التفسير البياني لما في سورة النحل من دقائق المعاني
التفسير البياني لما في سورة النحل من دقائق المعاني
Yayıncı
دار الوضاح
Yayın Yeri
الأردن - عمان
Türler
سلسلة الريحان في تفسير القرآن (١)
التفسير البياني
لما في سورة النحل من دقائق المعاني
كتبه
سامي وديع عبد الفتاح القدومي
دراسات عليا في الشريعة الإسلامية
(حقوق الطبع محفوظة لدار الوضاح)
الأردن - عمان
_________
للتواصل مع المؤلف
samiwadi@maktoob.com
للاطلاع على كتب المؤلف
http://Samiwadi.blogspot.com
بسم الله الرحمن الرحيم فضل تعلم القرآن وتعليمه: الحمد لله الذي علم القرآن، وجعل تعليمه نعمة مقدمة على خلق الإنسان، ومقدمة على تعليمه البيان) الرحمن (١) علم القرآن (٢) خلق الإنسان (٣) علمه البيان (٤) «الرحمن). والصلاة والسلام على رسول الله الهادي إلى سبيل الإيمان، وعلى آله وصحبه وأهل القرآن، اللهم أدخلنا في زمرتهم يا رحيم يا رحمن! أما بعد: فلما أحب النبي ﵊ عبد الله بن عباس المحبة البالغة، والتي دفعته إلى أن ضمه إلى صدره، دعا له ببالغ الدعاء وأعظمه، وطلب له كمال الخير وأكمله، فعن ابن عباس قال ضمني رسول الله ﷺ وقال اللهم علمه الكتاب (البخاري: ٧٣). وتعليم الكتاب لا ينحصر في حفظه فقط، بل فهمه في أعلى المقامات، لأن الغاية من إنزاله وإرساله هو اتباع الخلق، ولا يكون ذلك إلا بعد الفهم والعلم. وعلم تفسير القرآن أجلس ابن عباس - وهو ما زال فتى - مجالس الشيوخ الكبار من أصحاب الرأي والمشورة، فعن ابن عباس ﵄ قال كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله فقال إنه ممن قد علمتم قال فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم قال وما رئيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني فقال ما تقولون في ﴿إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا﴾ حتى ختم السورة فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وقال بعضهم لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئا فقال لي يا ابن عباس أكذاك تقول قلت لا قال فما تقول قلت هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه الله له ﴿إذا جاء نصر الله﴾ والفتح فتح مكة فذاك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا قال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم (البخاري: ٣٩٥٦) وبين رسول الله ﷺ من خير الناس وأفضلهم فقال: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه (البخاري: ٤٦٤٠) فأي فضل بعد هذا الفضل، وأي خير بعد هذا الخير، تعلم القرآن خير التعلم، ومتعلم القرآن خير المتعلمين، وتعليمه خير التعليم، ومعلمه خير المعلمين، وخير من الناس الباقين. والاشتغال بتفسير القرآن خير الاشتغال؛ لأن الاشتغال يأخذ حكمه بناء على قيمة العلم المشتغل به، فكلما دنا دنا، وكلما علا علا، والاشتغال بالقرآن خير الاشتغال، لأن القرآن خير الحديث، فهو كلام الله، قال رسول الله ﷺ: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (مسلم: ١٤٣٥) ولا بد لقارئ القرآن من التدبر في الآيات، والتفكر في المعاني ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ (النساء: ٨٢) ولا يكون ذلك دون معرفة التفسير.
جهود السابقين: ولأجل هذا بذل السابقون الجهود في تفسير القرآن، فمنهم من اهتم بالحديث والأثر، ومنهم من اهتم بالاجتهاد بناء على الحديث والأثر، ومنهم من اهتم بالبيان والبلاغة، ومنهم من اهتم بالنحو، ومنهم من اهتم بمجادلة أهل العقائد الهالكة، ومنهم من اهتم بالأحكام، إلى غير ذلك من الاهتمامات، كل منهم اهتم بما يجد الحاجة إليه، أو يجد أنه بارع فيه. ولا بد من العلم أن كل أهل عصر صنفوا من التفاسير ما يناسب عصورهم في الأسلوب أو المحتوى.
سبب التأليف: طلب إلي غير واحد ممن أحسب فيه الخير، وممن يتشوق إلى معرفة تفسير القرآن، طلبوا إلي أن أكتب تفسيرا سهلا ميسرا، أي يريدون تفسيرا تعليميا. ففكرت في الأمر مليا؛ لأن التفاسير التي تحوي التفصيل لا يصل إلى فهمها إلا أهل التفسير أو طلابه الحاذقون، والتفاسير السهلة ما هي إلا تفاسير للمعنى الإجمالي، والذي لا يروي ظمأ كثير ممن يريدون معرفة الكثير عن كتاب الله، ولكن ظل الأمر في خانة الأمور المؤجلة إلى أن يحدث الله أمرا. وفي ليلة رأيت رؤيا تحثني على الكتابة في التفسير، فقلت في نفسي: وما الداعي إلى الكتابة في التفسير، أهو نسخ ما كتبه السابقون فقط؟ ولكن بعدما اتضحت في فكري صورة هذا التفسير أقدمت عليه، سائلا الله سبحانه القبول والتسديد.
منهجي في كتابة التفسير: ١ - قد كتبت هذا التفسير بأسلوب تعليمي، يستطيع كل أن يأخذ منه قدر حاجته، ولهذا قسمته إلى ثلاثة مستويات: الأول: المفردات. الثاني: المعنى الإجمالي. الثالث: المعنى التفصيلي. فمن أراد معرفة معاني مفردات الآية، قرأ المستوى الأول، ومن أراد الاستزاده، قرأ المستوى الثاني، وهو المعنى الإجمالي، والذي يبين معنى الآية بيانا واضحا، ولكنه لا يبين الفوائد اللغوية أو الفقهية أو غير ذلك من الفوائد التفصيلية. أما المستوى الثالث فيحتوي على الفوائد التفصيلية المستنبطة من الآية. وهذا التفسير يفهمه طلاب المدارس باختلاف مراحلهم، لوضوح بيان معاني المفردات، ولأن المعنى الإجمالي شامل وواضح، ويفيد المتعلمين على اختلاف تخصصاتهم، بل ويفيد المتخصصين في دراسة التفسير، لما فيه من التوسع المفيد في مستوى المعنى التفصيلي. ٢ - كتبته بلغة سهلة واضحة - قدر الإمكان - حيث كنت آتي على الفوائد البيانية والفقهية والعقدية واللغوية أصوغها بلغة واضحة سهلة، وقد كنت أتأكد من هذا الأمر عن طريق دفع الأوراق إلى متعلمين غير متخصصين في العلوم الشرعية، فأناقشهم بكل عبارة لا يفهمونها، وأعود إلى صياغتها وفق قدرتهم على الفهم. ٣ - هذا التفسير مأخوذ من التفاسير السابقة، وفيه زيادات لا يعرفها إلا من قارن ودقق. ولم أعز إلى التفاسير عزوا مفصلا، بل عزوت عزوا عاما بالإشارة إلى أن هذا التفسير مستفاد ممن سبق، كما استفاد من سبق ممن سبقه وهكذا، وأما زياداتي فمن أراد المقارنة ميزها، ومن لا يريد تمييزها فالأمر إليه. ومنهج العزو العام منهج متبع، فهذا - على سبيل المثال - أبو السعود - كما في مقدمة تفسيره - يعزو تفسيره إلى الكشاف وأنوار التنزيل وإلى ما وجده في غيرهما من الفوائد، وما أداه إليه اجتهاده. وكذا ابن عاشور - في مقدمة تفسيره - بين أنه لا يعزو العزو التفصيلي إلى ما سبقه من التفاسير بقصد الاختصار. ٤ - أذكر الآيات آية آية، وبعد كل آية أذكر معاني المفردات، ثم المعنى الإجمالي، ثم المعنى التفصيلي. وأتكلم عن كل آية دون أن أحيل على ما سبق تفسيره من الآيات، إلا إذا كان الكلام قريبا، فأحيل لقرب الموضع، وحتى لا يسأم القارئ. ٥ - لا أذكر حديثا إلا خرجته وبينت درجته صحة وضعفا. ٦ - حرصت على بيان التناسق والمناسبات بين الآيات. ٧ - سلكت في بيان آيات الصفات مسلك السلف الصالح، معرضا عما ابتدعه الخلف من التحريفات. ٨ - إذا تكلمت في تفسير آية عن البلاغة في تقديم أو تأخير أو حذف أو زيادة أو غير ذلك، فلا يلزم من هذا أن أقارن في البلاغة بين هذه الآية والآيات الأخرى. ٩ - إذا وقفت على أخطاء عند المفسرين، فإنني أناقش القول دون ذكر اسم القائل، فهم مجتهدون ومأجورون إن شاء الله، ونحن إنما نقتات على موائدهم، فعار علينا أن نذم من يكرمنا، ومن نستفيد منه ونتعلم، ولكن لأجل الحق، فإنني أناقش ما أراه محلا للنقاش. أسأل الله الهداية والسداد، والقبول والإمداد! كتبه سامي وديع عبد الفتاح القدومي
بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة النحل هذه السورة مكية إلا آيات نزلت في المدينة، وهي: أولا: قوله تعالى) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (وما بعدها فعن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثلوا بهم. فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم قال فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله تعالى) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله ﷺ: كفوا عن القوم إلا أربعة. رواه (الترمذي: ٣٠٥٤) و(أحمد (زوائد ابنه عبد الله)، رقم: ٢١٢٢٩) بسند حسن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي بن كعب. ورواه أيضا ابن حبان في (صحيحه ج٢/ص٢٣٩) ومن طريقه رواه الحاكم في (المستدرك على الصحيحين ج٢/ص٤٨٤) ورواه غيرهم. ثانيا: قوله تعالى (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) (النحل: ١١٠)، لما روى الطبري في تفسيره (ج٢٠/ص١٣٣) بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ...) (النساء: ٩٧) إلى آخر الآية. قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية: أن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ...) (العنكبوت: ١٠) إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا، فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
الموضوع العام للسورة تتحدث هذه السورة عن توحيد الله ﷾، وما يتصل به من الموضوعات، كبيان نعم الله التي تدل على وحدانيته وقدرته، وكبيان عذاب الله للكفار في الدنيا والآخرة، وتتحدث عن مواضيع متفرعة عن هذه المواضيع.
