Nazi Almanyası: Çağdaş Avrupa Tarihi Üzerine Bir Çalışma (1939-1945)

Muhammed Fuad Şükrü d. 1392 AH
116

Nazi Almanyası: Çağdaş Avrupa Tarihi Üzerine Bir Çalışma (1939-1945)

ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)

Türler

أولا: إن نجاحهم في تطبيق نظامهم الجديد حرك الشعوب في البلدان المفتتحة إلى المقاومة بشتى ضروبها، وأخفقت صرامة النازيين كما فشل الجستابو في اقتلاع جذور هذه المقاومة، بل صارت تشتد وتقوى كلما غلا النازيون في تطبيق نظامهم، فكانت قلعتهم الهتلرية «قلعة من الورق» ما لبثت أن تداعت أركانها عند أول طارق؛ لأنها ما كانت تضم أقواما مستعدين لبذل نفوسهم من أجل الذود عنها ومنع العدو من اقتحامها، وأما السبب الثاني: فهو أن الوقت كان ألزم ما يكون لنجاح تطبيق هذا النظام من الناحية الاقتصادية، بينما أقدم النازيون السكارى بنشوة الانتصار الخاطف ولذته على إجراء التغييرات الاقتصادية التي اقتصاها تطبيق النظام الجديد دون أن يتخذوا التدابير التي تكفل الاطمئنان إلى أن سيطرتهم باقية مخلدة.

وأنى لهم أن يفعلوا ذلك، فالأسر التي انتزعت من مواطنها بقضها وقضيضها وشتت أفرادها أو أرسلوا للعمل مسخرين في خدمة الريخ في أنحاء أوروبا المحتلة كان لا بد لاستقرارها في مواضعها الجديدة من عامل الوقت، وفضلا عن ذلك فإنه ما كان يكفي أن تنقل المصانع من الروهر مثلا إلى ألمانيا الجنوبية الشرقية، أو يطلب إلى أهل المقاطعات الفرنسية الشمالية الشرقية أن يقصروا جهودهم على الزراعة، أو تصدر الأوامر بإبطال التعدين في فرنسا المحتلة كذلك، أو تهيئة بولندة لإدماجها في الريخ الصناعي بعد إبادة أهلها، أو ترغم البلدان المفتتحة على اعتبار برلين عاصمة العالم النازي المالية، أو غير ذلك من أباطيل الاقتصاد النازي، فما كان يكفي ذلك كله لأن يخلق أوروبا خلقا اقتصاديا جديدا بين طرفة عين وانتباهتها، ناهيك بعدم ملاءمة هذا النظام لطبيعة تكوين القارة ذاتها وبحاجته إلى وقت طويل حتى ترسخ قواعده وتتوطد أركانه، فلما عجز النازيون عن كسب الوقت، بات العمل الإنتاجي معطلا في بلدان أوروبا المفتتحة حتى إذا ما حانت الساعة وزحفت جيوش العدو عليهم استحال عليهم أن يجدوا موارد كافية لمتابعة إنتاج عتاد الحرب فعجل ذلك بهزيمتهم. وأما السبب الثالث: فإنه كان من مقتضيات العمل بهذا النظام الجديد أن يكون الريخ الثالث نفسه هو المحور الذي يدور عليه هذا النظام بأجمعه. ومنذ استتب للنازيين الحكم والسلطان في ألمانيا عملوا على تهيئة دولة الريخ - أو دولة الزعامة المسئولة على حد قولهم - لاحتلال المركز الذي كان ينتظرها في عهدها الجديد، فأحكموا تطبيق قواعد النظام الجديد في ألمانيا قبل أن يطبقوه في أوروبا المحتلة بنحو ستة أعوام، فأوجدوا بذلك نواة تلك المقاومة الداخلية التي أرغمت هنريك هيملر على إعداد العدة لإخمادها قبل نشوب الحرب الهتلرية بعامين تقريبا. وكان من أثر نجاح النازيين الظاهر في تطبيق النظام الجديد في أوروبا نتيجة لانتصاراتهم الخاطفة الأولى أن زاد خطر الجبهة الرابعة الداخلية، وأخفق الجستابو في داخل الريخ كما أخفقوا في أوروبا المحتلة في إخماد هذه المقاومة، ولم تفلح السجون ومعسكرات الاعتقال ووسائل الإبادة والتقتيل في صون هذه الجبهة من التصدع، وفضلا عن ذلك فقد انتقلت عدوى المقاومة إلى الجند والضباط والقواد، فاضمحلت الروح المعنوية في الألمان جميعا. وكانت محاولة النازيين في تأليف تلك الكتلة الصلبة المتماسكة في قلب الريخ الثالث المعول نفسه الذي قوض دعائم سيطرتهم في الداخل والخارج معا.

