كانت في بادئ الأمر لغزا دق على حله، بل في الحق لقد سقطت علي بغتة، فدهتني بسحرها فجأة؛ إذ رأيت فعالها وكلماتها على نقيض ما كنت أشهد من النساء اللاتي عرفتهن. وكانت مليحة محببة، حلوة التركيب، ذات عينين نحلاوتين سوداوتين طاهرتين عفتين، وفروع سوداء فاحمة كالليل، وإنها لتأتي عليها لحظات تبدو فيها عيناها رانيتين رنوة مسكينة شاكية يائسة مستضعفة، حتى ليخيل للمرء أن ينثني إليها فيتناولها في أحضانه ويحميها بجناحيه، ويقيها بحبه ورثائه، فإذا تكلمت أدرك السامع من لهجة حديثها وروعة منطقها أنها قوية فلا تحتاج إلى ناصر، ولا تسأل عون معين.
ولاح لي أنها لم تكن تميل إلى رجل بعينه، أو تلتمس الحب عند فتى بذاته، بل كنت يوما أراها مع واحد ثم لا ألبث أن أجدها عند سواه، وقلما تتراءى مع رجل أكثر من مرة أو مرتين، وتضافر رأي الجميع بلا معارض على أنها مثال الفتاة الأنيسة المفراح لا غبار عليها، ولكنهم كذلك اتفقوا على أنهم لا يجدون عندها ما هم واجدوه من الفتيات الأخريات؛ إذ لم تكن تبيح لهم من عبث الغزل وألعاب الشباب ما تبسم له وتستطيبه غيرها من الأتراب والصاحبات، فلم يكن أحد منهم يلتمس اصطحابها إلى النزهة واللهو أكثر من مرة واحدة ثم يكف. •••
وكذلك رأيتني بعد قليل أسألها الخروج معي إلى النزهات، وما كان مثلي بمن يقنع بالمرة والمرتين، فإن ما رأيته منها أكد عندي ما سمعته عنها، فزادني هذا تعلقا بها واستكثارا من الجلوس إليها ومعاودة النزهة معها، فلم تكن ترفض لي سؤالا، وما عتمت أن قامت بيننا الرفقة الثابتة المكينة، ووجدتها من تلقاء نفسها قد امتنعت عن الفتيان وكفت عن الخروج مع أحد منهم، ولم أكن سألتها أن تمتنع، ولا أوحيت إليها أن تكف، فسرني ذلك منها وحببني إليها. وعلى الأيام ألفيت تغيرا عظيما قد أخذ يظهر عليها، فقد بدأت ترفض اللفائف وتستعفي من الشراب كلما عرض ذلك في المجلس، أو أغريتها به قائلة إنها لم تعد تحفل بشراب ولا «تبغي» تدخينا، وكنت أعلم أنها من قبل كانت تشرب وتدخن، ووجدتها كذلك قد أخذت رويدا تخلع عنها شملة ذلك المظهر القوي المستقل الثابت الذي كانت تتراءى للناس به، وراحت تبدي جانب المرأة الضعيفة منها، وتتكشف لي عن إنسانة تحتاج إلى الحامي والراعي والنصير.
ومن ذلك الحين أخذت أحلم ثانية بالزواج وعيش الأسرة ونعمة الذراري والبنين، ففي ذات مساء صائف اتفق رأينا على ألا نذهب إلى المراقص ولا نطلب في تلك الليلة الملهى، بل نخرج للنزهة في الحدائق والرياض.
وفي الحديقة الكبرى ألفينا مقعدا منعزلا تحت شجرة، فقعدنا، وطوقت كتفها بذراعي تطويقة حب وحنان، وسادنا سكون طويل ثم أنشأت تتكلم، قالت: أرى الأمور تجري مندفعة، فقبل أن نتمادى مع تيارها ينبغي أن أكاشفك بما في نفسي ... إنني أحبك ... فما لي لا أجهر لك به، وأحسبك تحاول حبي أنت كذلك، ولكن لعلي قد غلوت في التصور وحملت عاطفتك لي على أكثر مما ينبغي أن تحمل، فإذا لم تكن تحبني، فلا حاجة بي إلى مكاشفتك به لأنه لا يخصك، أفأنت راغب في سماعه؟ ...
وانزوت عني قليلا وهي تتحدث، وكان صوتها خافتا مغمغما، حتى لا يكاد يقع في المسمع، وإن كانت قد صبت تلك الكلمات صبا، وتدفقت بها تدفقا، كأنها من لهفة على الجهر بها تريد إراحة صدرها من عبئها.
قلت: أريد أن أسمع أي شيء تقولين يا حلوة.
وساد سكون ثم غمغمت تقول: إن لي طفلة!
فنظرت إليها مبهوتا ولم أستطع قولا.
ولكني عدت أقول: إذن لقد كنت إذن ذات بعل؟
Bilinmeyen sayfa