التباريح في صلاة التراويح
التباريح في صلاة التراويح
Yayıncı
مركز النخب العلمية
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٣٧ هـ - ٢٠١٦ م
Yayın Yeri
مطبعة معالم الهدى للنشر والتوزيع.
Türler
المقدمة
الحمد لله الذي أمر النَّاس أن يعبدوه مخلصين له الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم النبيين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول الله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة:١٦].
يجتمع على الإنسان جواذب النفس من دواعي الراحة، ونداء الفراش الوثير في صورةٍ من المجاهدة والمدافعة تنتصر فيها القلوب المؤمنة الحية التي شُغِلَت بربها، وعاشت بين خشيته والخوف من عذابه، والطمع في رضاه ورجاء رحمته.
فهي صورةٌ مشرقةٌ وضيئةٌ لعدم الركون إلى مُتَع الحياة التي لا يراها المؤمن هدفًا من أهدافه الكبيرة، فلئن ركن الناس إلى ملذات الدنيا يغوصون فيها، يسترخون ويستمتعون وينامون ملء أجفانهم، فإن المؤمن يدفعه القلق على مصيره، وعلى حسن خاتمته، ساعيًا إلى سعادة
1 / 5
الأبد في ظل الكرم الرباني في صورةٍ من الجزاء الرفيع الذي لا حدود لعطائه ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:١٧].
تعبيرٌ عجيبٌ أَخَّاذٌ يَشي بتكريم الله لهذه الثُّلَّة والصفوة الذين أراد الله أن تَقَرَّ أعينهم بنعيم الآخرة، الذي جاء بيان حقيقته على لسان النبي ﷺ حينما وصف الجنة بقوله: «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» (^١).
يا لله! كم ذا يفيض الله على عباده من العطاء! كم ذا يغمرهم بالنعيم والكرم!
وفي صورةٍ مرهفة أخرى يرسم القرآن مشهدًا من مشاهد عبودية أولئك في الليل، فيقول سبحانه: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات:١٧، ١٨]، إنهم أيقاظٌ أبدانًا وقلوبًا؛ يبيتون مناجاةً لله في جُنْحِ الليل، وتذللًا لربهم في الظلام والناس نيام، ذاقوا لذيذ القيام؛ فهجروا المنام، تبتلًا وقرآنًا ودعاءً واستغفارًا، لا يَطْعَمُون الكرى (^٢) إلا قليلًا، ولا يهجعون (^٣) إلا يسيرًا.
_________
(^١) أخرجه مسلم (٤/ ٢١٧٥) رقم (٢٨٢٥) من حديث سهل بن سعد الساعدي ﵁.
(^٢) الكرى: النوم. ينظر: تهذيب اللغة (١٠/ ١٨٧)، لسان العرب (١٥/ ٢٢١).
(^٣) الهجوع: النوم الخفيف ليلًا. ينظر: الصحاح للجوهري (٣/ ١٣٠٥)، معجم مقاييس اللغة (٦/ ٣٦).
1 / 6
ما الذي أطار نومهم؟ إنه الأنس بالله! ولذة مناجاة الله؛ فلأجلها كابدوا الليل، فلا ينامون من الليل إلا أَقَلَّه.
أما وقت الأسحار - الذي ينزل فيه ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر - فَهُمْ في عالمٍ من نعيم الأرواح؛ يستغفرون ربهم، ويدعونه ويسألونه، فيفيض عليهم من رحماته، ويمنحهم من سوابغ هِبَاتِهِ؛ فيجدون لتلك اللحظات من البركات في نهارهم ما لو وُزِنَت لهم بذلك الدنيا ما وَزَنَت عندهم لحظة من لحظات تلك العبادة الخاشعة.
إن لديهم طموحًا عارمًا بغسل ثياب الذنوب؛ لتعود القلوب نقيةً زكيةً مشرقةً كإشراقة الصبح.
