وابتدأت زيارة الفيلسوف للفتاة في بيتها، وإذا الحب يعلن، وإذا الفيلسوف يلح في حبه ويسلك إلى إقناع الفتاة بهذا الحب طرقا، منها الملتوي ومنها المستقيم، ولكن كلوتيلد لا تحب ولا تهوى، إنما تعجب وتكبر، فهي ترده عنها في رفق، وتطلب إليه مودته دون حبه، فلا يكاد يعرف منها هذا حتى يضيق بنفسه وبالحياة، وحتى تضيق به حصته، ويعجز جسمه ورأسه عن احتمال هذا الخذلان، فهو مريض يلجأ إلى السرير أياما، وهو مشفق أن يعاوده جنونه القديم، على أنه يبل من مرضه، ويحاول أن يجدد عهده بالفتاة، ولكنها تحظر عليه زيارتها في بيتها، وتعده باللقاء عند أمها مرتين في الأسبوع، فلا يكفيه ذلك، فتعده بلقائه مرة ثالثة ، فلا يكفيه ذلك أيضا، وتتصل بينهما كتب فيها حوار حلو ملؤه الحنان يصدر من الفتاة، عنيف معوج ملؤه الفلسفة حين يصدر عن الأستاذ، ثم يستحيل هذا الحب في نفس الفيلسوف إلى شكل جديد، فليس هو حبا عاديا كهذا الذي يكون بين الناس، وإنما هو التقاء شخصين عظيمين قد خلقا ليلتقيا ثم ليتعاونا على إصلاح الإنسانية وإنهاضها. هي إذن قد خلقت له ولن يدعها ولن يتخذ غيرها زوجا إذا ماتت زوجه النائية، ثم تستحيل هذه العواطف ويستحيل هذا التفكير إلى فن من الفلسفة، يضعه «أغست كونت» في رسالة، ويهدي الرسالة إلى الفتاة بهذا العنوان: «رسالة فلسفية في التذكار الاجتماعي»، في هذه الرسالة يتغير رأي «أغست كونت» في المرأة ومكانتها الاجتماعية تغيرا تاما، فقد كان منذ أشهر يكتب إلى تلميذه «ستوارت ميل» فيرى أن ليس في المرأة أمل ولا خير، أما الآن فهو يرى المرأة عنصرا أساسيا في الإصلاح الاجتماعي الذي وقف نفسه عليه، وقد سرت الفتاة بهذه الهدية، وكبرت في نفسها فزارت الفيلسوف مع أمها شاكرة له.
هنالك نشط الأمل وتجددت الحياة، واعتقد الفيلسوف أنه سعيد، واستأنف إلحاحه على الفتاة واستأنفت الفتاة مدافعته عن نفسها، واحتالت في ذلك حتى زعمت له أنها قد أحبت من قبله فتى كان لحبها أهلا، وأحبها الفتى وسعد بهذا الحب! ولكن لم يجدا إلى الزواج سبيلا؛ لأن الفتى كان معلقا مثلها يخاصم امرأته ولا يستطيع لها فراقا، فيئست من الحب والسعادة، وأزمعت أن تنصرف عن لذات الحياة أبدا، ولكن الفليسوف مغرم، والغرم لا يعرف اليأس، وهو إذا كان صحيحا قويا قد يتحول ويتشكل، ولكنه لا يزول، وما الذي يمنع غرام كونت أن يتخذ شكلا فلسفيا ولو إلى حين. لقد كان عود نفسه الحرمان منذ دهر طويل، فألغى القهوة منذ عشرين سنة، وترك التدخين منذ عشر سنين، ثم ألغى النبيذ ثم ألغى الفاكهة، ثم اتخذ ميزانا يزن به ما يلائم حاجة جسمه من الطعام الخشن، وكان ربما يكتفي بالكسرة من الخبز يتبلغ بها، وهو يفكر في إخوانه من الناس الذين قد لا يظفرون بمثلها، وما دام قد سيطر على نفسه إلى هذا الحد، وعودها هذا الحرمان في الطعام والشراب، فما له لا يزيد هذه السيطرة؟ وما له لا يعود نفسه الحرمان لا في الحب بل في لذات الحب؟ إذن فليبق حبه قويا حارا، ولكن ليظل هذا الحب نقيا طاهرا مجدبا من كل لذة، ولينتظر، وليجتنب اليأس، فكل شيء يدني الفتاة منه، وكل شيء يدنيه من الفتاة. لقد أصبحت زميلة له منذ نشرت بعض الصحف السيارة لها قصتها التي وضعتها عن نفسها فأصبحت كاتبة مثله تتحدث إلى الناس في الأدب كما يتحدث هو إلى الناس في الفلسفة. هما إذن زميلان، بل هما أكثر من زميلين؛ فقد أخذت الفتاة تدنو من مذهبه في الفلسفة، وتحس ميلا إلى آرائه الاجتماعية، وتكون منه مكان التلميذ والنصير، فليحب إذن وليصبر، وفي أثناء ذلك كانت أم الفتاة تقول لها: لولا أن مسيو كونت قبيح دميم لقلت إنه يتملقك ويدور حولك كما يدور العاشقون حول من يحبون، ومع ذلك فإن من الحق عليه لك ولنفسه أن يفكر في أن هذه الزيارات المتصلة المنظمة لا تليق بك ولا به؛ لأنها تخالف العرف المألوف أشد الخلاف.
