المجالس الفقهية
المجالس الفقهية
Yayıncı
تكوين للدراسات والأبحاث - الرياض
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٣٧ هـ - ٢٠١٦ م
Yayın Yeri
السعودية
Türler
إهداء
إلى السمع والبصر:
﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾
1 / 7
استفتاح
(اللَّهُمَّ إني أسألك الإيمان وحقائقه ووثائقه، وكريم ما مننت به عليَّ من الأعمال التي يُنال بها منك حسن الثواب، واجعلنا ممن يتقيك ويخافك ويرجوك ويستحييك، اللهم استرنا بالعافية). أيوب السختياني.
(حلية الأولياء، أبو نعيم/٣/ ٨)
(اللَّهُمَّ إني أسألك علم الخائفين لك، وخوف العالمين بك، ويقين المتوكلين عليك، وتوكل المؤمنين بك، وإنابة المخبتين إليك، وإخبات المنيبين إليك، وشكر الصابرين لك، وصبر الشاكرين لك، ونجاة الأحباء المرزوقين عندك). طلق بن حبيب.
(حلية الأولياء، أبو نعيم/٣/ ٦٣)
(اللَّهُمَّ اجعلنا من الذين غسلوا أوعية الجهل بصفو ماء الحياة في مسالك النعيم، حتى جالت في مجالس الذكر مع رطوبة ألسنة الذاكرين). ذو النون المصري.
(حلية الأولياء، أبو نعيم/٩/ ٣٥٨)
1 / 9
المقدمة
الحمد لله الأكرم، الذي علم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على النبي الأعظم، والمعلم الأقدم، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن في حفظ تاريخ أي علَّم عصمة له من الضياع، وصيانة له من أن تذهب رسومه وآدابه وتدرس مناهجه، ولعلوم الشريعة من ذلك الحظ الأوفى؛ لشدة ارتباطها بالهدي الأول وما كانت عليه القرون الفاضلة من الأحوال الكاملة في العلم والعمل والتربية والتعليم. وهذه الأحوال لم تزل تتناقص بمرور الأزمان وحلول الحوادث العظيمة التي تُذهل الكثير من الناس عن معاناتها وتكبد مشاقَّها، وقد قال رسول الله ﷺ: «العبادة في الهرج كهجرة إلي» (^١). وقد عرض للأمة في تاريخها من الكوارث والنوازل الفادحة ما كان بقاء العلم معه كرامة من الله تعالى وآية على صدق الرسول ﷺ. فحملات النصارى على الشام ومصر وفادحة التتار والاحتلال الأوروبي البغيض، وما صاحب ذلك من قتل للعلماء وتخريب للجوامع والمدارس والمكتبات وإتلاف للكتب ونهب للثروات العلمية وإخفائها، كلُّ ذلك كان له الأثر البالغ في مسيرة الحركة العلمية عند المسلمين.
ومن الجوانب التي نالها نصيب من هذا التأثر ما كانت عليه مجالس أهل العلم في هيئتها ورسومها واختلاف مقاماتها وأخلاق أهلها، وما يتبع
_________
(^١) صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب فضل العبادة في الهرج (٢٩٤٨).
1 / 11
ذلك من طرائق نقل العلم وفهمه والمباحثة حوله والمناظرة فيه، فإن تلك المناهج كانت قريبة من أفهام المتقدمين لتلبسهم بها وكثرة مخالطتهم لأهلها، غير أن إلف المرء لعادته وعرف زمانه كثيرًا ما يذهله عن نقل ذلك لغيره. وقد أشار إمام الحرمين الجويني (ت ٤٧٨ هـ) إلى هذا المعنى فقال: (ومعظم العمايات في مسائل الفقه من ترك الأولين تفصيل أمور كانت بيّنة عندهم). (^١)
غير أن المتقدمين إن لم يصرّحوا بما كان جليًّا معلومًا فيهم، فإنه كثير وظاهر لمن استقرأ سيرهم وأخبارهم، وقد أبلت الأمة البلاء الحسن في حفظ تاريخ رجالها وأيامها ومدنها ودولها، مما لو جهد المتأخرون في دراسته وفهمه واستخراج ما فيه من العمق المعرفي والمنهجي لجاءوا بالشيء الكثير.
ولو نظرنا في المدونات العظيمة التي حفظ فيها العلماء تاريخ الأمة لألفيناها ملأي بما لم يبلغ المتأخرون بعده حدَّ النصيحة في استخراج مخبَّآته ومكنوناته. فكتاب كتاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (ت ٥٧١ هـ) الذي قال فيه الحافظ المنذري (ت ٦٥٦ هـ): (ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه) (^٢)، فلو اجتمع النفر الجمُّ من الباحثين النابهين على استنطاق (نصوصه) الصامتة لطال حديثها، ولو تعاضد أهل التخصصات العلمية المختلفة وتعاونوا فيما بينهم على هذا الغرض لاختصروا الجهد والزمان، ولعادوا على العلم بما هو خير وأعظم نفعًا، فكم في تواريخ البلدان وطبقات العلماء من ذخائر لا يكاد الباحث في تاريخ العلم والفقه يهتدي إليها إلا بدلالة متخصص وإرشاد خبير. وواقع الدراسات الشرعية في الفقه وغيره شاهد بأن الغفلة عن مناهج الأوائل في رواية العلم ودراسته وتداوله وتدوينه، مما يستزل الباحث إلى طائفة من الأغلاط التي ما كان له أن يلابسها لو عرف مخارج الكلام ومداخله.
_________
(^١) نهاية المطلب (٥/ ١٨٥).
(^٢) وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ٣١٠).