بسم الله الرحمن الرحيم فضل تعلم القرآن وتعليمه: الحمد لله الذي علم القرآن، وجعل تعليمه نعمة مقدمة على خلق الإنسان، ومقدمة على تعليمه البيان) الرحمن (١) علم القرآن (٢) خلق الإنسان (٣) علمه البيان (٤) «الرحمن). والصلاة والسلام على رسول الله الهادي إلى سبيل الإيمان، وعلى آله وصحبه وأهل القرآن، اللهم أدخلنا في زمرتهم يا رحيم يا رحمن! أما بعد: فلما أحب النبي ﵊ عبد الله بن عباس المحبة البالغة، والتي دفعته إلى أن ضمه إلى صدره، دعا له ببالغ الدعاء وأعظمه، وطلب له كمال الخير وأكمله، فعن ابن عباس قال ضمني رسول الله ﷺ وقال اللهم علمه الكتاب (البخاري: ٧٣). وتعليم الكتاب لا ينحصر في حفظه فقط، بل فهمه في أعلى المقامات، لأن الغاية من إنزاله وإرساله هو اتباع الخلق، ولا يكون ذلك إلا بعد الفهم والعلم. وعلم تفسير القرآن أجلس ابن عباس - وهو ما زال فتى - مجالس الشيوخ الكبار من أصحاب الرأي والمشورة، فعن ابن عباس ﵄ قال كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله فقال إنه ممن قد علمتم قال فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم قال وما رئيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني فقال ما تقولون في ﴿إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا﴾ حتى ختم السورة فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وقال بعضهم لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئا فقال لي يا ابن عباس أكذاك تقول قلت لا قال فما تقول قلت هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه الله له ﴿إذا جاء نصر الله﴾ والفتح فتح مكة فذاك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا قال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم (البخاري: ٣٩٥٦) وبين رسول الله ﷺ من خير الناس وأفضلهم فقال: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه (البخاري: ٤٦٤٠) فأي فضل بعد هذا الفضل، وأي خير بعد هذا الخير، تعلم القرآن خير التعلم، ومتعلم القرآن خير المتعلمين، وتعليمه خير التعليم، ومعلمه خير المعلمين، وخير من الناس الباقين. والاشتغال بتفسير القرآن خير الاشتغال؛ لأن الاشتغال يأخذ حكمه بناء على قيمة العلم المشتغل به، فكلما دنا دنا، وكلما علا علا، والاشتغال بالقرآن خير الاشتغال، لأن القرآن خير الحديث، فهو كلام الله، قال رسول الله ﷺ: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (مسلم: ١٤٣٥) ولا بد لقارئ القرآن من التدبر في الآيات، والتفكر في المعاني ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ (النساء: ٨٢) ولا يكون ذلك دون معرفة التفسير.
جهود السابقين: ولأجل هذا بذل السابقون الجهود في تفسير القرآن، فمنهم من اهتم بالحديث والأثر، ومنهم من اهتم بالاجتهاد بناء على الحديث والأثر، ومنهم من اهتم بالبيان والبلاغة، ومنهم من اهتم بالنحو، ومنهم من اهتم بمجادلة أهل العقائد الهالكة، ومنهم من اهتم بالأحكام، إلى غير ذلك من الاهتمامات، كل منهم اهتم بما يجد الحاجة إليه، أو يجد أنه بارع فيه. ولا بد من العلم أن كل أهل عصر صنفوا من التفاسير ما يناسب عصورهم في الأسلوب أو المحتوى.
سبب التأليف: طلب إلي غير واحد ممن أحسب فيه الخير، وممن يتشوق إلى معرفة تفسير القرآن، طلبوا إلي أن أكتب تفسيرا سهلا ميسرا، أي يريدون تفسيرا تعليميا. ففكرت في الأمر مليا؛ لأن التفاسير التي تحوي التفصيل لا يصل إلى فهمها إلا أهل التفسير أو طلابه الحاذقون، والتفاسير السهلة ما هي إلا تفاسير للمعنى الإجمالي، والذي لا يروي ظمأ كثير ممن يريدون معرفة الكثير عن كتاب الله، ولكن ظل الأمر في خانة الأمور المؤجلة إلى أن يحدث الله أمرا. وفي ليلة رأيت رؤيا تحثني على الكتابة في التفسير، فقلت في نفسي: وما الداعي إلى الكتابة في التفسير، أهو نسخ ما كتبه السابقون فقط؟ ولكن بعدما اتضحت في فكري صورة هذا التفسير أقدمت عليه، سائلا الله سبحانه القبول والتسديد.
منهجي في كتابة التفسير: ١ - قد كتبت هذا التفسير بأسلوب تعليمي، يستطيع كل أن يأخذ منه قدر حاجته، ولهذا قسمته إلى ثلاثة مستويات: الأول: المفردات. الثاني: المعنى الإجمالي. الثالث: المعنى التفصيلي. فمن أراد معرفة معاني مفردات الآية، قرأ المستوى الأول، ومن أراد الاستزاده، قرأ المستوى الثاني، وهو المعنى الإجمالي، والذي يبين معنى الآية بيانا واضحا، ولكنه لا يبين الفوائد اللغوية أو الفقهية أو غير ذلك من الفوائد التفصيلية. أما المستوى الثالث فيحتوي على الفوائد التفصيلية المستنبطة من الآية. وهذا التفسير يفهمه طلاب المدارس باختلاف مراحلهم، لوضوح بيان معاني المفردات، ولأن المعنى الإجمالي شامل وواضح، ويفيد المتعلمين على اختلاف تخصصاتهم، بل ويفيد المتخصصين في دراسة التفسير، لما فيه من التوسع المفيد في مستوى المعنى التفصيلي. ٢ - كتبته بلغة سهلة واضحة - قدر الإمكان - حيث كنت آتي على الفوائد البيانية والفقهية والعقدية واللغوية أصوغها بلغة واضحة سهلة، وقد كنت أتأكد من هذا الأمر عن طريق دفع الأوراق إلى متعلمين غير متخصصين في العلوم الشرعية، فأناقشهم بكل عبارة لا يفهمونها، وأعود إلى صياغتها وفق قدرتهم على الفهم. ٣ - هذا التفسير مأخوذ من التفاسير السابقة، وفيه زيادات لا يعرفها إلا من قارن ودقق. ولم أعز إلى التفاسير عزوا مفصلا، بل عزوت عزوا عاما بالإشارة إلى أن هذا التفسير مستفاد ممن سبق، كما استفاد من سبق ممن سبقه وهكذا، وأما زياداتي فمن أراد المقارنة ميزها، ومن لا يريد تمييزها فالأمر إليه. ومنهج العزو العام منهج متبع، فهذا - على سبيل المثال - أبو السعود - كما في مقدمة تفسيره - يعزو تفسيره إلى الكشاف وأنوار التنزيل وإلى ما وجده في غيرهما من الفوائد، وما أداه إليه اجتهاده. وكذا ابن عاشور - في مقدمة تفسيره - بين أنه لا يعزو العزو التفصيلي إلى ما سبقه من التفاسير بقصد الاختصار. ٤ - أذكر الآيات آية آية، وبعد كل آية أذكر معاني المفردات، ثم المعنى الإجمالي، ثم المعنى التفصيلي. وأتكلم عن كل آية دون أن أحيل على ما سبق تفسيره من الآيات، إلا إذا كان الكلام قريبا، فأحيل لقرب الموضع، وحتى لا يسأم القارئ. ٥ - لا أذكر حديثا إلا خرجته وبينت درجته صحة وضعفا. ٦ - حرصت على بيان التناسق والمناسبات بين الآيات. ٧ - سلكت في بيان آيات الصفات مسلك السلف الصالح، معرضا عما ابتدعه الخلف من التحريفات. ٨ - إذا تكلمت في تفسير آية عن البلاغة في تقديم أو تأخير أو حذف أو زيادة أو غير ذلك، فلا يلزم من هذا أن أقارن في البلاغة بين هذه الآية والآيات الأخرى. ٩ - إذا وقفت على أخطاء عند المفسرين، فإنني أناقش القول دون ذكر اسم القائل، فهم مجتهدون ومأجورون إن شاء الله، ونحن إنما نقتات على موائدهم، فعار علينا أن نذم من يكرمنا، ومن نستفيد منه ونتعلم، ولكن لأجل الحق، فإنني أناقش ما أراه محلا للنقاش. أسأل الله الهداية والسداد، والقبول والإمداد! كتبه سامي وديع عبد الفتاح القدومي
بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة النحل هذه السورة مكية إلا آيات نزلت في المدينة، وهي: أولا: قوله تعالى) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (وما بعدها فعن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثلوا بهم. فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم قال فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله تعالى) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله ﷺ: كفوا عن القوم إلا أربعة. رواه (الترمذي: ٣٠٥٤) و(أحمد (زوائد ابنه عبد الله)، رقم: ٢١٢٢٩) بسند حسن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي بن كعب. ورواه أيضا ابن حبان في (صحيحه ج٢/ص٢٣٩) ومن طريقه رواه الحاكم في (المستدرك على الصحيحين ج٢/ص٤٨٤) ورواه غيرهم. ثانيا: قوله تعالى (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) (النحل: ١١٠)، لما روى الطبري في تفسيره (ج٢٠/ص١٣٣) بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ...) (النساء: ٩٧) إلى آخر الآية. قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية: أن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ...) (العنكبوت: ١٠) إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا، فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
الموضوع العام للسورة تتحدث هذه السورة عن توحيد الله ﷾، وما يتصل به من الموضوعات، كبيان نعم الله التي تدل على وحدانيته وقدرته، وكبيان عذاب الله للكفار في الدنيا والآخرة، وتتحدث عن مواضيع متفرعة عن هذه المواضيع.
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
(أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون) (١)
المفردات:
- تعالى: أي هو علي بذاته وصفاته، ولفظ التفاعل للمبالغة في علوه ﷾.
المعنى الإجمالي:
كان الكفار في زمن النبي ﷺ يستعجلون العذاب قال تعالى (ويستعجلونك بالعذاب) (الحج: ٤٧) فكانت هذه الآية تهديدا لهم.
