133

فكل هذا تجاوز للقصد وخروج على قوانين العقل نفسه؛ فالعقل لا يحكم إلا عن علم، ومتى أخطأه العلم وجب عليه أن ينتظر؛ فالذين يعدون أطوارهم، ويصفون الإله بالقسوة والعنف أو بالغلظة والظلم، لا يسرفون عن أنفسهم فحسب، وإنما يدفعونها إلى السخف والهذيان؛ لأنهم يقولون عن غير علم، ويحكمون عن غير بصيرة.

وما من شك في أن الذين يعملون الصالحات لا يبتغون بها إلا الخير، ولا ينتظرون عليها أجرا في الدنيا والآخرة قوم أخيار من حق الإنسانية لنفسها أن تكبرهم وتتخذهم أسوة وقدوة في حب الخير والسعي إليه والجد فيه، غير مبتغية عليه جزاء ولا شكورا.

ولكن ليس من شك في أننا لا نعلم مصير هؤلاء الأخيار، كما أننا لا نعلم مصير الأشرار بالعقل؛ لأن العقل لا يعرف مما بعد الطبيعة شيئا.

وإذا كان الأمر كذلك بالقياس إلى هذه القضية، فمذهب العبث كله معرض لهذا النقد نفسه؛ لأن من الجراءة والإسراف في الكبرياء والغرور أن يقول إنسان لست أعرف لهذا الوجود غاية ولا حكمة ولا غرضا، فيجب أن يكون هذا الوجود عبثا، وإنما الذي يجب أن يقال: لست أعرف لهذا الوجود غاية ولا حكمة ولا غرضا، فيجب أن أنتظر لعلي أستكشف أنا، أو لعل غيري أن يستكشف لهذا الوجود حكمة وغاية وغرضا.

والشيء المحقق هو: أن مذهب العبث هذا، لون من ألوان اليأس الذي تدفع الإنسانية إليه، حين تشتد عليها الأزمات، وتأخذها الخطوب والأهوال من جميع وجوهها.

وقد عرفت الإنسانية هذا اليأس في كثير من عصورها المختلفة التي تعرضت فيها لأنواع الهول، وعرفت ما نشأ عن هذا اليأس من مذاهب الشك والتشاؤم والجموح، ومهما يكن من شيء فلو لم يكن لهذا الكتاب إلا أنه يدعو قارئه إلى أن يفكر ويطيل التفكير في مسائل ليست هي من هذه الهنات اليومية، التي تملك عليه أمره وتفسد عليه حياته، لكان خليقا أن يقدر ويقرأ في إعجاب بصاحبه واعتراف له بالجميل؛ لأنه يرفعنا من طور الحياة اليومية السخيفة، إلى طور التفكير في المشكلات العليا، وما أقل ما يرقى بنا إلى هذا الطور من التفكير الرفيع في هذه الأيام!

حول رسائل سيسرون

لست في حاجة إلى أن أعرف إليك سيسرون، كما ينطق به الفرنسيون، أو تشتشيرون، كما ينطق به الإيطاليون، أو كيكيرون، كما ينطق به اللاتينيون فيما يقال. فهو زعيم الخطابة اللاتينية غير منازع، وهو الزعيم الثاني للخطابة العالمية غير منازع أيضا بعد ديموستين الخطيب اليوناني العظيم.

والعلم بمكانته في الخطابة ، وبمكانته في السياسة، وبمكانته في الفلسفة، وبمركزه الممتاز في حياة الجمهورية الرومانية، وجهاده في الاحتفاظ بهذه الجمهورية، وموته في هذا الجهاد، من أوليات الثقافة التي تلقى إلى الشباب في مدارسهم الثانوية، ولكني مع ذلك سأحدثك عن سيسرون لأعرض عليك منه صورة أقل ما توصف به أنها مخالفة كل المخالفة لما توارثت الأجيال من أمره منذ عشرين قرنا.

ولست أنا الذي أستكشف هذه الصورة أو أبتكرها، فلست من هذا كله في شيء، وإنما الذي استكشف هذه الصورة وعرضها على الناس، عالم فرنسي عظيم، هو الأستاذ جيروم كاركوبينو عضو المجمع العلمي الفرنسي ومدير مدرسة المعلمين العليا في باريس سابقا، والذي امتحن امتحانا قاسيا أثناء الحرب الأخيرة؛ لأنه تولى وزارة التربية الوطنية في حكومة الماريشال بيتان، فخرج من هذا الامتحان نقيا رضيا، وهو يعرض علينا هذه الصورة في كتاب ضخم يأتلف من مجلدين، وتنيف صفحاته على تسعمائة صفحة.

Bilinmeyen sayfa