1 / 12
وفي هذه الفصول حديث عن طائفة من الرسوم والآداب التي كان عليها واقع الحال في مجالس العلماء الفقهية في أمصار المسلمين المختلفة، وما كان لهم فيها من العادات والأعراف العلمية والعملية؛ لما في معرفة ذلك واستحضاره من المنفعة الكبيرة في التعامل مع كلام أهل العلم وحسن تفهمه وحمله على وجهه.
ثم إن الكلام سيجري في تمهيدين وستة فصول، فأما التمهيدان ففي مقصدين رئيسين هما مدار هذه الفصول وما بعدهما شارح لهما، فأما الأول منهما فما كانت عليه مجالس الفقه من الشأن العظيم في الأمة، وما كان للخاصة والعامة بها من العناية التامة والرعاية البالغة، وأما المقصد الثاني ففي تحصيل الفرق بين مجالس الفقه ومقاماته واختلاف أحوال الفقهاء في كل واحد منها، ولزوم مراعاة ذلك أثناء المجلس وبعده. وأما الفصول الستة ففي ستة مجالس، وهي مجلس التعليم، ومجلس القضاء، ومجلس الإفتاء، ومجلس المباحثة والمذاكرة، ومجلس المناظرة، ومجلس الوعظ، والكلام في كل مجلس منها يجري على ثلاثة أنحاء: طبيعة المجلس وغرضه، ثم وصفه، ثم فائدته وثمرته. وقد اجتهدت في اختصاره، إذ لم يكن الغرض في استيعاب الحديث عن هذه المجالس وأحوالها فلذلك شأن يطول، والحق أن كل واحد منها حقيق بالإفراد والاستقلال لاستيفاء الكلام فيه واستقصاء معانيه.
وبعد، فالحمد لله عدد ما ينعم علينا فنغفل عن ذكره وشكره، فله الفضل والمنة والمجد والثناء، وهو المسؤول أن يجعل نهمتنا في العلم كنهمتنا في الدنيا، وأن يصرف همتنا إلى ما هو خير لنا في عاقبة أمرنا.
ثم الشكر بعد موصول لأهل بيتي، ولكلَّ من أفادني بفائدة، أو انتفعت منه بنافعة، وأخصُّ منهم الشيخين الفاضلين والأخوين الكريمين: الدكتور خالد بن عبد العزيز السعيد، والدكتور حمد بن عثمان الجميل، فجزى الله الجميع عني كل خير، وأولاهم المثوبة والكرامة السابغة في الدنيا والآخرة.
1 / 13
تمهيد أول
في فضل مجالس الفقه
قال الله ﷻ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨].
روى الأوزاعي عن يحيي بن أبي كثير: مجالس الفقه.
(رياضة المتعلمين، ابن السني/١٩١)
عن ابن عمر ﵁ أنه قال: (مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة).
(تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة/ ٣٦)
عن عبد الله بن أبي موسى التستري قال: قيل لي: (حيثما كنت فكن قرب فقيه).
(التاريخ الكبير، ابن أبي خيثمة/٣/ ٢٥٠)
قال سهل بن عبد الله: (من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء، فلينظر إلى مجالس العلماء).
(صفة الصفوة، ابن الجوزي/٤/ ٦٥)
عن سلمة بن سعيد قال: كان يقال: (العلماء سُرُجُ الأزمنة).
(الإبانة الكبرى، ابن بطة/١/ ٥٧)
(وكان مجلسه-يعني: نظام الملك-عامرًا بالفقهاء والعلماء، بحيث يقضي معهم عامة أوقاته، فقيل له: إن هؤلاء قد شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي ما استكثرت ذلك).
(البداية والنهاية، ابن كثير/١٦/ ١٢٦)
1 / 15
تعظيم مجالس العلم واحتفال عامة الناس بها وعمارتهم لها أمارة على حياة الأمة واشتعال الروح فيها، وعند استقراء كلام أهل التاريخ والأخبار في وصف حلقات العلم في المساجد والمجالس المختلفة يتعجب المرء من ذلك، حتى لكأن الأمة كلها معنية بالعلم ومشتغلة به. حتى لقد قال الأحنف بن قيس (ت ٦٧ هـ): (كاد العلماء أن يكونوا أربابًا)، قالها في قوم تشاجروا في مسجد البصرة، والمسجد مشحون برجالات العرب، فرضوا بالحسن البصري (ت ١١٠ هـ) وتحاكموا إليه (^١). ومرَّ الحسن بأبي عمرو بن العلاء (ت ١٥٤ هـ)، وحلقته متوافرة والناس عكوف، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو عمرو بن العلاء، فقال: (لا إله إلا الله، كاد العلماء أن يكونوا أربابًا) (^٢).
من أجل ذلك كثرت الوصية بمجالسة العلماء ومزاحمة الناس عليهم وثني الركب بين أيديهم، وبيان أثر هذه المجالسة في صلاح العلم والعمل. وقد روى الشيخان عن أبي واقد الليثي ﵁ أن رسول الله ﷺ بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله ﷺ وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله ﷺ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» (^٣).
وجاء في "موطأ الإمام مالك" من وصية لقمان الحكيم لابنه: (يا بني
_________
(^١) عيون الأخبار، ابن قتيبة (٢/ ١٤٥).
(^٢) ربيع الأبرار، الزمخشري (٣/ ٢١٦).
(^٣) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس (٦٦)، صحيح مسلم، كتاب السلام، باب من أتى مجلسًا فوجد فرجة فجلس فيها (٢١٧٦).