وما هذا الاستعجال إلا لعدم إيمانهم، ولاستخفافهم بالله العظيم، قال تعالى: ... (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) (الشورى: ١٨)
وفي هذه الآية تنزيه لله عن أن يكون له شريك (سبحانه وتعالى عما يشركون).
المعنى التفصيلي:
- أتى الإخبار عن وقوع العذاب للكفار وبعده نهيهم عن الاستعجال (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) ولم يأت النهي عن الاستعجال وبعده الإخبار بأن العذاب أتى " لا تستعجلوا أمر الله فقد أتى "؛ لأن الآية في الأساس تهديد للكفار وليس نهي لهم عن الاستعجال.
- جاء التعبير بالماضي (أتى) في قوله تعالى (أتى أمر الله) وذلك لأن وضع الماضي موضع المستقبل دلالة على قرب الوقوع وعلى تأكده، كقوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) وقوله (ونفخ في الصور) فالفعل " نادى " و" ونفخ " فعلان ماضيان يتحدثان عن أمور مستقبلية؛ للدلالة على تحقق الفعل المستقبلي كأنه وقع.
- جاء التعبير بـ (أمر الله) وليس " عذاب الله "؛ لأن موضوع الآية وما بعدها هو إثبات التوحيد، بأن الله هو سبحانه الخالق لا إله غيره، فناسب ذلك بيان أن العذاب لا يكون إلا بأمر الله؛ لأن الانفراد بالأمر يدل على الوحدانية، فذكر أمر الله فيه تهديد للكفار، وفيه أيضا إثبات أن الله هو المتصرف في هذا الكون؛ لأنه لا إله غيره، وهذا أبلغ من التعبير بـ "عذاب الله ".
- قيل: أمر الله هو عذاب الآخرة، وهذا هو الراجح؛ لأن الكفار كانوا يستعجلون عذاب الآخرة، قال تعالى: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) (الشورى: ١٨)
- قيل أمر الله هو عذاب الدنيا، وهذا ليس واردا، رغم أن الكفار كانوا يستعجلون العذاب في الدنيا قال تعالى (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (٥٣) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (٥٤» (العنكبوت)؛ لأنه لو كان العذاب في الدنيا هو المقصود بأمر الله لوقع عذاب الله العام على الكفار وهذا لم يقع بنص قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب)
- إذن العذاب الذي سأله الكفار لم يقع في الدنيا، وإنما أجل إلى الآخرة، فكيف يكون عذاب الدنيا هو الذي أتى؟! بل أمر الله الذي أتى هو عذاب الكفار في الآخرة.
- قيل: أمر الله هو أحكامه وفرائضه، وهذا ضعيف؛ لأن الصحابة لم يستعجلوا أحكام الله حتى يهددهم الله بهذا التهديد، وأيضا ختم الآية بتنزيه الله عن الشرك يدل على أن الاستعجال والشرك مترابطان؛ لأن المستعجلين هم المشركون، وهذا لا يكون في الأحكام والفرائض.
- وقيل: أمر الله هو النصر على الكافرين، وهذا ضعيف لما سبق في النقطة السابقة؛ لأن الآية تهديد للمشركين؛ بدلالة آخر الآية.
- قد يقول قائل: ما العلاقة بين (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) وبين ... (سبحانه وتعالى عما يشركون) فالقسم الأول من الآية فيه إخبار بقدوم عذاب الله، وفيه النهي عن استعجال العذاب، أما القسم الثاني ففيه تنزيه الله عن الشركاء، وفيه التعظيم له سبحانه، فما العلاقة بينهما؟
والعلاقة بينهما أن استعجال الكفار بالعذاب منشأه الشرك الذي هم فيه، ولأن سبب الاستعجال هو الشرك، أصبح استعجال العذاب معنى من معاني الشرك، فناسب أن ينزه الله ويعظم بعد ذكر الشرك.
- و" سبحان " مصدر نحو غفران، أي تنزيه الله عما لا يليق به من الصاحبة والشركاء وجميع النقائص، أي تبعيده عنها ﷾.
وأصل السبح هو المر السريع، ومنه يستعار الابتعاد؛ لأن الابتعاد قد يكون نتيجة للمر السريع، لأن معنى تسبيح الله في المعاجم اللغوية هو تنزيه الله، والتنزيه التبعيد، نقول نزه نفسه عن السوء. أي: أبعدها.
- و" تعالى " من العلو، وجاء على وزن تفاعل، لأن علوه ﷾ عظيم أيما عظمة.
- ولكن لماذا قدمت كلمة " سبحانه " على " تعالى " وليس العكس؟
يقدم نفي النقائص على إثبات العظمة؛ لأن إثبات العظمة لا يعني نفي النقائص؛ فنفي النقائص يكون أولا ثم إثبات العظمة، فقد أرشدنا النبي ﷺ كما في أحاديث كثيرة ومنها ما هو في الصحيحين - أن نقول " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " وفي هذا الذكر تقديم لتنزيه الله عن الشريك، ثم ذكر عظمة الله ﷾ بأن له الملك وله الحمد وأنه على كل شيء قدير.
- جاء التعبير بالفعل المضارع في قوله تعالى (عما يشركون) لأن إشراك الكفار متجدد، فهم في كل وقت يعبدون الأصنام ويذبحون لها ويقدمون لها القربات، وما زال هذا مستمرا حتى زمننا هذا، ففي هذا الزمن - زمن العلم - تعبد الأصنام في بلاد الصناعات والعلوم المادية، ويشرك بالله فيها صبح مساء، فالهندوس والطاويون والبوذيون وغيرهم من أهل الصين والهند وكوريا واليابان كلهم وغيرهم مازال عامتهم على الشرك الذي يتجدد في كل يوم.
1 / 3
(ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) (٢)
المفردات:
- الروح: هي الوحي: أي الدين الموحى به من عند الله.
المعنى الإجمالي:
بعد أن نزه الله ﷾ ذاته عن الشريك في الآية السابقة، بين أن كل دعوة الأنبياء كانت إلى التوحيد.
وأن الله هو الذي أنزل الملائكة بالدين الذي هو حياة القلوب كما أن الطعام هو حياة الأبدان، ولهذا سمى الدين المنزل بالروح.
وبينت الآية أن هدف الدعوة إلى دين الله هو التزام العباد بالتقوى.
المعنى التفصيلي:
- جاء التعبير بـ (ينزل) بالتشديد، وليس " ينزل "؛ لأن السياق سياق إثبات للتوحيد، وإن من الأمور المثبتة لذلك هو تنزيل الملائكة بالوحي، فناسب التشديد أهمية ذكر الوحي في سياق إثبات الوحدانية لله.
أو لأن المقصود بإنزال الملائكة هو نزولها من بداية البشرية إلى وفاة رسولنا محمد ﷺ، فهو تنزيل عظيم على مدى هذه السنين الطويلة، فناسبه التشديد.
- جاء التعبير بالفعل المضارع (ينزل الملائكة)؛ لأن نزول الملائكة بالرسالات كان مستمرا حتى زمن نزول الآيات.
- قد يقال: إن الملك الذي ينزل بالوحي هو جبريل، فلماذا قيل (الملائكة) بالجمع علما أن جبريل ﵇ مفرد؟
جاء ذكر (الملائكة) بالجمع؛ لأن الوحي قد يكون عن طريق جمع من الملائكة كما حصل لإبراهيم ﵇ لما جاءه ضيفه من الملائكة (وبشروه بغلام عليم) (الذاريات: ٢٨).
- الروح تأتي بعدة معان، منها ما تكون الحياة به: (ويسألونك عن الروح) (الإسراء: ٨٥)، ومنها جبريل: (نزل به الروح الأمين) (الشعراء: ١٩٣)، ومنها الوحي: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) (الشورى: ٥٢)
والمقصود بالروح في هذه الآية هو: الوحي.
والوحي قد يرد بعدة معان، فقد يراد به الإلهام (وأوحى ربك إلى النحل) (النحل: ٦٨)، أو تكليم الملك للنبي، ومنه يطلق الوحي على الموحى به، وقد يراد به الإشارة (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) (مريم: ١١).
والمقصود به هنا هو الموحى به من الدين؛ لأنه حياة القلوب كما أن الطعام حياة الأبدان.
- قيل (بالروح) وليس " بالأرواح "؛ لأن الدين من الله واحد، رغم تعدد الأنبياء، فهو دين إلهي واحد، ولا يصح أن يقال: الأديان السماوية، ومن هنا ناسب التعبير عن الدين الواحد بالمفرد (الروح).
- قيل: إن (من) في الآية تبعيضية أو لبيان الجنس، وقيل: هي بمعنى الباء، أي بأمره.
فالمعنى إذا كانت تبعيضية: ينزل الملائكة بالروح ببعض أمره.
وإذا كانت لبيان الجنس: ينزل الملائكة بالروح من جنس أمره.
وإذا كانت بمعنى الباء أي سببية: ينزل الملائكة بالروح بأمره.
ولكن هذه الآية جاءت في سياق إظهار أمر الله في إنزال رسالة التوحيد عبر ملائكته على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وفي أمره باختيار من يبلغ التوحيد، وفي أمر الأنبياء والرسل أن يبلغوا التوحيد.
ولهذا قال تعالى (من يشاء من عباده) فأظهر المشيئة، ولو قال: على أنبيائه أو رسله، لدل على ذلك دون ذكر المشيئة، ولكن ذكر المشيئة مقصود في الآية؛ لإظهار مشيئة الله في إيصال عقيدة التوحيد لعباده.
وقال تعالى (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) ليدل على أن إنذار الناس بالتوحيد كان أيضا بأمره.
ولهذا ناسب ذلك أن يكون معنى (من أمره) أي بسبب أمره، أي بأمره نزل الملائكة وبأمره اختير الأنبياء، وبأمره بلغ الناس، فأمره ظاهر في إرادة التوحيد من البداية إلى النهاية. والأمر هنا هو مفرد الأوامر، لا مفرد الأمور.
- (أن) من قوله (أن أنذروا) هي (أن) المفسرة، فحقيقة ما أنزل الله على عباده التوحيد، فما من نبي ولا رسول إلا وقد دعا إلى التوحيد، قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء: ٢٥).
- غاية معرفة رسالات الله هي: تقوى الله (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون)
- في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب، تدبر معي قوله تعالى (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) حيث جاء النص بأسلوب الغيبة ثم جاء النص بالأمر بالتقوى ولكن بأسلوب الخطاب (فاتقون).