والآن - وقد زالت دولة النازيين من الوجود بقضها وقضيضها - حق لنا أن نتساءل ماذا يكون ذلك النظام الذي يجب أن يحل في ألمانيا محل النظام النازي القديم؟ وهل يكفي أن يعد أقطاب الدول المنتصرة تلك الشعوب التي ذاقت الأمرين من احتلال النازيين لبلادهم بأنه ما دام النازيون قد زالت دولتهم ودمرت أنظمتهم ومنشآتهم وأعدم زعماؤهم أو انتحروا، فإن ذلك وحده ومن تلقاء نفسه كفيل بعودة الأمور إلى مجاريها ومؤذن بأن المستقبل لا بد منطو على العيش الرغيد والحياة المطمئنة الهادئة؟ أم إنه لا مناص من التفكير العميق لابتكار أجدى الوسائل العملية لتحقيق هذه الآمال وإتاحة الفرصة لتلك الشعوب حتى تتحرر من خوف الاعتداء عليها في عقر دارها من جانب طغاة آخرين غاشمين؟ أو هل يسمح المنتصرون بإعطاء الألمان فرصة ثانية تمكنهم من السعي لفرض تلك السيطرة الجرمانية على أوروبا من جديد؟

في الماضي القريب ادعى أنصار سياسة «التسكين والتهدئة» أن هناك فروقا بين سواد الشعب الألماني وطغمة النازيين، وأن توقيع العقوبة على الجناة المسئولين عن الحرب الهتلرية لا يقتضي إلحاق الأذى بالأمة الألمانية، واتخذوا دليلا على وجود هذه الفوارق تلك المقاومة الإيجابية والسلبية التي أبداها فريق من الألمان الناقمين على النازية، ومع هذا فقد علمنا التاريخ أن الشعب الألماني - كمجموعة - لا يقل في نزوعه إلى السيطرة والطمع في السيادة وخوض غمار الحرب من أجل تحقيق هذه السيطرة وتلك السيادة عن قادته وزعمائه، وكذلك علمتنا التجارب القريبة أن هذا الشعب الألماني الذي قد يبدو أفراده كل على حدة، مساكين وادعين، لا يقل في مجموعه كأمة عن قادته وزعمائه اندفاعا وراء السيطرة والسيادة. ومن ميزات هذا الشعب القدرة على الانتعاش واجتياز الأزمات الاقتصادية بسرعة تدعو إلى العجب، ولكنها تدعو في الوقت نفسه إلى الإشفاق على الشعوب المجاورة له؛ لأن هذا الانتعاش الاقتصادي يقترن دائما بالرغبة في الفتح والتوسع، فهل يسمح للألمان بأن ينتعشوا اقتصاديا بحيث يتمكنون من تجهيز آلة الحرب المخربة من جديد والقذف بالشعوب الأوروبية وبغيرهم من شعوب العالم في أتون الحرب مرة ثانية؟ وما يزال الاعتقاد سائدا بأن منشأ الحرب الهتلرية والحرب العالمية الأولى كذلك هو حاجة ألمانيا إلى موارد طبيعية لا توجد في بلادها، ولا غنى عن جلبها من الخارج لتنظيم حياتها الاقتصادية، أي إن الدافع إلى الحرب الأخيرة - كما كان الحال في الحرب السابقة - دافع اقتصادي. ومع أنه مما يخرج عن موضوع هذا الكتاب مناقشة هذا الاعتقاد السائد عن جوهر العوامل التي أدت إلى قيام الحرب العالمية الثانية، فإنه مما يجدر ذكره أن كافة المحاولات التي بذلها أقطاب سياسة «التهدئة والتسكين»، وبخاصة في عامي 1938-1939 باستخدام رجال المال والصناعة لإقناع