وفي إطلالة قرآنيةٍ أخرى: نجد أن القرآن يرسم نماذج من القدوات الرفيعة في الانكسار بين يدي الله والبكاء والخرور سجدًا لله ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم:٥٨].
إنهم أنبياء الله، وخيرة خلقه الذين كانوا في تلك اللحظات الروحانية يبلغون مبلغ الخرور إلى الأرض، بعيونٍ دامعةٍ وبكاءٍ وخشوعٍ في مشهد عظيم من مشاهد الصدق.
مشهد السجود الذي يمثل ذروة الذل والتذلل للواحد القهار.
1 / 7
عجيبٌ والله! ماذا صنع الوحي في نفوسهم؟
عجبًا لهاتيك القلوب النقية!
ولكي لا يتطرق الوهم إلى الأذهان، فيظن ظانٌّ أن تلك الهيئة الخاشعة مخصوصةٌ بالأنبياء الكرام؛ فإن القرآن يُجَلِّي ذلك فيذكر مشاهد لأقوامٍ من المؤمنين، كانت تفيض دموعهم خشيةً لله، حين يسمعون كلام الله، فلا يستطيعون لذلك دفعًا؛ لأن ذلك يفوق قدرتهم على الاحتمال، استثارت آيات الله قلوبهم، فتساقطت تلك الدموع وتلامعت في المحَاجِرِ ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة:٨٣]، بل إن القرآن يكشف صورةً أخرى من صور التأثير في الجوارح التي تهتز حين سماع القرآن؛ فتعلوها قشعريرة لا يتمالكها السامع، فتسري آثارها في أوصال الإنسان وخبايا جسده: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزُّمَر:٢٣].
هنا تفصح هذه الآية الكريمة عن صورةٍ دقيقةٍ عجيبةٍ لمراحل التأثر بآيات الله: قشعريرة الجلود، ثم لينها، ثم لين القلوب الذي يعقبه الخضوع الإيماني، والانكسار النفسي، وهذا الأثر الوجداني الغريب لا يمكن أن يكون لغير القرآن؛ لقوة وقع كلام الله على النفس البشرية فيرتقي بها إلى حالةٍ من الإخبات، كما جاء ذلك في
1 / 8
قول الله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج:٥٤] (^١).
إنها درجةٌ من أرفع درجات الإيمان التي جاءت بها آيات القرآن، والإخبات في الآية، هو: الخضوع والتَّذلُّل لله ﷿ مع المحبَّة له (^٢).
ولما سبق فإن من أَجَلِّ مقاصد صلاة التراويح في رمضان: صياغة القلوب صياغةً مهذبةً بالإيمان من خلال القرآن؛ ولهذا قال الإمام ابن تيمية ﵀: «مِن أَجَلِّ مقصود التراويح: قراءة القرآن فيها؛ ليسمع المسلمون كلام الله» (^٣).
ليكون القرآن والصيام والصلاة خير زادٍ للمسلم في هذه الدنيا؛ لتحمُّل مشاق الحياة، وللنهوض بأعبائها؛ ولهذا جاءت دعوة السماء للنبي الكريم ﷺ في أول مراحل دعوته: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزَّمل: ١ - ٤].
إنها الدعوة الربانية لصفوة البشر؛ ليتهيأ للمهمة الصعبة، ويقوم بالدور العظيم الذي ينتظره، وينهض بالعبء الثقيل الذي اصْطُفِيَ له ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
_________
(^١) ينظر: الطريق إلى القرآن لإبراهيم السكران ص (١٥).
(^٢) ينظر: مدارج السالكين (١/ ١٥٦).
(^٣) مجموع الفتاوى (٢٣/ ١٢٢).
1 / 9
كلمةٌ مجلجلةٌ رهيبةٌ تجتذب خير الورى من الفراش الدافئ؛ ليكون ذلك أعظم وقود له على متاعب الطريق، ومضايق الحياة؛ إذ إنه ﷺ سيحمل أمانةً عظيمةً وقولًا ثقيلًا ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزَّمل:٥].