1 / 16
جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله تعالى يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء) (^١)، وقال ابن مسعود ﵁: (المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة) (^٢)، وقال أيضًا ﵁: (ثلاث من كن فيه ملأ الله قلبه إيمانًا: صحبة الفقيه، وتلاوة القرآن، والصيام) (^٣)، ولما حضرت معاذًا ﵁ الوفاة قال: (اللَّهُمَّ إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر) (^٤)، وقال عمر بن عبد العزيز (ت ١٠١ هـ): (لأن يكون لي مجلس من عبيد الله-يعني: ابن عبد الله بن عتبة-أحبُّ إليَّ من الدنيا) (^٥).
ومن ثمَّ كانت هذه المجالس مهيبة معظمة، وكان لها رهبة وجلالة في بلاد الإسلام بأسرها، وكانت المدائن تزدان بها كما تزدان السماء بكواكبها السيارة وبنجومها، حتى غدت لأصحابها مناقبَ ولبلدانهم مفاخرَ فلكأن عين الشمس ما دارت على مثلها، وكثر في الناس وصفها وشرح هيئتها والسعادة بها والافتخار بشهودها والاشتياق إليها والتحسر على فقدها.
كان قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري (ت ١٦٨ هـ) إذا جلس في مجلس القضاء يقضي بين الناس تمثَّل (^٦):
لنا مجلس طيِّبٌ ريحه... به الجلُّ والآس والياسمين
وقال أبو الفرج ابن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ) في وصف مجالسه ببغداد:
كم كان لي من مجلس لو شُبِّهت... حالاته لتشبَّهت بالجنَّةِ
كم كان لي من مجلس لو شُبِّهت... حالاته لتشبَّهت بالجنَّةِ
أشتاقه لما مضت أيامه... عُطلًا وتُعذر ناقة إن حنَّتِ
_________
(^١) الموطأ برواية يحيي، كتاب الجامع، باب ما جاء في طلب العلم (٢٨٥٩).
(^٢) المعجم الكبير، الطبراني (٨٥٥٣)، حلية الأولياء، أبو نعيم (١/ ١٣٤).
(^٣) بهجة المجالس، ابن عبد البر (٢//١٢٨).
(^٤) حلية الأولياء، أبو نعيم (١/ ٢٣٩).
(^٥) وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ١١٥).
(^٦) انظر: أخبار القضاة، وكيع (٢/ ١١٢).
1 / 17
قال أبو شامة (ت ٦٦٥ هـ): (أظن هذه الأبيات نظمها في أيام محنته إذ كان محبوسًا بواسط، فمعانيها دالة على ذلك).
ولما مات الموفق بن قدامة (ت ٦٢٠ هـ) رثاه موسى بن خلف (ت ٦٤٣ هـ) فقال:
وتعطَّلت تلك المجالس وانقضت... تلك المحافل ليتها لو ترجع (^١)
ولك أن تتصور مثلًا في نيسابور مجلسًا تدور دارته على كرسيٍّ عليه مثل أبي المعالي الجويني (ت ٤٧٨ هـ)، وبين يديه من المعيدين أبو حامد الغزالي (ت ٥٠٥ هـ) والكيا الهراسي (ت ٥٠٤ هـ) وأمثالهما، فإذا تفهمت ذلك وتأملت الأثر الذي يحدثه مثل هذا المجلس، علمت سبب اشتهار قرى صغيرة حول نيسابور لكثرة من ينتسب من الفقهاء والعلماء إليها (^٢). فلقد كان هؤلاء العلماء كالغيث الذي تحيا به البلاد، وكانت الأمصار تنتظم بهم، وتختل لفقدهم، وقد قال عمر ﵁ لما خرج معاذ ﵁ إلى الشام: (لقد أخلَّ خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر ﵀ أن يحبسه لحاجة الناس إليه، فأبى عليَّ وقال: رجل أراد وجهًا يريد الشهادة فلا أحبسه، فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه وفي بيته، عظيم الغنى عن مصره) (^٣)، وقال علي ﵁ في أصحاب ابن مسعود رضي الله عليه في الكوفة: (أصحاب عبد الله سرج هذه القرية) (^٤). ولما زار الأمير الموفق بالله العباسي (ت ٢٧٨ هـ) الإمام الحافظ أبا داود صاحب السنن (ت ٢٧٥ هـ) بعد إخماده لفتنة الزنج، سأله الانتقال إلى البصرة بعد خرابها، وقال له: (تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنًا؛ ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قد خربت وانقطع عنها الناس لما جرى من محنة الزنج) (^٥). ولما
_________
(^١) الذيل على الروضتين (٢٥)، وانظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٢/ ٥٠٧).
(^٢) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٣/ ٣٠١).
(^٣) انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ٢٨٦).
(^٤) الطبقات الكبرى، ابن سعد (٢/ ٣٤٨).
(^٥) الطبقات الكبرى، ابن سعد (٦/ ١٠).
1 / 18
همَّ عبد الله بن عضيب الناصري النجدي الحنبلي (ت ١١٦١ هـ) بالخروج من عُنيزة لسبب اقتضى ذلك، قال له أميرها: (كُنَّا أمواتًا فأحيانا الله بك، ونحن محتاجون لعلمك وتعليمك، فكيف تفارقنا؟) (^١).