النازيين بالعدول عن إثارة الحرب كان نصيبها الفشل، وكان أصحاب تلك السياسة يرمون إلى عقد اتفاقات اقتصادية مع الريخ الثالث لخدمة التجارة الألمانية في أوروبا الجنوبية الشرقية وفي أفريقية الجنوبية (البريطانية) والسويد وغير ذلك من الأقطار، أضف إلى هذا أنهم حاولوا إقراض ألمانيا (في لندن يولية 1939) ألف مليون من الجنيهات الإنجليزية لمعاونتها على تحويل إنتاجها الصناعي الحربي إلى إنتاج سلمي نظير أن يجري الريخ الثالث تعديلا جوهريا في سياسته الخارجية، على أساس تخفيض تسلحه تحت مراقبة دولية وإخلاء تشيكوسلوفاكيا. بيد أن النازيين - كما كان يتوقع - ما لبثوا أن رفضوا هذه العروض السخية وعلة ذلك أن دافع الحرب لم يصبح في الحقيقة اقتصاديا صرفا كما كان الحال في القرن الماضي على وجه الخصوص. لأنه منذ تقدم الفنون الصناعية، وتطبيق الطرق العلمية الحديثة في الصناعة بحيث أمكن إنتاج طراز الطائرات الجديدة أضحى النضال من أجل إحراز السيطرة العالمية هو الذي يحرك الحوادث ويكيف سياسة الدول، فبدلا من أن تظل «الدولة الوطنية» وحدة التنظيم السياسي كما كان الحال في عصور النشاط الاقتصادي أضحت «القارة» وحدة ذلك التنظيم. وقد حاول أحد الكتاب المعاصرين (ه. ن. بريلسفورد) تلخيص ذلك في قوله: «كانت القاطرة البخارية سببا في حدوث الانقلاب الصناعي، كذلك كان استخدام الطائرة بداية عصر الوحدة القارية.» ولم تكن محاولة النازيين فرض السيطرة الجرمانية على القارة الأوروبية سوى مظهر من مظاهر تلك العوامل الجديدة التي برزت في ميدان السياسة الدولية من أجل إحراز التفوق والسيطرة على العالم، وهذا ما يفسر إخفاق الساسة «المهدئين» في الفترة التي سبقت قيام الحرب الأخيرة؛ لذلك كان من العبث أن تعاد تجربة «التهدئة» مرة ثانية كعلاج لتجنيب الأمم والشعوب ويلات حرب أخرى يثيرها الألمان كما فعلوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومن العبث كذلك أن يرغب واضعو الصلح المنتظر في أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل السيطرة النازية.

ولكنه إذا كان قد ثبت إخفاق سياسة «التهدئة والتسكين» في إقناع الألمان بالعدول عن استخدام الحرب كوسيلة لفض مشكلاتهم الاقتصادية والسياسية مع بقية الأمم، وكان معروفا أن التنظيم الذي بني على أساس معاهدات الصلح في فرساي في عام 1919، وما تفرع عن هذه المعاهدات حتى عام 1939، قد أسفر عن تمكن الألمان من إشعال نار الحرب العالمية الثانية، ولا أمل لذلك في سلام دائم إذا أعطي الألمان الفرصة لإعادة تمثيل الرواية من جديد، فما القواعد التي ينبغي على الساسة أن يبنوا على هديها صرح السلام المنتظر؟ وبعبارة أخرى: ما ذلك النظام الذي يجب أن يجري بمقتضاه تنظيم شئون العالم حتى يتجنب البشر ويلات الحروب في المستقبل؟

