وقد حاول ريتشارد رايت أن يرفض هذه الملاكمة، ولكن زميله ما زال به يرغبه في الدولارات ويرهبه بأسه، ويخيل إليه أن الملاكمة لن تكون إلا ظاهرة مموهة حتى استجاب له، ثم كانت الملاكمة واجتمع السادة البيض لها كما يجتمع الذين يلعبون باختصام الديكة، ولم تكن الملاكمة خيالية مموهة وإنما كانت مرهقة مهلكة أشرفت بهما على الموت.
وفي المصنع الذي كان ريتشارد رايت يعمل فيه كان يعمل أيرلندي كاثوليكي وكان رفيقا بالسود وبرايت خاصة، وبفضله استطاع رايت أن يستعير بعض القصص من مكتبة المدينة التي كانت وقفا على البيض، فلم يكد يقرأ في هذه القصص حتى فتحت له آفاق جديدة لم يكن يقدرها ولا يفترض لها وجودا، وإذا هو يصرف إلى القراءة عن كل شيء إلا عن العمل الذي يكسب منه قوته وقوت أسرته، ويستعين به على اقتصاد ما يتيح له السفر إلى الشمال. وهو يستكشف في هذه القراءة شيئين؛ أحدهما: هذه الآفاق الجديدة التي كان يجهلها، آفاق تصوير الحياة ونقدها وتحليلها، وآفاق هذه الأنواع الكثيرة المختلفة من الحياة التي يحياها الناس في أمريكا وفي أوروبا، والتي يصورها كتاب كثيرون أمريكيون وأوروبيون تنقل آثارهم أو يتحدث عنها فيما يقرأ من الكتب.
والثاني: هذه النفس التي كان يشقى بها، والتي لم يستطع قط أن يذلها أو أن يخضعها للذل، أو أن يتصور أنها أقل من نفوس البيض خطرا أو أهون منها شأنا، استكشف إذن في قراءته هذه الناس ونفسه، ولم يكن يعدل رضاه عن هذا الاستكشاف إلا تكفله للإقامة على حياته المألوفة حتى لا يفطن البيض إلى أن شيئا من سيرته الظاهرة أو الخفية قد تغير، وحتى لا يحولوا بينه وبين ما يسمو إليه من الهرب بنفسه إلى جو تستطيع أن تنمو فيه نموا حرا ليس فيه عسف ولا إكراه.
وقد أتيح له ذلك آخر الأمر؛ فهو يختم كتابه الرائع بما كان يدور في رأسه من الخواطر حين كان القطار يمضي به نحو الشمال، ولم تكن هذه الخواطر تصور سخطا ولا يأسا ولا جزعا، وإنما كانت تصور الرضا والأمل وحب الخير الذي يشمل السود والبيض جميعا.
وقد لخصت لك هذا الكتاب تلخيصا لا أقول إنه دقيق، ولا أقول إنه مقارب، ولكنه على ذلك يصور أمرين خطيرين؛ أحدهما: هذا الجهاد العنيف الذي جاهده ريتشارد رايت منذ صباه الأول؛ ليقاوم هذه المؤثرات الهائلة التي أفسدت على ملايين السود في أمريكا حياتهم واضطرتهم إلى ألوان من الذل والهوان، أقل ما توصف به أنها لا تلائم كرامة الإنسان، وأنها تكذب هذا الغرور الذي يحمل كثيرا من أمم الغرب على أن تزهى بما أتيح لها من الرقي والتفوق والامتياز في حياة العقل والشعور.
فليس من الحضارة في شيء، وليس من رقي العقل والشعور في شيء أن يستعلي فريق من الناس على فريق فيستذلوهم ويعنفوا بهم أكثر مما يعنفون بالحيوان الأعجمي والآلة المسخرة، لا لشيء إلا لأنهم بيض، ولأن خصومهم سود.
وهذه المؤثرات قد انتهت بالسود في أمريكا أو بكثرتهم الساحقة إلى نتائجها الطبيعية، طال عليهم الاستذلال فهم أذلاء، وطال عليهم الاستعباد فهم يحيون حياة العبيد، وهم من أجل ذلك يغرقون في الرذائل التي تقتضيها حياة الذل والخسف؛ فهم يكذبون ويسرقون ويقارفون آثاما لا تحصى ولا تقدر، وهم يخافون، ويدفعهم الخوف المنكر المتصل إلى ضروب من الجبن وهوان النفس ودناءة السيرة لا تكاد تخطر لأحد منا على بال.
وهم يتخذون هذه الحياة المنكرة نظاما يرضونه ويطمئنون إليه ويتنافسون فيه، فإذا شذ منهم شاذ فامتنع على هذا النظام أو أظهر الامتناع عليه فهم ينكرونه ويقاومونه، كما ينكره البيض ويقاومونه.
وقد استطاع ريتشارد رايت منذ صباه الأول أن يقاوم هذه المؤثرات ويثبت لهذه المقاومة على ما لقي في هذا الثبات من خطوب آذت نفسه وجسمه جميعا؛ فهو لم يعرف الأمن ولا الرضا ولا اطمئنان القلب في يوم من أيام صباه، كما أنه لم يعرف الشبع ولم يأمن غائلة الحر والبرد، ولم يفلت من سخر الساخرين وعبث العابثين يوما من أيام صباه أيضا.
أما الأمر الثاني: فهو هذه الغفلة التي يعيش فيها العالم المتحضر في الشرق والغرب، بالقياس إلى هذه الدولة الضخمة الفخمة الهائلة التي تريد الآن أن تسود العالم، وتوشك أن تبلغ ما تريد؛ فالناس في الشرق والغرب يرونها نموذج الحضارة، ويتخذونها مثالا للرقي، وهي مع ذلك ترى ملايين من الناس يسامون أشنع ما يسام الناس من ضروب الذل والخسف والعسف والهوان، ثم لا تنكر ذلك ولا تغيره، بل لا تحاول إنكار ذلك ولا تغييره محاولة مجدية.
Bilinmeyen sayfa