علم الفرائض والمواريث في الشريعة الإسلامية والقانون السوري
علم الفرائض والمواريث في الشريعة الإسلامية والقانون السوري
Yayıncı
-
Baskı Numarası
-
Türler
مقدمات
مقدمة بقلم الأستاذ مرشد عابدين
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة: بقلم الأستاذ مرشد عابدين
رئيس الغرفة الشرعية في محكمة النقض سابقا
نائب رئيس محكمة النقض في الجمهورية العربية السورية
سابقا
الحمد لله بلا نهاية والآخر بلا نهاية والصلاة والسلام على خير خلق الله خاتم الأنبياء والمرسلين معلم الخير المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم أجمعين.
وبعد فقد درج السلف الصالح في كتبهم وتصانيفهم في كتابه العبارات المختصرة ووضع الألفاظ الدالة على واسع المعنى، ولا غرابة في ذلك فالفصحى سليقتهم فهم الصحابة والتابعون والمجتهدون والفقهاء العاملون، ناذرين أنفسهم لخدمة العلم غير عابئين بحطام الدنيا الفانية ذاكراين قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ مرددين القول المأثور: "العلم في الصدور لا في السطور ومن حفظ حجة على من لم يحفظ" فكانت حلقات العلم والمعرفة تعقد متتابعة مستمرة في المساجد والمدارس والدور الموقوفة لها للتعلم والتعليم، فتخرج من هذه الحلقات كبار العلماء في جميع العلوم والفنون كالتفسير والفقه واللغة والرياضيات وعلم الطبيعة والفلسفة وغير ذلك.
إلا أن همة الخلف وعزيمتهم كلت وضعفت فاجتهد العلماء المتأخرون وأوضحوا ما ألفه المتقدمون فكتبوا الشروح ثم خلف من بعدهم
1 / 1
خلف، وجدوا أن الحاجة تستلزم زيادة الشرح، فكتبوا الحواشي والتعليقات لتبسيط ما التبس على المقصرين.
هذا، وقد حث النبي ﷺ على التعلم والتعليم، فورد عنه ﵇ ما رواه الدارمي والدارقطني: "تعلموا العلم وعلموه الناس، تعلموا الفرائض وعلموها الناس" وفي رواية الترمذي: "تعلموا القرآن والفرائض وعلموا الناس؛ فإني مقبوض". فخصها ﵇ بالذكر بعد التعميم؛ لمزيد الاهتمام بها، ولأنها تتعلق بإحدى حالتي الإنسان وهي الممات.
ولما كان المرحوم السيد محمد خيري المفتي -تغمده الله برحمته- نبغ بعلم الفرائض دراسة وفهما وتطبيقا بحكم عمله في المحاكم الشرعية، وتوليه أمر حساب الفرائض ومناسخاتها مدة طويلة، مما جعله يلمس ويشعر حاجة أهل عصره الحاضر إلى زيادة تبسيط فيما دوَّنه علماء السلف؛ ليكون سهل المنال لا يحتاج في فهمه وتطبيقه إلى عناء، فألف هذا السفر الذي نظرت بعض أبحاثه فوجدته وافيا بالغرض الذي ابتغاه، فقد أسهب في الشرح ووضع الأمثلة الكثيرة ليعتاد القارئ على حل المسائل دون جهد. وكتابه هذا سهل العبارة، موافق لروح أهل العصر الذين يريدون ويحبون أن ينالوا ما يبتغون دون عناء أو مشقة.
وقد ورد عن النبي، ﵊: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له" رواه الترمذي ومسلم وأبو داود.
وقد كان اطلاعي على هذا الكتاب بتكليف من ولده الزميل القاضي النزيه السيد منذر الذي عكف وإخوته على إخراج تراث أبيهم؛ لينتفع به الناس ويستحقوا أجر الساعي إلى الخير.
وكان اختياره لي لمعرفته بالصداقة والزمالة التي كانت تربطني بوالده ﵀ وقد عرفته عالما برا، كيف لا وقد ورث العلم عن آبائه وأجداده، وقد ذكر المؤلف ﵀ نسبه في آخر مؤلفه، وإن كلمة المفتي توحي وتوضح ما كانت عليه عائلته من تضلع بالعلم الشرعي؛ لأن هذا اللقب لا يشتهر به إلا من زاول الإفتاء.
