وإذا كان لهذا الحديث كله مغرى يحسن أن أقف عنده، وأن أتمنى أن يتنبه إليه الأدباء المحدثون، والقراء المحدثون أيضا، فهو أن الأدب الحديث مهما يختلف ومهما تتباين صوره، ليس إلا امتدادا واستمرارا للآداب القديمة، وأن الرقي الأدبي الصحيح محتاج إلى ألا يقطع الأدباء والقراء صلتهم بالقديم؛ ذلك أحرى أن يعصمهم من الغرور، ويحميهم من أن يظنوا بأنفسهم الإعجاز والابتكار، على حين أنهم قد أضافوا الشيء الكثير إلى ما ترك القدماء، ولكنهم لم يعجزوا ولم يبتكروا، وإنما جهلوا إنتاج من سبقهم فغلوا في تقدير أنفسهم غلوا شديدا. ورحم الله أبا العلاء؛ فقد كان شابا في أكبر الظن حين قال:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
بين العدل والحرية
مسألة واحدة تلقى في كل مكان متحضر وفي كل بيئة مثقفة، يلقيها بعض الناس على بعض، ويلقيها الأفراد على أنفسهم عن إرادة وتعمد واختيار حينا، وعلى غير إرادة ولا شعور ولا اختيار حينا آخر.
يلقيها بعض الناس على بعض ويلقيها الأفراد على أنفسهم، عامدين إلى الدرس والتحليل، محاولين أن يجدوا لها جوابا، شاعرين بذلك مريدين له، وتلقيها الحياة العاملة على الأفراد والجماعات في كل لحظة وعند كل فرصة، ويعجز الناس في كثير من الأحيان عن أن يجدوا لها حلا حاسما حازما، أو جوابا قاطعا ساطعا.
وهم من أجل ذلك يضطربون في حيرة متصلة، تظهر آثارها واضحة في أقوالهم حين يتحدثون، وفي أعمالهم حين يعملون.
أيمضي العالم إلى تحقيق العدل أم إلى تحقيق الحرية؟ هذه هي المسألة، أو قل هي المشكلة التي ألقاها القرن التاسع عشر على بعض العقول في أوروبا، والتي جعلت تتسلط على هذه العقول قليلا قليلا حتى شغلتها واستأثرت بها، ثم تجاوزتها إلى عقول أخرى، ثم جعلت تتنزل شيئا فشيئا من الطبقات المفكرة الممتازة إلى الطبقات الوسطى ثم إلى الطبقات الدنيا، ثم استأثرت بالتفكير السياسي كله في أواخر القرن الماضي حتى انقسمت لها أوروبا شيعا وأحزابا.
ثم عظم استئثارها بالحياة الأوروبية في أوائل هذا القرن، ولا سيما في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حتى اضطربت لها أوروبا اضطرابا شديدا، واضطرب لها العالم خارج أوروبا اضطرابا شديدا أيضا، كان من آثاره أن ثارت الحرب العالمية الثانية، وصبت على العالم ما صبت من الشر والهول.
وقد انتهت الحرب العالمية الثانية كما انتهت الحرب العالمية الأولى دون أن تجد إحداهما جوابا لهذه المسألة أو حلا لهذه المشكلة، وإنما كانت نتيجة الحربين أن المسألة ظلت قائمة ولكنها ازدادت شدة وإلحاحا، وأن المشكلة ظلت قائمة ولكنها ازدادت صعوبة وتعقيدا، والله وحده يعلم أيحتاج العالم إلى حرب ثالثة لتجيب عن هذه المسألة وتحل هذه المشكلة، أم يستطيع السلام المنظم أو غير المنظم أن يخرج الإنسانية من حيرتها ويسلك بها إحدى الطريقين: طريق الحرية أو طريق العدل.
Bilinmeyen sayfa