ودلالة هذا الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو إبراز أهمية التقوى؛ لأن إنزال الملائكة وبعث الرسل كله لأجل أن نتقي ربنا، فلا نشرك به شيئا ولا نعصيه، ولذا تغير الأسلوب؛ فإن من دلالات أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب إعلاء شأن موضوع الخطاب.
1 / 5
(خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون) (٣)
المفردات:
- خلق: أوجد الأشياء بعد أن لم تكن موجودة.
المعنى الإجمالي:
- لما بينت الآية السابقة أن على الخلق أن لا يعبدوا إلا الله وحده، وأن الله أنزل الرسالات بتوحيده، بدأت الآيات تبين الدلائل على أن الله ﷾ مستحق بأن يفرد بالعبادة، وأنه ليس في الوجود إله حق سواه.
فالله هو الذي خلق السموات والأرض بالحق، وهو أعلى من أصنام الحجر وأصنام البشر، وأعلى من كل شيء.
المعنى التفصيلي:
- وخص الله ﷾ السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات أمام أعين الناظرين، ولأنهما مشتملتان على أصناف شتى من الخلق، ولأن العباد يعيشون فوق الأرض وتحت السماء فلا غنى لهم عنهما.
- ومعنى الحق في قوله تعالى: (خلق السموات والأرض بالحق) هو العدل والحكمة وهذا ضد العبث واللهو والباطل قال تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين (٣٨) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (٣٩» (سورة الأنبياء: ١٦) وقوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) (سورة ص: ٢٧)
- وتقدم ذكر السموات على الأرض لأن خلق السموات تم قبل تمام خلق الأرض، فالله ﷾ خلق الأرض وقدر فيها أقواتها ثم سوى سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فخلق السموات تم قبل تمام خلق الأرض.
قال تعالى: (ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (٢٧) رفع سمكها فسواها (٢٨) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (٢٩) والأرض بعد ذلك دحاها (٣٠) أخرج منها ماءها ومرعاها (٣١) والجبال أرساها (٣٢» (النازعات)
1 / 7
(خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) (٤)
المفردات:
- نطفة: المقصود بها هنا: ماء الرجل. وهو: المني.
- خصيم: شديد الخصومة.
المعنى الإجمالي:
من دلائل قدرة الله الموجبة لاستحقاقه العبادة وحده أنه خلق من ماء الرجل، ذلك الماء الضعيف الذي إن ترك لم يكن منه فائدة غير أنه مسبب لكلفة التنظيف، خلق الله منه إنسانا قادرا على الخصام، بل إنه مبين في خصامه يقول ويعبر ما يريد.
المعنى التفصيلي:
- المقصود بالإنسان هو جنس الإنسان، أما آدم ﵇ فقد خلق من طين.
- النطفة هي: الماء الصافي قل أو كثر، وهي هنا ماء الرجل، أي: منيه، و"نطفة" على وزن فعلة بمعنى مفعول، أي: منطوف.
- هل المقصود بالخصيم هنا هو الذي ينازع الله ﷾؟ هما وجهان:
الأول: أنه المخاصم لأجل نفسه.
الثاني: الذي يخاصم دين الله.
وعلى الوجه الثاني فهو في الكفار فقط.
ولكن ليس في الآية تخصيص، فحملها على العموم فيمن يخاصم عن نفسه أو يخاصم في ربه أولى من التخصيص، فهذه النطفة تتحول لتصبح إنسانا قادرا على الخصام والنزاع، بل والاحتراف في النزاع والخصام، بغض النظر عن طبيعة الخصام أهو في حق أو باطل، لأن العبرة في الآية هي قدرة الله على الخلق.
- (مبين) اسم فاعل من أبان، فهو فصيح يستطيع إظهار عداوته وخصامه بالبيان.
- ذكرت الآية صورة تلك النطفة الضعيفة وانتقلت مباشرة إلى صورة الإنسان الخصيم المبين في خصامه وعداوته، ولم تذكر الآية مراحل خلق الإنسان التفصيلية كما في الآيات التي ذكرت مراحل خلق الإنسان في بطن أمه وما بعد ذلك من المراحل؛ لأن المقصود في هذه الآية هو بيان الفرق الشاسع بين صورة النطفة وصورة المخاصم، لأن الفروق تظهر جليا كلما تباعدت الصورتان، فهما صورتان: نطفة وخصيم، وبينهما فرق عظيم، ويفهم هذا أيضا من (إذا) الفجائية في قوله تعالى (فإذا هو خصيم مبين)
1 / 9
(والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) (٥)
المفردات:
- الأنعام: الإبل والبقر والغنم والمعز.
المعنى الإجمالي:
- هذه الأنعام من جملة خلق الله الدالة على أنه الإله الحق، وهذه الأنعام يصنع من أشعارها وأصوافها وجلودها ما يحقق الدفء للإنسان، وفيها من المنافع ما فيها، من التجارة والوجاهة وما يباع من ألبانها وسمنها وأصوافها، وكذلك فهي من مصادر الطعام المهمة للإنسان.
المعنى التفصيلي:
- جاء تقديم (الأنعام) على (خلقها) في قوله تعالى (والأنعام خلقها) علما بأنه لم يقدم ذكر (الإنسان) في قوله تعالى (خلق الإنسان) فما الفرق بين الآيتين، ولماذا جاء التقديم؟
جاء تقديم (الأنعام) على (خلقها)؛ لأن الموضوع الرئيسي في الآية وما بعدها هو فوائد الأنعام، ولذا قدم ذكرها، بينما الموضوع الرئيسي في قوله تعالى (خلق الإنسان) هو الحديث عن انتقال الإنسان من نطفة إلى رجل خصيم مبين، وليس محور الكلام هو عن الإنسان ومزاياه وصفاته، بل الكلام عن خلقه، ولذا جاء الترتيب على الأصل، فعل وبعده فاعل.
- ذكرت نعمة الأنعام بعد ذكر خلق السموات والأرض والإنسان؛ لأن الأنعام هي قوام حياة العرب سابقا، إذ لم يكن قوام حياتهم الأرز أو السمك كما عند بعض الشعوب، بل طعامهم من لحومها ولبنها، وكان لباسهم من صوفها وأشعارها، وأوعية سقائهم من جلودها، وركوبهم وتنقلهم على بعضها، وهي مالهم، وكذلك رمز وجاهتهم، ورغم مرور السنين بقيت الإنعام مصدرا مهما للإنسان.
- ذكر الأكل بعد ذكر المنافع - رغم أنه من جملتها - لما للأكل من المكانة عند الإنسان، وهذا من باب ذكر الخاص بعد العام للأهمية.
- جاء التعبير بالاسم في (دفء) و(منافع)، ولكن جاء التعبير بالمضارع في ... (تأكلون)؛ لأن الأكل متكرر في كل يوم عدة مرات، بينما الدفء موسمي، والمنافع الأخرى قد لا تتكرر في الأسبوع مرة، إن لم يكن أكثر، وقد تكون المنافع يومية ولكن ليس لكل الناس.
1 / 11
(ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) (٦)
المفردات:
- الجمال: الحسن.
- تريحون: ترجعون آخر النهار، أي ترجعون بأنعامكم إلى مأواها، والرواح ضد الصباح.
- تسرحون: تخرجون أول النهار، أي بأنعامكم إلى مرعاها.
المعنى الإجمالي:
جعل الله لنا في الأنعام نعمة غير الدفء والمنافع والأكل، وهذه النعمة هي نعمة السرور الذي يدخل القلب عند النظر إليها، فهي جمال يتمتع به عند رجوعها إلى مأواها عشيا وعند خروجها إلى مرعاها صباحا، والذين يعملون في تربية الأنعام هم من يشعر بهذا السرور عند رؤية الأنعام، وكما ذكرت سابقا أن العرب كانوا من أقرب الناس معرفة بالأنعام وبما يتعلق حولها من المشاعر، فتربيتها جزء من حياتهم اليومية.
المعنى التفصيلي:
- لماذا قدم ذكر الرجوع في آخر النهار على الخروج في أوله في معرض بيان الجمال قال تعالى: (حين تريحون وحين تسرحون)؟
وذلك لأن الأنعام عند رجوعها تكون قد أكلت وشبعت وسمنت وامتلأت ضروعها باللبن، فيفرح صاحبها بهذا الخير، وهو أشبه ما يكون بالمزارع وقت القطاف، وأما عند خروجها صباحا فيشعر صاحبها بالسرور لرؤيتها ولكن ليس كما لو كانت على حال رجوعها آخر النهار.
1 / 13
(تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف ... رحيم) (٧)
المفردات:
- أثقالكم: أشياءكم الثقيلة.
- بالغيه: واصلين إليه.
- شق الأنفس: بذل الأنفس للمشقة العظيمة.
المعنى الإجمالي:
ومن جملة فوائد هذه الأنعام أنها راحة لنا بحملها أشياءنا الثقيلة ونقلها إلى أماكن بعيدة، ولولا هذا التيسير من الله لتعبنا تعبا عظيما في السفر بهذه الأحمال، ولكن الله رؤوف بنا، ورحيم بنا، ولذلك خلق لنا هذه الأنعام التي تريحنا من المرارة والمكابدة العظيمة.
المعنى التفصيلي:
- قد يقول قائل: نحن الآن لا نستخدم هذه الأنعام في الحمل والتنقل؛ لأن عندنا السيارات والطائرات وغيرها، فكيف نستنبط عبرة من هذه الآية تناسب وقتنا؟
أقول له: نزل القرآن على العرب وخاطبهم بما هم أهله، حيث كانت الأنعام هي وسيلة الحمل والتنقل.
والراحة وسهولة التنقل من مظاهر رحمة الله ورأفته بنا، حيث ختمت الآية بـ (إن ربكم لرءوف رحيم) أي رؤوف ورحيم بكم إذ أراحكم من حمل الأمتعة والسفر بها، ويظهر هذا جليا في زمننا بما يسر الله للإنسان من المركبات والطائرات التي تحمل أثقاله وتنقله أنى شاء على وجه هذه الأرض، فعلينا أن نشكر الله على نعمة التيسير والراحة فهي من مظاهر رأفة ورحمته.
- قال تعالى (إن ربكم لرءوف رحيم) وفي هذا الآية تأكيد بـ (إن) وباللام (لرءوف) وفي هذا دلالة على عظيم هذه النعمة، فلو تصورنا أننا نسافر من بلد إلى بلد حاملين أثقالنا على ظهورنا لعلمنا عظيم رأفة الله ورحمته بنا، ولهذا جاء التأكيد هنا.