ولأجل هذا المعنى رأينا طوائف من أهل الضلال ممن قصدوا إلى اختلال أمور المسلمين يعمدون إلى فقهائهم وعلمائهم، فينالونهم بالأذى والقتل والتشريد، كما جرى من العبيديين لما ظهروا في بلاد المغرب فقتلوا ما لا يحصى من العلماء والفقهاء، ثم كانت تلك عادتهم في البلدان التي يتغلبون عليها، قال القاضي أبو بكر الباقلاني (ت ٤٠٣ هـ) عن رئيسهم الباطني عبيد الله المتسمِّي بالمهدي (ت ٣٢٢ هـ): (وكان باطنيًّا خبيثًا، حريصًا على إزالة ملة الإسلام. أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق) (^٢)، وقال فيه أبو شامة (ت ٦٦٥ هـ): (وكان زنديقًا خبيثًا عدوًّا للإسلام، متظاهرًا بالتشيع متسترًا به، حريصًا على إزالة الملة الإسلامية، قتل من الفقهاء والمحدثين والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصده إعدامهم من الوجود) (^٣)، وقال: (وكان يرسل إلى الفقهاء والعلماء فيذبحون في فرشهم) (^٤)، بل ذكر أبو الحسن القابسي (ت ٤٠٣ هـ) أن عبيد الله هذا وبنيه من بعده قتلوا في المهدية أربعة آلاف في
_________
(^١) السحب الوابلة، ابن حميد (٢/ ٦٠٦).
(^٢) تاريخ الإسلام، الذهبي (٢٤/ ٢٣).
(^٣) كتاب الروضتين (٢/ ٢١٥).
(^٤) كتاب الروضتين (٢/ ٢١٨)، وبالمقابل فانظر صنيع الملك الناصر صلاح الدين لما أراد استرجاع البلاد المصرية من العبيديين، وكيف توسل إلى ذلك بالتدرج؛ لأن (هذا الأمر إن لم يؤخذ على التدريج وإلا فسدت أحواله) كما اعتذر بذلك الملك الناصر لما استعجله نور الدين بقطع الخطبة للعبيديين وإقامتها للعباسيين، ثم انظر كيف قطع دابر مذهبهم ببناء المدارس في مصر والشام، وتعيين القضاة والخطباء من أهل السُّنة، حتى استوثق أمر السُّنَّة في تلك البلاد، وغدا ما أكره العبيديون عليه الناس من الباطل كأمس الذاهب، قال ابن شداد (ت ٦٣٢ هـ): (هذا كله وهو وزير متابع للقوم، لكنه مقوِّ لمذهب السُّنَّة، غارسٌ في أهل البلاد العلمَ والفقه والتصوف والدين) النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (٨١)، وراجع في ذلك: «كتاب الروضتين» لأبي شامة المقدسي، و«التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية» لعز الدين بن الأثير، و«الحياة العلمية في دمشق في العصر الأيوبي» لناصر الحازمي، و«المدارس في بيت المقدس في العصرين الأيوبي والمملوكي» للدكتور عبد الجليل حسن، و«المدارس الأيوبية في حلب والقاهرة» للدكتور وليد الأخرس، و«التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك» للدكتور عبد الغني عبد العاطي، و«الحياة الفكرية في مصر خلال العصر الأيوبي» للدكتور شوكت الأتروشي.
1 / 19
العذاب من عالم وعابد ليردوهم عن الترضي عن الصحابة فاختاروا الموت (^١).
والمراد بيانه من مثل هذا أن هؤلاء الفقهاء والعلماء كان لهم الأثر الكبير في بقاء الإسلام ونشره، وأن مجالسهم العامرة في بث العلم وإحيائه وتعليم الناس وإفتائهم، كان لها بلاؤها في تثبيت الناس وحفظ أصول الديانة، ولذا فقد كانت تلك المجالس معظمة عند الخاصة والعامة، وكان يحضرها الفقهاء والأكابر، فكان ابن عمر ﵁ يحضر مجلس عبيد بن عمير (ت ٧٤ هـ) (^٢)، وكان عمر بن عبد العزيز (ت ١٠١ هـ) يجلس إلى قاصِّ العامة بعد الصلاة (^٣)، وكان يحضر مجلس أبي حامد الإسفراييني (ت ٤٠٦ هـ) ثلاثمائة فقيه (^٤)، وكان الفقهاء يحضرون مجالس الموفق بن قدامة (ت ٦٢٠ هـ) (^٥)، وكان هو نفسه يحضر مجالس سبط ابن الجوزي (ت ٦٥٤) (^٦)، وحضر أبو إسحاق الشيرازي (ت ٤٧٦ هـ) مجلس الوعظ لأبي القاسم القشيري (ت ٥١٤ هـ) (^٧)، وكان لأبي عثمان الصابوني (ت ٤٤٩ هـ) مجالس في التذكير يحضرها أبو إسحاق الإسفراييني (ت ٤١٨ هـ) وابن فورك (ت ٤٠٦ هـ) وأبو الطيب الصعلوكي (ت ٤٠٤ هـ) (^٨)، وهذا أمر معروف مشهور.
وربما حضر الأكابر مجالس من هم في طبقة تلامذتهم، أو ألزموهم الدرس بحضرتهم على جهة الامتحان، كحضور جماعة من الفقهاء الكبار لأول مجلس لأبي الفرج بن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ) بعد أن أُذن له في الجلوس في جامع المنصور ببغداد (^٩)، وكمُعمَّر بن يحيي السراج (ت ٨٩٧ هـ) الذي ألزمه شيخه أن يدرس المنهاج بحضرته (^١٠)، والأمثلة في هذا ونحوه كثيرة يطول شرحها.
_________
(^١) انظر: معالم الإيمان، الدباغ (٣/ ٣٤)، سير أعلام النبلاء، الذهبي (١٥/ ١٤٥).
(^٢) انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (٤/ ١٥٧).
(^٣) انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم (٥/ ٢٧١).
(^٤) انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (١/ ٧٢).
(^٥) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٣/ ٢٨٥).
(^٦) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٣/ ٢٨٤).
(^٧) انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ٢٠٨).
(^٨) انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٤/ ٢٧٤).
(^٩) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٢/ ٤٦٥).