إن الذي يعيش لنفسه ومصالحه الذاتية، يمكن أن يعيش مستريحًا بعيدًا عن مصارع المخاض بين الزعازع (^١) والأنواء (^٢)، لكنه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا.
أما من كان كبير الهمة، عظيم النفس والطموح، فهذا هو من يصنع - بإذن الله - المجد التليد.
إنه كبيرٌ يحمل عبئًا كبيرًا، فما لهذا والنوم؟ وكيف سيجد سبيلًا للراحة؟ وإخلادًا للفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ ولهذا جاء الأمر الإلهي للنبي الكريم أن يقوم نصف الليل أو أكثره؛ ليتهيأ للمهمة الكبرى، وهكذا كل من حَمَلَ أمانةً، وتحمل أعباءً من أعباء الحياة الثقيلة، يحسن به ويتأكد في حقه أن يَتَزَوَّدَ لتلك المشاق بزاد الليل، ومعين القرآن.
_________
(^١) الزَّعَازِع: هي شدائد الدهر. ينظر: جمهرة اللغة (١/ ٢٠١)، والقاموس المحيط ص (٧٢٥).
(^٢) الأَنْوَاء: جمع نوء، وهي ثمانية وعشرون نجمًا معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها في الصيف والشتاء والربيع والخريف. ينظر: غريب الحديث للقاسم بن سلام (١/ ٣٢٠)، وتهذيب اللغة للأزهري (١٥/ ٣٨٥).
1 / 10
تأمل معي أخي في هذه الأسرار الثلاثة: (الصيام - القرآن - التراويح) وما لها من أثرٍ عجيبٍ في رمضان، إنها علاقةٌ ثلاثيةٌ لها أبعادها وآثارها في تهذيب النفس البشرية؛ لتصبح نفسًا هادئةً مؤمنةً تحوطُها السكينة، ويلفّها اليقين، فيا ليتنا نجدد حياتنا في رمضان بروحٍ جديدةٍ مع الصيام، وعيشٍ كريمٍ مع القرآن، وخشوع وصفاء بين يدي ربنا في التراويح.
يا ليتنا نعيش رمضان بمضامين جديدة توازي عظمة القرآن، وجمال التراويح.
وفي هذه الرسالة التي بين يديك خلاصة (تباريح في صلاة التراويح)، نفع الله بها وجعلها خالصةً لوجهه الكريم.
د. عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
الأستاذ المساعد بقسم السنة في كلية الشريعة بجامعة القصيم
وإمام وخطيب جامع ابن القيم بمدينة بريدة
٨/ ٨/١٤٣٧ هـ
1 / 11
المبحث الأول:
مفهوم صلاة التراويح ومشروعيتها وفضلها:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تسمية صلاة التراويح.
المطلب الثاني: مشروعية صلاة التراويح.
المطلب الثالث: فضل صلاة التراويح.
1 / 12
المطلب الأول:
تسمية صلاة التراويح
التراويح: على وزن (تفاعيل)، وهي من صيغ منتهى الجموع، ومفردها: ترويحة، وهي: المرة الواحدة من الراحة، مشتقة من الفعل رَوَّح يروِّح ترويحًا، يُقال: رَاوحَ بين رجليه: إذا قام على إحداهما مرة، وعلى الأخرى مرة (^١).
وأصل هذه المادة يدل على الفسحة والسعة، قال ابن فارس: «الراء والواو والحاء: أصل كبير مطرد، يدل على سَعَة وفُسحة واطِّرَاد» (^٢).
والتراويح في الاصطلاح، هي: صلاة القيام جماعة في ليالي رمضان بعد صلاة العشاء (^٣).
_________
(^١) ينظر: الصحاح للجوهري (١/ ٣٧٠)، النهاية في غريب الحديث والأثر (٢/ ٢٧٤)، لسان العرب (٢/ ٤٦٢، ٤٦٦).
