فالناس لا يقتل بعضهم بعضا منذ حين، وقد انهارت ألمانيا وإيطاليا واليابان، واستسلمت بلا قيد ولا شرط، ولكن الخصومة السياسية حول النظم المختلفة ما زالت قائمة كعهدها قبل أن تشب الحرب، وكعهدها بعد أن شبت الحرب، فما عسى أن يكون موقف الأدباء من هذا الصراع المتصل بين النظم السياسية والاجتماعية؟ أيشاركون فيه بعد الحرب كما شاركوا فيه قبل الحرب وأثناء الحرب، أم يستأنفون حياتهم تلك القديمة؛ فينحاز إلى العزلة منهم من يحب العزلة، ويصعد إلى البروج العاجية منهم من يحب الاعتصام بهذه البروج؟!
وبعبارة موجزة: أيباح للأديب أن يحيا حياة العزلة، وأن يخلص لفنه المحض، وأن ينظر إلى الحياة الإنسانية الواقعة كما ينظر إلى الطبيعة الصامتة يتخذها مادة لفنه ليس غير، أم يفرض على الأديب أن يحيا مع الناس، فيألم حين يألمون، ويأمل حين يأملون، ويشاركهم مشاركة كاملة فيما يجدون من نعيم وبؤس، ومن سعادة وشقاء؟ وبعبارة أشد وضوحا وإيجازا: أينبغي للأدب أن يكون لونا من ألوان الترف، أم يجب على الأدب أن يكون أداة من أدوات الحياة؟
هذه هي المشكلة التي تقيم الأدباء في باريس وتقعدهم منذ حررت فرنسا، وقد يخيل إلى كثير من الناس كما يخيل إلى الأدباء الفرنسيين أنفسهم أنها مشكلة جديدة طارئة، ولكن نظرة يسيرة سريعة في التاريخ الأدبي لأي أمة من الأمم الحية، تكفي لإقناعنا بأن هذه المشكلة ليست جديدة، وبأن حظها من الطرافة ضئيل جدا يوشك ألا يكون شيئا.
فأنت تستطيع أن تنظر إلى أي عصر من عصور الأدب الفرنسي، مثلا منذ أوائل القرن السادس عشر إلى الآن، فسترى أن الأدباء قد انقسموا دائما هذا النوع من الانقسام، فكان منهم المشاركون في الحياة الواقعة، والمؤثرون للعزلة والانفراد، وكان أثر الذين يشاركون في الحياة الواقعة دائما أعظم خطرا، وأجل شأنا من أثر الذين يحبون العزلة، ويعتصمون بالوحدة، ويلزمون بروجهم العاجية ينزلون منها وحيهم الأدبي تنزيلا.
فلست أدري إلى أي حد يمكن أن يقال إن مونتني ورابليه في القرن السادس عشر كانا معتزلين يعتصمان بالبرج العاجي، مع أن الواقع الذي ليس فيه شك هو أن أدبهما يصور حياة الطبقة الفرنسية التي كانا يعيشان فيها أصدق تصوير وأبدعه. وقل مثل ذلك بالقياس إلى الشعراء الذين عاشوا في ذلك العصر؛ فهم قد عاشوا مع طبقتهم عيشة تضامن لا اعتزال، وهم قد صوروا طبقتهم تصويرا صادقا؛ منهم من اتصل بالقصر فصور حياة القصر، ومنهم من عاش من الشعب فصور حياة الشعب.
وكانت الحال كذلك في القرن السابع عشر فلم يكن كورني ولا راسين ولا بوالو معتزلين يلقون وحيهم من بروجهم العاجية، كما كان أبلون يلقي وحيه في معبد دلف، وإنما كانوا يشتقون فنهم من الحياة الواقعة من حولهم، يتخذون مذهب القدماء في الأدب وسيلة إلى تصوير هذه الحياة الواقعة بما فيها من ألم وأمل ومثل عليا؛ فأما موليير فأمره أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
أما القرن الثامن عشر، فهو القرن الذي عرف تضامن الأدب مع الحياة الواقعة في أوسع حدوده وأبعد آماده، فمن الخطأ كل الخطأ أن يقال: إن ڤولتير ومونتسكيو وديديرو وروسو كانوا معتزلين أو مترفعين عن الحياة اليومية الواقعة.
والثورة الفرنسية لم تأت من لا شيء، وإنما جاءت من تطور الحياة الواقعة نفسها من جهة، ومن تصوير الأدب لهذه الحياة وتطورها من جهة أخرى، ومن إشعار الأدب للشعب بأن الحياة التي كان يحياها لم تكن تلائم حقه في الحرية والإخاء والمساواة والعدل.
فإذا تركنا هذا القرن ؛ فسنلاحظ أن القرن التاسع عشر كان عصر الصراع بين الأدب، وبين الذين خاصموا الحرية أو حاولوا أن يضيعوا ما كسبه الشعب الفرنسي من ثورته الكبرى؛ وقد احتاج نابليون إلى أن ينظم حربه التي نصبها للأدباء الأحرار، كما نظم حربه التي نصبها لخصومه من الإنجليز والروس والنمسويين، وكانت له شرطته الداخلية ذات النظام الدقيق العنيف، وكان له صرعاه من الأدباء، كما كان له جيشه العظيم وصرعاه من خصومه الخارجيين.
وأكبر الظن أن نابليون لم يحارب الأدباء إلا لأنهم قاوموه، وأن الأدباء لم يقاوموه إلا لأنهم خالفوه في الرأي، ولم يخالفوه في الرأي إلا لأنهم تضامنوا مع الحياة الواقعة، ولم يعتصموا بالبروج العاجية، ولم يؤثروا العزلة وما تستتبعه من العافية على الجهاد مع المجاهدين.
Bilinmeyen sayfa