ورحت أتصور كم كان يكون هنائي لو أنني لقيت فتاة كهذه قبل عهدي هذا ببضع سنين، وأي خير كان سيرده علي لقائي بها، وأي فضل علي أستمده من حبها والبناء بها.
ومضت على الشقة البعيدة إلى دار أهلها، مسرة ميل وبعض ميل ... تقص علي الكثير من شأنها، وتحكي لي عن نفسها، فإذا هي تعيش مع أخ لها في أكناف جدة لهما كفلتهما منذ سنتين، عقب وفاة أبويهما في مطاح أحد الأوبئة. وأدركت من خلال حديثها أنهم في فاقة ورقة حال، وإن لم تذكر ذلك ولم تجهر به، فقد كانت الفتاة فخورا مزهوة شماء.
ففي خطف البرق نزلت من المركبة والمسدس في يميني.
وعلمت أيضا أن لتلك الجدة أرضا ورثتها عن زوجها، فهم يعيشون جميعا من غلة تلك الأرض وحصادها، وأن أخاها حدث في طراءة العمر، لا يستطيع العمل في المزرعة، ولم يؤت علم الزرع والحرث، وأن جدته وأخته تلتهفان على بعثه إلى المدرسة ليتلقى شيئا من العلم يجدي عليه في مستقبل أيامه، ويهذب من حواشيه، ولكنهما لم تفعلا وتخشيان ألا تفعلا؛ لأنهما تحتاجان إليه في رعاية شؤون الحقل جهد المقل. •••
وقدمتني إلى جدتها ونبأتها بما جرى على الطريق ولم تذكر من قصتي شيئا، فشكرتني العجوز أوفر الشكر، وكانت تلوح بمعارف وجهها المشرق وفروعها البيضاء في الستين، ولم تفعل السنون شيئا في طلعتها الناضرة.
وكانت الساعة قد اقتربت من الواحدة، فقالت الفتاة: أين أخي يا جدة، لقد وجب الطعام وتهيأ، فأين تراه ذهب وغاب هذه الغيبة؟
فانتشر على وجه العجوز قلق وخوف، وأجابت قائلة: لقد ذهب يا غاليتي إلى المرعى لإقامة السور حوله ولما يعد، وقد ركب الجواد وأخشى أن يكون قد أصيب بسوء.
فانتظرنا لحظة أخرى ولما يعد بعد، وأوجست الجدة وحفيدتها من غيبته خيفة عليه، تطوعت إلى الخروج لافتقاده.
فانطلقت ألتمس الحقل، وكان يترامى خلف البيت، وفي طريقي تبينت أن الزراعة لم تكن في حال حسنة على فرط اجتهاد اليد المشرفة عليها، فقد كان شيء يتراءى نظيفا، يشعرك السلام والسكون اللذين تعرف أثرهما في جو الدار، وتحسهما يملأن أفقها.
وما كدت أسير غير بعيد حتى سمعت صيحة الفتى وكان قد كبا به جواده فرض إحدى قدميه.
Bilinmeyen sayfa