على أن البحث في هذه المسألة لم يفت المفكرين والكتاب الاقتصاديين والسياسيين منذ نشوب الحرب الأخيرة وبعد انتهائها، وقد ذهبوا في ذلك مذاهب شتى، ولعل أصحاب التهدئة والتسكين أخفضهم صوتا وأقلهم أنصارا. أما أولئك الذين لا يريدون أن يفوتوا تجارب الماضي القريب دون الاستفادة من عبرها ومواعظها، فقد تنوعت آراؤهم فيما ينبغي اتخاذه من وسائل تكفل استمرار السلم في المستقبل أجيالا عدة، ولعل أظهر ما جاء في هذا الصدد، ما ذكره «بول إينتزج» أحد أعلام المفكرين الأوروبيين في الاقتصاد والسياسة، فمن قوله: إن هناك - ولا شك - نظاما آخر في الاستطاعة أن يشغل مكان النظام الجديد الذي أوجده النازيون، وذلك بأن يطبق النظام الجديد الهتلري تطبيقا عكسيا، أي إنه ينبغي أن يجري ضد ألمانيا ذاتها تطبيق كافة المبادئ والقواعد التي أرادت أن تسترشد بها في تحقيق سيطرتها على أوروبا والعالم، ومعنى ذلك أن يعامل الشعب الألماني بالمعاملة القاسية التي لقيها البولنديون التعساء من الألمان، فإنه لما كانت ألمانيا قد تعمدت إبادة الشعب البولندي بأسلوب منظم، فهناك ما يبرر تكليف البولنديين بأن يحكموا الأمة الجرمانية على أن نطلق يدهم حتى ينتقموا لأنفسهم مما أصابهم على يد الألمان باتباع نفس الوسائل التي اتبعها هؤلاء لإبادتهم، وذلك بأن يحشدوا الجماعات الغفيرة من الألمان، ويطلقوا الرصاص عليهم أو يحرموهم الطعام حتى يموتوا جوعا ويطردوهم من بيوتهم في أثناء الشتاء حتى يهلكوا بردا إلى غير ذلك مما كان يفعله الألمان في بولندة. وفضلا عن ذلك فإن تطبيق النظام الجديد النازي تطبيقا عكسيا يعني مصادرة الأطعمة الألمانية وموارد أغذية الشعب الألماني ، وتقييد نشاط الألمان الإنتاجي والحد منه، ما دام الحكام أو الفاتحون البولنديون لا يفيدون من هذا النشاط شيئا لمصلحتهم، ومن المتعذر أن يعارض إنسان في ذلك كله بحجة أن هذا الحل القاسي لا يتفق مع القواعد الخلقية أو المبادئ الإنسانية؛ لأن ألمانيا فعلت ذلك وأكبر الظن أنها لن تتردد في العودة إليه إذا سنحت أمامها الفرصة مرة أخرى في المستقبل. بيد أن ما فعله الهتلريون في الماضي القريب - وما تزال الإنسانية تشكو آثاره مر الشكوى - لا يمكن أن تلجأ إليه الديموقراطية الصحيحة لحل مشكلة الحرية والسلم مهما كان حل هذه المشكلة متوقفا على مدى نجاحها في إزالة الخطر الألماني.

