قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي
وقد قال جل ذكره:
قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا
ثم لما لم يتطرق للصابئة الاقتصار على الروحانيات البحتة والتقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السيارات السبع وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن الإنسان شيئا، والفرقة الأولى هم عبدة الكواكب والثانية هم عبدة الأصنام، وكان إبراهيم مكلفا بكسر المذهبين على الفرقتين وتقرير الحنيفية السمحة السهلة.»
ثم قال عن الثنوية إنهم: «... أثبتوا أصلين اثنين مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر والنفع والضر والصلاح والفساد، ويسمون أحدهما النور والثاني الظلمة، وبالفارسية يزدان وأهرمن، ولهم في ذلك تفصيل مذهب، ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين: أحداهما بيان سبب امتزاج النور بالظلمة، والثانية سبب خلاص النور من الظلمة، وجعلوا الامتزاج مبدأ والخلاص معادا، إلا أن المجوس الأصلية زعموا أن الأصلين لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين، بل النور أزلي والظلمة محدثة، ثم لهم اختلاف في سبب حدوثها: أمن النور حدثت والنور لا يحدث شرا جزئيا فكيف يحدث أصل الشر؟ أم شيء آخر ولا شيء يشترك مع النور في الأحداث والقدم؟ وبهذا يظهر خبط المجوس، وهؤلاء يقولون: المبدأ الأول في الأشخاص كيومرث وربما يقولون زروان الكبير، والنبي الآخر زرادشت، والكيومرثية يقولون: كيومرث هو آدم عليه السلام، وقد ورد في تاريخ الهند والعجم: كيومرث آدم ويخالفهم سائر أصحاب التواريخ.»
ثم قال عن الكيومرثية: إنهم «... أثبتوا أصلين : يزدان وأهرمن، وقالوا: يزدان أزلي قديم وأهرمن محدث مخلوق، قالوا: إن يزدان فكر في نفسه أنه لو كان لي منازع كيف يكون؟ وهذه الفكرة رديئة غير مناسبة لطبيعة النور، فحدث الظلام من هذه الفكرة، وسمي أهرمن، وكان مطبوعا على الشر والفتنة والفساد والضرر والإضرار، فخرج على النور وخالفه طبيعة وقولا، وجرت محاربة بين عسكر النور وعسكر الظلمة، ثم إن الملائكة توسطوا فصالحوا على أن يكون العالم السفلي خالصا لأهرمن وذكروا سبب حدوثه، وهؤلاء قالوا سبعة آلاف سنة ثم يخلي العالم ويسلمه إلى النور، والذين كانوا في الدنيا قبل الصلح أبادهم وأهلكهم ثم بدأ برجل يقال له كيومرث وحيوان يقال له ثور، فقتلهما فنبت من مسقط ذلك الرجل ريباس وخرج من أصل ريباس رجل يسمى ميشة وامرأة اسمها ميشانة وهما أبوا البشر، ونبت من مسقط النور الأنعام وسائر الحيوانات، وزعموا أن النور خير الناس وهم أرواح بلا أجساد بين أن يرفعهم عن مواضع أهرمن وبين أن يلبسهم الأجساد فيحاربوا أهرمن، فاختاروا لبس الأجساد ومحاربة أهرمن على أن يكون لهم النصرة من عند النور والظفرة بجنود أهرمن وحسن العاقبة، وعند الظفر به وإهلاك جنوده يكون الغاية: فذاك سبب الامتزاج وذاك سبب الخلاص.»
وقال عن الزروانية: «إن النور أبدع أشخاصا من نور كلها روحانية نورانية لكن الشخص الأعظم الذي هو زروان شك في شيء من الأشياء فحدث في أهرمن الشيطان من ذلك الشك، وقال بعضهم: لا بل إن زروان الكبير قام فزمزم تسعة آلاف وتسعمائة وتسعين سنة ليكون له ابن، فلم يكن، ثم حدث في نفسه هم من ذلك وقال: لعل هذا العالم ليس بشيء، فحدث أهرمن من ذلك الهم الواحد، وحدث هرمز من ذلك العلم، فكانا جميعا في بطن واحد، وكان هرمز أقرب من باب الخروج، فاحتال أهرمن الشيطان حتى شق بطن أمه فخرج قبله وأخذ الدنيا، وقيل إنه لما مثل بين يدي زروان فأبصره ورأى ما فيه من الخبث والشرارة والفساد أبغضه فلعنه وطرده، فمضى واستولى على الدنيا، وأما هرمز فبقي زمانا لا يدله عليه، وهو الذي اتخذه قوم ربا وعبدوه لما وجدوا فيه من الخير والطهارة والصلاح وحسن الأخلاق، وزعم بعض الزروانية أنه لم يزل كان مع الله شيء رديء إما فكرة رديئة وإما عفونة رديئة، وذلك هو مصدر الشيطان، وزعموا أن الدنيا كانت سليمة من الشرور والآفات والفتن، وكان أهلها في خير محض ونعيم خالص، فلما حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات والفتن. وكان بمعزل من السماء، فاحتال حتى خرق السماء، وصعد، وقال بعضهم: كان هو في السماء، والأرض خالية عنه، فاحتال حتى خرق السماء ونزل إلى الأرض بجنوده كلها، فهرب النور بملائكته، واتبعه الشيطان حتى حاصره في جنته، وحاربه ثلاثة آلاف سنة لا يصل الشيطان إلى الرب تعالى، ثم توسطت الملائكة، وتصالحا على أن يقيم إبليس وجنوده في قرار الضوء تسعة آلاف سنة بالثلاثة آلاف التي قاتله فيها ثم يخرج إلى موضعه، ورأى الرب تعالى - على قولهم - الصلاح في احتمال المكروه من إبليس وجنوده، ولا ينقص الشر حتى تنقضي مدة الصلح، فالناس في البلايا والفتن والخزايا والمحن إلى انقضاء المدة.»
