية، وتبدو اللؤلؤة زمردة نحيفة ندية
وبعد غد أو بعده ينشأ من الزمردة صدفة خضراء في قلبها بحور من الورد لا ترى، وأجيال من الحياة لا تعد
في قلبها أوراق خضلة صغيرة ملتفة حول عرق نحيف طري لا يعرف بعد اسم الشوك ولا معناه
في قلبها أغصان، وفي قلب الأغصان ورد، وفي قلب الورد بذور، وفي البذور الأبدية والخلود. •••
كلمتني أرض أجدادي، أحيت في الرجاء، ضمت إلى صدرها طفل حبي وأنعشته بعد أن كاد يموت
نفخت فيه من روحها الأزلي فتحرك لسانه
هو ينطق بما تلقيه إليه من آيات الحب والجمال والحكمة والرجاء، أين فصاحتي من فصاحتها؟
الأرض لا تنطق إلا لتحيي، لا تتكلم إلا لتزهر وتثمر
ما قالت «لا» بزمانها قط! فإن كان جوابها إيجابا «فنعم»، وإن سلبا، فسكوتا أبديا
كل آياتها جميلة، كل أقوالها منعشة محيية
وليتها تعلم بنيها القول المثمر، المنعش، الجميل
أو ليتها تعلم بنيها السكوت. •••
كأني بالأرض تقول: ليكن عندك ذرة من الإيمان في، واعطني ساعة من العمل، فأعطيك عوضها مائة، بل ألف ضعف من الحب والرجاء، من السرور واللذة، من العزم والنشاط، من الحياة البسيطة النقية التي لا سعادة للإنسان إلا بها. •••
كل جرثومة على غصن الورد الذي غرسته هي لفظة من ألفاظ الأرض العذبة، هي رسالة حب من الأم لبنيها
كل برعم من هذه البراعم هو عقدة من عقد الكون، هو سر من أسرار الحياة
في أي عصر ولدت أيتها الوردة؟ أي أرض شاهدت أول زهرة من أزهارك، واستنشقت أول نفحة من أريجك؟
من زرع بذرتك الأولى؟ من غرس أول فرع من فروعك؟
أول غصن من أغصانك الأصلية الأولى: من نقله من الحقل إلى البستان؟ من الوادي إلى حديقة الإنسان؟
أيتها الوردة البرية، بل الوردة السرية: من أي دغل نشأت؟ وفي أي سلم من النباتات الشوكية رقيت؟
لا تتكلم الأرض إلا ألغازا، الأرض لا تأتمن بنيها على أسرارها
احترز من شرك العلة الأولى، لا تبحث في أصول الأشياء
متع نظرك ونفسك فيما تراه وتسمعه، وإن شئت الدخول إلى هيكل سر الأسرار فتجرد عن الجسد قبل أن تطأ أسكفة الباب. •••
إني لأجد لذة شهية غريبة في مشاهدة هذه البراعيم الجديدة، وفي مراقبة نشوئها ونموها
عددتهم والله مرارا كما تعد الأم أسنان طفلها
افتقدتهم مرارا كما تفتقد الطيور عشوشها
تلهفت وأي تلهف على برعم واحد نثرته الرياح منها
ولكن زمن السرور قصير تكاد زبدة الأشياء تذوب قبل أن تجمد. •••
أواه! صرت أخشى الاقتراب من وردتي فقد أثت فروعها، والتفت أغصانها، وقست أشواكها
أواه! صرت أنظر إليها بغير العين التي شاهدت نشوء براعيمها ونمو فروعها
لهفي على وردة الحياة، تريني ألف شوكة قبل أن تفيح بنفحة واحدة من شذاها
تجرحني مائة مرة قبل أن تعطيني زرا واحدا من أزرارها. (6) معبدي في الوادي
إيه أم الطبيعة بل أمي! جئت أجدد معك آمال الحياة وسرورها، جئت أجدد عهدي وإيماني مع كلاء الحقول وزهورها
جئت أردد تحت هذه الأفنان الخضراء ابتهال أبنائك الأتقياء
وقفت على ضريح الشتاء ليلا، فشاهدت هناك مشهدا جليلا
شاهدت ربة الربيع تقبل جبين أبيها، فينور الأقحوان تحت شفتيها
رأيتها تكتب بدموعها سفر الخلود، فيردده العصفور في الجلمود
ورأيت الأولاد في الحقول حفاة يقطفون الزهور لخير من تألم في الحياة، فقلت في نفسي: ونعم الإيمان في قلوب الصبيان!