على أن هناك - لحسن الحظ - حلا آخر، قد لا يفضي العمل به إلى ضمان السلم ضمانا تاما، ولكن من مزاياه - على حد قول إينتزج - تعطيل قدرة ألمانيا على فعل الشر تعطيلا كبيرا، ولهذا الحل ناحية سياسية وأخرى اقتصادية. فمن الناحية السياسية: يبدو عند تطبيق «النظام الجديد» تطبيقا عكسيا أن تجزئة الريخ بعد إلحاق الهزيمة به أمر لا مفر منه، ومعنى هذا أن تسترجع الدويلات والإمارات الكبيرة الألمانية ذلك الاستقلال القديم الذي تمتعت به قبل أن يتم اتحاد ألمانيا المعروف في عام 1871، فتستعيد هذا الاستقلال كل من النمسا وبافاريا، وورتمبرج، وبادن، وسكسونيا، وغيرها. وكذلك ينبغي أن تقام من «الراين» دولة حاجزة؛ لأن استيلاء بروسيا على أرض «الراين» حديث العهد نسبيا؛ ولذلك لا يتصف أهلها بتلك البروسيانية الصميمة، على غرار ما يظهر في ألمانيا الشرقية. وفي هذه الإمارات والدويلات المستقلة كافة، ينبغي أن يكون التاج من نصيب الأسرات القديمة التي حكمت هذه البلاد في الماضي، والتي ما يزال لها أتباع ومريدون في ألمانيا؛ لأن من شأن ذلك مساعدة هذه «الدول الجرمانية» على الاستقرار ودعم استقلالها وبقائها منفصلة كل الانفصال في حياتها المستقلة الجديدة عن بروسيا، ولكنه لما كانت بروسيا ذاتها من أيام فردريك الأعظم قد أقامت البرهان المرة بعد الأخرى على طغيانها وإمعانها في العدوان، وإثارة الحروب، فقد سقط حقها في أن تصبح دولة مستقلة ضمن مجموعة الدول الألمانية الأخرى المستقلة، ومع أنه من مقتضيات نجاح هذا الحل السياسي أن يحتل ألمانيا جنود الحلفاء المنتصرين في الحرب الأخيرة، إلا أن هذا الاحتلال ينبغي أن يكون احتلالا مؤقتا في هذه الدول الألمانية المستقلة، ما عدا بروسيا، وقد تدعو الحاجة إلى احتلال بروسيا وحدها احتلالا دائما.

ومن الناحية الاقتصادية يقتضي هذا الحل أيضا تطبيق «النظام الهتلري الجديد» على ألمانيا تطبيقا عكسيا، فمن المعروف أنه كان من أهداف ذلك النظام أن تصبح ألمانيا مركز الصناعة وإنتاج الأسلحة وعتاد الحرب في أوروبا، ثم حرمان سائر الشعوب من صناعاتها، على أن تصبح مهمة هذه الشعوب مجرد إنتاج السلع التي تطلبها ألمانيا وتقديم العمال الأرقاء الذين يسخرون في خدمة الصناعة الألمانية؛ ولذلك ينبغي حرمان ألمانيا المهزومة من صناعاتها إلى حد بعيد، فتمحى من الوجود كافة الصناعات المستخدمة في إنتاج معدات الحرب وأدوات القتال، كما يجب تقليل الصناعات التي يمكن تحويلها لمثل ذلك، هذا إلى أنه يجب أن توضع الصناعات الباقية مباشرة تحت إشراف الأمم المنتصرة ورقابتها، كما يجب الحد من قدرة ألمانيا على إنتاج الخامات والنفط وأدوات الحرب الضرورية.

