65

فتاريخ الديانة الفارسية عامة وتاريخ زرادشت خاصة على ارتباط وثيق بتواريخ العقائد الآسيوية وتواريخ بعض العقائد في مصر واليونان.

ولكن «زرادشت» لا يعرف له تاريخ مفصل على التحقيق، فالمراجع اليونانية ترده إلى القرن الستين قبل الميلاد، والمراجع العربية ترده إلى ما قبل الإسكندر بنحو مائتين وسبعين سنة. فهو على هذا قد ولد حوالي سنة 660 قبل الميلاد وهو أصح التقديرات، وقد اعتمده الثقات الباحثون في تاريخه فرجحوا، كما رجح كاسارتللي وجاكسون، أنه ولد سنة 660 ومات سنة 583 قبل الميلاد.

ويقول الشهرستاني: إن أباه من أذربيجان وأمه من الري، ويكاد يتفق المؤرخون على أنه ولد في الناحية الغربية الشمالية من البلاد الفارسية على شاطئ نهر يسمونه في الكتب المجوسية داريزا ويعرف أخيرا باسم أراس.

ويزعم بعض مؤرخيه أن اسمه مركب من كلمتين في اللغة القديمة معناهما معاكس الجمل؛ لأنه كان في صباه يعبث بالجمال، ويجعلون لهذه التسمية شانا في وصاياه العديدة بالإشفاق على الحيوان، كأنه يكفر بذلك عن قسوته عليه في صباه.

وخلاصة ما جاء به «زرادشت» من جديد في الديانة أنه أنكر الوثنية وجعل الخير المحض من صفات الله، ونزل بإله الشر إلى ما دون منزلة المساواة بينه وبين الإله الأعلى، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد، وحاول جهده أن يقصر الربانية على إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه.

وليست المجوسية كلها من تعليم زرادشت أو تعليم كاهن واحد من كهان الأمة الفارسية، فقد سبقه الفرس إلى عقائدهم في أصل الوجود وتنازع النور والظلام، ولكنه تولى هذه العقائد بالتطهير وحملها على محمل جديد من التفسير والتعبير.

فالمجوس كانوا يعتقدون أن هرمز وأهرمن مولودان لإله قديم يسمى زروان ويكنى به عن الزمان. وأنه اعتلج في جوفه وليدان فنذر السيادة على الأرض والسماء لأسبقهما إلى الظهور، فاحتال أهرمن بخبثه وكيده حتى شق له مخرجا إلى الوجود قبل «هرمز» الطيب الكريم، فحقت لأهرمن سيادة الأرض والسماء وعز على أبيهما أن ينقض نذره، فأصلحه بموعد ضربه لهذه السيادة ينتهي بعد تسعة آلاف سنة، ويعود الحكم بعده لإله الخير خالدا بغير انتهاء، ويؤذن له يومئذ في القضاء على إله الشر وتبديد غياهب الظلام.

وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة وأهرمان غافل عنه في قراره السحيق، فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه فأشفق على نفسه من العاقبة وعلم أن النور يوشك أن ينتشر ويستفيض فلا يترك له ملاذا يعتصم به ويضمن فيه البقاء، فثار وثارت معه خلائق الظلام وهي شياطين الشر والفساد، فأحبطت سعي هرمز وملأت الكون بالخبائث والأرزاء، وران هذا البلاء على الكون حتى كانت معركة «زرادشت » فكان البشير بانتهاء زمان وابتداء زمان، ولكنه لم يختم صراع العدوين اللدودين بل آذن بتحول النصر من صف إلى صف، وتراجع الشر والظلام عن مملكة الخير والنور، وسيدوم هذا الصراع اثني عشر ألف سنة، ينجم على رأس كل ألف منها بشير من بيت زرادشت فيعزز جحافل هرمز ويوقع الفشل في جحافل أهرمن، وتنقضي المدة فينكص أهرمن على عقبيه مخلدا في أسفل سافلين، لا فكاك له أبد الأبيد من هاوية الظلمات وسجن المذلة والهوان.

وتدل تسمية الإلهين دلالة واضحة على انتقال الفكرة الإلهية طبقة فطبقة من صورة التجسيم إلى صورة التنزيه، فإن هرمز مأخوذ من «أهورا» بمعنى السيد و«ومازدوا» بمعنى الحكيم، وأهرمن مأخوذة من «أنجرو» بمعنى السيء وماينوش بمعنى الفكر والروح، والمعنيان معا من عالم الفكر المجرد أو القريب من التجريد، ثم أصبحت كلمة أورمزد مرادفة لروح القدس وكلمة أهريمان مرادفة لروح الشر أو روح الأذى والفساد، وقيل في مجمل الأساطير المجوسية أن أهريمان إنما هو فكرة سيئة خطرت على بال زروان فكان منها إله الظلام.

ويخيل إلينا أن زرادشت كان خليقا أن يسمو بعقيدة المجوس إلى مقام أعلى من ذلك المقام في التنزيه، وأن يسقط بأهرمن من منزلة الند إلى منزلة المارد المطرود، لولا أن وجود «أهرمن» كان لازما لبقاء الكهانة الفارسية في عهود المحن والهزائم التي منيت بها الدولة وتجرعت فيها الأمة غصص الذل والانكسار، فلو قال الموابذة للمؤمنين بهرمز أنه هو الإله المتفرد في الكون بالتصريف والتقدير لكفروا بدينهم وحاروا في أمرهم، ولكنهم يكبرون من قوة أهرمن ويجعلون انتصاره عقوبة للناس على تركهم للخيرات وحبهم للشرور، ثم يبشرونهم بغلبة الإله الحكيم الرحيم بعد الهزيمة، فتهدأ وساوسهم إلى حين. •••

Bilinmeyen sayfa