(^٢) مقاييس اللغة (٢/ ٤٥٤).
(^٣) ينظر: الكافي لابن قدامة (١/ ٢٦٨)، شرح النووي على مسلم (٦/ ٣٩).
1 / 13
وسُمِّيت بهذا الاسم؛ لأنَّ السلف أوَّل ما اجتمعوا عليها كانوا يطيلون القيام، ويستريحون بين كل تسليمتين (^١).
وقد روى البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن المغيرة بن زياد الموْصِلِيِّ، عن عطاء، عن عائشة ﵂، قالت: «كَانَ رَسُولُ الله ﷺ يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ يَتَرَوَّحُ، فَأَطَالَ حَتَّى رَحِمْتُهُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟».
قال البيهقي: «وقوله: (ثُمَّ يَتَرَوَّحُ) إنْ ثبت؛ فهو أصل في تَرَوُّح الإمام في صلاة التراويح» (^٢).
_________
(^١) ينظر: فتح الباري لابن حجر (٤/ ٢٥٠)، كفاية النبيه لابن الرفعة (٣/ ٣٣١)، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب لخليل المالكي (٢/ ٩٧).
(^٢) السنن الكبرى (٢/ ٧٠٠) رقم (٤٢٩٤)، وقال البيهقي: «تفرد به المغيرة بن زياد، وليس بالقوي»، وهو ممن لا يحتمل تفرده.
1 / 14
المطلب الثاني:
مشروعية صلاة التراويح
ثبتت مشروعية صلاة التراويح، بالسُّنَّة، والإجماع.
فأما السنة، فمنها:
١) حديث عائشة ﵂: «أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى فِي المَسْجِدِ، فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ، فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ، فَتَحَدَّثُوا، فَكَثُرَ أَهْلُ المَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ الله ﷺ، فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ المَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى الفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَتَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ، فَتَعْجِزُوا عَنْهَا» (^١).
٢) حديث أبي هريرة ﵁ أنَّ رسول الله ﷺ، قال: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ
_________
(^١) أخرجه البخاري (٢/ ١١) رقم (٩٢٤)، ومسلم (١/ ٥٢٤) رقم (٧٦١).
1 / 15
إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (^١).
قال النووي ﵀: «المراد بقيام رمضان: صلاة التراويح» (^٢).
وأما الإجماع:
فقد أجمعت الأمة على مشروعية صلاة التراويح، واتَّفق العلماء على استحبابها.
قال السَّرَخْسي ﵀: «الأمة أجمعت على شَرْعِيَّتها وجوازِها، ولم ينكرها أحد من أهل العلم؛ إلا الروافض، لا بارك الله فيهم» (^٣).
وقال النووي ﵀: «صلاة التراويح سُنَّة باتفاق العلماء» (^٤).
وقال أيضًا: «اتفق العلماء على استحبابها» (^٥).
_________
(^١) أخرجه البخاري (١/ ١٦) رقم (٣٧)، ومسلم (١/ ٥٢٣) رقم (٧٥٩).
(^٢) شرح النووي على مسلم (٦/ ٣٩).
(^٣) المبسوط (٢/ ١٤٣).
(^٤) الأذكار ص (١٨٣).
(^٥) شرح النووي على مسلم (٦/ ٣٩).
1 / 16
المطلب الثالث:
فضل صلاة التراويح
صلاة التراويح: هي من جملة قيام الليل، فتَشْمَلُها نصوصُ الكتاب والسنة التي وردت في بيان فضل قيام الليل، ومن هذه النصوص:
قوله تعالى عن المتقين: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات:١٧].
وقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر:٩].
وقوله: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة:١٦].
وفي الصحيحين من طريق حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (^١).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ﵁ مرفوعًا: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ: صَلَاةُ اللَّيْلِ» (^٢).