واتصلت زيارة أغست كونت لأسرة كلوتيلد، واشتدت الصلة بينه وبينها متانة وقوة، وأخذت تزول من هذه الصلة بقايا هذه التكاليف الاجتماعية التي تواضع الناس عليها في حياتهم المألوفة، والتي لا يزيلها ولا يمحوها إلا المودة الخالصة إذا بلغت أقصاها، أو الحب الصحيح إذا انتهى إلى غايته. وألحت الأسرة في التعريض بهذه الزيارات المتصلة، وبهذه الصلات التي كانت تتخلص شيئا فشيئا من التكلف والاحتشام، ونزعت الفتاة نفسها وقتا طويلا في أن تتحدث إلى الفيلسوف بهذه الريبة التي أخذت تثور حولهما في نفوس الأسرة، ولكنها انتهت إلى أن أنبأته بما عندها من ذلك فاستمع لها، ولم يحتج إلى تفكير وتقدير ليمتلئ قلبه سرورا وغبطة، وليأخذه شيء من الكبرياء غريب في ظاهر الأمر، ولكنه مألوف عند العشاق والمحبين، وما له لا يسر ولا يغتبط والحجب ترفع كل يوم بينه وبين من يهوى، وما له لا يأخذه الكبر ولا يملؤه التيه وهو يثير الريبة في نفوس الأسرة، ويضطرهم إلى أن يشعروا بحبه للفتاة وبأن الفتاة لا تزدريه ولا تفرط في ذاته، ولا تنظر إليه في غير عناية ولا اكتراث؟ لعلها لا تحبه كما يحبها ولكن في قلبها عاطفة ما تعطفها عليه وتدفعها إليه، ومن يدري؟ لعل هذه العاطفة أن تنمو وتقوى وتخضع لما يخضع له الإنسان بملكاته وعواطفه من التطور، فتستحيل من المودة الخالصة إلى الحب العنيف، وإذن فما له لا يستأنف سعيه وإلحاحه؟ وما له لا يدور حول قلب الفتاة لعله يجد سبيلا لبلوغه والوصول إليه؟ وقد فعل، فهذا الحنان الذي كان قد كظمه في نفسه أو أسبغ عليه لونا من الجد يجعله إلى الود أقرب منه إلى الحب، قد أخذ يتجرد من ثوبه المتكلف ويظهر على حقيقته وفي صورته الصحيحة، وقوته التي لا تبقي على شيء، وهذا التحفظ الذي كان اصطنعه في الحديث يزول شيئا فشيئا، وإذا هو صريح، وإذا هو يجدد إعلان الحب، ويكرر هذا الإعلان ويحيط الفتاة بشباك من الطلب والأمل والتضرع والاستعطاف والإغراء الذي يتجه إلى العقل حينا وإلى الشعور حينا آخر، وكيف تريد أن تفلت الفتاة من هذه الشباك جميعا وهي لا تكاد تخلص من واحدة حتى تتعثر في أخرى؟ هي مضطرة إذن إلى أن تسالم بعض الشيء وتصانع إلى حد ما، وتنهزم عن خط الدفاع الأول كما يقولون.
وهل كانت هي في نفسها منصرفة عن الفيلسوف حقا راغبة عن حبه كل الرغبة؟ لست أدري ولكنها على كل حال عجزت عن المقاومة فكتبت إلى أغست كونت تنبئه بهذا العجز وتظهره على ذات نفسها وتبين له رأيها في التخلص من هذا الموقف الدقيق ورأيها أنها لم تكن تقدر أن أحدا يكلف بها ويتهالك عليها، وأنها هي لا تكلف بأحد ولا تتهالك على أحد، ولكن أملها إن صح أن يكون لها أمل في الحياة، إنما هو طفل تقف عليه حبها وحنانها وقوتها ونشاطها، وهي إذا شاركت رجلا في الحياة فإنما قوام هذه الشركة الوصول إلى تحقيق هذا الأمل، وهي حريصة كل الحرص على أن يكون شريكها إن ظفرت به رجلا ممتازا مرتفع النفس كبير القلب خليقا بالإكبار، وهي تجد هذه الخصال كلها في الفيلسوف ولا تكره أن تتخذه شريكا في تحقيق هذا الأمل وخلق هذا الطفل، ولكنها لا تريد أن تخدعه ولا أن تغره فهي لا تحبه بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، وحياتها ليست بالشيء النفيس الذي يحرص الناس على الاشتراك فيه، فهي يائسة تحتاج إلى من يعزيها، وهي فقيرة تحتاج إلى من يعولها، وهي لا تحمل لشريكها إلا مودة صادقة وإخلاصا لا حد له.