إن في قلبي اليوم شيئا مما في قلب جاري، وفي قلب الغاب أثرا من آثاري.
ألا إن قلبي في عقل هذا القروي، وعقله في قلبي الخفي، والذي يراه تحت الكلاء أراه أنا في السماء، والذي يراه في الأرض المنبثق منها نور العالمين أراه في أكمام الورد، وفي براعم الياسمين
فإذا كنت أرى ذلك في الحقل، فلماذا أبرح الحقل؟
ألأسمع في الكنيسة وعيد من لا يعرف من أسرار الحياة سوى ما قرأه في كتب اللاهوت والصلاة؟
إن في ورقة من أوراق التوت سرا لا يكشفه اللاهوت
إلى الوادي إذن، هناك بين أشجار البطم والزمزريق، وتحت أدواح الصنوبر والسنديان أشيد هيكل الإيمان
أراني هنا في بيتي، بل في بيت الطبيعة، بل في بيت الله
ورفقائي هم حقا أحبائي، هم إخواني، حبا بحبي وإيماني
إن هيكلي لقريب من سلسبيل فضي ذهبي يجمع بين الدم الجاري في العروق، والصبيب المتصاعد في الأشجار، واللبن الذي يجدد في النبات حياتها، وفي الأزهار أريجها وألوانها، ومنبر مرشدي هو مرسح الإنشاد والتغريد، لا منصة التحذير والوعيد.
أسمع همس الأفنان وهي تسبح في قلبها الرحمن، وقد أحياها النسيم العليل الذي جاء هذا اليوم من بلاد الجليل. •••
سماع قد بدأ الدوري بتلحينه والسنونو بإنشاده
سماع إن من حلق الحسون الذهبي تتدفق الأنغام الفضية
إن الأطيار تدعوك إلى تجديد إيمانك وآمالك في الحياة
هي تفتح لك أبواب السماء مغردة، ولا تبعدك عنها متهددة
هي تدعوك إلى العمل، وتنفخ فيك روح الجد والأمل
أي ربة الغاب، إن رؤساء هيكلك يرددون صدى نشيد الربيع، لا صدى منطق «الغوري» والمعضلات
وشتان بين «الغوري» والدوري، وبين الحسون والخوري
في ظل القويسة والغار، وبين الصعتر والوزال والخنشار، وبالقرب من ضحضاح يشف عن نباتات حية تحت الماء، وفوق النهر الجاري تحت قدمي هذا الوادي الرهيب، أبني لك أيتها النفس هيكلا من الإيمان يؤمه في المستقبل البعيد من إخواني والقريب
بل أقيم فيه تمثالا للوداد والإخاء، وأدعو إليه كل بشر تحت السماء، فيه أحيي اليوم أنفس المستقبل ومستقبل الأنفس العظيمة.
