127

في الأدب الفرنسي (2)

الوباء

هذا كتاب أتيح له في العام الماضي من النجح، ما لم يتح لكتاب فرنسي منذ أعوام طويلة، أجمع النقاد الفرنسيون، أو كادوا يجمعون على الرضا عنه والإعجاب به، ولعله ظفر بأضخم طبعة عرفتها الكتب الفرنسية، منذ الحرب العالمية الثانية.

وقد قدمه ناشره لجائزة خطيرة من جوائز الأدب في فرنسا، وهي جائزة النقد، فظفر بها في غير مشقة، أو قل: ظفر بها في غير امتحان؛ فقد صرح بعض المحكمين للصحف بأنه صوت لهذا الكتاب دون أن يقرأه، لأنه يمنح مؤلفه ألبير كامو من حبه وثقته وإعجابه ما يعفيه من قراءة كتابه قبل أن يمنحه الجائزة.

ولست أدري إلى أي حد يسوغ هذا في قضية العقل، وفي قضية النقد الأدبي الصحيح، ولكنه على كل حال يدل على المكانة الرفيعة الممتازة التي يرقى إليها ألبير كامو في نفوس النقاد الفرنسيين، بل في نفوس الأدباء والمثقفين والمفكرين الفرنسيين بوجه عام.

وسيرة المؤلف أثناء الحرب هي التي رفعته إلى هذه المنزلة؛ فقد وفى لوطنه أثناء المحنة، كأحسن ما يفي الناس لأوطانهم، وكأحسن ما يفي المثقفون لأوطانهم، واحتمل في سبيل هذا الوفاء من الجهد والمشقة والعسر، ما لم يحتمله كثير من المثقفين الفرنسيين؛ ثم هو إلى ذلك نافذ البصيرة، دقيق الفطنة، صارم الرأي، مؤمن بالحرية، وبالحرية الواضحة الصريحة المستقيمة، التي لا تحب غموضا ولا التواء.

وهو بعد هذا كله، أو مع هذا كله، كاتب ممتاز، قد أخضع اللغة الفرنسية لسلطانه الصارم السمح معا؛ فبرع في الوصف إلى حيث لا يكاد يباريه أحد من معاصريه، وبرع في اليسر إلى حيث لا يشق فهمه على أحد، ثم هو بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، ليس صاحب امتياز في البيان وحده، ولكنه صاحب امتياز في التفكير أيضا؛ فهو أديب بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها، وهو فيلسوف بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها أيضا، له محاولات رائعة في فهم الحياة وتفسيرها، وفي استكشاف الصلة بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، وفي تفسير الوجود من حيث هو وجود، وفي تفسير المصير الذي أتيح للإنسان أن ينتهي إليه.

والمثقفون جميعا يعرفون مذهب ألبير كامو في العبث، وكثير منهم قرءوا دون شك كتابه الرائع المشهور أسطورة «سيزيف». وأسطورة هذا البطل اليوناني معروفة؛ فقد قضي عليه أن يظل في دار الموتى مقبلا على صخرة عظيمة، يرفعها من سفح الجبل إلى قمته، يلقى في ذلك الجهد والنصب والعناء، حتى إذا ارتقى بالصخرة إلى القمة رآها تدفع إلى الانحدار بقوة لا يملك لها ردا، حتى تصل إلى حيث كانت من القاع، ورأى نفسه مضطرا بحكم القضاء إلى أن يستأنف الجهد والنصب والعناء، فيدفع الصخرة ليرفعها إلى القمة، وما يزال يرقى بها إلى أعلى الجبل، وما تزال تنحدر به إلى القاع، إلى آخر الدهر، إن كان للدهر آخر.

فهذا الجهد الذي يبذله، وهذا النصب الذي يلقاه، وهذا العناء الذي يشقى به، عبث متصل ليست له غاية يقف عندها ولا حد ينتهي إليه، ولا غرض يبتغى منه.

والعالم عند ألبير كامو شيء يشبه هذا الجهد الذي يبذله البطل اليوناني في غير طائل، فليس للعالم غاية ينتهي إليها، ولا حد يقف عنده، ولا غرض يبتغى منه، وإنما هو ماض في هذا الوجود العابث إلى غير غاية، ولا أمد، وإلى آخر الدهر إن كان للدهر آخر.

Bilinmeyen sayfa