ويقرأ الفيلسوف هذا الكتاب فيجن جنونه وتدور به الأرض ثم تهدأ نفسه، وتشرق في وجهه الدنيا وتبتسم له الأيام، وهل كان يطمع في أن تقبل كلوتيلد منه مثل هذا وترضى أن تكون له خليلة، وتقاسمه الحياة، وتشاركه في خلق إنسان؟ وهو قابل إذن، وهو راض، وهو سعيد، وهو واثق بأن هذه خطوة ستتبعها خطوات، وهو يكتب إليها ويمضي كتابه على هذا النحو: زوجك المخلص أغست كونت.
وتزوره ذات يوم زيارة المستسلمة المستعدة للوفاء بالوعد وإنفاذ هذه الشركة، فيلقاها فرحا مبتهجا ثم يجلسها ويجثو بين يديها ويقدم إليها صلاة فلسفية حارة، ولكنه عالم لا حظ له من براعة الأدباء، ولا من براعة الرجال الذين تعودوا عشرة النساء والتلطف لقلوبهن، فصلاته فلسفية وحديثه بعد ذلك عملي كله، وحركاته حين يضطرب في غرفته منظمة قد قدرت تقديرا، فهو لا يرفع شيئا إلا بحساب، ولا يضع شيئا إلا على نظام، ولا يأتي حركة إلا إذا كانت لها علة ظاهرة وتأويل معقول، وهو يتحدث عن دخله وعما سيحتاجان إليه من نفقة، وعن ترتيب البيت وعن النظام المادي للحياة، وهو على هذا كله دميم لا جمال في شكله ولا روعة، قصير متقدم البطن مضطرب الوجه، فأين يقع هذا المنظر؟ وأين يقع هذا الحديث؟ وأين تقع هذه الحركات المنظمة من قلب امرأة لم تتجاوز الثلاثين بعد؟ ما أسرع ما ضاقت بهذه الشركة ورغبت عنها! وما أسرع ما ضحكت من نفسها في نفسها! وما أسرع ما استيقنت أنها كانت تحاول أمرا لا قبل لها به ولا قدرة لها عليه! وما أسرع ما نهضت وهي تقول: لقد تقدم الوقت دعني أكتب إليك! وما أسرع ما خرجت من الباب وهبطت من السلم وبلغت الشارع ومضت! والفيلسوف ينظر إليها من النافذة، فإذا هي تسرع أمامها لا تلتفت ولا تلوي على شيء، وتكتب إلى الفيلسوف بعد ذلك معتذرة متعللة قائلة: إنها قد تعجلت الوعد وتبين لها أنها في حاجة إلى التفكير الطويل وأن الخير في أن تمهل نفسها لترى، فلا يكاد الكتاب يصل إلى الفيلسوف حتى يحس أنه قد أذاها بحديثه، فيكتب إليها متلطفا ملحا، وتمضي هي في إبائها، ويشتد هو في إلحاحه، حتى إذا أثقل عليها أجابته في شيء من الشدة والصرامة أنها لا تستطيع أن تبيع نفسها ولا أن تساوم فيها فإن كان يقنعك ما أعرضه عليك من المودة الخالصة الطاهرة فذاك، ولك أن تلقاني في بيت أسرتي كدأبك من قبل، ولا بد لي من ستة أشهر أفكر فيها وأروي، وإلا فإني عائدة إلى ما كنت فيه من وحدة وعزلة. هنا يفيق الفيلسوف من ذلك السكر الذي كان غمره وملأ عليه قلبه وعقله، ويعود إلى حاله الأولى ليس شديد الرجاء، ولكنه ليس يائسا بل هو بعيد كل البعد من اليأس، واثق بأن العاقبة له وبأن الفوز لن يخطئه مهما يكن من شيء، سيصبر إذن وسيستأنف حياته الأولى فيلقى الفتاة في بيت أسرتها مرتين في الأسبوع.