وحياتي لا تزري بحياة الخنافس والدبابات؛ لأن الناموس الذي يحركها تحت الكلاء يحرك النجوم في حبكها، والسيارات في بروجها. •••
إن الأريج المنتشر من هذه الأدغال هو البخور الذي يحرقه الربيع على مذبح الحياة والإيمان
هو أريج الزعرور والقندول المختبئة أشواكهما الآن تحت نقاب جميل من الأزاهر الصفراء والبيضاء
بين هذه الأدغال الشذية، وتحت شعاع ابتسامة الأشواك، يلذ لي التأمل فيمن مات ليحيي الحب والوداعة في الناس
بين هذه الأشواك تحملني تصوراتي إلى حيث وضع الإكليل على رأس الشهداء
على أن الزمان لم يبق منه سوى الأزهار تنور كل عام في قلوب الأتقياء مثلما ينور القندول والزعرور في الغابات
باسمك، أيتها النفس الإلهية، أصنع لإيماني إكليلا من أزاهر الزعرور لا من أشواكه
باسمك، أشيد لحبي هيكلا من خشب السنديان، وأزينه بالصنوبر والنيلوفر وبأقمار البيلسان
وإلى أتباع الذي صلب وبني الذين صلبوا أقول: تعالوا نسبحه أجمعين في وادي المسرة لا في وادي الدموع، تعالوا نتصافح تحت السماء حيث لا حاجز يحول دون الحب، ولا ما يحول دون الإخاء. (7) إنا غريبان ها هنا أو جمعة الآلام
كلمة همسها النسيم في أذن رعاة الجليل، فسمعتها الدهور ورددتها الأجيال
كلمة من أغصان الزيتون في أورشليم زلزلت العروش، وأسمعت ملوك الأرض صوت ذي الجلال
كلمة زرعتها دموع المرأة تحت الصليب، فنورت في السماء، وكان فيها مسك ختام النحيب
هي كلمة الربيع في كل عام، بل نشيد الأطيار على الدوام، بل أغنية الأزاهر في الحقول والآكام
وإن أنفس الناس النبيلة لتتجسد في مظاهر الربيع الجليلة
إن في كل نفحة من نفحات الربيع روح بشر عظيم وديع
إن العام في هذه الأيام يحتفل بفوز أمراء الحب وملوك السلام
وإن أكاليل الشوك لأعظم من تيجان القياصرة، وكأس المر لأطيب من خمرة الأكاسرة، وقد يدرك هذا الإنسان فيظل من عبيد الزمان، بل من أسراء الغرور والبهتان. •••
جئت الكنيسة لأردد اليوم مع الناس ذكر أمير الناس، بل ذكر الحقيقة التي يعز نصرها بالعذاب، وتحلو بمر الشراب
دخلت الكنيسة وفي نفسي من أحد النخل والزيتون ما لا ينسيني إياه يوم الجمعة الأليم
بل في نفسي من السرور والابتهاج ما لا يضاهيه فرح الناس في العيد العظيم. إن في هذا اليوم يجتمع القمر والشمس، فيشرق الغد على المستقبل، ويشرق على الحاضر الأمس
في مثل هذا اليوم ولد على الصليب الكريم روح بشر صميم.
إنه ليوم حبور أيها الأتقياء، لا يوم حزن وبكاء، بل لبس ورياء
وإنما نحن في جنازة المسيح، وهذا وربي تجديف قبيح
إن وراء ذاك الستار الأسود الصليب، وأمامه الآباء ووجه كل قطوب كئيب
هم يجنزون من لا يعرفون، بل يدمدمون وينعبون والناس إليهم شاخصون
ويلاه! أنا الوحيد الذي لا يرى ما يراه الآباء، ولا يشعر بما يشعر به هؤلاء الأتقياء!
ها قد مشى في الجنازة المدمدمون وهم في الكنيسة يطوفون
وهذا الصليب وقد تصاعد وراءه النحيب، وأمامه البخور والطيب
وصل الموكب إلي فما جثوت على ركبتي
سرحت في الناس نظري، فرأيتهم كلهم ساجدين، ورأيت بمقرب مني رجلا آخر من الواقفين
فقرأت في وجه هذا الغريب ما خالج قلبي الكئيب، وصرخت ساكتا: إلهنا، إنا غريبان ها هنا.