ولما كان حرمان ألمانيا من الصناعة يترتب عليه نقص ظاهر في حاجتها إلى السكك الحديدية وطرق النقل السريع الأخرى، فقد بات ضروريا خفض طاقة العمل في الخطوط الحديدية ذات الأهمية العسكرية، أما إذا نجم عن ذلك كله تعطل عدد كبير من العمال الألمان كما هو منتظر، فإن تطبيق هذا النظام العكسي لا يترك هؤلاء المتعطلين دون عمل؛ إذ يجب استخدامهم أولا في الأعمال الإنشائية في البلدان التي وقعت فريسة في قبضة الألمان إبان سيطرتهم، فدمروا مصانعها ومبانيها وخربوا حقولها، فإذا فرغ العمال من هذه الأعمال العمرانية استخدموا في إقامة خطوط قوية من التحصينات في البلدان التي تكرر في الماضي اعتداء الألمان عليها، وفضلا عن ذلك يجب أن يتألف من هؤلاء العمال الألمان «مورد» لا ينضب له معين يوضع تحت تصرف الدول، حتى تستقدم كل دولة من هذا «المورد» العدد الذي تريد استخدامه في جميع الأعمال التي لا تتطلب مهارة فنية، والسبب في ضرورة وجود هذا «المورد» أنه لما كان من واجب الديمقراطية الصحيحة أن تسهر على دوام السلام - وهذا أمر يستحيل تحقيقه إلا إذا احتفظ بجيوش جرارة - فمن المنتظر أن تقل الأيدي العاملة في هذه الدول من جراء تجنيد شبابها في الخدمة العسكرية. ولذلك لا مندوحة عن أن تبحث هذه الدول عن وسيلة تسد هذا النقص المنتظر في الأيدي العاملة بها، فيصبح العمال الألمان ذلك «المورد» الدائم الذي تستطيع الدول أن تستقدم منه ما تريده وكل هذا يتفق مع المبادئ التي كان يطبقها الألمان مع ضحاياهم، مع فارق واحد: هو أن العمال الألمان سوف يعاملون معاملة الأناسي، أضف إلى هذا أنه كان يعرف عن نوايا ألمانيا إذا قدر لها الانتصار أنها تريد أن تنشئ من «الجنس الجرماني الحاكم» جنسا مهمته الحرب والقتال والاضطلاع بالأعمال التي تتطلب مهارة فنية ليس غير، بينما يستخدم ملايين العمال من بين الأجناس التي قد تخضعهم لسلطانها في الأعمال «الوضعية»، ومن الممكن تنفيذ هذه الخطة بشكل عكسي فترغم ألمانيا على تقديم «الأيدي العاملة» ليحلوا محل الرجال الذين تتألف منهم تلك القوة العسكرية التي عليها صون السلم من أن يتعكر مرة ثانية إذا ما حدث الألمان أنفسهم أن يحاولوا مرة أخرى تحقيق أغراض عداونية.

وهناك وسائل عدة لتطبيق مبدأ «المجال الحيوي» الألماني تطبيقا عكسيا، فقد سبق القول: إنه كان من أهم أغراض «النظام الاقتصادي الجديد» الذي وضعه هتلر أن يجري تعديل الحياة الاقتصادية في البلدان المجاورة على نحو يجعل تكوينها ملائما لحاجات ألمانيا الاقتصادية؛ ولذلك فإن عكس العمل بهذا المبدأ معناه منع الاقتصاد الوطني في هذه البلدان من أن يكون مكملا لنظام الاقتصاد الألماني، ولا جدال في أن مثل ذلك من مصلحة هذه البلدان، وسوف تجد فيه الضمان الكافي لسلامتها؛ لأنه إذا امتنعت البلدان عن إنتاج ما تحتاج إليه ألمانيا فإن ألمانيا لن تستطيع أن تحصل على ما تريده من خامات ونفط وما إلى ذلك، فلا يتجدد عندئذ عدوانها عليها، وعلاوة على ذلك فإن خلو هذه البلدان من المنتجات اللازمة لألمانيا من شأنه أن يصرف الألمان عن الطمع في غزوها وامتلاكها، من ذلك أن زوال موارد النفط الرومانية يساعد - ولا شك - إلى حد كبير على تقليل مدى اعتماد ألمانيا على أوروبا الجنوبية الشرقية في سد مطالب الحرب التي تحتاج إليها، ومن الممكن استغلال موارد النفط في رومانيا بسرعة عظيمة دون التقيد بأية اعتبارات تجارية حتى ينضب معين آبارها، ولا تكون رومانيا موضع أطماع جديدة من جانب الألمان في المستقبل. وعلى كل حال يسود الظن اليوم أن موارد النفط في رومانيا قد أشرفت على النضوب؛ ولذلك كان من واجب الدول المحبة للسلام أن تبذل كل جهد بالتعاون مع رومانيا ذاتها لإخراج رومانيا من قائمة مناطق إنتاج النفط الهامة، فإذا أضيف هذا إلى تحطيم منشآت صنع النفط كيميائيا بتحطيم مصانع تقطيره لأصبح من المتعذر على ألمانيا أن تغامر بحرب عدائية مرة ثانية.

Bilinmeyen sayfa