فرحم الله المؤلف، ونفع به، وجعل البركة والرحمة في أولاده، والحمد لله رب العالمين.
مرشد عابدين
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد فإن علم الفرائض من العلوم التي رغب الشرع في دراسته وحث على تعلمه وتعليمه، فقد جاء في الحديث الشريف مرفوعا١: "تعلموا القرآن وعلموه الناس، وتعلموا الفرائض وعلموها الناس؛ فإني امرؤ مقبوض وسيقبض هذا العلم من بعدي حتى يتنازع الرجلان في فريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم٢: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة" رواه أبو داود وابن ماجه.
وقد كان أسند إليَّ قضايا الميراث في محكمة شرعية دمشق، وطلب إليَّ بعض الإخوان ممن لهم فيَّ حسن ظن أن أجمع المسائل النادرة
_________
١ فيض القدير في شرح الجامع الصغير، جزء٣ صفحة٢٥٤.
٢ فيض القدير في شرح الجامع الصغير، جزء٤ صفحة٣٨٦.
1 / 3
والعويصة التي تمر بي وأدونها، والبعض اقترح علي أن أصنف كتابا في هذا العلم الجليل، أكثر فيه من حل المسائل بصورة عملية واضحة؛ ليكون عونا للطالب وتذكرة للعالم. وكنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى لأني لم أكن من فرسان هذا الميدان.
إلا أنه لما كان العمل في المحكمة الشرعية جاريا بحسب المذهب الحنفي، حتى صدور قانون الأحوال الشخصية بالمرسوم ذي الرقم "٥٩" المؤرخ في ١٧/ ٩/ ١٩٥٩ الذي عدل عن المذهب الحنفي في بعض القضايا، وأخذ فيها برأي بعض علماء المسلمين الذي رأى في العمل برأيه مصلحة رفق ويسر لهذه الأمة، وأخذ بالوصية الواجبة للأحفاد، وعدل عن مذهب الإمام محمد ﵁ إلى مذهب الإمام أبي يوسف في قضايا ذوي الأرحام.
كل هذا كان المشجع لي على أن أقدم على تأليف هذا الكتاب، مبينا فيه ما كان العمل عليه سابقا وما طرأ من التعديل على تلك الأحكام في المرسوم الجديد؛ ليعلم القارئ بما كان عليه العمل أولا حتى يرجع إليه في القضايا السابقة على صدور هذا المرسوم؛ لأن القوانين لا تكون ذات أثر رجعي إلا إذا نص على ذلك فيها، ولم ينص فيه على ذلك وإنما اعتبر العمل به ابتداء من ١/ ١١/ ١٩٥٣، وألغي اعتبارا من التارخ المذكور قانون حقوق العائلة الصادر في ٢٥ تشرين أول سنة ١٣٣٣ وسائر القوانين والإرادات السنية والمراسيم التشريعية والقرارات التي تخالفه.
وقد نشر في الجريدة الرسمية بالعدد "٦٣" صحيفة ٦٨٧٦ تاريخ ٨ تشرين الأول ١٩٥٣. وابتدأ العمل به بعد شهر من تاريخ نشره، أي: أصبح معمولا به من ١ تشرين الثاني ١٩٥٣، فجميع القضايا السابقة على بدء العمل به خاضعة لأحكام المواريث القديمة، يقضى فيها بأرجح الأقوال من المذهب الحنفي.
1 / 4
وقد جعلت للناحية العملية نصيبا وافرا، فأكثرت من النماذج والتمارين عقيب كل باب.
ولم يفُتْنِي أن أشرح أحكام الوصية الواجبة الواردة في المادة ٢٥٧ من المرسوم، شرحا علميا وعمليا كما سيتضح ذلك في بابه. وإن مسائل العول والرد لم يتعرض لها أكثر المؤلفين، فبينتها تبيانا واضحا وصححت مسائلها بصورة عملية سهلة المأخذ.