- جاء التعبير بـ (إن ربكم) بدل " إن الله " أو ما في معناه؛ لأن من معاني الرب المدبر لأمر عباده والراعي لشؤونهم، وفي جعل الأنعام تحمل أثقالنا وتسافر بها منتهى التدبير لمصلحة المخلوقين. فسبحان ربنا ما أرأفه وأرحمه!
- قال تعالى: (إن ربكم لرءوف رحيم) ما الفرق بين الرأفة والرحمة؟
الرأفة أرق من الرحمة، فقد يكون الأمر المكروه للمصلحة رحمة، كأن تقطع يد المريض لعلاجه، ويسمى هذا رحمة لا رأفة.
ولكن الرأفة لا تكون في المكروه ولو كان مصلحة، قال تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) (النور: ٢) فجلد الزاني فيه مصلحة، ولكن الرأفة تمنع من جلده رغم المصلحة، فنهانا الله عن ترك الجلد لأجل الرأفة، لأن هذا الجلد - ولو كان شديدا - فيه مصلحة.
- ولكن لماذا قدم ذكر الرأفة على الرحمة في الآية (لرءوف رحيم)؟
قدم ذكر الرأفة على الرحمة؛ لأن الرأفة تكون في دفع المكروه، والرحمة تكون في إيصال الخير، فقدمت الرأفة على الرحمة؛ لأن السلامة أولا ثم الغنيمة.
1 / 15
(والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) (٨)
المعنى الإجمالي:
- ومن نعم الله علينا الخيل والبغال والحمير، التي خلقها الله ﷾ لنا لأجل ركوبها، ولأجل أنها زينة لنا إذا ركبناها وإذا امتلكناها، وليس هذا فقط بل هناك خلق آخر غير الذي نعلمه يخلقه متى شاء وكيف شاء.
المعنى التفصيلي:
- جاء الترتيب من الأعلى إلى الأدنى في قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير) فالخيل خير من البغال، والبغال خير من الحمير، وجاء هذا الترتيب لأن المقام مقام امتنان فناسب أن يذكر الأعلى ثم الأدنى، ألا ترى أن فرعون لما أراد يمن على موسى ﵇ قال له: (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) (الشعراء: ١٨) فقدم التربية على المكث، لأن التربية أعظم من مجرد المكث؛ لأنها تشتمل على المكث علاوة على التربية فناسب أن يقدمها.
- بينت الآية أشهر منافع الخيل والبغال والحمير عند العرب، وهي الركوب والزينة، ولا يعني هذا أن الركوب والزينة هي كل المنافع؛ لأنه لا ينكر أحد أن الحمل من منافع هذه الحيوانات، وكذلك الحرث، ولكن ذكرت الآية أشهر ما كان يستفيده العرب من هذه الحيوانات.
- استدل أبو حنيفة بالآية على حرمة لحوم الخيل؛ لأنها لو كانت حلالا لذكرت في باب الامتنان، ولكن سبق ذكر أن الآية لم تبين كل أنواع الفوائد والمنافع بل بينت المشهور منها.
- ويجوز كما ورد في الحديث الصحيح أكل لحوم الخيل، ولكن هذا لم يكن من عادتهم السائرة، ويحرم أكل لحوم الحمير الأهلية، وكذلك البغل المتولد من الخيل والحمير الأهلية، فإنه يحرم لأنه متولد من محرم وحلال.
فقد روى البخاري ومسلم ما يدل على جواز أكل لحوم الخيل، فعن جابر بن عبد الله قال نهى النبي ﷺ يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل (صحيح البخاري ج٥/ص٢١٠٢) (صحيح مسلم ج٣/ص١٥٤١)
- جاء التعبير في هذه الآية بـ (زينة) عن الخيل والبغال والحمير، وجاء التعبير بـ (جمال) عن الأنعام في قوله تعالى (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون).
فلماذا عبر عن الأنعام بالجمال وعن الخيل والبغال والحمير بالزينة؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من بيان الفرق بين الزينة والجمال، والفرق هو أن كل زينة جمال، ولكن ليس كل جمال زينة، فالزينة أخص.
ومن هنا فمنظر الأنعام جمال يبعث السرور في نفوس العرب زمن الوحي ومن شابههم في الأطباع، وركوب الخيل عند العرب جمال أيضا ولكنه نوع من الجمال يسمى زينة؛ لأن الراكب يتزين بركوب الخيل.
- لماذا قدم ذكر الركوب على الزينة (لتركبوها وزينة)؟
قدم ذكر الركوب على الزينة؛ لأن الفائدة الحقيقية الأصلية تكمن في الركوب، وأما الزينة فهي زيادة.
- وجاء التعبير بالمضارع في قوله تعالى (ويخلق ما لا تعلمون) للدلالة على أن الخلق مستمر ومتجدد.
- (ويخلق ما لا تعلمون) أي من وسائل الركوب والانتقال كالسيارات والطائرات وغيرها، فهي من صنعنا ولكنها من خلق الله ﷾، قال تعالى (والله خلقكم وما تعملون) (الصافات: ٩٦) فكل قول أو فعل أو كائن في هذا الوجود فهو مخلوق، قال تعالى (لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) (الأنعام: ١٠٢)
ولكن قد يقول قائل: (ويخلق ما لا تعلمون) أي من صنوف المخلوقات المتنوعة والأطعمة وليس من وسائل الركوب والانتقال فقط.
ولكن الظاهر في تفسير (ويخلق ما لا تعلمون) في هذه الآية، أي من وسائل الركوب والانتقال؛ لأن ذكر (ويخلق ما لا تعلمون) في ختم الآية التي تتحدث عن الخيل والبغال والحمير دون غيرها من الآيات الكثيرة التي تتحدث عن مخلوقات الأرض والسماء في هذه السورة، للدلالة على الارتباط بين الخيل والبغال والحمير وبين هذا الخلق.
ولكن قد يراد بها المعنى العام في آية أخرى، كما في قوله تعالى (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) (يس: ٣٦)
1 / 17
(وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين «٩)
المفردات:
- القصد: استقامة الطريق.
- السبيل: الطريق الذي فيه سهولة، يذكر ويؤنث.
- جائر: مائل عن الحق.
المعنى الإجمالي:
لما ذكرت نعمة سلوك السبيل المادي بالخيل والبغال والحمير ناسب أن تذكر النعمة العظمى وهي نعمة سلوك سبيل الإيمان.
فمن نعم الله ﷾ علينا أيضا بيان الطريق المستقيم حتى يكون واضحا بينا ليسير عليه من يريد الحق، وحتى لا ينحرف عنه إلى الضلال.
والله لا يجبرنا على الهداية إجبارا، بل بينها لنا فقط ونحن من نختار، وعدم إجباره لنا ليس عن عجز تعالى الله عن ذلك، بل لو شاء الله لهدى الخلق أجمعين، ولكنه الاختبار والامتحان.
المعنى التفصيلي:
- قصد السبيل: أي الطريق القاصد، أي: المستقيم، ووصف السبيل بالقصد وهو المصدر من باب التأكيد القوي على الاستقامة، نقول: رجل عادل. فإذا أردنا المبالغة في وصف عدله، قلنا: رجل عدل.
- (وعلى الله قصد السبيل) أي على الله بيان طريق الحق، ويدل على هذا حرف (على) الدال على التعهد، وهذا كقوله تعالى (إن علينا للهدى) (الليل: ١٢) أي تعهد من الله ببيان طريق الهدى.
- (ومنها جائر) أي: ومن الطرق ما هو مائل عن الحق، وقد بينها الله ﷾ ببيانه طريق الحق، فكل من سلك طريقا غير طريق الحق فهو مائل عن الحق.
- (ولو شاء لهداكم أجمعين) أي إن الله قادر على أن يجعل الناس كلهم مؤمنين جبرا عنهم، ولكنه سبحانه أبان الحق من الضلال، وترك لنا حرية الاختيار؛ لنتحمل نتيجة أفعالنا.
1 / 19
(هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون «١٠)
المفردات:
- تسيمون: ترعون فيه أنعامكم.
المعنى الإجمالي:
وما زالت الآيات تبين نعم الله ﷾ علينا. فالله هو الذي أنعم علينا بنعمة المطر الذي فيه حياتنا، فهو شرابنا الذي لا نعيش بدونه، وهو سبب إنبات الشجر الذي نرعى فيه أنعامنا.
المعنى التفصيلي:
- جاء النص الشريف بـ (هو الذي أنزل) بالضمير المنفصل (هو) والاسم الموصول (الذي)، ولم يأت بـ: " وأنزل " فقط، وهذا للتأكيد على أن المنزل للغيث هو الله ﷾ وحده لا أحد غيره.
- قدم الجار والمجرور (من السماء) في قوله تعالى (أنزل من السماء ماء) للاختصاص؛ لأن السماء هي مكان نزول الماء.
- ومن البدهي أن الماء ينزل من السماء، فلماذا ذكرت (السماء)؟
لقد ذكرت السماء في سياق نزول المطر لاستحضار صورة الماء النازل من السماء، استحضارا يتلازم عند المؤمنين واستحضار النعمة.
- "من " في قوله تعالى (منه شراب) تبعيضية؛ لأننا لا نشرب كل الماء بل بعضه، و"من" في قوله تعالى (ومنه شجر) سببية؛ لأن الماء سبب في حياة الشجر، ولأجل هذا أعيد ذكر حرف الجر "من" في قوله تعالى (منه شراب ومنه شجر) ولم تأت الآية بـ "منه شراب وشجر"؛ لاختلاف دلالة الحرف في كل موقع.
- (شجر فيه تسيمون) وليس " منه تسيمون"؛ لأن الرعي يكون بين الأشجار، سواء أكلت الأنعام من الشجر أو ضرب الراعي الشجر لتسقط أوراقها لتأكله الأنعام، وكذلك ترعى الأنعام من الأعشاب التي تكون بين الشجر، ولذلك جاء التعبير بحرف الجر "في".
1 / 21
(ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون «١١)
المفردات:
- الزيتون: جمع زيتونة.
- النخيل: جمع نخلة.
- أعناب: جمع عنب، والعنب جمع عنبة.