وكلاهما سيئ الحال ضيق ذات اليد، أما هي فتبحث عن عمل لتعيش منه أو لترفه به بعض الشيء حياتها الضيقة الخشنة، وهي لا تتردد في أن تشغل مكان السكرتير في مكتب من المكاتب، أو عند رجل ذي مال إن ظفرت به، ولكنها لا تظفر بشيء ولا بأحد إلا فيلسوفها الذي قد وثقت به واطمأنت إليه، فهي لا تخفي عليه من أمرها شيئا، وهو يعدها بالمعونة ويعرض عليها أن يقرضها ما تحتاج إليه، بل يؤكد لها أن كل ما يملك من المال ملك خالص لها تستطيع أن تأمر فيه بما تشاء. نعم؛ ولكنه هو لا يملك شيئا أو لا يكاد يملك شيئا، أعماله شاقة ونفقاته ثقال، والمستقبل أمامه مظلم هو يلقي دروسا رياضية في بعض المدارس الحرة ولكن صاحب المدرسة يريد أن يلغي هذه الدروس رغبة في الاقتصاد، وهو يكسب شيئا من مدرسة الهندسة ولكنه في حاجة إلى أضعاف هذا الذي يكسبه، وهو يلح على تلاميذه في إنجلترا أن يرتبوا له رزقا معلوما، ولكن التلاميذ لا يؤمنون لأستاذهم بهذا الحق وهو مضطر إلى أن يرزق امرأته ثلاثة آلاف فرنك في كل عام، ولا بد له من أن ينقص هذا الرزق وأن يختزل منه ثلثه، وهو على هذا كله يعمل، وهو على هذا كله يحب، وهو حريص على ألا يقصر في ذات فلسفته ولا في ذات عشيقته، وعشيقته أيضا تعمل لخدمة الأدب إن أعجزها أن تعمل لكسب المال. لقد نجحت قصتها الأولى بعض الشيء فما لها لا تكتب قصة أخرى وقد بدأت كتابة هذه القصة واتخذت نفسها لها موضوعا مع شيء من الرمز والإيماء وأخذت كلما كتبت شيئا أرسلته إلى الفيلسوف، فيقرأ ويعجب ويهيم، ويقرظ فيسرف في التقريظ.
ويستأنف زياراته للأسرة محتملا ما يرى من الإعراض، يقابله بمثله في كثير من الأحيان، حتى إذا كتب أخو الفتاة رسالة في الرياضة وعرضها على أستاذه ونظر الأستاذ فيها وأطال النظر فلم تعجبه، فيضطر إلى أن يعلن رأيه إلى تلميذه في غير تردد وإلى أن يتحدث إلى الفتاة بأن حبه لها وحرصه على مودة أخيها لن يمنعاه من أن يعلن رأيه في هذا الكتاب الذي لا خطر له، هنالك يزداد سخط التلميذ على أستاذه وهذا هو الذي يدور حول أخته ويشرب القهوة في البيت مرتين في كل أسبوع، ثم لا يشجع تلاميذه ولا يعترف لهم بما يوفقون إليه من فضل.
ويشتد إنكار الأسرة على الفتاة وتثبت هي لإنكارهم، فتجادلهم في أستاذها وتزودهم عنه، وتخرج من عندهم مكدودة متعبة، وتأوي إلى بيتها وقد فقدت أو كادت تفقد الشجاعة والنشاط، فتفكر في الفيلسوف، وفي أنه الرجل الوحيد الذي يؤثرها بالحب، ويصفيها المودة والعطف، فتنازعها نفسها إليه، ولكن نفورا قويا يمسكها أن تندفع في هذا الحب، فتكتفي بالشكوى، وتقبل من الفيلسوف عطفه وحنانه، ومعونته المالية أيضا، وكانت أعراض الضعف قد ظهرت عليها، فأخذت تحس فتورا وانحلالا، وأخذت تقاوم سعالا متكررا مضنيا، ولم تقدر إلا أن ما تحسه عرض من أعراض هذا الجهد الذي تلقاه، فصبرت واحتملت وجدت في كتابة قصتها، وجدت أيضا في الأنس إلى الأستاذ، وأذنت له أن يزورها في بيتها الخاص، فأحيت أمله، وبالغت في إحياء هذا الأمل حين أهدت إلى الأستاذ باقة من الزهر الصناعي صنعتها بيدها، وأرسلت معها أبياتا من الشعر لا قيمة لها ، ولكن الفيلسوف رآها آية من آيات البيان.
وزارها الفيلسوف ذات يوم فإذا هي متعبة تلقى من الآلام جهدا شديدا فتحدث إليها وأطال الحديث، واطمأنت هي إليه اطمئنانا شديدا، فلما نهض لينصرف اختلس قبلة من فمها، ولكنه لم يكد يبلغ بيته حتى كتب إليها كتابا مشهورا يعتذر فيه من هذه القبلة؛ لأنه لم يكن يثق حين اختلسها بأن نفسه كان نقيا طيب النشر، وردت عليه في هذه السذاجة البديعة: «لا بأس عليك؛ فأنا التي منحتك قبلة صديقة مخلصة.»
Bilinmeyen sayfa