وإني أسأل الله تعالى العون على الكمال والصيانة من الخطأ في المقال، وأن يعصمني والمسلمين من الشيطان الرجيم، وأن يجعله نافعا للمشتغلين به في الدنيا والآخرة، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وأسأل من وصل كتابي إليه إذا عثر على شيء زلَّ به القلم أن يصلحه ويدرأ بالحسنة السيئة؛ لأن الإنسان محل النسيان وأن الصفح عن عثرات الضعاف من شيم الأشراف، وإني بالعجز معترف وبالخطأ والتقصير متصف، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وهو حسبي ونعم الوكيل.
محمد خيري المفتي
1 / 5
تعريف علم المواريث، أو علم الفرائض:
هو: علم بقواعد فقهية وحسابية، بها يعرف نصيب كل وارث من التركة.
والمواريث في الأصل جمع ميراث. ولفظ ميراث يطلق في اللغة العربية على معنيين؛ أحدهما: البقاء، وثانيهما: انتقال الشيء من قوم إلى آخرين.
ويطلق في الشريعة الإسلامية على استحقاق الإنسان شيئا بعد موت مالكه بسبب مخصوص، وشروط مخصوصة.
والفرائض جمع فريضة، وهي مأخوذة من الفرض. والفرض في اللغة له ستة معانٍ:
١- التقدير، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ١ أي: قدرتم. وكما يقال: فرض القاضي النفقة أي: قدّرها.
٢- ما يعطى من غير عوض، كقول العرب: ما أصبت به فرضا ولا قرضا، أي: ما أخذت منه شيئا بلا عوض أو بعوض.
_________
١ سورة البقرة الآية ٣٦.
1 / 6
٣- القطع، كقوله تعالى: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ ١ أي: مقطوعا محدودا.
٤- التبيين، كقوله تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ ٢ أي: بيَّنها.
٥- الإنزال، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ ٣ أي: أنزله عليك.
٦- الإحلال كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾ ٤ أي: أحله الله له.
_________
١ سورة النساء الآية ٧، ١١٧.
٢ سورة التحريم الآية ٢.
٣ سورة القصص الآية ٨٥.
٤ سورة الأحزاب الآية ٣٨.
1 / 7
أدلة علم الفرائض:
إن أدلة علم الفرائض ثلاثة: الكتاب والسنة وإجماع العلماء:
أما الكتاب، فآيات المواريث التي نتلوها عليك عند الاستدلال على أنصباء الوارثين والوارثات.
وأما السنة، فأحاديث منها خبر الصحيحين: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي ١ فلأولى رجل ذكر".
وأما الإجماع، فإنك سترى مسائل قد أجمع على حكمها علماء هذه الأمة، وليس فيها كتاب ولا وصل إلينا فيها سنة معروفة.
_________
١ فيض القدير في شرح الجامع الصغير صفحة١٥٩ جزء٢.
1 / 8
حكمة الميراث:
التوريث نظام طبيعي، بدليل أن أكثر الأمم قديما وحديثا أخذت به، كما قد أقرته الأمم الحديثة إلا روسيا أخيرا.
والميراث نظام ضروري لحفز الإنسان إلى الكدح والتعب في الحياة، وبعبارة أخرى: إنه ضروري لإثارة ضروب النشاط الاقتصادي في الإنسان، وهذا ما يراه جمهور علماء الاجتماع ولم يشذ عنه إلا الاشتراكيون.
والشريعة الإسلامية من بين الشرائع أخذت بنظام التوريث، وأنزل الله له شرعة مفصلة محدودة تناولت أشخاص الوارثين ومقادير أنصبائهم، حتى إذا علم الممنوع من الإرث أن منعه آتٍ من السماء اطمأنت نفسه ورضي حكم الله، ولا كذلك إذا ترك الأمر في الميراث للناس يحكمون فيه، فإن هذا يكون مصدر اضطراب وشقاق.
والمتتبع لقانون الميراث يرى أنه يبنى على قواعد وأصول، يمكن حصرها فيما هو آتٍ:
١- الحب.
٢- العشرة.
٣- النصرة والولاية.
٤- العطف.
1 / 9
لذلك خصّص الميراث بطائفة معينة من الأقارب، وهم:
١- الذين لهم من حبه أكبر نصيب كالأبناء.
٢- الذين صاحبوه وخالطوه في الحياة أطول زمن كالزوجة.
٣- الذين كان يعتز بهم، ويعتمد عليهم في الدفاع عنه إذا احتاج إلى هذا الدفاع كالعصبة.