- الآية: العلامة الظاهرة (دلالة).
المعنى الإجمالي:
ومن نعم الله علينا - أيضا - أن أنزل علينا الماء من السماء، وأخرج لنا به الحب والبقول والنخيل والزيتون والأعناب وكل الثمار، وكل هذه الثمار التي يختلف مذاقها ويتنوع لونها تسقى من هذا الماء الواحد، وفي هذا علامة ظاهرة دالة على وحدانية الله وقدرته ونعمه، ولا يعرف هذه النعم إلا من يتفكر فيها.
المعنى التفصيلي:
- لم تعطف هذه الآية على الآية السابقة (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون)؛ لأن هذا الشجر النابت البري الذي ترعى به الأنعام لا يحتاج إلى رعاية، وأما الزرع والزيتون والأعناب وغيرها فهي تحتاج إلى رعاية، فبين الموضوعين فرق.
- ولكن لماذا لم يسند ﷾ إنبات الشجر البري إلى نفسه، وإنما أسند إلى نفسه إنبات الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من الثمرات؟
والجواب عن ذلك: أن الشجر البري ينبت من غير رعاية، فيتبادر للذهن فورا أن هذه رعاية الله سبحانه هي التي أنبتته.
ولكن عندما ينظر الإنسان إلى المزروعات والثمار التي تنمو برعاية الإنسان فإنه قد يغفل عن أن الرعاية الحقيقية لإنبات هذه الزروع والثمار هي لله الواحد سبحانه، وسبب الغفلة أن رعاية البشر موهمة بأنها هي السبب في الإنبات، فأسند الله الإنبات لنفسه، كأن المعنى هو:
إن الله أنزل الماء الذي هو شرابكم والذي بسببه يخرج الشجر البري الذي ترعون فيه أنعامكم، وأما ما تعتنون به من الزروع والثمار فلا تظنوا أنكم تنبتونه بل الله هو منبته.
- وجاء التعبير بالمضارع (ينبت) لأن الإنبات سنة لله متجددة في كل حين على هذه الأرض.
- وصرحت الآية بالزروع والزيتون والنخيل والأعناب ثم جاء التعميم (ومن كل الثمرات) لأن هذه الثمار المصرح بها هي من أشهر ما يعرفه العرب، ولأن لها مكانتها الخاصة عندهم.
- قدم ذكر الزروع على الأشجار؛ لأن الزروع من القمح والأرز والورقيات والحبوب بأنواعها والبقول وغيرها هي قوام حياة البشر.
- ورتبت أنواع الأشجار من الأعلى إلى الأدنى من جهة العمر؛ لأن طول تعمير الشجرة نوع من أنواع النعمة، فشجر الزيتون يعيش مئات السنين، وشجر النخيل يعيش أقل من شجر الزيتون بكثير، وأما الأعناب فأقلهن عمرا.
- (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) جاء التعبير بـ"يتفكرون" وليس بـ"يتذكرون"؛ لأن الأمر ليس ظاهرا ظهور ما يحتاج إلى تذكر فقط، وليس بـ"يعقلون" لأن الأمر لا يحتاج إلى المبالغة في إعمال العقل، بل العبرة بأمر الزرع والثمار تحصل بتفكر وتأمل في حال البذرة ونموها وإثمارها، وكيف أن هذه البذرة انتقلت من بذرة يابسة إلى زرع يانع وثمار ناضجة، وهذا يقدر عليه عامة الناس.
- وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يتفكرون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح التفكر صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن تفكر مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يتفكرون، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، فإن تفكرهم متجدد متكرر، وليس تفكر واقعة واحدة.
1 / 23
(وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون «١٢)
المفردات:
سخر: ساقه قهرا إلى الغرض المراد.
آيات: علامات ظاهرة (دلالات).
المعنى الإجمالي:
جعل الله لنا الليل لننام فيه ونرتاح، وجعل لنا النهار لنعمل فيه ونكد، وجعل لنا من الشمس الضياء والدفء، ومن القمر النور، وكذلك فالنجوم العظيمة تسير وفق أمر الله ﷾، وبها نهتدي إلى معرفة الاتجاهات، وهي زينة في السماء، وهذه الفوائد المذكورة لليل والنهار والشمس والقمر والنجوم هي من سبيل البيان لا الحصر، وفي هذه الأمور التي سخرها الله علامات ظاهرة دالة على وحدانيته وقدرته ونعمته، فسبحان من خلق السموات وسخر ما فيها لنا، ما أعظمه وأكرمه!
المعنى التفصيلي:
- جاء التعبير (سخر) بالفعل الماضي لا المضارع مع أن آيات الليل والنهار والشمس والقمر مازالت مسخرة إلى غاية الآن؛ وذلك لأن التسخير سنة ربانية تم قضاؤها، فناسب التعبير بالماضي؛ وما نراه من التسخير هو من آثار القضاء الإلهي السابق، أي أنه قانون إلهي تم قضاؤه على الليل والنهار والشمس والقمر فهي تسير بناء على ما قضي.
- لماذا قدم ذكر الليل على النهار في هذه الآية وغيرها؟ وذلك لأن خلق الليل كان قبل خلق النهار قال تعالى (أنتم أشد خلقا أم السماء بناها (٢٧) رفع سمكها فسواها (٢٨) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (٢٩» (النازعات)
(وأغطش ليلها): جعله مظلما.
(وأخرج ضحاها): أنار نهارها.
- وقدم ذكر الشمس على القمر؛ لأنها الأصل في الإضاءة والقمر تبع لها.
- وقدم ذكر الشمس والقمر على ذكر النجوم؛ لأن الشمس والقمر ألصق بالأرض من النجوم البعيدة، ولأن آثارهما على الأرض أوضح من أثر النجوم، فالليل والنهار من أثر الشمس، والنور في الليل من أثر القمر، وغير ذلك من الآثار الأخرى.
- أفرد ذكر تسخير النجوم في جملة أخرى مستقلة عن التي قبلها (والنجوم مسخرات بأمره)؛ لأن شأن النجوم في الخلق أعظم مما ذكر من الليل والنهار والشمس والقمر، ولأن النجوم ليست تبعا للشمس أو للقمر، ولأن الشمس نجم من النجوم، وفي النجوم ما يفوق الشمس في الحجم والقوة.
- وعبر عن الليل والنهار والشمس والقمر بالفعل (سخر)، وعبر عن النجوم بالاسم (مسخرات)؛ لأن الاسم أقوى في التأكيد على المعنى من الفعل، فنقول: صدق فلان، فإذا استمر على صدقه صار صادقا، أي أصبح وصف الصدق مستمرا وملازما.
جاء التعبير عن النجوم بالاسم لا الفعل؛ لأن النجوم أعظم من الشمس والقمر، فعددها بالمليارات، وأحجامها مما لا يعلمه إلا الله ﷾.
(والنجوم مسخرات بأمره) جاء (بأمره) مع ذكر التسخير تأكيدا على أن هذه النجوم العظيمة هي ملك لله، ورغم عظمتها فهي بأمره.
- (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) جاءت الجملة مؤكدة بـ (إن) و(اللام)؛ لضرورة استخدام العقل في استنباط العبر من تسخير الأمور المذكورة.
- جاء في الآية السابقة إفراد لفظ (آية): (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) وفي الآية التالية لفظ الآية مفرد أيضا (إن في ذلك لآية لقوم يذكرون)، ولكن في هذه الآية جمع لفظ الآية (لآيات) (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
- وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يعقلون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح استعمال العقل صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن استعمل عقله مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يعقلون، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، فإن استعمالهم لعقولهم متجدد متكرر، وليس في واقعة واحدة.
وسبب الجمع في هذه الآية هو أن عالم الفضاء فيه من العبر ما يفوق ما على الأرض من العبر، ومن طالع ما يكتبه المختصون في عالم الفضاء لعلم أن في كل أمر آية.
- جاء التعبير في هذه الآية بـ (يعقلون) لأن آيات عالم الفضاء لا يستقل بمعرفتها العامة من الناس، بل لا بد من استخدام العقل لمعرفتها.
1 / 25
(وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) (١٣)
المفردات:
- ذرأ: خلق.
- يذكرون: يتعظون.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة عظيم خلق الله في السماء، بينت هذه الآية عظيم خلق الله في الأرض، فالله خلق لنا في هذه الأرض أشياء كثيرة من الحيوانات والأشجار والأتربة والثمار، متنوعة في ألوانها وأشكالها وأحجامها وغير ذلك من الصفات، ولا يعتبر بهذا الخلق إلا أصحاب الإيمان الذين يتعظون.
المعنى التفصيلي:
- معنى (ذرأ): خلق.
وقيل: الذرء: الخلق بالتناسل والتولد بالحمل والتفريخ، فليس الإنبات ذرءا.
وهذا القول ليس صحيحا لقوله تعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) (الأنعام: ١٣٦) فكما في الآية، فإن الذرء يطلق على النسل وعلى الإنبات؛ لأن الحرث هو الزرع والثمار.
- ما الفرق بين "الخلق" و"الذرء"؟
الفرق بين "الخلق" و"الذرء" أن "الذرء" خلق عن طريق التكاثر، قال تعالى (فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى: ١١).
- عرف بعض المفسرين الألوان بالأصناف، ولكن الظاهر أن الألوان هي الألوان؛ لأن (مختلفا ألوانه) أشمل من " مختلفا أصنافه "؛ لأن الصنف الواحد من الثمر قد يحوي ألوانا شتى، وكذلك الصنف الواحد من الحيوان قد يحوي ألوانا شتى.
وبناء على هذا، فتعريف الألوان بالألوان أبلغ من تعريفها بالأصناف.
- إن اختلاف اللون من الآيات الدالة على الله سبحانه كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) (الروم: ٢٢)
- والاعتبار باللون يدل بالأولى على الاعتبار بحقائق الأشياء، لأن ما كان ظاهره عبرة فحقيقته أولى بالاعتبار.
- إن الاعتبار بظواهر الأشياء مفتوح أمام كل الناس؛ لأنه لا يحتاج إلى درجات عالية من إعمال العقل، ولذا جاء التعبير بـ (يذكرون) في قوله تعالى (إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) فالأمر لا يحتاج إلا إلى مجرد التذكر لما غفل عنه الإنسان.
- وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يذكرون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح التذكر صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن تذكر مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يتذكرون، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، فإن تذكرهم متجدد متكرر، وليس في واقعة واحدة.