(^١٠) انظر: الضوء اللامع، السخاوي (١٠/ ١٦٣).
1 / 20
وكان الفقهاء يعظمون هذه المجالس بالطهارة لها والتطيب وأخذ الزينة.
قال الإمام مالك (ت ١٧٩ هـ): (ما أدركت فقهاء بلدنا إلا وهم يلبسون الثياب الحسان) (^١)، وقال إسماعيل بن أبي أويس (ت ٢٢٦ هـ): سألت خالي مالكًا عن مسألة، فقال لي: قِرَّ، ثم توضأ، ثم جلس على السرير، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وكان لا يفتي حتى يقولها (^٢). وكان البغوي (ت ٥١٦ هـ) لا يلقي الدرس إلا على طهارة (^٣)، وما رويت الحديث، ولا عقدت المجلس، ولا قعدت للتدريس قط، إلا على الطهارة) (^٤). وقال ابن جماعة (ت ٧٣٣ هـ): (إذا عزم على مجلس التدريس تطهر من الحدث والخبث، وتنظف وتطيب، ولبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه، قاصدًا بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة) (^٥).
وما كان لهذه المجالس أن يكون لها في الناس مثل هذا التعظيم والإجلال لولا ما عاينوا من آثارها الجميلة وثمارها، فلقد كان مثلها كمثل شجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وإذا كان لنا أن نجمل هذه الآثار فيمكن تلخيصها في أمور ثلاثة: بث العلم ونشره، وتربية الناس وتزكية أخلاقهم الظاهرة والباطنة، وحراسة الشريعة مما ليس منها، وبيان ذلك فيما يأتي وصفه:
١ - كانت هذه المجالس مراكز لبث علم الشريعة ونشره في الناس وتجديده والتذكير به، وتعاهد تلامذته، بحيث يتصل سند آخر هذه الأمة
_________
(^١) انظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي (١/ ١٥٦).
(^٢) انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (٨/ ٦٦)، وقد عقد القاضي عياض في ترتيب المدارك (١/ ١٤٤ - ١٥٦) بابًا في صفة مجلس الإمام مالك، فتكلم فيه عن طرف من جلالة مجلسه ورهبته وهيبته، وعن تعظيمه للعلم وصيانته الشديدة له، حتى إن هارون الرشيد قعد بين يديه، ثم قال له بعد مدة: (تواضعنا لعلمك فانتفعنا به).
(^٣) انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٧/ ٧٥).
(^٤) انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٤/ ٢٧٥).
(^٥) تذكرة السامع والمتكلم (٦٥).
1 / 21
بأولها، ويتلقى كل قرن من قرون هذه الأمة عمن قبله العلم والعمل والإيمان، فالأمة لم ترث علم الشريعة بأفرادها بل بمجموعها، وما من جيل من أجيالها إلا وعلم الشريعة ظاهر فيه بمجموعه، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة.
أرأيت كيف حفظ الله كتابه الكريم بعموم الأمة دون أفرادها حتى لم يختلَّ منه حرف؟ فكذلك حفظت الشريعة فلم يضع منها شيء.
فمجالس العلم ومجامعه كالينابيع التي يغترف منها الناس فيستقلون ويستكثرون، ثم يعود الوالدان بالتعليم والتربية على أولادهما، وذو الفضل على أهل فضله، وحامل الفقه إلى من هو أفقه منه، فيأخذ الناس العلم بالتعلم أو المحاكاة، قال ابن خلدون (ت ٨٠٨ هـ): (البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه من المذاهب والفضائل تارة علمًا وتعليمًا وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقينًا بالمباشرة) (^١).
ولما قال صاحب الشريعة ﷺ: «وصلوا كما رأيتموني أصلي» (^٢)، فإن أصحابه ﵃ تلقوا عنه علم الصلاة قيامها وركوعها وسجودها وخشوعها وتعظيمها، وتلقى عنهم من بعدهم ذلك. حتى روى الإمام أحمد (ت ٢٤١ هـ) في مسنده فقال: (حدثنا عبد الرزاق، قال: أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزبير ﵁، وأخذها ابن الزبير ﵁ من أبي بكر ﵁، وأخذها أبو بكر ﵁ من النبي ﷺ. ما رأيت أحدًا أحسن صلاة من ابن جريج) (^٣). ولما سئل أبو المثنى رياح بن الحارث النخعي الكوفي: أليس قد رأيت عبد الله ﵁؟ قال: (بلى، وحججت مع عمر ﵁ أمير المؤمنين ثلاث حجات وأنا رجل، قال: وكان عبد الله ﵁ وعلقمة يصفَّان الناس صفين عند أبواب كندة، فيقرئ عبد الله رجلًا ويقرئ علقمة رجلًا، فإذا فرغا تذاكرا أبواب المناسك وأبواب الحلال والحرام، فإذا رأيت علقمة فلا يضرك ألَّا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتًا وهديًا، وإذا رأيت
_________
(^١) مقدمة ابن خلدون (٣/ ٢٢٦).
(^٢) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر (٦٣١).
(^٣) المسند (٧٣).
1 / 22
إبراهيم النخعي فلا يضرك ألا ترى علقمة، أشبه الناس به سمتًا وهديًا) (^١).
