ولكنها لم تتبرم ولم تحاول فرارا، بل مضت تعنى بالدار أكثر مما فعلت من قبل، وتحشد فيها ألوان الهناءة ما استطاعت، وتلتمس إرضائي بكل حيلة وسبيل، فظللت دهرا حائرا بين محاولة النجاة من فتون حبها، وبين إطلاق النفس على سجيتها لتحبها وتحسن إليها.
ففي أصيل بديع بكرت فيه إلى البيت فدخلت عليها الخدر على غرة، فإذا هي تخيط ثوبا صغيرا لوليد وتغمغم بأغنية حلوة، فلما انتبهت إلى مواقع قدمي وقفت أنغام الأغنية على شفتيها واضطربت تحاول إخفاء الثوب الذي تحيكه، ولكنها لما أدركت أن لا جدوى من الإخفاء بعد أن أخذ عيني طول ذلك الثوب ودقته، راحت تهز كتفيها الجميلتين وتعاود العمل بإبرتها. قلت: لمن هذا الثوب؟ وأنا أعرف أو أحسبني أعرف أنه لطفلتها، ولم أكن رأيت طفلتها إلى ذلك العهد، وإنما كنت من قبل قد قلت لها: إننا بعد الزواج سنجيء بالطفلة من البيت الذي هي فيه لتعيش معنا وتترعرع في أكنافنا.
قالت في تؤدة: إنه لوليدك!
فبهت ووقفت مكاني جامد الحركة.
قلت عابثا ساخرا: وليدي! ما شاء الله! ومتى كان ذلك؟
وكنت من قبل قد نبأت أن سبب نفاري من «د» أنها بجانب مسلكها الطائش لم تكن تريد أن أنعم منها بفرحة البنين، فلما أنكرت عليها ذلك في لهجة السخرية التي فهت بها، لم تزد على أن قالت: لقد كنت أظنك متلهفا على الوليد، وقد كنت أنا كذلك للذرية راغبة، فتركت للطبيعة شرعتها المقدسة، مؤمنة بأنك ستتزوجني قبل أن تحين ولادة.
ولكني في أعماق النفس كنت ثائرا غاضبا، إذ كنت على ما ألفت من عقائد الناس ونظراتهم في الحياة لا أزال أرى أن امرأة مثلها لا تروح خليقة بأن تكون لذريتي أما، فانثنيت أقول: إنني أعرف طبيبا يستطيع أن ...
ولكني أمسكت فلم أتم كلمتي، إذ رأيت في عينيها نظرة أبلغ من الكلم، وأفعل في النفس أثرا من الشكاة والضراعة!
وجاء يوم الوضع، وحضر الطبيب ووافت الممرضة، فخلتني رجلا احتواه بيت غريب ليس له به عهد، وخرج الطبيب من حجرتها، فنبأني بأن زوجتي تريد أن أدخل عليها، فدخلت مستجمعا جأشي، فجلست بجانب سريرها وأنا حائر لا أدري ماذا أفعل وماذا أقول!
ولكن وجهها الشاحب وعينها المتوسلة أوحيا إلى نفسي أنها تريد أن أكون منها قريبا، وابتسمت لي قائلة: أود لو أنك تبقى بجانبي هكذا وتتحدث إلي وتمسك بيدي قليلا، أفترى في ذلك بأسا؟
Bilinmeyen sayfa