٤- الذين كان بينه وبينهم تعاطف وتراحم مدى الحياة، وهم غير من ذكرنا من الورثة.
ولذلك رتب الورثة، وجعل هذا الترتيب مبنيا على القاعدة الآتية وهي:
"قيام الوارث مكان المورث في الولاية، وحفظ اسم الأسرة".
وقدم الأبناء على الآباء؛ لأن قيام الابن مقام أبيه هو الوضع الطبيعي الذي عليه بناء العالم. فالأجيال المقبلة تخلف الأجيال الحاضرة، كما خلفت الأجيال الحاضرة الأجيال الغابرة.
على أن تقديم الابن على الأب تعززه حكمة أخرى، وهي أن المورث لو سئل: أين يضع ماله، لما تردد في أن يؤثر به ابنه على أبيه.
أما القيام مقام الميت بعد من ذكرنا من الأبناء والآباء، فطبقة الإخوة ومن في معناهم ممن هم كالعضد من الأعمام؛ ولذلك جعلت مرتبتهم في العصبة متأخرة عن المرتبتين السابقتين، كما جعلت مرتبة العمومة متأخرة عن الأخوة.
وكانت أسباب الإرث عند الجاهليين ثلاثة:
أحدها النسب: وهو خاص بالرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون الأعداء، وليس للضعيفين الطفل والمرأة منه شيء.
ثانيها التبني: فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيرثه، ويكون له غير ذلك من أحكام الدين الصحيح. وقد أبطل الله التبني بآيات من
1 / 10
سورة الأحزاب، ونفذ النبي ﵇ ذلك بذلك العمل الشاق، وهو التزوج بمطلقة زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه قبل الإسلام.
ثالثها الحلف والعهد: كان الرجل يقول للرجل: دمي دمك وهدمي هدمك، وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك، فإذا تعاهدا على ذلك فمات أحدهما قبل الآخر، كان للحي ما اشترط من مال الميت.
أما الإسلام قبل نزول آية المواريث، فقد جعل التوارث أولا بالهجرة والمؤاخاة، فكان المهاجر يرث المهاجر البعيد، ولا يرثه غير المهاجر وإن كان قريبا.
وكان النبي ﷺ يؤاخي بين الرجلين فيرث أحدهما الآخر، وقد نسخ هذا وذاك واستقر الأمر عند المسلمين بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب، والصهر، والولاء.
ثم إن الإسلام أزال الغبن الذي كان لاحقا بالمرأة في العصر الجاهلي، فإنهم ما كانوا يورثون إلا من يحمل السيف ويدافع عن الأوطان. فلما جاء الإسلام رفع مكانة المرأة وأعلى من قدرها، وجعل لها حقا في الميراث كما للرجل، بل أكد هذا الحق وجعله كأنه قاعدة مسلمة، يرشد إليه قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ١. فإن الله تعالى اختار هذا التعبير لإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء.
ولكنه حين منحها هذا الحق، جعل نصيبها في الميراث على النصف من نصيب من يحاذيها في القرابة من الرجال. وهذا هو الذي تقتضيه الحكمة ويلائم وظيفة كل من الرجل والمرأة في الحياة، ذلك أن الله تعالى وزع أعمال الحياة بين الرجل والمرأة، فخلق الرجل للكفاح والسعي وجعله
_________
١ سورة النساء الآية ١٠.
1 / 11
راعيا للأسرة وحاميا لها، يحمل أعباءها المادية والمعنوية، وجعل المرأة مدبرة للمنزل وقائمة بتدبير الأولاد ورعايتهم.
وبهذا التقسيم والتوزيع تنتظم الحياة وتستقيم شئونها، وقد استدعى هذا التقسيم ألا تكلف المرأة الإنفاق على نفسها بل جعل نفقتها على أبيها، فإذا فقدت عائلها أو طلقت رجع حق الإنفاق على أوليائها، فهي في جميع أحوالها مكفية المئونة؛ رحمة بأنوثتها وضعف بنيتها، وتقديرا لشرف وظيفتها في الجماعة الإنسانية.