_________
(^١) متفق عليه، تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(^٢) صحيح مسلم (٢/ ٨٢١) رقم (١١٦٣).
1 / 17
قال الحسن البصري ﵀: «ما نعلم عملًا أشدَّ من مكابدة الليل ونفقة المال، قيل له: ما بالُ المتهجدين أحسنُ الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره» (^١).
بَكَى الْبَاكُونَ لِلرَّحْمَنِ لَيْلًا ... وَبَاتُوا دَمْعَهُمْ مَا يَسْأَمُونَا
بِقَاعُ الْأَرْضِ مِنْ شَوقٍ إِلَيْهِمْ ... تَحِنُّ مَتَى عَلَيْهَا يَسْجُدُونَا
وكان السلف ﵏ يجِدُون لقيام الليل لذَّة وسرورًا، يفرحون بمجيئه، ويحزنون لانقضائه.
قال ثابت البُناني ﵀: «ما شيءٌ أجدُه في قلبي ألذُّ عندي من قيام الليل» (^٢).
وقال سفيان الثوري ﵀: «إذا جاء الليل فرحت، وإذا جاء النهار حزنت» (^٣).
وقال أبو سليمان الداراني ﵀: «لَأَهْلُ الطاعة بليلهم أَلَذُّ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليلُ ما أحببت البقاء في الدنيا» (^٤).
_________
(^١) إحياء علوم الدين (١/ ٣٥٥).
(^٢) صفة الصفوة (٢/ ١٥٥).
(^٣) أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (١/ ٨٥).
(^٤) أخرجه الدينوري في المجالسة (١/ ٤٧٣)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (٩/ ٢٧٥).
1 / 18
وقال بعضهم: «مساكينُ أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أَطْيَبَ ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، ومعرفته وذكره» (^١).
وقال ابن تيمية ﵀: «إنَّ في الدنيا جنةً مَنْ لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة» (^٢).
- أيُّ أوقات القيام أفضلُ؟
كل الليل وقت للقيام، فللمرء أن يصلي أولَ الليل أو أوسطَه أو آخرَه، فقد جاء في صحيح مسلم من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ خَافَ أَنْ لا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» (^٣).
إلا أن صلاة آخر الليل أفضل؛ لما سبق، ولما رَوَى البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق مسروق عن عائشة ﵂، قالت: «مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ الله ﷺ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَأَوْسَطِهِ، وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ» (^٤).
_________
(^١) ينظر: مدارج السالكين (١/ ٤٥٤)، وجامع العلوم والحكم ص (١٨٩).
(^٢) ينظر: مدارج السالكين (١/ ٤٥٤)، والوابل الصيب ص (٦٧).
(^٣) صحيح مسلم (١/ ٥٢٠) رقم (٧٥٥).
(^٤) صحيح البخاري (١/ ٣٣٨) رقم (٩٥١)، وصحيح مسلم (١/ ٥١٢) رقم (٧٤٥).
1 / 19
ولحديث النزول الإلهي الثابت في الصحيحين من طريق أبي سلمة، وأبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا ﵎ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» (^١).
وينبغي أن يكون للمرء قسط من الليل بحسَب وُسعه، وما تيسر له، من أول الليل، أو أوسطه، أو آخره، ولو كان قليلًا، أما القيام في رمضان فذلك ما تنبعث له سوابق الهمم.
_________
(^١) صحيح البخاري (١/ ٣٨٤) رقم (١٠٩٤)، وصحيح مسلم (١/ ٥٢١) رقم (٧٥٨).
1 / 20
المبحث الثاني:
صفة صلاة التراويح
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: عدد ركعات صلاة التراويح.
المطلب الثاني: صفة ركعات صلاة التراويح.
المطلب الثالث: ما يقال بين تسليمات التراويح.
المطلب الرابع: القراءة في صلاة التراويح.