وقال عن الزرادشتية: «... زعموا أن الله عز وجل خلق في وقت ما في الصحف الأولى والكتاب الأعلى من ملكوته خلقا روحانيا، فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألئ على تركيب صورة الإنسان، وأحف به سبعين من الملائكة المكرمين وخلق الشمس والقمر والكواكب والأرض وبني آدم غير متحرك ثلاثة آلاف سنة، ثم جعل روح زرادشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين، وغرسها في قلة جبل من جبال أذربيجان يعرف بأسموية ضر، ثم مازج شبح زرادشت بلبن بقرة، فشربه أبو زرادشت، فصار نطفة ثم مضغة في رحم أمه، فقصدها الشيطان وغيرها، فسمعت أمه نداء من السماء فيه دلالات على برئها فبرأت، ثم لما ولد زرادشت ضحك ضحكة تبينها من حضر، واحتالوا على زرادشت حتى وضعوه بين مدرجة البقر ومدرجة الخيل ومدرجة الذئب، وكان ينتهض كل واحد منهم بحمايته من جنسه، ونشأ بعد ذلك إلى أن بلغ ثلاثين سنة فبعثه الله نبيا ورسولا إلى الخلق، فدعا «كشتاسف» الملك فأجابه إلى دينه، وكان دينه عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث، وقال: النور والظلمة أصلان متضادان، وكذلك يزدان وأهرمن، وهما مبدأ موجودات العالم، وحصلت تراكيب من امتزاجهما وحدثت الصور من التراكيب المختلفة، والباري تعالى خالق النور والظلمة ومبدعها وهو واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة كما قالت الزروانية، لكن الخير والشر والصلاح والفساد والطهارة والخبث إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة، ولو لم تميزها لما كان وجود للعالم، وهما يتقاومان ويتغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة والخير الشر ثم يتخلص الخير إلى عالم والشر إلى عالم وذلك هو سبب الخلاص، والباري تعالى هو مزجها وخلطها، وربما جعل النور أصلا وقال: إن وجوده وجود حقيقي، وأما الظلمة فتبع، كالظل بالنسبة إلى الشخص، فإنه يرى أنه موجود وليس بموجود حقيقة، فأبدع النور وحصل الظلام تبعا لأن من ضرورة الوجود التضاد، فوجوده ضروري واقع في الخلق لا بالقصد الأول كما ذكرنا في الشخص والظل، وله كتاب قد صنفه، وقيل: أنزل ذلك عليه وهو «زندوستا» يقسم العالم قسمين: ميته وكيتي؛ يعني الروحاني والجسماني، والروح والشخص، وكما قسم الخلق إلى عالمين يقول: إن ما في العالم ينقسم إلى قسمين بخشش وكنس، ويريد به التقدير والفعل، وكل واحد مقدر على الثاني، ثم يتكلم في موارد التكليف وهي حركات الإنسان فيقسمها ثلاثة أقسام منش وكونس وكنش، يعني بذلك الاعتقاد والقول والعمل، وبالثلاث يتم التكليف.» •••
ولم تختم المذاهب المتجددة في المجوسية بمذهب زرادشت وتفسيراته المتعددة، بل بقيت هذه المذاهب تتجدد إلى ما بعد شيوع المسيحية بعدة قرون: وأشهرها وأهمها في تاريخ المقابلة بين الأديان، مذهب مترا ومذهب ماني المعروف بالمانوية.
انتشر مذهب «مترا» في العالم الغربي بعد حملات «بومبي» الآسيوية وتدفق الآسيويين من جنوده إلى حواضر سورية وآسيا الصغرى، وأيده القياصرة لأنه كان يرفع سلطان الملوك إلى عرش السماء، ويقول: إن الشمس تشع عليهم قبسا من نورها وهالة من بركتها فيرمزون بعروشهم على الأرض إلى عرش الله في عليين.
Bilinmeyen sayfa