وليس من مصلحة المرأة، ولا من مصلحة الأسر أن تسوّى المرأة بالرجل في الميراث؛ لأن ذلك معناه أن تنزل المرأة إلى ميدان العمل والكفاح في الحياة على قدم المساواة مع الرجل، ما دام نصيبها من الميراث مساويا نصيب الرجل، إذ لا يعقل أن يكون نصيبها من الإرث مثل الرجل ثم تطالب الرجل بالإنفاق عليها والحماية لها. زد على ذلك أن البنات إذا تزوجن لهن من مال أزواجهن ما يعوض نقصهن، وإذا لم يتزوجن فالغالب أنهن يكنَّ في كفالة إخوتهن ولا يكون لهن أولاد ينفقن عليهم.
أما وهذا هو النظام الإسلامي الذي يقضي على الرجل أن يحمي المرأة، ويكون قوّاما عليها، فمن خطأ الرأي وفساد القول تسوية المرأة بالرجل، على أن وضع المال في يد الرجل أدعى إلى استثماره وتنميته؛ لأنه أدرى بضروب النشاط وأقدر عليها من المرأة، فإن وظيفة الأمومة تحول بينها وبين ذلك.
فدعوة المساواة التي يقوم بها من يسمون أنفسهم مجددين أو منتصرين للمرأة، لا تقوم على أساس من الحكمة ولا من الحق والعدل، وإنما هي دعايات تدفع إليها الأهواء والشهوات.
على أن الإسلام قد سوَّى بينهما في بعض الأحوال إذا اقتضت
1 / 12
الحكمة ذلك، كما ورد في أولاد الأم فإنه سوَّى بين ذكورهم وإناثهم في الميراث. ومنشأ ذلك أن الصلة التي تجمع بينهم وبين المورث ترجع إلى عاطفة التراحم الناشئة من صلة الأمومة وحدها. تلك بعض حكم الميراث، ولا يصعب على العقل البشري أن يلتمس لكل حكم حكمة وسببا، وإن كان الأساس فيه الرضا بما قسمه الله وارتضاه لعباده، وهو أعدل القاسمين وأحكم الحاكمين.
فإذا تخطى بعض العباد هذه القسمة واحتال لتوزيع ثروته بطرق أخرى، فما ذلك إلا رد لما شرعه الله وزيغ عن الصراط المستقيم، ولو أن للمالك حرية التصرف في ماله يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، ولكن ليعلم هذا القاسم على غير ما شرع الله أنه سيخلق بعمله هذا الشحناء، ويورث ورثته العداوة والبغضاء، والشارع جد حريص على صلة الرحم وربط الأسر؛ وبذا تكون الأمة متحدة قوية.
1 / 13
منزلة علم الميراث:
يحتل باب الميراث من بين أبواب الفقه الإسلامي مكانة رفيعة، ومنزلة سامية لم تقتصر على عناية المؤلفين من المسلمين به وإفرادهم إياه بالتأليف، بل إن الخلفاء أنفسهم منذ عهد رسول الله ﷺ أولوه جانبا من الاهتمام. فقد روي أن سيدنا عمر ﵁ ذهب إلى بلاد الشام سنة "١٨" هجرية؛ ليعلِّم الناس علم المواريث "كما جاء في ابن الأثير جزء٢ صحيفة٢٣٧".
أولا: لأن أكثر أحكامه أحكام نهائية لا مجال لاستئنافها أو نقضها؛ لأنها من توزيع الحكيم العليم الذي يعلم ما يصلح النفوس وما يفسدها.
ثانيا: لأنه يتناول شئون الحياة وروحها وعمادها والعنصر الفعال فيها، وهو المال.
ثالثا: إن طريقة التوريث تبين لنا العلاقة بين الأفراد والحكومة من جهة، وتبين لنا العلاقة بين أفراد الأسرة بعضهم مع بعض من جهة أخرى، فالميراث في الإسلام مثلا يدل على الاتجاه الذي يرمي إليه الإسلام ويدعو له في جملته، وهو اتجاه يوحي بالاشتراكية العادلة التي تحرص على توزيع الثروات توزيعا يدل على درجة التضامن في الأسر بين الأقارب الأقربين والأقارب البعيدين بالنسبة لغيرهم. حتى إن وجوب النفقة بين الأقارب ساير الميراث في كثير من الأحوال جريا على قاعدة الغرم بالغنم.