المطلب الخامس: القنوت في صلاة التراويح.
1 / 21
المطلب الأول:
عدد ركعات صلاة التراويح
الثابت في السنة من غير وجهٍ أنه ﷺ لم يكن يزيدُ على إحدى عشرةَ ركعةً لا في رمضانَ ولا في غيرِه، جاء في الصحيحين من طريق مالك، عن المقبري، عن أبي سلمة، عن عائشة ﵂، قالت: «مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا ...» الحديثَ (^١).
قال ابن عبد البر ﵀: «وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة» (^٢).
وكذلك الثابت عن الصحابة القيام بإحدى عشرة ركعة، كما جاء في الموطأ بسند صحيح عن محمد بن يوسفَ، عن السائب ابن يزيد ﵁، قال: «أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» (^٣).
_________
(^١) صحيح البخاري (١/ ٣٨٥) رقم (١٠٩٦)، وصحيح مسلم (١/ ٥٠٩) رقم (٧٣٨).
(^٢) التمهيد (٢١/ ٦٩)، والاستذكار (٢/ ٩٨).
(^٣) الموطأ (١/ ١١٥) رقم (٢٥١).
1 / 22
وأما الأثر المشهور: «كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الخطَّابِ فِي رَمَضَانَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً» (^١)، فقد رواه مالك عن يزيدَ بن رُومان، عن عمر، ويزيد لم يدرك عمر، فالسند منقطع (^٢)، وهو معارض لما صح عن عمر من أمره بإحدى عشرة ركعة في الأثر السابق.
وجاء عند عبد الرزاق، عن داودَ بنِ قيس، عن محمدِ بنِ يوسفَ، عن السائب بن يزيد: «أَنَّ عُمَرَ ﵁ جَمَعَ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ عَلَى أُبَيٍّ وَتَمِيم عَلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَكْعَةً» (^٣)، ولكن هذا الأثر غير محفوظ، والرواية الثابتة ما رواه الإمام مالك، عن محمد بن يوسف، عن السائب: «أَنَّهُ جَمَعَهُمْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً»، وأئمة الحديث يقدِّمون مالكًا على داود بن قيس، بل يقدمون مَنْ دون مالك في الحفظ على داود بن قيس.
والخلاصة: أن الأصح عن عمر أنه جمع الناس على أبيٍّ وتميم بإحدى عشرة ركعة، ولكن ما سبق تقريره عن النبي ﷺ، وعن عمر لا يعني عدمَ جوازِ الزيادة على إحدى عشرة ركعة.
فصلاة القيام غير محصورة بعدد معين، وقد دلَّ على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع.
_________
(^١) الموطأ (١/ ١١٥) رقم (٢٥٢).
(^٢) ينظر: نصب الراية (٢/ ٩٩).
(^٣) مصنف عبد الرزاق (٤/ ٢٦٠) رقم (٧٧٣٠).
1 / 23
فأما الكتاب:
فقوله تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزَّمل:٢٠]، أي: من غير تحديد بوقت، وعبَّر عن الصلاة بالقراءة، كما في قوله: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ﴾ [الإسراء:١١٠]، أي: بقراءتك (^١).
وقوله تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزَّمل:٢٠]، أي: فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل (^٢).
وأما السُّنَّة:
فعن سعد بن هشام بن عامر، قال: «قُلْتُ: يَا أُمَّ المؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ الله ﷺ، فَقَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ اللهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ، فَلَمَّا أَسَنَّ نَبِيُّ الله ﷺ، وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الْأَوَّلِ، فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ، وَكَانَ نَبِيُّ الله ﷺ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا» (^٣).
_________
(^١) ينظر: تفسير ابن كثير (٨/ ٢٥٨).
(^٢) ينظر: فتح القدير (٥/ ٣٨٦).
(^٣) أخرجه مسلم (١/ ٥١٣) رقم (٧٤٦).
1 / 24