والاشتراكية المسيحية بحكم عنوانها واستمساكها بالدين مضطرة إلى مصانعة الكنيسة، أو قل إلى طاعة الكنيسة وإرضائها، وإذن فسينفر منها جمهور ضخم من الأوروبيين ومن المفكرين الذين قطعوا ما بينهم وبين الكنيسة من الأسباب منذ وقت طويل.
وخذ مثلا واحدا لهذا الموقف الوسط الذي يضطر الاشتراكية المسيحية إلى الحرج في بلد كفرنسا؛ فهذه الاشتراكية المسيحية تطالب بحرية التعليم التي يطالب بها المحافظون الغلاة، وحرية التعليم هذه ينكرها عدد ضخم من الفرنسيين الذين ناصروا الفصل بين الكنيسة والدولة، والذين حملوا الجمهورية الفرنسية الثالثة على أن تجعل التعليم من شأن الدولة خاضعا لسلطانها ملتزما للحيدة الدينية الكاملة.
فليس بد إذن من أن تجد الاشتراكية المسيحية كثيرا جدا من العناء حين تعالج هذه المسألة؛ لأن أنصار العدل الماركسي لم يضعفوا ولم يستيئسوا، وإنما هم محتفظون بقوتهم التي تزداد انتشارا وانتصارا من يوم إلى يوم؛ فالاشتراكية المسيحية في حقيقة الأمر توشك أن تكون طورا من هذه الأطوار الانتقالية التي تطمئن إليها الشعوب حين تجهدها الحرب وتكلفها الأزمات من الجهد والمشقة ما لا تطيق.
فإذا ما استجمعت واستردت قوتها ونشاطها ضاقت بالمواقف المتوسطة واستأنفت الصراع بين القديم والجديد، بين المحافظة والتطرف، أو قل - إن شئت - بين الاستمساك بالحرية والطموح إلى العدل.
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن طبيعة الإنسان تدفعه دائما إلى الترقي؛ فهو لا يبلغ من الرقي طورا حتى يسمو إلى طور خير منه «وحاجة من عاش لا تنقضي» كما يقول شاعرنا العظيم.
والحضارة الإسبانية المادية مسرعة إلى التطور وإلى تيسير الترف وإذاعته وجعله في متناول الناس جميعا. فليس للإنسانية بد من أن تلقي على نفسها دائما هذا السؤال: لماذا يتاح النعيم لفريق من الناس ويحظر على فريق آخر؟ لماذا يفرق بين الناس في الاستمتاع بالحياة على حين يسوى بينهم في الدخول إلى الحياة والخروج منها؟ لماذا يعمل العامل ويزرع الزارع ويملأ كلاهما الأرض بأسباب الترف ووسائل النعيم لينتفع بنتيجة هذا العمل فريق من الناس لا يعملون ولا يزرعون ولا يبذلون جهدا ولا يحتملون في الحياة عناء؟ ولماذا يتاح الفراغ لقلة من الناس ويفرض العناء على كثرتهم؟
هذه الأسئلة ألقيت على الناس منذ أقدم العصور، ولكنهم لم يحققوها في أنفسهم كما يحققونها الآن، وهم يعتقدون مصيبين أو مخطئين، راضين أو كارهين أن العدل يجب أن يكون هو الغاية الأخيرة للحياة، وأن المساواة الصحيحة في تمكين الناس من أن ينتفعوا بهذا العدل هي الوسيلة إلى تحقيق هذه الغاية الكبرى.
فإذا ذكرت لهم الحرية ومآثرها ومحاسنها - وما أكثر ما للحرية من مآثر ومحاسن! - فسيقولون لك: إن الحرية لن تطعم الجائع ولن تكسو العاري ولن تسقي الظمآن، وسيقولون لك: إن الرجل البائس لا يستطيع أن ينتفع بحريته؛ لأن الحرية لا تغني إلا مع الاستطاعة، وسيقولون لك: إن الحرية خير - ما في ذلك شك - ولكن بشرط أن تمنح للناس بعد أن تتحقق بينهم المساواة ويستقر بينهم العدل ويصبح بمأمن من كل عبث ومن كل طغيان.
وسيقولون لك: إن الحرية إذا منحت للناس قبل أن يستقر بينهم العدل أثارت بينهم التنافس وأذاعت بينهم البغض، وأشاعت فيهم الطمع والحسد والحقد، وجعلت بعضهم لبعض عدوا. وسيستدلون بالتاريخ كله على هذا كله.
وسيقولون: يجب أن يتحقق العدل أولا، وأن يتساوى الناس في الانتفاع بالحياة كما تساووا في الدخول إليها والخروج منها؛ فإذا تم لهم ذلك فامنحهم الحرية إن شئت، فلن تعرضهم للشر، ولن تثير بينهم كيدا ولا مكرا ولا غدرا ولا عداء.
Bilinmeyen sayfa