1 / 14
وإن قانون الأحوال الشخصية الجديد رقم "٥٩" المادة "١٥٩" منه جعلت نفقة القريب الفقير العاجز عن الكسب على من يرثه من أقاربه الموسرين بحسب حصصهم الإرثية.
بل من أحكام الميراث، يمكننا أن نحكم على الأمة حكما نعلم منه أهي حربية أم صناعية أم زراعية أم غير ذلك. ولعل ما تقدم يرشدنا إلى سر قوله ﷺ: $"تعلموا الفرائض وعلموها الناس؛ فإنها نصف العلم".
1 / 15
ما يتعلق بمال الميت من الحقوق:
أجمع فقهاء الحنفية والشافعية والمالكية على أنه يتعلق بما يخلفه الميت من الميراث خمسة حقوق بعضها مقدَّم على بعض، بحيث لو استغرق أولها أو ما بعده كل ما خلفه لم ينتقل عنه إلى غيره:
١- كل حق عليه لغيره إذا كان هذا الحق متعلقا بعين من أعيان المال، ولذلك أمثلة كثيرة منها: الأعيان المرهونة من ماله، فإن حق المرتهن فيها مقدم على كل شيء.
ومنها المبيع الذي اشتراه، ولم يقبضه ولم يؤد ثمنه، فإن حق البائع في هذا المبيع مقدم على كل ما سواه، ومنها الأعيان التي أجرها وقبض أجرتها في حياته ومات قبل انتهاء مدة إجارتها، فإن المستأجر أحق بهذه الأعيان حتى يستوفي ما أعطى من الأجرة، وإنما كانت هذه مقدمة على كل شيء حتى تجهيزه وتكفينه؛ لأنها متعلقة بعين المال من قبل أن يصير تركة.
٢- تجهيزه وتكفينه وما يحتاج إليه في دفنه بالقدر المعروف من غير تقتير ولا إسراف ولا تبذير؛ لأن التكفين لباس الميت بعد وفاته فيعتبر بلباسه حال حياته، وهو أقوى من الدين ومقدم على جميع الحقوق سوى حق تعلق بعين من أعيان التركة كما هو مبين أعلاه. وقد اختلف العلماء في المقياس الذي يعرف به الإسراف والتقتير، فمنهم من قال: يعتبر بعدد ما يكفن فيه من الثياب، فتكفين الرجل في أكثر من
1 / 16
ثلاثة أثواب إسراف وفي أقل من الثلاثة تقتير، وتكفين المرأة في أكثر من خمسة أثواب إسراف وفي أقل من الخمسة تقتير.
وإذا كانت المرأة متزوجة، فمذهب أبي يوسف وهو الذي عليه الفتوى في مذهب الحنفية أن تكفينها وتجهيزها واجبان على زوجها، ومذهب محمد أن ذلك في مالها.
وقد نص قانون الأحوال الشخصية رقم "٥٩" على ذلك في المادة ٢٦٢/ أمنه.
٣- قضاء جميع ديونه، فيقدم ديون الصحة ثم ديون المرض الثابتة بإقرار المريض مرض الموت.
أما إذا كان الدين لله تعالى -جل ثناؤه- كالزكاة والكفارات ونحوها فإنها تسقط بالموت، ولا يلزم الورثة أداؤها؛ لأن حق الله تعالى مبني على المسامحة، وإذا أوصى في حال حياته وجب تنفيذها من ثلث ماله.
وإنما قدم قضاء ديونه على تنفيذ وصاياه مع أن الوصية مذكورة قبل الدين في آية المواريث، وهي قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ ١ وقد قال رسول الله ﷺ: "ابدءوا بما بدأ الله به" ٢ لسببين:
١- الأول: أنه قد ورد النص على تقديم الدين على الوصية في حديث مروي عن علي بن أبي طالب ﵁ قال: "رأيت رسول الله ﷺ بدأ بالدين قبل الوصية"٣.
٢- والثاني: أن الدين فرض يجبر المدين عليه، ويحبس من
_________
١ سورة النساء الآية ١٠، ١١.
٢ انظر فيض القدير في شرح الجامع الصغير صفحة٧٥ جزء١.
٣ انظر فيض القدير في شرح الجامع الصغير.
1 / 17
أجله، والوصية تبرع ولا شك أن التطوع متأخر في رتبته عن الفرض.
