وراح الأولاد يختلفون على خير الوجوه لتضييع النقود، فمن قائل: نشتري ملبنا، ومن قائلة: ملبسا، وانثنت سميحة الناصحة العملية تقول: سأشتري بحصتي منه لبانا أمضغه فذلك أطول متعة وأكثر لذة ومكثا.
ولما ابتعدت بنا العجلة عن القرية أوقفت الجوادين وأطلعت من تحت ثوبي فستان سميحة وحذاءها وجوربها، فلم يكد الأولاد يرونها حتى هللوا وصفقوا.
وانثنت سميحة من فرح تقول: إذن لم تنسي يا أماه كشف البقال، وإنما تلك حيلة لطيفة لتعودي بثوبي، فشكرا لك يا أم ... شكرا.
وأخذ الأطفال على الطريق في لغوهم وفاكة حديثهم، ولكني لم أكن إلى لغوهم ملقية سمعي، فقد عادت بي الخواطر إلى ذكرى طفولتي الرغيدة الناعمة في أكناف أبي الناعم العيش الموفق، فمضيت أوازن بين طفولتي وطفولة هؤلاء الصغار المساكين أفلاذ كبدي، فتذكرت أن سميحة أدركت سن العذارى وبدأت تستقبل مطالع الشباب، تذكرت أنها قد صارت ابنة أربعة عشر ثم لم تدخل مدرسة ولم تجد من حسن التأديب والعناية ما تجده الأتراب الشبيهات بها المثيلات، وكانت «سوسنة» في الحادية عشرة ومن شهدها ثم منع الفؤاد أن يحبها؟ فقد كانت في الصبيات الحسناء الحنون الوادعة.
وكان فؤاد لا يزال ابن ثمانية، وكان أحبهم جميعا إلى فؤادي، إذ كان أكثرهم مواساة لي وترضية، ولو كان أبي شهد سعدا ابن السادسة، سعدا الشجاع القوي، لأحبه وأكبره، ولكن أبواي ماتا قبل أن يرياني زوجا لذلك الرجل، وحمدا لله إذ لم ينسأ في أجليهما ليشهداني في شقوتي الحاضرة.
وبلغنا المدينة فتركت الأولاد في حانوت البدال، ومضيت إلى الطبيب، وفيما كنت أصعد السلم إلى طبقاته وددت لو أنني لم أجئ إليه ومضيت إلى الطبيب الجديد الذي يلهج الناس بحذقه ونطسه، وما كدت أقف ببابه حتى علمت أنه غائب عن عيادته ولن يعود قبل الأصيل، فتولاني اليأس وكبر علي أن أعود إلى القرية ولم ألتمس طبيبا، فخطر لي أن أذهب إلى الآخر ففعلت، وكان الدكتور رجلا مكتهلا صادق القول رحيما وإن قست حقائقه، فراح يقول في بعض ما قال: دعيني يا سيدتي أسر إليك الحق غير موارب، إن هذا الألم الذي تشعرين به هو من قلبك، إن قلبك في أسوأ حال، فقد أجهد إجهادا شديدا طيلة السنين والأيام.
فوجمت ولم أقل شيئا.
قال: أراك لم تفهمي الأمر جليا، إنني إذا كنت قد قلت لك أن قلبك مجهد واهن فقد أردت أن تعلمي أن أيامك في الحياة أصبحت معدودات، ومن العبث أن أشرح لك ذلك بلغة الطب ومصطلحات الأطباء، وإنما حسبي أن أقول لك: إذا كان لك أمر تريدين إنجازه فبادري إليه، وإن كان لك أقرباء تريدين لقاءهم فخير لك أن تبعثي في طلبهم.
فحملقت إليه البصر مبهوتة واجمة ثم انثنيت أقول: أتعني بهذا أيها الطبيب أنني على الرحيل موشكة؟
فتولى الرجل عني ليخفي ألمه.
Bilinmeyen sayfa