فالعلم كالغيث الذي يصيب الأرض فيحيا به نباتها وأشجارها، فيخضر عودها، ويطيب ريحها، وتزهو ثمارها، فلا يختص بالخير منها ناحية دون غيرها، فكذلك العلم يُبذل للناس كافة. قال جعفر بن برقان: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز (ت ١٠١ هـ): (أما بعد، مر أهل العلم والفقه من جندك، فلينشروا ما علمهم الله ﷿ في مجالسهم ومساجدهم) (^٢)، فبذل العلم والتصدي لنشره والصبر على ما ينال الإنسان في سبيل ذلك من اللأواء والنصب من أعظم الوسائل إلى الله وأقربها إليه زلفى، وما أعده الله ﷻ في دار كرامته للعلماء الذين يعلمون الناس الخير من الأجر العظيم ليس ينال بالعزلة وطول الشكاية من قلة الطلبة وانصراف الناس وفساد الزمان، بل ينال بجدٍّ في بذله يشبه الجِدَّ في طلبه، وقد قال ابن شهاب الزهري (ت ١٢٤ هـ): (ما صبر أحد على العلم صبري، ولا نشره أحد نشري) (^٣)، وكان ربما خرج إلى الأعراب يفقههم (^٤)، وقال البخاري (ت ٢٥٦ هـ) في صحيحه: (باب كيف يقبض العلم، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسمل، ولْتُفشوا العلم ولْتَجلسوا حتى يُعَلَّمَ من لا يعلم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا) (^٥)، وقد تمثل عمر بن عبد العزيز ذلك فكان يرسل الفقهاء إلى الأمصار يعلمون أهلها ويفقهونهم، كما أرسل عشرة من التابعين يفقِّهون أهل إفريقية ويعلمونهم أمر دينهم وقد فشا الجهل فيهم، حتى ذُكر أن الخمر كانت حلالًا عندهم حتى جاءهم الفقهاء الذين بعثهم عمر فعرفوهم من ذلك ما كانوا يجهلون (^٦). وقال فقيه الشام سعيد بن
_________
(^١) انظر: تاريخ دمشق، ابن عساكر (٤١/ ١٦٣)، سير أعلام النبلاء، الذهبي (٤/ ٥٥).
(^٢) جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب جامع لنشر العلم (٧٨٨).
(^٣) جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب جامع لنشر العلم (٧٩٥).
(^٤) انظر: تاريخ الإسلام، الذهبي (٨/ ٢٤٧).
(^٥) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم.
(^٦) انظر: طبقات علماء إفريقية، أبو العرب التميمي (٢٠ - ٢١).
1 / 23
عبد العزيز (ت ١٦٧ هـ): (لم يكن عندنا أعلم بالقضاء من يزيد بن أبي مالك، لا مكحول ولا غيره، وقد بعثه عمر بن عبد العزيز إلى بني نمير، يفقههم ويقرئهم) (^١).
فالخلوص إلى عامة الناس وبث العلم والفقه فيهم من هدي الأنبياء، وليس مما يترفع عنه الفقهاء والأئمة فضلًا عمن دونهم، بل كان من هدي أئمة الهدى والفقه في الدين تعليم الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، والأصم والأبكم والأعمى، وقد روى الإمام أحمد بإسناده عن أبي ذرٍّ ﵁ عن النبي ﷺ في بيان أبواب الصدقة: «وتَهدي الأعمى، وتُسمع الأصم والأبكم حتى يفقه» (^٢)، قال ابن السُنِّي (ت ٣٦٤ هـ): (وإن كان فيهم أصم لا يسمع فليسمعوه.. وإن حضرهم ضرير فليكتب له بعضهم.. وكذلك إن كان فيهم أبكم أفهموه) (^٣).
وكذلك الصبيان فلا يترفع العالم عن تعليمهم وقد علَّمهم من هو خير منه ﷺ، بل يعلمهم ويبلوهم فيما أخذوه عنه، وقد روى الإمام أحمد (ت ٢٤١ هـ) وغيره عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي ﵁: ما تذكر من رسول الله ﷺ؟ قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة، فألقيتها في فمي، فانتزعها رسول الله ﷺ بلعابها، فألقاها في التمر، فقال له رجل: ما عليك لو أكل هذه التمرة؟ قال: «إنا لا نأكل الصدقة»، قال: وكان يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة»، قال: وكان يعلمنا هذا الدعاء: «اللَّهُمَّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنه لا يذل من واليت»، وربما قال: «تباركت ربنا وتعاليت» (^٤).
وكذلك كان علماء المسلمين وأئمتهم لا يترفعون عن تعليم الكبير والصغير.
_________
(^١) تاريخ الإسلام، الذهبي (٨/ ٣٠٩).
(^٢) المسند (٢١٤٨٤).
(^٣) رياضة المتعلمين (١٢٥).
(^٤) المسند (١٧٢٣)، وانظر: رياضة المتعلمين، ابن السني (١٣٥).
1 / 24
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ): (وكان جماعة من علماء المسلمين يؤدبون، منهم أبو صالح صاحب الكلبي كان يعلم الصبيان، وأبو عبد الرحمن السلمي وكان من خواص أصحاب علي ﵁، وقال سفيان بن عيينة: كان الضحاك بن مزاحم وعبد الله بن الحارث يعلمان الصبيان فلا يأخذان أجرًا، ومنهم قيس بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الكريم أبو أمية، وحسين المعلم وهو ابن ذكوان، والقاسم بن عمير الهمداني، وحبيب المعلم مولى معقل بن يسار، ومنهم علقمة بن أبي علقمة وكان يروي عنه مالك بن أنس، وكان له مكتب يعلم فيه، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلَّام الإمام المجمع على إمامته وفضله) (^١). وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي الحنبلي (ت ٦١٢ هـ) عن الإمام الحافظ الكبير أبي موسي المديني الشافعي (ت ٥٨١ هـ): (وكان فيه من التواضع بحيث إنه يقرئ الصغير والكبير، ويُرشد المبتدئ، رأيته يُحفِّفظ الصبيان القرآن في الألواح) (^٢).