ثم كلمت الغريب فقلت: ولم الجناز ومن صلب قد فاز؟
ولم هذه الصلوات المبكية، وقد أشرقت على الأرض ابتسامة إلهية؟!
فمال بالنظر إلي، ولم يجبني بشيء. •••
ها قد دفنوا الصليب تحت الزهور وانجلت غيوم البخور
وطفئت الشموع وكفكف المدمدمون الدموع
خرجنا من الكنيسة أنا والغريب، ونفسي تناجي ذاك الحبيب
فسرنا معا إلى بستان من الزيتون خارج المدينة
وجلست تحت شجرة هناك، فجلس الغريب إلى جانبي
نظرت إليه ونظر إلي وقد استولى علينا السكوت والعي
فكأننا حبيبان فرق بينهما العرفان، فجمعهما الحب والحنان
وفي مثل هذه الساعة تفصح اللحاظ عما تعجز دونه الألفاظ، على أنني حرت في أمره العجيب وقلت في نفسي: من يا ترى الغريب؟
وما كاد يخطر ذلك في البال حتى وقف أمامي كالخيال
فعرفت الطيف في الحال، وقد أنكرته في شكل الرجال، وناديته مدهوشا: أخي، رفيقي، سيدي، هذا فؤادي، ها يدي، نفحة من جنانك، كلمة لإخوانك
أسمعت خدامك ينعبون؟
ألتمثالك الناس يسجدون وهم عنك بعيدون؟
سيدي، دعني ألقي على كتفك رأسي، فيذوب ثلج فتوري ويأسي، قربني من فؤادك لأتزود من الحب الذي لا يعرفه أحد من عبادك، سيدي، اسقني من الحرية والحق والإخاء ما لا يشوبه الخوف والرياء. •••
وبين أنا أكلمه في البستان طل البدر من شرفة لبنان
فتركني ذو الجلال مكانه كالخيال، وذاب في القمر فوق الجبال.
خاتمة
إلى هنا قد انتهى ما أردناه من المختارات، وبه ختمنا الكتاب، وقد أوردنا فيه أكثر ما اتصل بنا مما قيل في الفيلسوف الريحاني، فعسى أن يكون عملنا محمودا لدى ذوي الفضل والأدب، ومشكورا عند محبي الاطلاع على الآراء الجديدة.
فقد أصبح بهذا بين يدي القارئ الكريم مجموعة علمية أدبية فلسفية اجتماعية دينية تحتوي على ملخص كتب الرجل ، ومحصل أقواله ومذاهبه، وتخيلاته وشعره، وتاريخ حياته، وكيفية نشأته، وما قيل في حفلات تكريمه من نثر ونظم.
والله يعلم قدر ما بذلنا من الجهد إلى أن تمكنا من إنجاز هذا الكتاب على ما يراه.
وحسبنا مكافأة على صنعنا أن يكون ذا حظوة لدى الأدباء، وأن يبقى مادة في تاريخ النبوغ، فقد قمنا به، ونحن نعلم قدر الشقة وبعد المسافة، ولكن حب خدمة العلم فوق كل شيء، وأحسن جائزة على أكمل عمل.
ولعلنا بهذا نكون قد نقلنا صورة صحيحة من رأي أدبائنا وشعرائنا في الريحاني، أحد نبغاء السوريين في المهجر، ذلك النابغة الذي هو أوثق صلة بين الأدبين العربي والغربي، على أنه أحد السوريين المهاجرين الأعلام الذين أحسنوا السفارة بين الأدبين.
وبهذه المناسبة، ومقابلة الإحسان بمثله، وإيفاء المحسن من جنس عمله، أخذنا على عهدتنا أن نجعل كتاب «أمين الريحاني» أول حلقة من سلسلة كتبنا التي نريد نشرها عن أساطين الفلسفة، وأركان الأدب من السوريين في العالم الجديد.
Bilinmeyen sayfa