1 / 27
(وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون «١٤)
المفردات:
- سخر: ساقه قهرا إلى الغرض المراد.
- لحما: المقصود به لحم الكائنات البحرية من الأسماك وغيرها.
- حلية: ما يلبس من الزينة، والمقصود هنا اللؤلؤ والمرجان وما يستخرج من البحر من زينة تلبس.
- الفلك: السفينة، ويطلق على المفرد والجمع، ويذكر ويؤنث.
- مواخر: جمع ماخرة، وهي السفينة تشق الماء مع صوت.
- تبتغوا: تطلبوا.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة نعم الله ﷾ في البر، تبين لنا هذه الآية نعم الله في البحر.
ومن نعم الله - جل في علاه - أنه ذلل البحر لنا حتى استطعنا أن نصطاد منه الأسماك وغيرها مما يؤكل من هذه اللحوم الطرية، وذلل لنا البحر لنغوص فيه فنجمع اللؤلؤ والمرجان وما يتخذ زينة.
ومن نعمه أنه ﷾ ذلل البحر لنا فنحن نركبه بالسفن العظيمة الجارية، والتي نسافر على ظهورها لتحصيل المنافع والربح، لعلنا بعد هذا كله نشكر الله ﷾.
فسبحان من جعل مما في البحر لنا طعاما وزينة، وأجرى السفن العظيمة فوق الماء دون أن تغرق.
المعنى التفصيلي:
- جاءت بداية الآية بـ (وهو الذي سخر البحر) بالضمير (هو) والاسم الموصول (الذي)، ولم يأت: " وسخر " فقط، وهذا للتأكيد على أن المسخر للبحر هو الله وحده لا أحد غيره.
- جاء التعبير (سخر) بالفعل الماضي لا المضارع مع أن البحر مازال مسخرا إلى غاية الآن؛ وذلك لأن التسخير سنة ربانية تم قضاؤها، فناسب التعبير بالماضي؛ وما نراه من التسخير هو من آثار القضاء الإلهي السابق، أي أنه قانون إلهي تم قضاؤه على البحر، فهو يسير بناء على ما قضي.
- (لتأكلوا منه لحما طريا) سمي السمك لحما؛ لأنه حيوان من جملة الحيوانات، وكونه بحري لا ينفي كونه لحما، ووصف بالطري؛ لأن لحم السمك أطرى من لحم حيوانات البر.
وقد ذكر بعض المفسرين أن " وصفه بالطراوة؛ لأن الفساد يسارع إليه ". ولكن هذا القول مما لا يناسب مقام الامتنان بنعم الله، لأن المعنى يكون حينئذ: وسخر لكم البحر لتأكلوا لحم السمك الذي يسارع إليه الفساد فتأكلونه طريا لئلا يفسد.
وهذا لا يناسب مقام الامتنان، وإنما الذي يناسب مقام الامتنان هو وصف لحم السمك بالطراوة الذي هو عنوان للذة لحوم السمك.
- جاء التعبير (تستخرجوا) وليس " تخرجوا "؛ لأن الاستخراج يدل على الطلب، فالذي يغوص في البحر يطلب اللؤلؤ والمرجان، فهو يستخرجهما، أي يطلبهما.
- قال بعض المفسرين: جاء التعبير (تلبسونها) مع أن لبس اللؤلؤ للنساء فقط، تغليبا للتعبير بالمذكر، أو لكون لبسهن لأجلهم.
ولكن جاء في (الفروع ج٢/ص٣٦٠) " فصل: وللرجل والمرأة التحلي بالجوهر ونحوه.
وذكر أبو المعالي: يكره للرجل التشبه، ولعل مراده غير تختمه بذلك "
أي أن التختم باللؤلؤ للرجال ليس من جملة التشبه بالنساء عند الحنابلة.
وهناك من العلماء من رأى الحرمة.
ومحل النزاع في لبس اللؤلؤ للرجال هو: هل لبسه من باب تشبه الرجال بالنساء أو لا؟
فمن قال هو من باب التشبه، قال بالحرمة أو الكراهة.
ومن لم يقل هو من باب التشبه، قال بالإباحة.
والقول بالإباحة موافق لظاهر الآية، ولكن فيما يجوز للرجل لبسه من الخواتم، لا الأساور في اليد، والقرطة في الأذن ونحو ذلك؛ لأنه من لباس النساء.
ولهذا قال القرطبي: " امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم الله تعالى على الرجال الذهب والحرير " (تفسير القرطبي ج١٠/ص٨٧)
- جملة (وترى الفلك مواخر فيه) معترضة، وجاءت هكذا من باب التعجيب، لأن من نعم الله ﷾ في تسخير البحر صيد السمك واستخراج اللؤلؤ والمرجان واستخدام البحر للتجارة، ولكن لا بد من الانتباه إلى نعمة سير السفن العظيمة الثقيلة فوق الماء السائل، فأنت ترى السفن تسير فوق الماء فهل تفكر الناظر في نعمة الله وقدرته بسير السفن فوق الماء.
- (مواخر فيه) فيه إشارة إلى واقع السفن، حيث إن جزءا منها فوق الماء وجزءا تحته، وهي بهذه الكيفية تشق الماء شقا، ورغم شقها للماء فإنها لا تغرق.
- (ولتبتغوا من فضله) أي لتطلبوا التجارة والربح.
- (ولتبتغوا من فضله) جاءت الواو عطفا على (وتستخرجوا)، ولم تأت الآية بحذف حرف الواو: وترى الفلك مواخر فيه لتبتغوا من فضله؛ لأن عدم العطف لا يناسب سياق الامتنان بتسخير البحر، لأن المعنى يصبح حينئذ:
"وترى الفلك تشق ماء البحر لأجل تجارتكم ".
فأبرزت نعمة تسخير السفن لأجل التجارة، مع أن ما يناسب السياق هو إبراز نعمة سير السفن فوق الماء بصفتها صورة من صور تسخير البحر.
- (ولعلكم تشكرون) جاءت واو العطف (ولعلكم) لأن الجملة معطوفة على ما سبق من الحكم التي سخر الله ﷾ البحر لأجلها.
1 / 29
(وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون) (١٥)
المفردات:
- رواسي: جبال ثابتات، ومفردها راسية، ورسا الشيء، أي: ثبت.
- تميد: تتحرك.
- سبلا: ومفردها سبيل، وهو: الطريق.
المعنى الإجمالي:
جعل الله ﷾ الجبال سببا لثبات الأرض حتى لا تتحرك بنا فنهلك، أو لا يصلح لنا زرع أو حرث أو عمل.
وجعل لنا سبحانه الأنهار لنقل الماء إلينا، وجعل لنا الطرق التي نسير فيها، والحكمة من جعل هذه الطرق هو اهتداء الإنسان إلى مكان مصالحه وحاجاته.
المعنى التفصيلي:
- (ألقى) فيه معنى " جعل " كقوله تعالى (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم) (الأنبياء: ٣١).
ولكن معنى الإلقاء الدقيق هنا هو: إلقاء أمر الله بجعل الجبال رواسيا، لأنه يعبر عن القول بالإلقاء قال تعالى (فألقوا إليهم القول) (النحل: ٨٦) وكقوله تعالى (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) (المزمل: ٥) وقوله (ءألقي الذكر عليه من بيننا) (سورة القمر: ٢٥).
وهو كقوله تعالى (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) (الزمر: ٦) أي أنزل الأمر بخلقها.
- تقدم ذكر الجار والمجرور (في الأرض) على المفعول به (رواسي) للأهمية؛ لأن محور الامتنان في الآية الأرض المهيأة للحياة، لا ما جعل في الأرض من الأشياء؛ لأن قوله تعالى (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) امتنان بالأرض المثبتة بالجبال، أما لو جاء النص بتأخير الجار والمجرور: " وألقى رواسي في الأرض أن تميد بكم " لكان الامتنان بالجبال التي تثبت الأرض، وسياق الآية إنما هو الامتنان بالأرض المثبتة بالجبال والمهيأة للحياة بالأنهار والسبل، فناسب تقديم الجار والمجرور.
- جاء النص (في الأرض) ولم يأت على الأرض كما يرى الناظر أن الجبال على الأرض وليست فيها؛ لأن (في) تدل على التمكين والثبات، وثانيا: فإن الجزء الظاهر من الجبل للناظر مقابله جزء عظيم مغروس في الأرض.
- (أن تميد بكم) أي: لئلا تضطرب بكم، كقوله تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) (النساء: ١٧٦) أي: لئلا تضلوا.
- إذا كان معنى (الأرض) أي ما يطلق على سطحها، فيكون المعنى: جعلنا الجبال لئلا يضطرب بكم سطح الأرض.
وإذا كان معنى (الأرض) هو ما يطلق على الكوكب، فيكون المعنى: جعلنا الجبال لئلا يضطرب بكم كوكب الأرض في دورانه أو حركته.
- ذكرت الأنهار والسبل بعد ذكر الجبال؛ لأن الجبال الرواسي تشكل حاجزا أمام الماء وأمام البشر، فناسب الامتنان هنا ببيان أنه رغم وجود الجبال التي تثبت الأرض إلا أن وجودها لم يقطع طريق الماء من الوصول إلى الإنسان لتقوم حياته، وأيضا فهذه الجبال رغم عظمتها لم تقطع طريق الإنسان؛ لأن الله سبحانه جعل - رغم تشابك هذه الجبال بعضها ببعض - طرقا يسلكها الإنسان لكي يقوم بشؤون حياته.
- (لعلكم تهتدون) أي إلى مقاصدكم عن طريق سلوك السبل، كقوله تعالى (وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) (الأنبياء: ٣١)
1 / 31
(وعلامات وبالنجم هم يهتدون) (١٦)
المفردات:
- علامات: جمع علامة، وهي ما يستدل به السائر من جبل أو سهل أو غيرهما.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة نعمة الله سبحانه بجعل السبل لهدايتنا إلى مقاصدنا، ذكرت هذه الآية نعمة العلامات المميزة في الأرض حيث لم يجعل الله سبحانه الأرض جميعها بنفس المعالم؛ وذلك حتى يستطيع السائر أن يهتدي إلى مقصده.
وبعد بيان أن السبل والعلامات من الأمور الهادية للسائر إلى مقاصده نهارا، بينت الآية نعمة الاهتداء ليلا بنجوم السماء.