فهذه المجالس نفعها عام للخاص والعام، سواء كان الذي يحضرها فقيهًا أو متفقِّهًا أو عاميًّا يتعلم الشيء فالشيء من أمر دينه، وقد قال أبو الوليد الباجي (ت ٤٧٤ هـ): (والمجالسة للعلماء إذا كانت قربة فإنما تكون على وجهين: أحدهما لمن ليس في قدرته تعلم العلم، فإنه يجالسهم تبركًا بمجالستهم وانحيازًا إليهم ومحبة فيهم، وربما جرى من أقوالهم ما يحتاج إليه، فتحمله حاجته إليه على أن يعيه ويحفظه، أو يستثبت فيه حتى يفهمه، وربما سألهم عن مسألة مما لا يسعه جهله فيأخذها عنهم، وأما من كان في قوَّته تعلم العلم ورزق عونًا عليه ورغبة في تعلمه، فيجالسهم ليأخذ عنهم ويتعلم من علمهم) (^٣).
٢ - كان لهذه المجالس الفقهية الشريفة دورها في تزكية أخلاق المسلمين وتربيتهم على حسن التأله لله ﷻ وحسن المعاملة مع الناس، لم
_________
(^١) منهاج السُّنَّة (٨/ ٥٤٣).
(^٢) انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (٢١/ ١٥٦).
(^٣) المنتقى (٧/ ٣٢٦).
1 / 25
تكن مجالس تنظير مجرَّد لرمي المسائل والمواعظ والفتاوى على الناس، دون تعاهد لهم بحسن التخلق والتأدب بآداب الديانة في الظاهر والباطن، والخاص والعام. والتأثر بما يعاينه المرء من الأخلاق الفاضلة ويراه واقعًا أمامه لا مجرد خيالات تحكي، من أعظم ما يحمل الإنسان على التخلق بالأخلاق الكريمة والتطبع بها، ولقد كانت هذه الأخلاق مما يتلقاه الناس من أكابرهم وأهل الفضل فيهم كما يتلقون العلم عن علمائهم. قال الأحنف بن قيس (ت ٦٧ هـ): (لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم ﵁ في الحلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه) (^١)، وقال ابن سيرين (ت ١١٠ هـ): (كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم) (^٢)، وقال حبيب بن الشهيد (ت ١٤٥ هـ) لابنه: (يا بني، إيت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلى لك من كثير من الحديث) (^٣). بل لقد كانوا يرحلون فيها كما يرحلون في مسائل العلم، فهذا رجل جاء إلى قاضي البصرة سوَّار بن عبد الله (ت ١٥٦ هـ) فقال له: رجل جاء من خراسان يسألك عن مسألة ليس من حلال ولا حرام، فأذن له فدخل، فقال: اختلفنا في المروءة ما هي ونحن بخراسان، فقالوا لي: أنت تريد الحج فاجعل طريقك بالبصرة، وائت سوار بن عبد الله فاسأله. فقال له سوار: قد سألت، فإذا أردت الخروج فأتني. فأتاه حين أراد الخروج، فقال له سوار: (يا فتي أتعييني؟ المروءة إنصافك الناس من نفسك) (^٤).
والآثار مستفيضة مشهورة عن السلف والأئمة في بيان التلازم بين العلم والعمل، وفي بيان الطبيعة الأخلاقية للفقه، وأن الفقيه الحقيقي هو من يستبين الناس أثر علمه في عمله وهديه ودلِّه وسمته، وقد قال علي ﵁: (ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في
_________
(^١) عيون الأخبار، ابن قتيبة (١/ ٤١١).
(^٢) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي (١/ ٧٩).
(^٣) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي (١/ ٨٠).
(^٤) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٨٦).
1 / 26
معاصي الله، ولم يؤمنهم مكر الله، ولم يترك القرآن إلى غيره) (^١)، ولما سئل ابن المبارك (ت ١٨١ هـ): هل للعلماء علامة يعرفون بها؟ قال: (علامة العالم من عمل بعلمه، واستقلَّ كثير العلم من نفسه، ورغب في علم غيره، وقبل الحق من كل من أتاه به، وأخذ العلم حيث وجده، فهذه علامة العالم وصفته). قال أبو بكر المروذي (ت ٢٧٥ هـ): فذكرت ذلك لأبي عبد الله-يعني: أحمد بن حنبل-فقال: هكذا هو (^٢). وقال داود الطائي (ت ١٦٢ هـ): (أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقي الحرب، أليس يجمع آلته؟ فإذا أفني عمره في الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفني عمره في جمعه فمتى يعمل؟) (^٣).
وقال أبو تمام حبيب بن أوس (ت ٢٣١ هـ) (^٤):
ولم يحمدوا من عالم غير عاملٍ... خلاقًا ولا من عامل غير عالم
رأوا طرقات العجز عُوجًا قطيعةً... وأقطع عجز عندهم عجز حازم
ولأجل هذا فقد كان أثر مجالسة العلماء ظاهرًا في الأخلاق والسلوك والإيمان، وليس مقصورًا على المعرفة الذهنية المجردة. قال ميمون بن مهران (ت ١١٧ هـ): (بنفسي العلماء، هم ضالتي في كل بلدة، وهم بغيتي إذا لم أجدهم، وجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء) (^٥).
ولك أن تتصور صبيًّا بلغ سنَّ الجدِّ في الطلب، فشهد مجالس الفقهاء وعاين أثر العلم فيهم، فرأى شيخًا له لا يفتر في مجلسه عن ذكر الله ﷻ، كما جاء في وصف عطاء بن أبي رباح (ت ١١٤ هـ)، فقد قال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: (ما رأيت مفتيَّا خيرًا من عطاء بن أبي رباح إنما كان مجلسه ذكر الله لا يفتر وهم يخوضون، فإن تكلم أو سئل عن
_________
(^١) أخلاق العلماء، الآجري (٧٣).