٤- تنفيذ وصاياه التي استوفت شروطها الشرعية "م٢٦٢/ ج" من ثلث ماله، وعلى شرط أن تكون لغير وارث لما روى ابن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تجوز وصية الوارث إلا أن يشاء الورثة" ١.
أما إذا كانت إلى وارث؛ توقفت على إجازة الوارثين، وكذلك إذا كانت بأكثر من الثلث. والوصية عقد مندوب إليه مرغوب فيه، ليس بفرض ولا واجب عند جمهور العلماء، فهي من التبرعات المضافة إلى ما بعد الموت. والوصية مأخوذة من وصيّت الشيء إذا وصلته؛ لأن الموصي وصل خير دنياه بخير عقباه، ووصى وأوصى بمعنى واحد. وإنها شرعت لمصالح العباد بحديث:
"إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم، فضعوه حيث شئتم -وفي رواية- حيث أحببتم" ٢.
والمشروع لنا لا يكون فرضا ولا واجبا علينا، بل هو مندوب إليه مرغوب فيه، والوصية من العقود المتوقفة على الإيجاب والقبول فلا تتم إلا بقبول الموصى له صراحة أو دلالة، والقبول والرد إنما يكون بعد موت الموصي، ولا عبرة للقبول والرد قبل موته، فالقبول صراحة هو أن يقبلها الموصى له بعد موت الموصي. وأما القبول دلالة فهو أن يموت الموصي مصرا على وصيته ثم يموت الموصى له قبل القبول أو الرد فيكون موته قبولا للوصية وينتقل المال الموصى به ميراثا لورثة الموصى له.
_________
١ انظر فيض القدير في شرح الجامع الصغير.
٢ انظر فيض القدير في شرح الجامع الصغير، صفحة٢٢٠ جزء٣.
1 / 18
ولا ينبغي أن يوصي بأكثر من الثلث، والأفضل لمن له ذرية وأولاد صغار التقليل في الوصية، فقد روي عن الصديق والفاروق والمرتضى ﵃: "لأن يوصى بالخمس أحب إلينا من أن يوصى بالربع، ولأن يوصى بالربع أحب إلينا من أن يوصى بالثلث". ولما روي في الصحيحين أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- قال: "جاءني رسول الله ﷺ يعودني في عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا" قلت: فالشطر؟ قال: "لا" قلت: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" "١.
٥- تقسيم تركته وهي ما يبقى من المال بعد ذلك كله بين ورثته على النظام والترتيب اللذين نشرحهما فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
أما قانون الأحوال الشخصية رقم "٥٩" المؤرخ في ١٧/ ٩/ ١٩٥٣ المعمول به في المحاكم الشرعية، فقد جاء بالمادة "٢٦٢" منه:
١- يؤدى من التركة بحسب الترتيب الآتي:
أ- ما يكفي لتجهيز الميت، ومن تلزمه نفقته من الموت إلى الدفن بالقدر المشروع.
ب- ديون الميت.
جـ- الوصية الواجبة.
د- الوصية الاختيارية.
هـ- المواريث بحسب ترتيبها في هذا القانون: أصحاب الفروض، العصبة، الرد على أصحاب الفروض، ذوو الأرحام.
_________
١ انظر صحيح البخاري صفحة١٤٣ جزء٤.
1 / 19
٢- إذا لم توجد ورثة، قضي من التركة بالترتيب الآتي:
أ- استحقاق من أقر له الميت بنسب على غيره.
ب- ما أوصى به فيما زاد على الحد الذي تنفذ فيه الوصية.
٣- إذا لم يوجد أحد من هؤلاء آلت التركة أو ما بقي منها إلى الخزانة العامة، والخزانة العامة هي التي تسمى بيت المال سابقا، أي: بيت مال المسلمين، وهذا إذا لم يكن موجودا زوج أو زوجة. فإذا وجد فيرد باقي التركة إلى الزوج والزوجة حسبما ورد في المادة "٢٨٨ فقرة ٣" من المرسوم "٥٩" وهذا خلاف للسابق.
وقد أثبتنا نص الكتاب السادس من المرسوم "٥٩" وهو ما يتعلق بالمواريث؛ تسهيلا للاطلاع عليه.
1 / 20