المعنى التفصيلي:
- (وعلامات) معطوف على الأنهار والسبل، والمعنى على ذلك: وجعل علامات.
- جاءت (علامات) نكرة في سياق الإثبات، ومعنى الإثبات هو عدم النفي، والنكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق؛ لأن لكل أهل طريق علامات خاصة يعرفونها، فللمسافر في البر علامات خاصة، وللمسافر في البحر علامات خاصة أيضا، فالعلامات متعددة، ولذا نكرت (علامات) لتدل على الإطلاق.
- إن مفهوم النجوم عند العرب غير مفهوم النجوم في العصر الحديث، فالنجوم عند العرب هي الكواكب الطالعة التي يظهر لمعانها كما في كتب اللغة.
ولكن النجوم في العصر الحديث ليست الكواكب التي يظهر لمعانها؛ لأن الكوكب عند المعاصرين جرم سماوي لا يصدر الضوء وإنما يعكسه، والنجم هو ما يصدر الضوء بذاته لا بالانعكاس.
والعرب لم يفرقوا بينهما، ولذا قال تعالى (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) (الصافات: ٦) والمقصود بالكواكب هي الأجرام السماوية المضيئة بذاتها أو بغيرها، وليست كما في الاصطلاح الحديث. فاقتضى التنبيه، لئلا يفسر القرآن على اصطلاح المعاصرين، بل لا بد من تفسيره على اصطلاح من أنزل عليهم القرآن.
- النجم هو جنس النجوم، وليس نجما واحدا، كما تقول: فلان يملك الدينار والدرهم، أي جنس الدينار وجنس الدرهم.
- قدم الجار والمجرور (بالنجم) في (وبالنجم هم يهتدون) للدلالة على اختصاص النجم بالاهتداء ليلا عند العرب.
- أتي بالضمير " هم " في (وبالنجم هم يهتدون) لتخصيص العرب بالذكر في شأن الاهتداء بالنجوم، كأن الاهتداء بالنجوم ليلا خاص بهم، وهذا مناسب للامتنان على العرب بنعمة الاهتداء بالنجم؛ لأنها مصدر الاهتداء الأهم ليلا عندهم، وهذه الأهمية يعرفها العرب، فهم أولى بأن يشعروا بهذه النعمة من غيرهم.
- (يهتدون) أي إلى سبلهم ومقاصدهم وغاياتهم.
1 / 33
(أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) (١٧)
المفردات:
- خلق: أوجد الأشياء بعد أن لم تكن موجودة.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة عظيم قدرة الله سبحانه في الخلق، وقدرته على الخلق، تنكر هذه الآية على المشركين اتخاذهم آلهة غير الله؛ لأن الله سبحانه هو الخالق فكيف يجعلون المخلوق كالخالق؟ إن هذا أمر لا يستقيم ولا يكون.
وتدعو الآية أهل العقول إلى الاتعاظ بخلق الله ﷾ حتى لا يعبد معه شيء.
المعنى التفصيلي:
- الاستفهام في الآية (أفمن) استفهام استنكاري، وصيغة الاستفهام الاستنكاري تصلح في الأمور الواضحة التي لا لبس فيها؛ لأنه لو كان في الأمر شيء يسير جدا من الغموض لأصبحت الصيغة تدل على الاستعلام لا الاستنكار، وهذا يدل على أن ما جعله العرب من الشرك أمر ظاهر السوء والخطأ إلى درجة لا يلتبس على السامع أن هذا الاستفهام استنكاري لا استعلامي، وأن العرب الذين كانوا يمارسون هذا الشرك يعملون هذه الحقيقة علما لا لبس فيه ولا غبش.
الذي يخلق هو الله، والذي لا يخلق هو كل شيء غير الله، والمقصود به ما يعبده العرب من الأصنام، ويندرج تحت الدلالة كل ما يعبد من دون الله في أي زمان أو أي مكان.
- عبر عن الأصنام غير العاقلة بصيغة التعبير عن العاقل (من لا يخلق) وليس: "ما لا يخلق "؛ لأن المشركين أجروها مجرى العقلاء بعبادتها.
ولكن قد يقال: إن المقصود في الآية نفي أن يكون العقلاء شركاء لله، وبالأولى فالجمادات أبعد من أن يكونوا شركاء لله.
وهذا المعنى صحيح ولكنه لا يصح تفسيرا للآية؛ لأن الآية تخاطب العرب في شأن الأصنام خاصة بدليل ما بعد هذه الآية (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (٢٠) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (٢١» (النحل).
حيث جاء الكلام عن الآلهة بصيغة العقلاء (الذين) وبعدها وصفت الآلهة بأنها ميتة غير قابلة للحياة، وهذا الوصف ينطبق على الأصنام عند العرب، والخطاب ابتداء للعرب، وإنما قلت ما قلت لبيان سبب الكلام عن الجمادات بأسلوب العقلاء، وإلا فلا أحد غير الله سبحانه شريك مع الله.
- جاءت الصيغة (أفمن يخلق كمن لا يخلق) وليس: " أفمن لا يخلق كمن يخلق " لأن الاستنكار في هذه الآية متجه إلى الحط من منزلة الربوبية، وإلى كل ما فعله المشركون في هذا الشرك، وليس الاستنكار متجه إلى سوء الفعلة لأنها مخالفة للحق فقط.
وكما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إن قيل يوما إن السيف أمضى من العصا.
فإذا جعلت العصا كالسيف، فإن الذي حط من منزلته هو السيف لا العصا، فإذا أردنا استنكار الفعلة لأنها مخالفة للحق، واستنكار حط منزلة السيف، قلنا: أتجعل السيف كالعصا؟! أما إذا أردنا استنكار الفعلة لأنها مخالفة للحق فقط، قلنا: أتجعل العصا كالسيف؟!
لأن الاستنكار في هذه الآية متجه إلى الحط من منزلة الربوبية، وإلى كل ما فعله المشركون في هذا الشرك، وليس الاستنكار متجه إلى سوء الفعلة لأنها مخالفة للحق فقط، جاءت الصيغة (أفمن يخلق كمن لا يخلق) وليس: " أفمن لا يخلق كمن يخلق ".
- جاء التعبير بـ (تذكرون) وليس " تفكرون " أو " تعقلون " لأن الأمر ظاهر واضح لا يحتاج إلا إلى إزاحة الغفلة عن هذه القلوب وهذه العقول.
1 / 35
(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) (١٨)
المفردات:
- تحصوها: تحيطوا بعددها.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة نعم الله سبحانه، وأنه لا يجوز أن نجعل لله شريكا، تبين هذه الآية أن نعم الله أكثر مما ذكر، فهي كثيرة جدا إلى درجة أنها لا تحصر بالعد، ولأن الله هو الخالق وهو المنعم فهو المعبود بحق وحده سبحانه وتعالى عما يشركون.
وتبين الآية - أيضا - أن الله غفور لذنوب عباده، ورحيم بهم.
المعنى التفصيلي:
- لماذا لا يستطيع الإنسان أن يحيط بنعم الله؟ إنه لا يستطيع لأنها كثيرة، فأهل الفلك يمضون العمر في استكشاف نعم الله علينا، وكذا أهل الجيولوجيا وأهل الطب وأهل التربية، وغيرهم كثير، وما يفهمه كل في تخصصه لا يحيط به الآخرون، وإنما يعرف الناس طرفا منه، وهذا فيما نعلم، فكيف بما لا نعلم، وما لا نعلمه أعظم، لأن علمنا في علم الله لا شيء، ﷾!
- نحن لا نستطيع أن نحيط بنعم الله بالعد والذكر، فكيف نستطيع أن نؤدي شكر ما لا نستطيع عده؟! ومن المسلم به أننا لا نستطيع، ولذا جاء ختم الآية بقوله تعالى (إن الله لغفور رحيم)
- جاءت جملة (إن الله لغفور رحيم) مؤكدة بتأكيدين، الأول (إن) والثاني " اللام " في (لغفور) وما هذا إلا لأن أمر النعم عظيم، وأن التقصير في شكرها بحاجة إلى غفران ورحمة مؤكدتان، ولولا هذه المغفرة وهذه الرحمة لهلك الناس.
- الغفور: اسم من أسماء الله ﷾، بمعنى المتجاوز عن ذنوب عباده، وأصله في اللغة من الستر؛ والتجاوز عن الذنوب ستر لها فلا يحاسب عليها صاحبها.
- والرحيم: اسم من أسماء الله ﷾ مشتق من الرحمة.
- ولكن لماذا قدم ذكر "الغفور" على "الرحيم" وليس العكس؟
قدم ذكر "الغفور" على "الرحيم"؛ لأن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة أولا ثم الغنيمة.
بينما جاء تقديم "الرحيم" على "الغفور" في قوله تعالى (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) (سبأ: ٢) وسبب هذا التقديم أن الآية تعرض عظمة الله سبحانه، فناسب أن يقدم "الرحيم" على "الغفور"؛ لأن الرحمة أعظم من المغفرة، وذلك بأن الرحمة تكون بإيصال الخير بكل صوره، وتكون المغفرة بالمسامحة والتجاوز، ومن هنا فإن المغفرة صورة من صور الرحمة، فالرحمة أعظم.
ولذا فإن تقديم الرحمة على المغفرة أولى في سياق بيان عظمة الله ﷾، وتقديم المغفرة على الرحمة في سياق ما يتعلق بالعباد أولى؛ لأن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة بالنسبة للعباد أولى من الغنيمة.
1 / 37
(والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) (١٩)
المفردات:
- تسرون: تخفون، والسر ضد العلانية.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة أن الله سبحانه هو المعبود بحق لأنه هو الخالق، تبين هذه الآية أن العلم صفة لله ﷾؛ لأنه الإله الحق.
فالله خلق الخلق ولم يغفل عنهم، بل هو يراقبهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون علما يستوي به السر والعلن.
المعنى التفصيلي:
- ذكر لفظ الجلالة (الله) في قوله تعالى (والله يعلم) وليس: " ويعلم ما تسرون " زيادة في تقرير أن الذي يعلم السر والعلانية هو الله وحده لا أحد غيره.
- قدم (تسرون) على (تعلنون) لأنه قد يظن ظان أن الله يعلم السر والعلانية ولكن علم العلانية أسهل عليه، فقدم علم السر تنبيها على أن الأمرين يستويان.
1 / 39