(^٢) انظر: طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلي (٣/ ٢٦٨)، وانظر آثارًا أخرى في المعنى في: سنن الدارمي (باب من قال العلم الخشية وتقوى الله)، الفقيه والمتفقه للخطيب (باب ما جاء في ورع المفتي وتحفظه)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (٣/ ٢٦٥ - ٢٦٩).
(^٣) اقتضاء العلم العمل، الخطيب البغدادي (٤٥).
(^٤) شرح ديوان أبي تمام للخطيب التبريزي (٣/ ٢٥٩).
(^٥) جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب جامع في فضل العلم (٢٣٩).
1 / 27
شيء أجاب وأحسن الجواب) (^١). أو رأي شيخًا له يتج لله البكاء من خشية الله أثناء درسه، كما قال القاضي الحسين (ت ٤٦٢ هـ) في ذلك: (كان القفال (ت ٤١٧ هـ) في كثير من الأوقات في الدرس يقع عليه البكاء ثم يرفع رأسه ويقول: ما أغفلنا عما يراد بنا) (^٢). أو يرى شيخًا له إذا عظمت حلقته قام كراهية الشهرة كما كان يفعل خالد بن معدان (ت ١٠٣ هـ) (^٣). أو يفتقد شيخه ذات صباح فإذا به قد انتقل من مقاعد التدريس إلى مقاعد الرباط، كما جرى من ابن شاس (ت ٦١٠ هـ) لما دخل الفرنجة دمياط، فانتقل إليها وتوفي مرابطًا فيها (^٤). أو يرى من شيخه أخلاق التواضع واطراح التكبر، كما جرى من قاضي القيروان أبي العباس بن طالب (ت ٢٧٥ هـ) حين يذكر تنازع فقهاء المالكية في المسائل، فربما ذكر في المسألة خمسة أقوال أو ستة، ثم تسيل دموعه ويضع خده على الأرض ويقول: (يا فتى، أردت أن يقال فقيه! فهل معك عمل صالح تنجو به من عذاب الله؟ وإلا فما يغني هذا عنك؟) (^٥). وكان أحمد بن عبد الله ناضرين المكي الشافعي (ت ١٣٧٠ هـ) ربما قال لطلبته: (هذه مسألة ما فهمتها، اسألوا فيها غيري) (^٦).
فما بالك بهذا الفتى الذي يسلك طريق العلم عند هؤلاء الشيوخ وأمثالهم، فيرى العلم والعمل والخشية والأدب في سياق واحد، كيف سيكون أثر العلم فيه؟ ومن ثمَّ كان العلماء يؤكدون أن التأثر بالقدوة أعظم من التأثر بالقول المجرد، بل يرد الكلام من مثل هؤلاء فيقع في نفوس الناس مواقعه.
ولما وصف ابن النجار (ت ٦٤٣ هـ) الموفق بن قدامة (ت ٦٢٠ هـ) قال في وصفه: (وكان ثقة حجة نبيلًا غزير الفضل كامل العقل شديد التثبت دائم السكوت حسن السمت نزهًا ورعًا عابدًا على قانون السلف، على وجهه النور
_________
(^١) انظر: التاريخ الكبير، ابن أبي خيثمة (١/ ٢٠٨).
(^٢) انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٥/ ٥٥).
(^٣) انظر: تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر (١٦/ ١٩٧)، صفة الصفوة، ابن الجوزي (٤/ ٢١٥).
(^٤) انظر: الديباج المذهب، ابن فرحون (١/ ٤٤٣).
(^٥) انظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (٢/ ٣١٥).
(^٦) انظر: تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع، محمود سعيد بن محمد ممدوح الشافعي (١/ ١٩١).
1 / 28
وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه) (^١). فما يتلقاه المتفقه من مثل أولئك يكون أثره راسخًا في نفسه، ظاهرًا في أخلاقه. قال سفيان الثوري (ت ١٦١ هـ) واصفًا شيخه عمرو بن قيس: (هو الذي أدبني وعلمني قراءة القرآن وعلمني الفرائض، فكنت أطلبه في سوقه فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته إما يصلي وإما يقرأ في المصحف كأنه يبادر أمورًا تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة في زاوية من بعض زوايا المسجد كأنه سارق قاعدًا يبكي، فإن لم أجده وجدته في المقبرة قاعدًا ينوح على نفسه) (^٢). وقال أبو الفرج بن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ) في استحضار مهيب لسمت أشياخه: (ولقيت عبد الوهاب الأنماطيَّ (ت ٥٣٨ هـ) فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان وأنا صغير السن حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل. ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي (ت ٥٤٠ هـ) فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقنًا محققًا، وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت. فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول) (^٣).
فهذه المجالس التي هي بهذه الشاكلة من العلم والدين والأدب مجالس فضل وخير، وآثارها في الناس عظيمة جليلة، ولما نزل الحافظ عبد الغني المقدسي (ت ٦٠٠ هـ) مصر كان الناس يبكون في مجلسه، حتى قال بعض المصريين: ما كنا إلا مثل الأموات حتى جاء الحافظ فأخرجنا من القبور (^٤).
وقال أبو حازم الأعرج (ت ١٣٣ هـ): (لقد رأيتُنا في مجلس زيد بن أسلم
_________
(^١) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٣/ ٢٨٤).
(^٢) انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم (٥/ ١٠١).
(^٣) صيد الخاطر (٢٥٩).
(^٤) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٣/ ١٣).
1 / 29